[H

مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

الاستصحاب - القسم الثاني

بسم الله الرحمن الرحیم

 

(الكلام في تنبيهات الاستصحاب)

 

وينبغي تقديم التنبيه المتعلق بالاصل المثبت علی سائر التنبيهات خلافاً لدأب الاصحاب لان هذا التنبيه يرتبط ارتباطا وثيقا بما ذكرناه آنفا في بيان حقيقة الاعتبارات الأدبية والاعتبارات القانونية والفرق بينهما فينبغي تقديم ذكره لئلا يقع الفصل الطويل بين المبحثين فيحتاج إلی تكرار ما ذكرناه هنا مضافا الى ان كثيرا من مطالب سائر التنبيهات تتوقف علی هذا التنبيه فينبغي تقديمه.

 

عدم حجية الاصل المثبت:

 

التنبيه الأول: ان دليل الاستصحاب كما يقتضي ترتيب آثار المستصحب هل يقتضي ترتيب آثار لوازمه التكوينية أم لا ؟

المتسالم عليه بين المتأخرين أن الاستصحاب لا يترتب عليه الا الآثار الشرعية للمستصحب نفسه دون آثار لوازمه التكوينية، وهذا هو ما يعرف بعدم حجية الاصل المثبت. ولكن العلامة الشيخ مهدي الاصفهاني قدس سره [1] ذهب الی حجية الاستصحاب في اللوازم ايضا وهو المنسوب الی المتقدمين من الاصحاب قدس الله اسرارهم.

والكلام يقع في مقامين: الأول موارد جلاء الواسطة بين المستصحب والأمر التكويني اللازم له. الثاني موارد خفاء الواسطة.

موارد جلاء الواسطة:

أما المقام الأول فيمكن الاستدلال علی حجية الاستصحاب فيها بوجوه :

الوجه الأول: أن الاستصحاب ليس اعتباراً قانونياً ولا أمراً تكوينياً بل هو اعتبار ادبي وان كان مجراه هو الامور القانونية. وذلك لأنه بناءاً علی ما ذكرناه عبارة عن التوسعة في الكاشف من حيث كشفه فيعتبر اليقين بالحدوث كاشفاً عن البقاء، وبناءاً علی ما ذكره الشيخ من أنه إبقاء ما كان علی ما كان أي ابقاء المتيقن ــ بناءاً علی ان المراد باليقين في الروايات المتيقن ــ فالمراد هو الحكم ببقاء المتيقن تنزيلاً واعتباراً، فالكلام في ان اعتبار الكشف من جهة البقاء او اعتبار ابقاء ما كان هل يلازم اعتبار كشف اللازم التكويني من جهة البقاء أو الحكم بوجوده من حيث البقاء أم لا ؟

بناءً عليه يمكن أن يقال في حجية الأصل المثبت أنّ الارتباطات التكوينية بين الاشياء من التلازم والتعاند والاندراج كما تنعكس وتؤثر في الادراكات الحقيقية ــ ومن هنا يحصل العلم من وجود شيء بوجود شيء آخر أو بعدمه ــ كذلك تؤثر في الاعتبارات الادبية والقانونية بمعنی أن التلازم التكويني في الخارج يستلزم التلازم في وعاء الاعتبار ايضا فلا يمكن اعتبار الملزوم دون اعتبار اللازم كما لا يمكن انفكاكهما خارجاً.

ومن هنا نجد أن العرف يستنكر اذا حكم بالملزوم دون اللازم فاذا توضأ بما توهم كونه ماءً ثم شك في كونه بولاً او ماءً فتستصحب طهارة البدن وبقاء الحدث وهذا مستبعد عند العرف اذ لازم بقاء الحدث كونه بولاً ولازم طهارة البدن كونه ماءً. والسرّ في هذا الاستبعاد هو ان العرف يری أن التلازم في الاُمور التكوينية أو القانونية يجب أن ينعكس في الاعتبارات الادبية. ومما يشهد له ان التعبير عن الرجل الشجاع بالاسد يلازم التعبير عن ولده بالشبل وعن مكانه بالعرين وعن صوته بالزئير وهكذا.

ويلاحظ على هذا البيان ان الاعتبارات الادبية انما هي للتأثير في المشاعر ولكنها تتحدد بموجب المصلحة المقتضية للتعبير بها فقد تقتضي المصلحة اعتبار الملزوم دون اعتبار اللازم فمثلاً اعتبار ازواج الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم امهات المؤمنين انما هو لمصلحة سياسية وهي التأثير في المشاعر بتحريم اتخاذهن ازواجاً لئلاّ تكون وسيلة لادعاء الخلافة وموجباً لانشعاب الامة وهذه المصلحة لا تقتضي اعتبار اخوانهن اخوالاً للمؤمنين حتی يترتب عليها حرمة زواجهم بالمؤمنات. ومن هنا نری ان التعبیر بالاسد عن الرجل الشجاع أيضاً لا يقتضي اعتبار جميع صفاته من السبعية والافتراس والذنب والقوائم الاربع له.

إذن فاعتبار الملزوم لا يلازم اعتبار اللازم ، بل لابد في ترابط الاعتبارين من جعل الاعتبار الآخر وربط كل منهما بالآخر والا فاعتبار احدهما لا يقتضي اعتبار الآخر بذاته. وهذا لا ينافي ما ذكرناه من كون بعض الاعتبارات مقوماً لبعض آخر كالاحكام التكليفية بالنسبة الی الاحكام الوضعية فان ذلك انما هو بوجوده الابهامي ولذلك لو اراد الشارع اعتباره بوجوده التفصيلي لابد من اعتبار تلك الاحكام اعتباراً مستقلاً فاعتبار الزوجية مثلاً لا يقتضي اعتبار وجوب الانفاق بل لابد من جعله مستقلاً.

ثم ان الاستصحاب بناءً علی استناده الی بناء العقلاء حكم قانوني عقلائي ببقاء ما كان وليس كشفاً عقلائياً حتی يتبعه آثار المنكشف. وأما بناءً علی استناده الی الاخبار فان قلنا بان مفادها امضاء بناء العقلاء رجع الى الفرض الاول وان قلنا بانه تأسيس حكم جديد فهو اعتبار أدبي مرجعه الی إبقاء الكاشف من حيث كشفه بناءً علی مسلكنا. وبناءً علی مسلك الشيخ من انه ابقاء ما كان فهو أيضاً حكم شرعي لا كشف عن الواقع. وعليه فلا يترتب علی المستصحب آثار لوازمه التكوينية.

وأما استهجان العرف المتسامح التفكيك بين الحكم بالطهارة والوضوء في المثال المذكور فمنشأه غفلتهم عن أن مستند هذا التفكيك هو الاستصحاب وانه نوع من التنزيل فيتوهمون انه حكم شرعي اصلي فيستنكرونه.

الوجه الثاني : ان الاستصحاب حجة عندنا باعتبار كونه موجباً للاطمئنان عند العقلاء ولا يمكن التفكيك بين اللازم والملزوم في القطع والظن والشك والاطمينان فان ذلك مقتضى كونه لازماً له فإذا حصل القطع بالملزوم حصل القطع باللازم لا محالة وهكذا الظن والشك والاطمينان والمفروض ان البحث في ثبوت آثار اللازم لا الملزوم إذ قد يكون اللازم اعم فما وقع في بعض العبارات من التعبير باللازم والملزوم والملازمات في المقام غير صحيح .

والجواب عنه: انا ذكرنا في حجية الاستصحاب من باب بناء العقلاء أن الاطمينان على قسمين: الاطمينان الادراكي والاطمينان الاحساسي، والأول هو قوة الاحتمال في الشيء بحيث يكون الاحتمال المخالف ضعيفاً جداً فيحصل الاطمينان الادراكي بالشيء وهذا من نوع الظن والقطع والشك، وفي ذلك يصح القول المذكور. وأما الاطمينان الاحساسي فهو سكون النفس الی الشيء بتأثير التلقين والاعلام والحالات النفسية الخاصة. وبين الاطمينانين من حيث الموارد عموم من وجه فقد يحصل الأول دون الثاني كما في استيحاش الانسان من جنازة الميت وان كان من أقرب احبائه فان احتمال حصول الضرر منه احتمالا ادراكيا غير موجود اصلاً للقطع بعدمه ومع ذلك لا يحصل له السكون النفسي، وقد يحصل الثاني دون الأول كما في موارد السكون النفسي الحاصل بالتلقين في تأثير دواء مثلاً في صحته مع أنه بملاحظة تجمع الاحتمالات لا يحصل له اطمينان ادراكي، وقد يجتمعان كما هو الغالب.

ونحن لا نقول في الاستصحاب بحصول الاطمينان الادراكي بل حتی الظن بل نقول بحصول الاطمينان النفسي وهو أحد ركني بناء العقلاء كما مرّ. وفي الاطمينان النفسي يحصل التفكيك بين الملزوم واللازم نظراً الی ان حصوله متوقف علی تأثر النفس بالاعلام والتلقين ونحوهما وفي ذلك لا تلازم بين تأثرها بالملزوم وتأثرها باللازم.

الوجه الثالث: ما ذكره الأصحاب وهو ان مفاد دليل الاستصحاب رتّب الأثر، وأثر الأثر أثر فيجب ترتيبه أخذاً باطلاق الدليل.

وقد اجيب عنه بوجوه:

الأول: ما ذكره السيد الخوئي أيده الله ــ على ما في مباني الاستنباط ــ وهو أن قانون أثر الأثر أثر انما يصح فيما إذا كانت الآثار الطولية كلها من قبيل وسنخ واحد كما اذا كانت كلها آثار تكوينية أو شرعية وأما إذا كان أحدها تكوينياً والآخر شرعياً فلا يترتب الاثر الشرعي وكذلك العكس. وسيتبين الحال في تقييم هذا الجواب قريبا ان شاء الله تعالى.

الثاني : ما نقل عن العلامة الحايري قدس سره من القول بانصراف الروايات عن هذا المورد، وهذا الجواب أيضاً غير دافع للاشكال كما لا يخفى.

الثالث : ما أجاب به المحقق الخراساني قدس سره من أن المتيقن في مقام التخاطب هو ترتيب الآثار بلا واسطة فلا ينعقد اطلاق للاخبار بالنسبة الی الآثار مع الواسطة.

والجواب: انا لا نلتزم بأن القدر المتيقن في مقام التخاطب يمنع من التمسك بالاطلاق كما ذكرناه في محله.

والتحقيق في الجواب: أنّه ليس لنا مفاد في الأخبار يتضمن هذا المعنی (رتّب الأثر) وانما الوارد هو (لا تنقض اليقين بالشك) وهذا لا يدل الا علی اعتبار المتيقن بحدوثه متيقناً بقاؤه بنحو الاعتبار الادبي فبدلالة الاقتضاء يدل علی وجوب ترتيب آثار البقاء في الجملة وأما أن يكون فيه إطلاق بالنسبة إلی الأثر حتی يشمل أثر الأثر فلا شاهد له.

مضافاً إلی أن التعبير بالأثر الشرعي كما ورد في الاستدلال مجرد تعبير أدبي اذ النسبة بين موضوعات الاحكام الشرعية والاحكام نفسها ليست كالنسبة بين المؤثر والأثر وانما الأثر حقيقة هو الأثر التكويني فحسب. فلو فرض ورود التعبير في الادلة الشرعية بهذا النحو أي (رتب الأثر) كان المراد به ان المستصحب ان كان حكماً شرعياً فيترتّب عليه الحكم الجزائي أو حكم العقل بوجوب الاطاعة وان كان موضوعاً يترتب عليه ما يرتبط به من الاحكام القانونية فيكون المراد بالأثر هذا المعنی بالعناية إذ ليس فيها معنی الأثر والتأثر حقيقة. وحينئذ فلا ربط له بالأثر الحقيقي التكويني الوسيط.

والحاصل ان مستند الاستصحاب لو كان بناء العقلاء فهو حكمهم ببقاء المتيقن باعتبار حكم العقل بالاطاعة أو باعتبار ترتب الاحكام القانونية المرتبطة به، وليس لهذا الحكم جهة كشف عن الواقع حتی يترتب عليه الكشف عن اللوازم. وان كان مستنده الاخبار بنحو التعبد لا بنحو الارشاد فغاية ما تدل عليه اعتبار المستصحِب ــ بكسر الحاء ــ متيقنا بوجود الحكم فلابدّ من ان يضاف إليه ان موضوع التنجز اعم من العلم الحقيقي والعلم التعبدي فهو توسعة للكشف. وحينئذ فيشكل ترتيب الآثار الشرعية المترتبة علی الأثر الشرعي للمستصحَب فضلاً عن الأثر التكويني كما يشكل حكومة الاصل السببي علی المسببي كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى.

وهنا لا بدّ من البحث عن أمرين: الأول في الفرق بين الامارات والاصول في ترتيب الآثار التكوينية والثاني في تعارض الاصل السببي والمسببي.

 

الفرق بين الامارات والاصول

 

اما في الامر الاول فقد يقال بانه لا وجه للفرق بين الامارات والاصول وحيث لا اشكال ولا خلاف في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على الآثار التكوينية في مورد قيام الامارة فكذلك الاستصحاب.

وقد يجاب عنه بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره بعض الاعاظم من أن الامارات الشرعية كلها امارات عقلائية وليس فيها ما اسسه الشارع وحيث ان الامارات تكشف عن الواقع فتـتبعه لوازمه ووجهه ان الوثوق بالشيء وثوق بلوازمه.

ويدفعه ان الالتزام باختصاص حجية الامارات بمورد حصول الوثوق الشخصي مشكل ولا يلتزم به القائل نفسه.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره وهو ان حجية الامارات من باب تتميم الكشف بمعنی ان الامارات لها كشف ناقص عن الواقع فيعتبره الشارع كاشفاً تاماً فيكون علماً تعبدياً ولا يمكن انفكاك اللازم عن الملزوم في العلم. وأما الاُصول ومنها الاستصحاب فالجعل الشرعي فيها ليس الا ايجاب الجري العملي بمقتضاها وهذا لا يستلزم ايجاب الجري العملي للوازمه.

ويمكن المناقشة فيه أولاً بأن جعل الحجية للامارات لو فرض كونها بملاحظة اعتبارها علماً فليس ذلك اعتباراً قانونياً بل هو اعتبار أدبي مرجعه الی التوسعة والتضييق في موضوع الحكم الجزائي فكما يترتب العقاب علی مخالفة التكليف المعلوم كذلك يترتب علی التكليف الواصل باحدی الامارات وكما يكون العلم بعدم التكليف عذراً كذلك مع قيام الامارة علی عدمه. فمرجع جعل الحجية للامارات الی جعل المنجزية والمعذرية لها.

وثانياً أنّ اعتبار العلم بالملزوم لا يستلزم اعتبار العلم باللازم كما ذكرناه في أول التنبيه  وذكرنا ان الارتباط بين الملزوم واللازم في موارد إدراك الواقع لا يستلزم الارتباط بينهما في ما يكون اثباتا بالاعتبار وقد مر تفصيل الكلام فيه.

  وأما أن حجية الاستصحاب عبارة عن إيجاب الجري العملي علی طبقه فقد مرّ الكلام فيه مراراً وذكرنا ان اعتبار الاستصحاب شرعاً ليس إلا توسعة للكاشف من حيث كشفه فيعتبر  اليقين بالحدوث يقيناً بالبقاء بمقتضى ظاهر الاخبار إمّا تأسيساً وإمّا امضاءاً لاعتبار العقلاء كما ذكرناه سابقاً، غاية ما يمكن أن يقال ان هذا الاعتبار ثابت أيضاً بلحاظ ترتيب الآثار. ولكن اعتبار الامارات أيضاً كذلك فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

وقد اعترض عليه عدة مناقشات لا حاجة الی ذكرها.

الوجه الثالث: ما ذكره صاحب الكفاية قدس سره وهو أن الامارات مشتملة علی الحكاية فهي كما تحكي عن مؤداها بالدلالة المطابقية كذلك تحكي عن لوازمه بالدلالة الالتزامية بخلاف الاستصحاب إذ لا حكاية فيه.

وفيه ان حجية الامارات ليست من جهة الحكاية ولو كان كذلك لاختص حجية مثبتاتها باللوازم البينة إذ هي التي تدل عليها اللفظ بالدلالة الالتزامية وأما اللوازم غير البينة فهي من الملازمات العقلية للكلام لا من المداليل اللفظية لتوسط الكبری العقلية في اثباتها. ولكن مثبتات الامارات حجة حتی في اللوازم غير البينة التي لا تدل عليها اللفظ ولذلك يؤخذ المقر بلوازم اقراره وان انكر ملازمته او جهلها ويؤخذ بلوازم البينة العادلة وان أنكر الشاهدان الملازمة كما إذا شهدا باصابة يد كافر يجهلان كفره أو لا يعتقدان نجاسة الكافر فان من يقول بنجاسته يحكم بنجاسة الملاقي كما لا يخفى.

الوجه الرابع: ما ذكره السيد الخوئي «أيده الله» كما في مباني الاستنباط وهو أن أدلة حجية الامارات قاصرة عن اثبات الحجية لها في لوازمها إلا ان ذلك يثبت ببناء العقلاء علی حجية ظواهر الالفاظ فانها حجة عندهم في اثبات مطلق اللوازم فاذا قامت أمارة علی شيء نتمسك في اثبات لوازمه بظاهر اللفظ الحاكي عن المؤدی.

والجواب عنه ان حجية الظواهر لا تجدي لولا انضمام حجية نفس الامارة ولذا لا يمكن التمسك بظاهر اخبار غير الثقة حتی في مدلوله المطابقي فاذا كان دليل حجية الامارة قاصرة عن شمول اللوازم فلا أثر لحجية الظواهر فلابدّ من ملاحظة دليل حجية الامارة والأخذ به من حيث الشمول للوازمها وعدمه.

وتحقيق المقام يقتضي البحث عن كل ما عدّ أمارة علی حدة وملاحظة كيفية اعتبارها وأنّ بعضها ليست حجة في لوازمها كما سيأتي ومنها الاستصحاب فانه أمارة عندنا أيضاً لما ذكرناه من ان حقيقته هو الرؤية عند العقلاء.

بيان ذلك أن الامارات المعتبرة عند العقلاء في مقاصدهم الشخصية والاجتماعية علی اقسام:

القسم الأول: الاطمينان الشخصي الناشئ من المناشئ العقلائية لا من مثل قراءة الكف والرمل والاحلام بل من تجميع الاحتمالات مثلاً في محور واحد. وفي هذا القسم لابد من الأخذ بلوازمه لعدم امكان الانفكاك بين الملزوم واللازم في الصفات النفسية الادراكية.

القسم الثاني: الاحتمال الذي لم يصل الی حد الاطمينان ولكنه في مورد وجوب الاحتياط وقد ذكرنا في محله ان الاحتمال كاشف عن الواقع إلا انه كاشف ناقص. وليس العلم الا تجميع الاحتمالات في المحور الواحد بنحو تام اي مع عدم احتمال الخلاف. والطريقة العقلائية في هذه الموارد هي المقايسة بين قوة الاحتمال واهمية المحتمل.. فاذا كان المحتمل مهمّاً والاحتمال غير موهوم يأخذون به. وفي هذا القسم يمكن الانفكاك بين الملزوم واللازم لامكان الاهمية في الملزوم دون اللازم مع تساويهما في الاحتمال ضرورة عدم امكان الانفكاك في الصفات الادراكية كما قلنا. والاحتياط الشرعي ــ لو فرض جعله ــ ليس في واقع الامر الا ابراز اهمية المحتمل كما أن البراءة الشرعية ليست في الواقع الا ابرازا لعدم اهمية المحتمل.

القسم الثالث : ما يعتبر عند العقلاء كاشفا من جهة تأثر النفس بمؤثرات خاصة كالاعلام والتلقين وليس كاشفا ادراكيا ومن هذا القسم الاستصحاب على ما ذكرنا. ومثله قاعدة اليد فان دلالة اليد على الملكية لدى العقلاء من جهة انهم يرون السلطة الخارجية رمزاً للسلطة الاعتبارية وكثيراً ما يكتفي العقلاء في تصديقاتهم بمحض التصور. وسيأتي تفصيله في محله.

وفي هذا القسم لا تعتبر اللوازم لما ذكرناه من عدم الملازمة بين الملزوم واللازم في هذا النوع من الكشف فلو فرضنا ان داراً بيد رجل ونحن نعلم انه مهر لزوجته وانه لو كان ملكاً له فانما يكون بالخلع فالحكم بالملكية من جهة اليد لا يقتضي الحكم بوقوع الخلع فلا تتبعه لوازم الطلاق كما ان الحكم بملكية الكافر للّحم الذي بيده لا يستوجب كونه مذكی وان قلنا بعدم ملكية الميتة.

القسم الرابع: ما يعتبر حجة عند العقلاء من جهة تتميم الكشف الناقص الادراكي كما اذا قلنا بأن خبر الثقة يستلزم  كشفاً ناقصاً بمعنی ايجابه الاحتمال بدرجة معتدّ بها واعتبره الشارع حجة بمعنی انه ألغی احتمال الخلاف وكذلك قول الطبيب وساير اهل الخبرة الذين يرجع اليهم العقلاء فيما يحتاج تشخيصه الی تقوية الحدس كالمقومين مثلاً.

ففي هذا القسم يعتبر هذا الكشف الناقص حجة بالنسبة الی اللازم كحجيته بالنسبة الی الملزوم عند العقلاء. ولكننا لا نقول بحجية خبر الثقة بل نقول بحجية الخبر الموثوق الصدور بموجب تجميع الاحتمالات من جهة المخبر وخصوصيات الخبر والقرائن المحتفة والوضع والزمان الذي صدر فيه. وهذا هو الصحيح عند القدماء وقد اعترف الشيخ قدس سره بعد ذكر أدلة حجية الخبر ان غاية ما تدل عليه هو هذا النوع من الخبر. وأما البينة فانا لا نقول بحجيتها الا في مورد المنازعة لعدم تمامية دليل حجيتها يقول مطلق. نعم يؤخذ بلازمها في مورد الحجية لكونها كاشفاً ناقصاً اتمه الشارع.

القسم الخامس: الامارات الرسمية التي تجعلها الحكومات وسائل لاعلام الشعب ومنها قول الموظف المختص واوامر الرؤساء بالنسبة الی الموظفين والضباط للجنود. ومن هذا القبيل ما ورد في حق عثمان بن سعيد العمري رضوان الله عليه عن ابي الحسن الهادي عليه السلام حيث سأله احمد بن اسحاق (من أعامل او عمن آخذ وقول من أقبل؟) فقال عليه السلام (العمري ثقتي فما أدی إليك عني فعني يؤدي وما قال لك عني فعني يقول فاسمع له واطع فانه الثقة المأمون)[2] فمفاده جعله وسيلة للاعلام بقرينة اضافة الثقة الی نفسه عليه السلام والجملة الاخيرة تدل علی نصبه قائداً يجب تنفيذ أوامره أيضاً.

وبذلك يظهر الضعف في الاستدلال به لحجية خبر الثقة نظراً الی التعليل الوارد في ذيله: (فانه الثقة المأمون) مع ان هذه الجملة يدل علی الحصر بنحو المبالغة فالمراد ان الثقة التي يمكن جعله لهذا المنصب منحصر فيه. وكذلك ما استدلوا به مما ورد في يونس بن عبد الرحمن عن الامام الرضا عليه السلام حيث سأله عبد العزيز بن المهتدي (اني لا القاك في كل وقت فممن آخذ معالم ديني؟) فقال عليه السلام (خذ من يونس بن عبد الرحمن)[3] اذ ليس سؤال السائل عن الوثاقة في نقل الخبر لعدم الخلاف فيه وهو من اصحاب الاجماع بل من جهة اخذ الفتوی اذ كان هناك في ذلك العصر جماعة من الفقهاء كيونس وجميل وكان في قبالهم جماعة من الاخباريين لا يوافقون اجتهادهم في المسائل فكانوا يتهجمون عليهم ويمنعون من الاخذ بفتواهم مع انهم كانوا يعترفون بوثاقتهم فنری القميين منهم مثلا يقولون في يونس (وأما كتبه في الاخبار فصحيحة) وانما كان اشكالهم في فتاواه وعقائده وكان الامام الرضا عليه السلام يشير اليه في العلم والفتوی. فالوثاقة هنا بمعنی الوثوق بعلمه وفتواه.

وفي هذا القسم يرجع حدود حجية الامارة الی الحد القانوني المجعول لها.

القسم السادس: ظواهر الالفاظ. واعتبارها انما هو من جهة العهود والمواثيق الاجتماعية فكل فرد من المجتمع بموجب القوانين الاجتماعية ملتزم بظواهر كلامه ومأخوذ بلوازمه بموجب تعهده. فلا يعتنی بدعواه عدم الجد وعدم ارادة المعنی وغير ذلك ما لم تقم قرينة علی ارادة خلاف الظاهر.

وفي هذا القسم يؤخذ بلوازم الكلام بينة كانت أو غير بينة الا انها محدودة بحدود اعتبار العقلاء له. ولذلك ذكروا ان اصالة العموم لا تثبت التخصص في ما اذا دار الامر بينه وبين التخصيص فلا يؤخذ بعكس نقيض العام الذي هو لازمه.

 

الاصل السببي والمسببي:

 

الأمر الثاني: هناك إشكال علی القول بحجية الاصل المثبت نقله الشيخ عن كاشف الغطاء قدس سرهما وهو تعارض الأصل الجاري في الأثر وهو أصل عدمي مع استصحاب ذي الأثر فلا أثر لحجية الأصل المثبت.

وأجاب عنه الشيخ بأن توهم تعارض الاستصحابين لا يختص بالقول بالأصل المثبت فانه يجري في كل اصل سببي ومسببي حتی في الأثر الشرعي ودفع الاشكال مشترك بينهما وهو حكومة الأصل السببي علی المسببي فبعد إجراء اصالة عدم التذكية مثلاً لا تصل النوبة الی اجراء اصالة الحل. وهذا الوجه جار حتی في الآثار التكوينية وما يترتب عليها من الأثر الشرعي.

ونقول: أما تقدم الاصل السببي علی المسببي في الشرعيات فسيأتي تفصيله وقد اتخذ كل من المحققين مسلكاً في وجه ذلك وقد ذكرنا هناك ان الوجه فيه ليس هو الحكومة ولا سائر ما ذكروه في هذا الباب بل هو قصور أدلة الاستصحاب عن شموله فان قوله لا تنقض اليقين بالشك يقتضي عدم جواز رفع اليد عن اليقين بالاحتمال المخالف وأما مع الحجة المخالفة فلا يقتضي ذلك والمراد بالشك ليس هو الاحتمال المتساوي الطرفين بل الاحتمال المخالف المقتضي للجري العملي علی خلاف المتيقن السابق وحينئذ فنقض اليقين في مورد الشك المسببي نقض له بالحجة وهو الأصل السببي لا بالشك.

فاذا استندنا في حجية الاستصحاب الى الاخبار فهي لا اطلاق فيها يشمل الاصل المسببي. واذا استندنا الى بناء العقلاء فقد مرّ الكلام فيه في أول هذا التنبيه وبناءً عليه فاذا غسلنا الثوب المتنجس بماء ثم شككنا في بقاء طهارة الماء فاستصحاب الطهارة  فيه لا يترك مجالاً لاستصحاب نجاسة الثوب فانه يحقق موضوع كبری هي (كل متنجس غسل بالماء الطاهر فهو طاهر) فرفع اليد عن اليقين بالنجاسة رفع له بالحجة لا بالاحتمال المخالف حتى يمنعه الاستصحاب وهذا بخلاف اليقين في جهة الشك السببي فان نقضه بالأصل المسببي ليس نقضاً بالحجة إذ ليس لنا كبری شرعية مفادها كل ما غسل به النجس ولم يطهر فهو نجس مثلاً حتی يدل علی نجاسة الماء نعم يدل علی ذلك باللازم العقلي وهو يتوقف علی حجية الأصل المثبت.

إذن فتقدم الأصل السببي علی المسببي في الشرعيات بناءً علی ما ذكرنا يتوقف علی عدم حجية الأصل المثبت فكيف يجعل وجهاً في تقدمه علی الأصل المعارض مع ان الكبری الشرعية الذي هو الملاك في تقدم الاصل السببي في الشرعيات مفقود في الأصل المثبت.

ثم إنه لابد من ملاحظة الوجوه الثلاث التي ذكرناها في حجية الأصل المثبت لنری انها لو لم تكن فاسدة كما ذكرنا ماذا تقتضي في المقام:

أما الوجه الأول المبتني علی التلازم بين الواقع التكويني الخارجي والاعتبار فيقتضي تأثير هذا التعارض حتی بالنسبة للملزوم فلا يكون الاستصحاب حجة في مورد اصلاً وذلك لان اعتبار الاستصحاب علی هذا الوجه كما يقتضي بجريانه في الملزوم اثبات اللازم كذلك يقتضي بجريانه في عدم اللازم اثبات عدم الملزوم فاذا سلمنا ان استصحاب حياة زيد يثبت نبات لحيته لعدم امكان اعتبار الملزوم دون اعتبار اللازم فلابد من ان نقول بأن استصحاب عدم نبات اللحية يثبت عدم حياة زيد بعد الاعتراف بصدق الملازمة، فلا بد حينئذ من علاج هذا التعارض بتقديم السببي علی المسببي بأن نقول ان اعتبار العلم في الأصل السببي يلازم اعتبار العلم في الأصل المسببي دون العكس فاعتبار العلم في الاصل المسببي غير جار اصلاً حتى يلازم اعتبار العلم في السببي فيحصل هذا التنافي ومن الواضح أن القول بهذا التقديم لا وجه له الا الاضطرار والالجاء والا لزم عدم حجية الاستصحاب مطلقاً.

وأما الوجه الثاني المبتني علی الملازمة بين الاطمينان بالملزوم والاطمينان باللازم فان كان المراد به حجية الاستصحاب من باب الظن الشخصي فلا يمكن حصول التعارض في المقام اصلاً لعدم امكان حصول الظن بحياة زيد والظن بعدم نبات لحيته مع انهما متلازمان خارجاً، وان كان المراد به حجيته من باب الظن النوعي فالتعارض حاصل موضوعاً الا انه لابد من ملاحظة الوجوه المذكورة في تقديم الاصل السببي والمسببي وامكان جريانه في المقام وعدمه.

وأما الوجه الثالث المبتني علی كون الروايات كناية عن رتب الأثر والمراد بالاثر الاثر الشرعي سواء كان أثراً شرعياً للشيء بلاواسطة أو بواسطة أثر تكويني فالاستصحاب لايثبت الاثر التكويني وانما يثبت الاثر الشرعي المترتب عليه علی سبيل الطفرة كما انه يثبت الأثر الشرعي المترتب بواسطة أثر شرعي آخر . فهذا الوجه يقتضي ثبوت التعارض في المقام ولا يجدي في رفع التناقض حكومة الاصل السببي علی المسببي اذ لا سببية فيه. فاذا قلنا بان استصحاب حياة زيد يقتضي وجوب التصدق المترتب علی نبات اللحية وان استصحاب عدم نبات اللحية يقتضي عدم وجوب التصدق فيتعارضان في هذا الحكم الشرعي وليس لازم الاستصحاب الاول نبات اللحية حتی يكون من السببي والمسببي.

ولكن هذا الوجه اضعف ما ذكر في الباب كما قلنا.

 

موارد خفاء الواسطة:

 

واما الواسطة الخفية فقد ذهب الشيخ والمحقق الخراساني قدس سرهما الی ترتيب الآثار حينئذ. قال الشيخ قدس سره في فرائد الاصول (ان بعض الموضوعات الخارجية المتوسطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعي من الوسائط الخفية بحيث يعد في العرف الاحكام الشرعية المترتبة عليها احكاما لنفس المستصحب..)[4] وقال المحقق الخراساني قدس سره في الكفاية (نعم لا يبعد ترتيب خصوص ما كان محسوبا بنظر العرف من آثار نفسه لخفاء ما بوساطته بدعوى ان مفاد الاخبار عرفا ما يعمه ايضا حقيقة)[5] واضاف اليه ما كان التلازم فيه بينا.

واعترض عليهما من تأخر عنهما بان انظار العرف لا يُعتمد عليها في تشخيص المصاديق فاذا علمنا بان المعتبر في الاستصحاب هو آثار نفس المستصحب فلا يعتنی بما يظنه العرف اثراً له خلافاً للدقة العقلية اذ لا عبرة بالمسامحات العرفية في تطبيق الكبريات علی الصغريات كما يلاحظ من الفتوى في نقصان الكر بمقدار يسير، وانما يعتبر العرف في تشخيص المفاهيم. ثم ناقشوا في الامثلة التی ذكراها.

ولابد من ذكر امور لتوضيح مقصود الشيخ وصاحب الكفاية:

 

الامر الأول في معنی الواسطة الخفية:

 

الواسطة قد تكون واسطة في الاثبات وهي الحد الاوسط في القياس وقد تكون واسطة في الثبوت وهي ما توجب اتصاف الشيء بصفة مّا واقعا وقد تكون واسطة في العروض وهي ما تكون بنفسها محل عروض الوصف حقيقة إلا انه يحمل علی ذي الواسطة مجازاً لنوع ارتباط بين الواسطة وذيها.

والواسطة في العروض علی قسمين: جلية وخفية. فالأول ما يكون التجوز في اسناد الوصف الی ذي الواسطة واضحاً بنظر الاديب نحو جری النهر وسال الميزاب، او اسناد الحركة للجالس في السفينة. والثاني ما تكون الصفة فيها صفة للواسطة ولكن لا بالنظر العرفي وان كان دقيقاً بل بالنظر الدقيق العقلي.

ولهذا القسم امثلة منها ما ذكر في المنطق من الحد الاوسط نحو (كل انسان حيوان وكل حيوان متحرك بالارادة) فان صفة الحركة بالارادة بالنظر الدقيق عارضة علی الحيوان وتعرض علی الانسان بواسطته بل وكذا صفة الناطق لزيد الانسان وصفة التعجب للانسان الناطق فان زيداً بما هو انسان ناطق والانسان بما هو ناطق متعجب وهذا التوسط انما هو بالنظر الدقيق الفلسفي بل بادق الانظار الفلسفية لا بالنظر العرفي مهما كان دقيقاً. وكذلك الانحناء والاستقامة العارضتان للجسم بما انه متكمم فانها من الكيفيات المختصة بالكميات. ومن ذلك ما يعرض الفرد الخارجي بواسطة العنوان المأخوذ في لسان الدليل كوجوب الحج علی المستطيع، فكل هذه الاقسام يعتبر عند العرف الدقيق من صفات ذي الواسطة أي لا يری فيها واسطة في العروض والا لم تصح القضايا المذكورة في المنطق والفلسفة والاُصول وغيرها من العلوم الحقيقية فان الاقيسة المذكورة فيها أكثرها من هذا القبيل ولهذا صحّ ما قالوا من ان موضوع العلم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية اي بلا واسطة في العروض والا لو كان بالنظر الدقيق العقلي لأمكنت الخدشة فيه بأن هذه العوارض تعرض موضوعات المسائل أوّلاً وبالذات وتعرض موضوع العلم بواسطتها.

وبهذا ظهر ان ما يقال في الاشكال علی الشيخ وصاحب الكفاية قدس سرهما من أنه لا عبرة بالمسامحات العرفية لا وجه له فان هذه العوارض لا يعتبر عند العرف مع تمام الدقة من العارض بالواسطة بل حتی بالنظر الفلسفي وانما يذكرون في الفلسفة في بعض الموارد ان في هذه القضايا أيضاً نوعا من التجوز في الاسناد كما يذكرون في اتصاف الماهيات بالوجود أن ذلك من التجوز في الاسناد أيضاً فان الموجود في الواقع هو نفس الوجود ولكن ذلك انما يصح بنظر عرفاني ادق كما يقولون.

وتبين مما ذكرنا انا لو قلنا الماء متغير بالنجاسة فهو نجس لم يكن ذلك من المسامحة العرفية وإن كان بالنظر الدقيق صفة النجاسة عارضة علی نفس المتغير حقيقة وعلی الماء بواسطته الا ان العرف الدقيق يراه اسناداً حقيقياً بل هو نظير الاقيسة المذكورة في المنطق. فالاسناد في مثل هذا انما هو بملاحظة الاتحاد الوجودي بين المتغير والماء لا بما ان المتغير واسطة في الثبوت كما ذكر في بعض التقريرات بل العرف يعلم ان موضوع الحكم هو المتغير ولكنه حيث يقع حداً وسطاً لاثبات الحكم لما هو متحد معه وجوداً فالاسناد حقيقي والا لبطلت العلوم الحقيقية.

وقد ذكر بعض الاعاظم في هذا المقام تقريراً وهو أن مورد الواسطة الخفية ما اذا كان موضوع الحكم بالنظر الفلسفي غير موضوعه بالنظر العرفي مثلاً إذا قال الشارع الخمر حرام فالعقل يدرك ان سرّ تحريمه هو الاسكار، وحيث ان الحيثيات التعليلية مرجعها الی الحيثيات التقييدية فيكون موضوع الحرمة بالنظر الدقيق العقلي هو المسكر، فقولنا الخمر حرام انما يصح مع الواسطة الخفية.

وهذا غير صحيح فان رجوع الحيثيات التعليلية الی التقييدية انما هو في أحكام العقل العملي دون النظري. توضيحه: ان للعقل احكاماً نسبتها إليه من قبيل نسبة الفعل الى الفاعل وهي احكام العقل العملي وله احكام تنسب إليه نسبة انفعالية بمعنی ان العقل يدرك اشياء كالقوانين التكوينية والشرعية مثلاً وهذا هو العقل النظري فالقسم الاول احكام ينشئها العقل والقسم الثاني اُمور يدركها العقل، فاذا حكم العقل بحسن ضرب اليتيم مثلاً فهو يعلله بانه تأديب ويعلل حسن التأديب بانه احسان واما الاحسان فحسنه بالذات وكل ما بالعرض لا بد وان ينتهي الی ما بالذات. وهذه الحيثيات التعليلية مرجعها إلی الحيثيات التقييدية بمعنی ان حكم العقل في هذه الموارد إنما هو في الحقيقة حكم بحسن الاحسان ولكنه يطبقه علی هذا المورد فحسن الاحسان الذي هو حيثية تعليلية في الحكم بضرب اليتيم هو في الحقيقة موضوع الحكم.

ولكن هذا لا يصح في حكم العقل النظري فان سلامة العقل هناك انما تكون بأن يدرك الشيء علی واقعه وحقيقته وموضوع الحكم الشرعي في المثال هو ما رتب الشارع عليه الحكم في لسان الدليل فلو ارجعه العقل الی أمر آخر لم يدركه علی حقيقته وان كان هو العلة التي لاجلها حكم الشارع بالحرمة مثلاً فان الحرمة لا تعرض علل تشريع الحكم بل الموضوع المأخوذ في لسان الدليل فالحيثيات التعليلية في القوانين التكوينية والاحكام الشرعية لا ترجع الی الحيثيات التقييدية.

 

الأمر الثاني: في الامثلة التي ذكرها الشيخ وصاحب الكفاية:

 

ذكر المحقق صاحب الكفاية في التنبيه الثامن ــ والظاهر انه متفرع علی ما ذكره في هذا المقام ــ أنّ الأثر المترتب علی الشيء بواسطة العنوان الكلي المنتزع عن ذاته أو بعض عوارضه يصح ترتيبه بالاستصحاب.

قال قدس سره (الثامن: أنه لا تفاوت في الاثر المترتب على المستصحب بين ان يكون مترتبا عليه بلا وساطة شيء او بوساطة عنوان كلي ينطبق ويحمل عليه بالحمل الشائع ويتحد معه وجودا، كان منتزعا من مرتبة ذاته او بملاحظة بعض عوارضه مما هو خارج المحمول لا بالضميمة فان الاثر في الصورتين انما يكون له حقيقة حيث لا يكون بحذاء الكلي في الخارج سواه لا لغيره مما كان مباينا معه او من اعراضه مما كان محمولا عليه بالضميمة كسواده مثلا وبياضه وذلك لان الطبيعي انما يوجد بوجود افراده).

ويقصد بالخارج المحمول ما ليس له وجود مستقل عن الكلي نفسه وبالمحمول بالضميمة ما له وجود مستقل وان كان وجودا عرضيا كالسواد. ولا يهمّنا أن هذا الاطلاق ليس موافقا للاصطلاح. ومهما كان فهذا مثال للواسطة الخفية وان لم يصرّح به. والوجه في ذلك هو ما ذكرنا من ان اتحاد الكلي مع الفرد (بالمعنی الاعم) يستلزم صدق خفاء الواسطة.

وتوضيح ذلك: ان المنطبق والمنطبق عليه أي الفرد والكلي في هذا المقام يتصور علی ثلاثة اقسام:

القسم الأول: ان يكون كل منهما متيقن الحدوث ومشكوك البقاء.

القسم الثاني: أن يكون كل منهما متيقن الحدوث الا ان الكلي متيقن الارتفاع والفرد متيقن البقاء.

القسم الثالث: ان يكون الفرد متيقن الحدوث الا ان انطباق الكلي عليه متوقف علی بقائه.

أما القسم الأول فسيأتي الكلام فيه في مبحث استصحاب الكلي فإن القسم الأول منه هو أن يعلم بتحقق الكلي في ضمن فرد والمقصود اثبات آثار الكلي باستصحاب الفرد بعد الشك في بقائه ففي هذا القسم يجري استصحاب الكلي والفرد إذا كان لكل منهما اثر شرعي وإنما وقع الكلام في أن استصحاب الفرد هل يغني عن استصحاب الكلي أم لا؟ ولكن هذا البحث بحث علمي محض لا يترتب عليه أثر عملي فلكل منهما حالة سابقة ويجري فيه الاستصحاب وإغناء الآخر عنه وعدم إغنائه لا أثر له.

وقد اختار صاحب الكفاية ــ كما سيأتي ان شاء الله تعالى ــ كفاية استصحاب الفرد عن استصحاب الكلي إذ باستصحابه يترتب آثار الكلي عليه أيضاً فلا حاجة الی استصحابه وعدّ ذلك مما نحن فيه لخفاء الواسطة. واعترض عليه السيد الخوئي دام ظله أن الأثر ليس أثراً للكلي بنفسه حتی يكون أثراً للفرد بالواسطة إذ أن الأحكام مجعولة بنحو القضية الحقيقية ومرجعها إلی أن كل فرد وجد في الخارج وصدق عليه العنوان كعنوان المستطيع مثلاً وجب عليه الحج. والجواب عنه ان مراده من الفرد ليس هو الجزئي الحقيقي والمصداق الخارجي بل هو الفرد بالمعنی الاعم أي الجزئي الاضافي مضافاً إلی أنه لم يعبر بالفرد بل عبّر بالشيء. وأما أصل البحث فسيأتي التحقيق عنه.

وأما القسم الثاني فهو كما إذا قال كل مسكر حرام وعلمنا باسكار مايع خارجاً ثم علمنا انتفائه بعلاج مثلاً فهل يحكم ببقاء الحرمة نظراً الی أن الحرمة وان كانت ثابتة للمسكر الا انه عنوان انتزاعي متحد مع الذات خارجاً؟ ومثله استصحاب نجاسة الماء المتغير بعد زوال التغير فان النجاسة حكم المتغير إلا انه واسطة في عروض النجاسة علی الماء فالكلي الواسطة وان انتفى الا انه يشك في بقاء النجاسة المترتبة علی ذي الواسطة بوساطته.

والكلام في هذا القسم يأتي في البحث عن اتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة وانّ الملاك نظر العرف أو نظر العقل أو لسان الدليل.

وأما القسم الثالث فهو محل الكلام هنا وهو أن يكون الفرد متيقن الحدوث وانطباق الكلي الانتزاعي عليه متوقف علی بقائه فهل يحكم بترتب آثار الكلي عليه نظراً إلی استصحاب بقائه أم لا؟

توضيحه أن الأمر الانتزاعي متقوم بأمرين: منشأ الانتزاع ومصحح الانتزاع. فالأول هو الذي يحمل عليه الأمر الانتزاعي بهو هو وهو متحد معه خارجاً كالمشتقات بالنسبة إلی الذات، ومصحح الانتزاع لا يتحد معه بل قد يكون متغايراً كالمشتقات بالنسبة إلی المبادئ وهكذا الكلام في عنوان أول الشهر مثلا فإنه منتزع من اليوم الذي يكون من الشهر مع عدم كون اليوم السابق منه فمنشأه اليوم ومصححه الأمر العدمي، وكذلك العمى فان منشأ انتزاعه عدم البصر ومصححه قابلية المحل.

ومحل الكلام هو فيما إذا علم أحد مقومي الانتزاع بالوجدان وشك في بقاء الآخر فهل يثبت الاستصحاب تحقق الامر الانتزاعي حينئذ أم لا؟ وأما إذا شك في بقاء المنشأ ولم يعلم مصحح الانتزاع فاستصحاب المنشأ لاثبات المصحح والأمر الانتزاعي غير جار قطعاً فلو علم مثلاً أن زيداً لو كان باقياً بعد في النجف لكان مجتهداً ولكن بقاؤه مشكوك فيه فاستصحاب بقائه لاثبات الاجتهاد والمجتهد مثبت قطعاً وغير جار لان الاجتهاد مصحح للانتزاع. وكذلك في الاُمور الاعتبارية كما لو علم انه لو كان باقياً إلی هذا الزمان فهو زوج لهند مثلاً فلا فرق في ذلك بين الاُمور الاعتبارية والاُمور التكوينية خلافا للمحقق الخراساني.

والحاصل أن هذا الاستصحاب غير جار ولم يلتزم به أحد.

وتبين بما ذكرنا ان محل الكلام هو استصحاب الفرد لاثبات الأمر الانتزاعي مع كون مصحح الانتزاع أو منشأه معلوماً بالوجدان. وله أمثلة:

منها ما ذكره الشيخ وهو صدق عنوان أول شوال على اليوم فان كون هذا اليوم من شوال معلوم وجدانا واستصحاب عدم شوال حتی يوم أمس يثبت مصحح انتزاع عنوان اول شوال فهل يثبت هذا العنوان بذلك أم لا؟

ومنها ما اذا كانت الحالة السابقة للمالك من القدرة علی التسليم وعجزه حين كونه مالكا مجهولا مع فرض ان العجز مانع لا أن القدرة شرط فهل يمكن استصحاب عدم القدرة قبل الملك اي قبل تحقق المملوك لينضم إليه الملك بالوجدان فيثبت عنوان العجز الذي يتوقف علی كون المالك بعد تحقق المملوك غير قادر على التسليم أم لا؟

ومنها استصحاب عدم الاسلام قبل التمييز منضماً إلی البلوغ والعقل فهل يثبت الكفر بذلك أم لا؟ ومثله كل موارد استصحاب عدم الشيء بنحو السالبة المحصلة لاثبات الموجبة المعدولة المحمول.

ومنها ما ذكره صاحب الكفاية في أصالة تأخر الحادث من انه هل يثبت عنوان التأخر فيما إذا شك في تأخر اسلام الوارث عن موت المورث أم لا؟ فان عنوان التأخر ينتزع عن وجود شيء مع عدم وجود هذا المتأخر فذكر هناك ان المسألة تبتني علی جريان الأصل مع خفاء الواسطة.

 

الأمر الثالث : في بيان المراد بالواسطة الجلية في كلام صاحب الكفاية:

 

ورد في كلامه قدس سره القول بجريان الاستصحاب فيما إذا كانت الواسطة جلية ولكن كلامه في الكفاية في بحث الاصل المثبت مجمل ولم يذكر له مثالاً يوضح المقصود ولكنه ذكر في تنبيه اصالة تأخر الحادث ان اثبات التأخر كما يمكن بدعوی خفاء الواسطة كما ذكرناه يمكن أيضاً بهذه الدعوی فيكون هذا المثال مثالاً للأمرين إلا انه ذكره هناك احتمالاً لا جزماً.

وليس المراد بجلاء الواسطة في كلامه ما ذكرناه أولاً في قبال الواسطة الخفية بل المراد بها ان الشيئين المتلازمين في الخارج قد يكونان في الاعتبار أيضاً متلازمين لا بقول مطلق ــ كما ذكرناه في الوجه الأول من وجوه الاستدلال علی حجية الأصل المثبت ــ بل بمعنی انه قد يكون المتلازمان في الخارج متلازمين في الاعتبار بحيث يستهجن في نظر العرف اعتبار أحدهما تعبداً دون الآخر فمثلا يرى العرف أن اعتبار عدم موت المورث إلی زمان اسلام الوارث ملازم لاعتبار تأخر اسلامه عن موته وكذلك في سائر الامثلة التي ذكرناها إذ مقتضى ما ذكره هناك جريان هذا الوجه في جميع امثلة خفاء الواسطة. ولهذا التلازم نظائر:

منها: القول بالملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها بناءاً علی القول بها. وذلك لأن القول بالترشح باطل قطعاً كما ذكرناه في محله إذ لا يعقل الارتباط التكويني بنحو العلة والمعلول بين أمرين اعتباريين فلو صحت الملازمة فلا بد من أن يكون الوجه فيها هو دعوی التلازم بين الأمرين في وعاء الاعتبار بمعنی استهجان التفكيك بينهما في نظر العرف فاذا اعتبر الشارع أحدهما يستكشف العرف انه قد اعتبر الآخر ايضا لا ان أحد الاعتبارين يترشح من الآخر.

ومنها: اعتبار أحد الأمرين المتضايفين فانه يستلزم اعتبار الآخر عرفاً سواء كانا متوافقين كالاخوة أم متخالفين كالابوة والبنوة.

وقد ذكر صاحب الكفاية في حاشية الرسائل هذا الأمر وذكر ان نظيره التضايف واشتبه الأمر علی بعض الاعلام ــ كما في مباني الاستنباط ــ فظن انه ذكر هذا مثالاً لما نحن فيه فاعترض عليه بأن المتضايفين متكافئان في القوة والفعل فلا يمكن ان يكون أحدهما متيقن الحدوث مشكوك البقاء دون الآخر حتی يثبت أحدهما باستصحاب الآخر. والواقع ان صاحب الكفاية ذكر هذا الامر كتنظير لتوضيح المطلب لا للتمثيل.

 

عود الى الكلام في الواسطة الخفية:

 

بعد بيان هذه الامور الثلاثة نقول في تحقيق أصل المطلب: إنه يمكن الاستدلال لجريان الاستصحاب في موارد الواسطة الخفية بوجوه:

الوجه الأول: أن مفاد الاستصحاب (رتب الأثر) ومقتضی ما ذكرنا سابقاً من أن آثار الواسطة فيما نحن فيه آثار ذيها بالنظر العرفي الدقيق بل النظر الفلسفي أيضاً وان التجوز انما هو بادق الانظار الفلسفية هو وجوب ترتيبها حينئذ.

ويدفعه أمران نقضي وحلي:

أما النقض فبأن لازم ذلك صحة اثبات الفرد الطويل باستصحاب الكلي في القسم الثاني إذ هما متحدان وجوداً فكما لا يصح ذاك لا يصح اثبات الكلي باستصحاب الفرد.

وأما الحل فبما ذكرناه سابقاً من أن هذا المفاد أمر موهوم لا واقعية له في اعتبار الاستصحاب فان حقيقة الاستصحاب إمّا هو الادراك الاحساسي فيترتب عليه آثاره الاحساسية وإمّا اعتبار الشيء باقياً. ومقتضى الوجه الاول هو ترتب الاحكام الشرعية المرتبطة به رأساً لكونها من آثاره التي تؤثر في الاحساس وأما إذا كان ارتباطها بالكلي المنطبق عليه فلا يترتب إذ ليس أثراً احساسياً له. ومقتضى الوجه الثاني أن يكون اعتباراً أدبياً وقد ذكرنا سابقاً انه لا تلازم بين اعتبار الشيء ادبياً واعتبار المتحد معه خارجاً فلا يلزم من اعتبار الاسد لاثره الخاص في المشاعر اعتبار فصله أو جنسه أو عنوان متحد معه كالحيوان المفترس في مورد اعتبار مفهوم الاسد.

الوجه الثاني: التلازم في وعاء الاعتبار لا في مطلق الواسطة الخفية بل فيما اذا كان أحد مقومي الأمر الانتزاعي معلوماً بالوجدان والآخر مورداً للاستصحاب . فهذا دليل اخصّ من المدعی.

والجواب عنه ان هذه الكبری صحيح في نفسه أي ثبوت التلازم في وعاء الاعتبار في بعض الموارد الا ان ما ذكروه في الاُصول من صغرياتها غير صحيح ولذلك انكرنا وجوب المقدمة بهذا الوجه. وكذلك ننكره في الاستصحاب.

والوجه في ذلك: ان الاستصحاب متقوم بالقضية المتيقنة والمشكوكة ومنشأ الانتزاع متيقن الحدوث مشكوك البقاء والأمر الانتزاعي مشكوك الحدوث فلا تلازم بينهما خارجاً والا لم يفترقا في اليقين والشك وتوهم التلازم في وعاء الاعتبار ليس إلا من جهة العلم بوجود مصحح الانتزاع اتفاقاً وهذا لا يوجب تلازماً. فمثلاً نستصحب عدم القدرة الی زمان الملك لاثبات عنوان العجز مبنياً علی أن الملك معلوم في هذا الحال. وعدمُ القدرة إذا كان معاصراً للملك ينتزع منه العجز. ولكن العجز منفك عن عدم القدرة في اليقين والشك فكيف يكون بينهما تلازم إلاّ ان الملك لما كان معلوماً اتفاقاً وانضم الی عدم القدرة المستصحبة لزم منه انتزاع العجز وهذا لا يسمی تلازماً في وعاء الاعتبار. والاستصحاب لا يثبت أزيد من عدم القدرة وليس هو العجز بل العجز ملازم لحصة خاصة منه فاثبات العجز في المقام لم ينشأ من التلازم في وعاء الاعتبار بل من مقارنة الملك لاستصحاب عدم القدرة اتفاقاً.

وكذلك استصحاب عدم شوال لا يلازم اعتبار أول شوال في الغد وإنما يثبت ذلك بضميمة كون هذا اليوم من شوال بل الانفكاك هنا أوضح من جهة أن عدم شوال المورد للاستصحاب ليس منشأ للانتزاع بل مصححاً له إذ المنشأ هو الذي يحمل عليه الأمر الانتزاعي بهو هو وهو اليوم، فأول شوال لا يلازم استصحاب عدم شوال بل يلازم مجموع عدم شوال وكون هذا اليوم من شوال. وكون هذا اليوم من شوال مقطوع به. والاعتبار إنما لحق الأول اي استصحاب عدم شوال وهو لا يلازم اعتبار أول شوال. ولذلك جعل المحقق الخراساني هذه الامثلة مثالاً للتلازم بنحو من التردد.

الوجه الثالث: وهو أيضاً خاص ببعض موارد الواسطة الخفية ويتوقف علی مقدمة وهي: أنّ الواقع الخارجي لا ينعكس في الذهن بصورة واحدة بل بصور متعددة ومنه ينشأ تكثر الادراكات فان تكثرها قد تكون من جهة تكثر المدركات وقد تكون من جهة كثرة الصور الذهنية التي يخترعها الذهن.

ومن ذلك ما يقال في اختلاف بعض المعلومات بانها اختلاف بالاجمال والتفصيل فالانسان مثلاً إدراك اجمالي لحقيقة خارجية والحيوان الناطق - بناء علی انهما جنس وفصل مقومان لحقيقة الانسان - ادراك تفصيلي لها.

وكيفية تكثر الادراكات على قسمين:

القسم الأول: أن يكون للذهن بالنسبة إلی ما يتصوره عمليتان احداهما تصور الواقع الخارجي بنحو والاُخری اختراع صورة اُخری عنه وجعلها مرآة له فان للذهن قوة اختراع بعض المفاهيم كمفهوم الوجود فإنه بناءاً علی مسلك اصالة الوجود غير حقيقته إذ لا يدرك كنهه كما يقولون (وكنهه في غاية الخفاء) وكمفهوم العدم فإنه ليس له واقع خارجي طبعاً وإنما هو من مخترعات الذهن. وكذلك الصور التي يخترعها ويجعلها مرآة للصورة المنعكسة فيه عن الواقع الخارجي فيكون لكل مدرَك من مدركاته صورة طبق الأصل وصورة مخترعة. ولا يبعد ان يكون من هذا القبيل الفرق بين السالبة المحصلة والموجبة المعدولة المحمول نحو زيد ليس ببصير وزيد هو اللا بصير فان الواقع الخارجي ليس الا انتفاء البصر عن زيد الذي هو مدلول الجملة الاولی ولكن الذهن يخترع عنوان اللابصير من هذه الصورة فيحملها بنحو هو هو علی زيد فيحتاج الی وجود الرابط وحيث إن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له فلا يصح الحمل الا مع وجود زيد فتكون القضية موجبة معدولة المحمول فليس بين القضيتين فرق جوهري وانما نشأ الفرق من جهة تكثر الادراكات واحدى القضيتين مطابقة للواقع الخارجي والاخرى مخترعة.

القسم الثاني: ما تكون فيه الصور الذهنية عن الواقع الخارجي الواحد متساوية بالنسبة إليه فلا تكون احداهما اصلية وما عداها اختراعية، مثال ذلك أعدام الملكات التي هي اُمور انتزاعية مع مجموع منشأ الانتزاع ومصحح الانتزاع فانهما صورتان عن واقع خارجي واحد كالعمی وهو عدم الملكة فان الفرق بينه وبين مجموع عدم البصر وهو منشأ الانتزاع وقابلية البصروهو مصحح الانتزاع ليس الا بالاجمال والتفصيل والواقع واحد.

ومن هذا القبيل الفرق باللحاظ الاستقلالي واللحاظ التبعي كما ذكره المحقق الخراساني في الفرق بين المعنی الاسمي والمعنی الحرفي. ومن هنا ينشأ اختلاف اللغات في التعبير عن الشيء الواحد فيلاحظ في بعض الموارد ان اللغات المترقية تعبر عن الشيء بلفظ بسيط وتعبر عنه اللغات المتخلفة بلفظ مركب.

ومن هذه المقدمة يتبين الحال في الامثلة المتقدمة فالعجز وعدم القدرة المعاصر للقابلية صورتان عن واقع واحد، وكذلك الكفر وعدم الاسلام مع القابلية، فلا يصح الفرق بين التعبير بفوت الصلاة والتعبير بعدم الاتيان بها فيقال لا يمكن اثبات الأول بالاستصحاب إذا شك في الاتيان بخلاف الثاني، مع أنه لا فرق بينهما الا بالتعبير فان واقع الفوت وعدم الاتيان مع وجود المصلحة الملزمة للاتيان واحد. فلابد في مثل هذا المورد ــ مما ورد فيه الدليل بالتعبير عن الشيء ذي الصور المختلفة في الذهن بأحد التعابير المعبرة عن احدی تلك الصور – من الالتزام بأحد أمرين:

الأمر الأول : أن يكون موضوع الحكم بحسب اللبّ والواقع هو الجامع بين انحاء اللحاظ وان ورد في الدليل لحاظ واحد إذ من المعلوم ان انتخاب هذا اللحاظ ليس لمصلحة كامنة في اللحاظ نفسه بل في الملحوظ إذ لا يخضع اللحاظ للمصلحة والمفسدة وانما هما مترتبان علی الامور الواقعية، والاحكام تابعة للمصالح والمفاسد فلا فرق في ذلك بين تصور الشيء بالاجمال وجعل الحكم له وتصوره بالتفصيل وجعل الحكم له. وكذلك لا فرق بين جعل الحكم للسالبة المحصلة وجعله للموجبة المعدولة المحمول، فان هذه الكثرات لا دخل لها بالواقع الخارجي والمصلحة والمفسدة المترتبة عليه. فانتخاب هذا التعبير اما انه لانتخاب أحد المتساويين في التعبير واما لانتخاب الاسهل في ذلك كما إذا كان العنوان الاجمالي موضوعاً.

ولذلك يلاحظ اختلاف التعبير عن الموضوع الواحد في الروايات، مضافاً إلی ان الرواة حين النقل بالمعنى لم يلاحظوا هذا الفرق جزماً فلابد من أن يكون الموضوع الواقعي هو الجامع بين انحاء اللحاظ فإذا امكن احراز الموضوع الواقعي بأحد انحاء اللحاظ كفى في اثبات الحكم كما اذا كان لحاظاً مركباً يمكن احراز أحد جزءيه بالأصل والآخر بالوجدان وان كان الموضوع في لسان الدليل هو اللحاظ البسيط الاجمالي إذ لا اثر له في التعبير بل هذا أيضاً غير ثابت لاحتمال النقل بالمعنی وقد ورد في بعض الروايات الترخيص في النقل بالمعنی إذا ادركه الراوي.

هذا غاية تقريب ما ذكره المحقق الايرواني قدس سره في رسالة اللباس المشكوك من ان الموضوع هو النسبة الهيولائية الجامعة بين اللحاظ الاستقلالي والتبعي، والتفصيلي والاجمالي، والسالبة المحصلة والموجبة المعدولة المحمول.

 ولكن لا يسعنا الالتزام بهذا الأمر إذ الجامع بين النسب ليس نسبة والجامع بين انحاء اللحاظ ليس لحاظاً والجامع بين التعابير ليس تعبيراً ولابد في مرحلة الانشاء والاعتبار من اعتبار نسبة خاصة ولحاظ صورة خاصة تكون مقوماً لاعتبار الحكم وانشائه ولا يمكن ان يكون الجامع بين مقوم الاعتبار وما ليس مقوماً له هو المقوم للاعتبار.

ولا يتوهم ان الواقع الخارجي يمكن أن يكون بنفسه موضوعاً للحكم إذ لا يمكن ان يتقوم الاعتبارات النفسية بالاُمور الخارجية بل لابد ان يتقوم بالاُمور النفسية وكذلك سائر الصفات النفسية وقد ذكروا أن العلم والارادة لا يتعلقان بالأمر الخارجي وأن المعلوم بالذات هو الصورة الذهنية والمعلوم بالعرض هو الخارج ــ وان كان في هذين المثالين نظر ــ وقد ذكرنا سابقاً ان العناوين المأخوذة في لسان الدليل بملاحظتها في مقام الاعتبار موضوع للحكم الانشائي وبملاحظة تحقق الموضوع الخارجي موضوع للحكم الفعلي كعنوان المستطيع والمستطيع في الخارج فلا بد من أن يكون الموضوع في مقام الاعتبار وانشاء الحكم هو الصورة الذهنية.

الأمر الثاني: أن يكون اعتبار أحد هذه اللحاظات مستلزماً لاعتبار غيرها فالوارد في لسان الدليل وان كان التعبير عن صورة من صور الواقع الا أن سائر الصور باعتبار عدم مدخلية الصورة ــ كما مرّ ــ موضوع للحكم أيضاً.

والجواب عن هذا الوجه بعد الفراغ عن بطلان احتمال أخذ الجامع موضوعاً هو أن الواجب علينا هو الالتزام بما ورد في نص القانون حرفيّاً والموضوع الواقعي للحكم هو نفس الموضوع الوارد في لسان الدليل لاصالة تطابق المراد الاستعمالي للمراد الجدي والقضية اللفظية للقضية اللبيّة سواء كانت صورة اجمالية ام تفصيلية اذ الحكم الانشائي متقوم به فلابد من احراز ذلك الموضوع لترتب الحكم فلو كان الحكم مترتباً علی عنوان الفوت فلا يمكن اثباته إلا بالاصل الجاري فيه ولا تثبته اصالة عدم الاتيان.

فان قيل: يثبته بضميمة التلازم في وعاء الاعتبار.

قلنا: لو سلمنا هذا التلازم فهو غير مجدٍ في اثباته لتعارضه مع الأصل الجاري في نفس ذلك العنوان وهو استصحاب عدم الفوت مع انا بينا فيما سبق بطلان هذا التلازم في وعاء الاعتبار فيما نحن فيه.

فتحصل أنه لا وجه لاثبات الاستصحاب الآثار التكوينية للمستصحب حتى مع خفاء الواسطة.

 

الكلام في الاحكام العقلية التي تترتب على الاستصحاب:

 

وهي ثلاثة: التنجيز، والتعذير، وحكم العقل في مرحلة الامتثال.

الاول التنجيز:

أما الأول فلا اشكال في ترتبة علی الاستصحاب فتجب اطاعة الحكم الشرعي الثابت به وإنما الكلام في وجه ذلك والسرّ في ترتبها دون ترتب الآثار التكوينية والاحكام الشرعية المترتبة بتوسطها وإلاّ فاصل المسألة مما لا شك فيه. وهذه المسألة ترجع بوجه إلی البحث عن قيام الاستصحاب والامارات مقام القطع الطريقي في التنجيز.

ولتوضيح المقام لابد من ذكر مقدمتين:

 

المقدمة الاولى: في بيان السرّفي حكم العقل بوجوب الاطاعة وحرمة المعصية وإدراكه استحقاق العقاب علی مخالفة التكليف وانه يترتب علی القطع أو ما يعم القطع.

المقدمة الثانية: في بيان أن المجعول في الاستصحاب هل هو التوسعة في الكشف بقاءً أو جعل الحكم المماثل.

اما المقدمة الاولی فبيانها بصورة اجمالية تناسب المقام هو ان للعقل نوعين من الحكم نظري وعملي والأول هو إدراك الواقعيات والثاني هو حكمه بحسن الاحسان وقبح الظلم وما يترتب عليهما وتطبيقهما. فهل الحكم بوجوب الاطاعة من القسم الأول أو من القسم الثاني؟

فإن قلنا بأنه من الأول فمعناه ان العقل يدرك أمراً في نفس الأمر وهو الملازمة بين مخالفة التكليف الواصل واستحقاق العقوبة. وهذه الملازمة أمر واقعي يدركه العقل كسائر الملازمات من تلازم العلة والمعلوم وتلازم المتضايفين فانها ليست اموراً خارجية أي موجودة في وعاء الخارج وإنما هي اُمور يعبر عنها بالنفس الأمرية أي الاُمور الموجودة في نفس الأمر والواقع وهو أعم من الخارج. فيدّعى في المقام أن مثل هذه الملازمات الواقعية موجود بين مخالفة التكليف الواصل واستحقاق العتاب.

وان قلنا بأنه من الثاني فمعناه ان مخالفة التكليف الواصل ظلم للمولى والعقل يدرك قبح الظلم بالعلم الفعلي لا الانفعالي وهذا هو معنی العقل العملي انما الكلام في أن حكم العقل بقبح الظلم هل هو من جهة حفظ النظام وعدم اختلاله أم من جهة حكم الضمير البشري والوجدان والأول مسلك الحكماء ومنهم المحقق الاصفهاني قدس سره والثاني هو ما حققناه في محله.

ثم ان الأحكام المولوية علی قسمين:

القسم الأول : ما يجعل به بين الفعل وشخصية الآمر نوعاً من الارتباط الاعتباري . والارتباط الاعتباري له انحاء كثيرة منها ما هو بين المشاعر والمساجد وبين الله تعالی فان ارتباطها بذاته الاقدس ليس إلا أمراً اعتبارياً أوجب تقديسها .

والارتباط بين الفعل والشخصية نظير ما يجعل بين الفعل والقسم به باداة القسم تقول : لعمرك لأفعلن كذا أو والله لأفعلن كذا وحقيقة القسم ليس الاربطا اعتبارياً بين الفعل وشخصية المقسم به . وهكذا في الأوامر المولوية التي تصدر من الملوك المستبدين ورؤساء العشائر والاقطاعيين فان المولوية فيها ليس الا من جهة ربط الآمر شخصيته بالفعل المأمور به بحيث يعتبر من لم يمتثل أمره هاتكاً لشخصيته . وفي مثل هذه الأوامر تعتبر المخالفة هتكاً للآمر ويعتبر الهتك ظلماً والظلم قبيحاً مستوجباً للعقاب إمّا لتوافق آراء العقلاء عليه حفظاً للنظام وإمّا لشهادة الوجدان البشري عليه وإمّا للملازمة الواقعية ، وقد مرّ الكلام فيه اجمالا .

القسم الثاني : ما يندرج  فيه الحكم الجزائي بنحو اللف والاستبطان بمعنی أن قوله: (افعل) ــ مثلا ــ يستبطن قوله: (لو لم تفعل فعليك عقوبة). وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الاحكام الوضعية وذكرنا كيفية استبطان الحكم المولوي للحكم الجزائي . وهذا القسم لا يرتبط بشخصية المولی ولا يوجب مخالفته هتكاً للآمر . وفي مثل هذه الأوامر يكون استحقاق العقوبة من قبيل حكم العقل النظري وإدراكه أنّ أمر المولی بنفسه يشتمل علی الوعيد ويستبطنه وتكون الاطاعة بدافع نفسي خوفا من العقاب.

وهذا هو معنی كون الأمر في نفس الأمر مستلزماً للعقاب إذ المراد بالملازمات الموجودة في نفس الأمر أن يكون وعاء وجودها هو ذات الشيء الملزوم كسائر انحاء التلازم والتعاند الموجودة في نفس الأمر ونفس الأمر هو ذات الشيء كما قال السبزواري (بحدّ ذات الشيء نفس الأمر حدّ) فاذا قلت (5×5=25) فان هذه الملازمة والمساواة وعاء وجودها هو نفس (5×5) وذلك لانّ 25 صورة اُخری من وجود (5×5) وهذا أيضاً يرجع إلی نوع من التكثر الادراكي الذي مرّ ذكره وكذلك التعاند الموجود بين الوجود والعدم. هكذا ينبغي أن يكون المقصود بنفس الأمر الذي هو وعاء الملازمات الواقعية وأما ما ذكروه من أنه عالم العقول وعالم الأمر فأمر لا يرجع إلی محصّل.

إذن فاستحقاق العقوبة في هذا القسم يدركه العقل من ذات الأمر وبقية الملازمات يستخرجها من ذات المتلازمين .

والحق عندنا هو أن أوامر الله تعالی ليس من القسم الأول كما يقولون وهو المشهور بين جماعة كثيرة ولا يصح توصيف الله عزّ وجلّ بوقوع الظلم عليه كما ورد في الروايات وكما قال تعالى (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[6] والعلاقة بين الله تعالى والمخلوقين ليس كعلاقة الملوك وشعوبهم او الموالي والعبيد في البشر كما يتوهم ويشاهد في بعض الكتب الاصولية ولعل هذا النوع من التفكير متأثر من النظم الاجتماعية السائدة قديما. ومن الواضح أن مخالفة الله تعالى لا يعتبر هتكاً لجلالته ولا يمكن أن تهتك عظمته بل هتك للمخالف نفسه وعظمة الله أجل من أن تنهتك بمخالفة عبد حقير كما يشاهد في مخالفة رجل عادي لفكرة فلسفية مثلاً لها من القوة ما خضع له الفلاسفة اجمعون فهل يعدّ هذا الرجل هاتكاً لصاحب تلك الفكرة أم هاتكاً لنفسه؟!

فالصحيح أن أوامر الله تعالی من قبيل القسم الثاني فاستحقاق العقوبة في مخالفتها مما يدركه العقل النظري من نفس ذات الاوامر. وهنا لابد من ملاحظة حكم العقل وادراكه للاستحقاق لنعلم حدود موضوع الحكم الجزائي الذي استبطنته الاحكام المولوية . والذي يدركه العقل هو أن استحقاق العقاب مختص بمن ينكشف له الحكم المولوي وكان قادراً قدرة تامة بناءً علی انه من شرائط التنجيز ولم يأت بالمأمور به . فهذا هو موضوع الحكم الجزائي .

وحينئذ فكل ما يعتبر عند العقلاء وصولاً للحكم المولوي لا اشكال في انه يحقق موضوع الحكم الجزائي واما ما لم يكن كذلك ولكن الشارع المقدس أراد ان يوسّع موضوع الحكم الجزائي ليشمله فهل يمكن ذلك أم لا؟ فهذا ما يبحث عنه في المقدمة الثانية .

المقدمة الثانية :

في دور الاستصحاب في حكم العقل بتتنجز الحكم الشرعي وكذلك الامارات الشرعية فلو قال الشارع مثلاً: اذا اخبرك ثقة بأحد أوامري فهذا يعتبر عندي وصولاً له. فماذا هو المجعول حينئذ حقيقة؟ هل هو التوسعة في الكشف أم جعل الحكم المماثل؟

الصحيح أنه توسعة في موضوع الحكم الجزائي فلو فرضنا أن موضوعه بنظر العقل هو خصوص العلم بالحكم المولوي فاعتبار خبر الثقة مرجعه الی ان موضوعه اعم من العلم وخبر الثقة، أو مرجعه إلی جعل خبر الثقة علماً بالتعبد علی نحو الورود فيتحقق موضوع الحكم الجزائي في مورد إخبار الثقة واقعاً ولكن بمعونة من التعبد الشرعي. ولا يختلف في هذا الامر ما أسسه الشارع من طرق الوصول وما امضاه من الطرق العقلائية. وما ذكرناه يأتي علی المسلك الأول أيضاً فيعتبر الشارع من خالف الحكم الواصل إليه بواسطة خبر الثقة هاتكاً له أيضاً.

وكذلك الكلام في الاستصحاب من أنه هل المجعول فيه هو التوسعة للكشف في مرحلة البقاء كما ذكرناه مراراً أم هو جعل للحكم المماثل كما ذهب إليه المحققون الاعلام؟ فان قلنا بأنه توسعة في الكشف وكان المستصحب نفس الحكم الواقعي فسرّ قيامه مقام القطع الطريقي في المنجزية واضح علی ما ذكرناه والمراد بالمنجزية إدراك العقل استحقاق العقوبة علی مخالفته. وقد تحصل مما ذكرنا أن موضوع حكم العقل هو الوصول الاعم من الوصول القطعي والوصول التعبدي. انما الكلام في ذلك بناءاً علی جعل الحكم المماثل .

جعل الحكم المماثل:

والتفصيل في حقيقة الحكم المماثل موكول إلی محلّه والوجوه التي تذكر في كيفية جعل الحكم المماثل ثلاثة :

الوجه الأول: ما ذكره الشيخ قدس سره وتبعه جماعة وهو أن الحكم الظاهري له وجوب نفسي للغير بمعنی أن الملاك الذي اقتضى جعله هو نفس الملاك الذي اقتضى جعل الحكم الواقعي والسرّ في ذلك أنّ موضوع حكم العقل باستحقاق العقاب هو ذات القطع ولا يمكن أن يكون الطريق الذي يعتبره الشارع قطعاً واقعاً وليس موضوعه أعم من القطع الحقيقي والقطع الاعتباري حتی يجدي اعتبار الطريق المفروض قطعاً تعبدياً في تحقق موضوعه بل موضوعه نفس القطع الوجداني، واستحقاق العقوبة ليس من مجعولات الشارع حتی يمكنه جعله بنحو الحكومة في مورد طريق آخر غير القطع بل هو من الملازمات الواقعية التي يستكشفها العقل. فاذا أراد الشارع ان يتحفظ علی احكامه الواقعية لابد من جعل حكم آخر مماثل للحكم الأول في مورد وصول هذا الطريق فاذا وصل هذا الحكم الی العبيد يعاقب من خالفه إذا طابق الحكم الأول لان منشأه هو نفس ملاك الحكم الاول وليس له ملاك آخر فاذا طابقه كان حكماً واجداً للملاك ويستحق مخالفه العقوبة وأما اذا لم يطابقه فلا يكون واجداً له ولا يستحق.

فمثلاً اذا قال: أكرم زيداً ولم يعلمه المخاطب يجعل حكماً مماثلاً له لعنوان يعلمه المخاطب كان يقول: اكرم جارك، فالملاك الموجب للحكم بوجوب إكرام الجار هو نفس الملاك الموجب لاكرام زيد، والواصل إلی المخاطب هو الحكم المماثل فاذا خالفه استحق العقاب علی مخالفته إلا أن الملاك هو روح الحكم فإن كان مطابقاً للحكم الأول كان واجداً للملاك ومستحقاً للعقاب وإلا فهو حكم صوري لا أثر له في تنجيز حكم العقل.

وهذا هو نظرية علمائنا المتأخرين فالعقوبة عندهم علی مخالفة الحكم الظاهري لا علی مخالفة الحكم الواقعي عند الاصابة إذ ليس إيصال الحكم الظاهري إيصالاً للحكم الواقعي فلا معنى للعقوبة علی مخالفته. وبناءاً علی هذه النظرية يصح أن يقال: إن موضوع حكم العقل باستحقاق العقاب أعم من مخالفة الحكم الظاهري والواقعي، وليس هذا تسامحاً في التعبير كما ذكره بعض الاعاظم بل هو صحيح علی هذا المبنى إذ الالتزام بجعل الحكم المماثل ليس الا لاثبات موضوع حكم العقل.

ولكن هذا المبنى غير صحيح إذ لا فائدة في جعل الحكم الظاهري حينئذ فانه لو لم يجعل فإن كان لاحتمال مجعولية الحكم الواقعي أثر في التنجيز فهو كاف ومغن عنه لأن الحكم الظاهري لا يجعل الا في صورة الشك واحتمال الحكم الواقعي وان لم يكن له أثر في ذلك فهذا الحكم الظاهري أيضاً لا يوجب أكثر من احتمال التنجز وذلك لما ذكروه من أنه لو لم يكن مطابقاً للحكم الواقعي كان حكماً صورياً والمفروض أن عدم مطابقته له محتمل أيضاً.

الوجه الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية قدس سره وهو أن الحكم المماثل حكم طريقي ينجز الحكم الواقعي ان طابقه فيستحق المخالف العقوبة لمخالفته الحكم الواقعي فقوله : (احتط) طريق وكذلك قوله (صلّ) مثلاً لو كان واصلاً بطريق تعبدي فالوجوب في الوجه الأول نفسي للغير وفي هذا الوجه طريقي فيكون مفاد هذا الجعل انه لو تحقق حكم واقعي وعلمت به أو طابقه حكم مماثل طريقي وخالفته تستحق العقوبة. وبناءاً علی هذه النظرية لا يكون موضوع حكم العقل اعم من الحكم الظاهري والواقعي بل هو خصوص الحكم الواقعي لكن بأحد الشرطين: الوصول أو مطابقة الحكم المماثل له.

وهذا المبنى غير صحيح أيضاً إذ لا أثر لجعل الحكم الطريقي المماثل في تحقيق موضوع حكم العقل وهو وصول الحكم الواقعي لانه لو كان المدّعى إيصاله وجداناً فهذا خلف إذ المفروض عدم وصوله وجداناً ولو كان المدّعى وصوله تعبداً فهذا هو التوسعة في الكشف ولا يقولون به وعليه لا أثر للحكم المماثل المجعول إذ الطريق يوجب وصول الحكم الواقعي تعبداً فالحكم باستحقاق العقوبة تابع لمخالفته من حيث وصوله لا من جهة مطابقة الحكم المماثل له.

مضافاً إلی أن كون الحكم طريقياً منجزاً للواقع غير معقول فان معنی تنجز الواقع أن يكون بحيث يؤثر في النفس ويكون داعياً الی الفعل أو الترك فلو كان الحكم الواقعي واصلاً بالقطع ومنكشفاً بأحد الطرق العقلائية امكن تأثيره في النفس ولو لم يكن كذلك فكيف يمكن أن يكون الحكم الظاهري موجباً لانفعال النفس من الحكم الواقعي المجهول الذي لم يصل اليها اصلاً والنفس لا تتأثر بالأمور الخارجية الا بتوسّط الصور الذهنية؟! فلابد إمّا من انكشافه واقعاً بالقطع 100% أو الاطمئنان 99% مثلاً أو الكشف الناقص 60% مثلاً مع تتميمه اعتباراً أو ا لكشف الاحساسي الذي اعتبر كشفاً ادراكياً.

الوجه الثالث: أن يكون الحكم الظاهري حكماً نفسيّاً بمعنی أن الشارع لما لم يجد طريقاً لايصال حكمه الواقعي جعل حكماً ظاهرياً بنفس الملاك إلا أن الملاك بالنسبة إلی الحكم الواقعي من قبيل العلة وبالنسبة الی الحكم الظاهري من قبيل الحكمة وعليه فالحكم الظاهري له اطاعة وعصيان مستقل. وهذا هو تصويب المعتزلة وهو أمر معقول في نفسه إلا انه يلزم منه أن يكون العقاب علی مخالفة الحكم الظاهري سواء طابق الواقع أم لا؟ ويكون المنجز هو نفس الحكم الظاهري لا الواقع. وهذا لا يمكن الالتزام به اجماعاً.

فتحصل ان الحق في المقام هو أن حجية الاستصحاب من باب التوسعة في الكشف لا من باب جعل الحكم المماثل. وكيف كان فاستصحاب الحكم الالزامي يوجب تنجزه واستحقاق العقاب علی مخالفته.

بقي الكلام في استصحاب الموضوع ذا الحكم الشرعي. اما القائلون بجعل الحكم المماثل فيلتزمون في المقام بجعل الحكم المماثل لحكمه. واما بناءً علی مسلكنا فيشكل الأمر من جهة ان الاستصحاب لا يثبت أزيد من العلم بتحقق الموضوع تعبداً فلو شككنا في بقاء الخمرية فالاستصحاب لا يحقق بناءً علی توسعة الكشف إلاّ العلم ببقاء الخمرية وليس لنا كبری يثبت الحرمة لمعلوم الخمرية بل الحكم تابع لنفس الخمر الواقعي، فلابد من الالتزام بأن اعتبار الموضوع ملازم لاعتبار الحكم. وما أنكرناه سابقاً من التلازم في وعاء الاعتبار انما هو بالنسبة للآثار التكوينية وأما الاحكام الشرعية فلا مانع من الالتزام به فيها والسرّ في ذلك ما ذكرناه سابقاً من أن الاعتبارات القانونية انما هي للتأثير في النفوس وان الاستصحاب ليس إلا تنفيذ رؤية العقلاء فيما يرونه باقياً بالرؤية الاحساسية، ولا شك في أن ما يؤثر في الاحساس من حيث البقاء بنفسه يؤثر أيضاً في بقاء آثاره الاحساسية ومنها أحكامها القانونية.

ولهذا الاشكال جواب آخر نتركه الآن اختصاراً.

هذا كله في حكم العقل بالتنجيز .

 

الثاني من أحكام العقل التعذير: وذلك في موارد استصحاب عدم التكليف.

 

اما بناءً علی مسلكنا فالمجعول هو انكشاف عدم التكليف الالزامي إلا انه قد يشكل من جهة أن هذا لا اثر له إذ يكفي في العذر عدم العلم بالتكليف فاستصحاب عدم التكليف مع امكان اجراء البراءة لا أثر له .

ويمكن الجواب عنه أن العلم بعدم التكليف وانكشافه يؤثر في استقرار نفس المكلف إذ العقاب علی ما لم يبين وان كان قبيحاً إلا أن العقاب علی ما بين عدمه اقبح وكما ان الشارع يكثر الحجج لاتمام الحجة علی العبد فقد يكثر الحجج له ليستقر نفسه ولهذا الاشكال جواب آخر أيضاً.

واما بناءاً علی المسلك الآخر فيشكل الأمر من جهة أن الحكم المجعول حينئذ ليس حكماً شرعياً قابلاً للجعل إذ أعدام الاحكام ليست احكاماً والا لكانت الاحكام الشرعية عشرة. ولعل الشيخ قدس سره لاجل ذلك اشكل في جريان استصحاب عدم التكليف .

ولكن يمكن الجواب عنه بامكان انشاء عدم الحكم أيضاً كما ذكرناه مراراً من أن الحلية المنشأة ليست الا رفع الحرمة المتوهمة أو المجعولة في الشرايع السابقة، والداعي لانشائه هو ما ذكرناه من استقرار نفس العبد.

 

الثالث من احكام  العقل وجوب الامتثال :

 

العقل يحكم بوجوب امتثال امر الشارع فان امكن الامتثال العلمي وجب وان لم يمكن فالامتثال الاحتمالي ولا تصل النوبة إلی الثاني مع امكان الأول لاحتمال عدم الاتيان بمتعلق الأمر فيحتمل استحقاق العقاب وحيث إن العقاب الاُخروي مهم جداً يحكم العقل ــ بموجب القانون الفطري القائل بوجوب دفع الضرر المحتمل ــ بوجوب الامتثال العلمي بمعنی أنه يجب احراز الاتيان بالمأمور به بجميع شؤونه، والكلام في أنه هل يكفي في هذا الاحراز الاستصحاب فتصح الصلاة مع الطهارة الحدثية المستصحبة وهي شرط ومع الطهارة الخبثية المستصحبة وهي من قبيل عدم المانع أم لا؟ فلو قلنا بكفاية الاستصحاب أحرزنا به واجدية الصلاة للطهارتين فينطبق المأمور به علی المأتي به. والانطباق قهري والإجزاء عقلي.

انما الاشكال في أن هذا الاستصحاب لا يرتبط بحكم شرعي فان المأتي به الذي يجري فيه الاستصحاب ليس من موضوعات الاحكام بل هو مسقط للمأمور به الذي هو موضوع الحكم وسقوط المأمور به بالاتيان به أمر تكويني فلا يثبته الاستصحاب.

ويمكن دفع هذا الاشكال بما ذكرناه أولاً من ان الاتيان بالمأمور به موضوع لحكم العقل بعدم استحقاق العقاب بل استحقاق المثوبة وهذا الموضوع قد يحرز بالوجدان وقد يحرز بالتعبد وموضوع حكم العقل أعم من المحرز بالوجدان والمحرز بالأصل ولابد من البحث عن سرّ حكم العقل بذلك لعله يتضح دفع الاشكال بوجه اتمّ فنقول:

ان أمد كل حكم وجوبي ينتهي بالاتيان بمتعلقه فالاتيان بالمأمور به محدّد للامر.

توضيحه: أنّ حقيقة الوجوب اعتبار شيء في ذمة المكلف، وحقيقة الامتثال الاتيان بشيء في الخارج مماثل لما في الذمة بحيث ينطبق ما في الذمة عليه فيسقط عن الذمة، إذن فاعتبار المأموربه في الذمة محدود بالاتيان به في الخارج، فالعمل محدد للوجوب.

قال المحقق النائيني قدس سره: إن الأمر لا يمكن ان يتقيد بالمأمور به فانه مسقط له ولا يمكن ان يكون مطلقا بالنسبة إليه لان تقابلهما من قبيل العدم والملكة.

ولكن هذا لا يضرّ بما ذكرناه فانا نقول ان المأموربه غاية وحدّ للأمر لاقيد له. ونتيجة هذا التحديد هو سقوط الأمر عن الذمة إذ لا يمكن سقوطه بلا علة فالعلة فيه ما جعله الآمر ــ ولو ارتكازاً ــ مسقطاً له وغاية لاعتباره.[7] وحينئذ فاستصحاب الشرط أو عدم المانع ينتج أنّك لو أتيت بسائر الاجزاء والشرائط سقط عن ذمتك الوجوب. فاثر هذا الاستصحاب هو عدم الحكم وقد تبيّن أن عدم الحكم مجعول شرعي يصح التعبد به.

واما استصحاب عدم الشرط ووجود المانع فاثره أن امد الحكم لم ينته فهو باق.

وعلی هذا التقريب لا يبقى لنا حاجة إلی القول باحراز هذا الاستصحاب لموضوع حكم العقل الا ان يرجع حكم العقل بالامتثال الی وجوب اسقاط الامر بالاتيان فيرجع الی ما ذكرنا.

واما لو قلنا بان الوجوب ليس نسبة إيقاعية بل نسبة بعثية أو أنكرنا كون المأمور به أمداً للحكم أمكن دفع الاشكال بأنّ الاستصحاب يحرز موضوع حكم العقل بعدم استحقاق العقاب أو باستحقاقه فان قلنا ــ كما هو الصحيح ــ إن الاحكام المولوية تستبطن احكاماً جزائية كان الاستصحاب محرزاً لموضوع حكم العقل بعدم ترتب الحكم الجزائي أو ترتبه بل يمكن ملاحظة نفس الحكم الجزائي تفصيلا لا ما يدركه العقل اجمالاً فيكون العمل في الخارج موضوعاً للحكم الجزائي المجعول وهو حكم شرعي لا عقلي. وان قلنا بان العقل يحكم باستحقاق العقوبة علی الترك كان الاستصحاب محرزاً لموضوع الحكم العقلي بالاستحقاق وعدمه.

وقد أجاب صاحب الكفاية عن هذا الاشكال بوجه آخر وهو (بتوضيح منا) أن استصحاب بقاء الشرط أو المانع مرجعه الی التعبد بالشرطية والمانعية فانهما أمران انتزاعيان قابلان للجعل ولو بجعل منشأ الانتزاع فاستصحاب الطهارة مثلاً يرجع الی جعل الشرطية للطهارة المستصحبة. ورتّب علی هذا الامر في باب الاجزاء أنّ مستصحب الطهارة صلاته مجز واقعاً لانّ موضوع الحكم الشرعي أعم من الطهارة الظاهرية والواقعية ومستصحب الطهارة طاهر بالتعبد الشرعي فانّ حجية الاستصحاب توسعة في الشرطية والمانعية. وأما الأمر الأول المتعلق بالطهارة الواقعية فيتبدّل.

واعترض عليه السيد الخوئي دام ظله ــ كما في مباني الاستنباط ــ بانّ انتزاع الشرطية انما هو بالنسبة الی الطهارة المأخوذة في الأمر لا الطهارة الموجودة في الخارج. وهذا غير وارد عليه فانه يقول بأنّ الاستصحاب يوجب التوسعة في دائرة الشرطية فينزل الطاهر استصحاباً منزلة الطاهر واقعاً.

ولكن الاشكال عليه من جهة أن روايات الاستصحاب لا تساعد علی ذلك فليس فيها ما هو بلسان قاعدة الطهارة والحلية الذي قلنا فيه تبعاً له بانه تنزيل لغير الطاهر منزلة الطاهر بل مفاد أدلة الاستصحاب هو التوسعة في الكشف واعتبار الشاك في بقاء الطهارة عالماً بها فلا يستفاد منها الا لزوم ترتيب آثار الطهارة لا جعل الشرطية وكذلك لو قلنا بأنه إبقاء للمتيقن إذ لا يترتب عليه إلا آثار الطهارة الواقعية لا توسعة دائرة الشرطية وتبديل الحكم الواقعي.

 

 

 

 

 

التنبيه الثاني

 

في أن اليقين والشك هل لوحظ فيهما خصوصية من حيث التقدم والتأخر والتقارن أم لا؟ وكذلك في القضية المتيقنة والمشكوكة.

أما بالنسبة إلی اليقين والشك فيعتبر تقارنهما في الزمان من حيث الوجود لا من حيث الحدوث فلا فرق بين تقدم حدوث أحدهما علی الآخر وتقارنهما في الحدوث .

واما القضيتان المتيقنة والمشكوكة فلا اشكال في اعتبار تقدم المتيقنة علی المشكوكة ليصدق عنوان البقاء. وأما ما يتقدم فيه المشكوكة علی المتيقنة فهو المسمى بالاستصحاب القهقرائي وقد ادعي حجيته في خصوص باب الالفاظ ويسمی باصالة عدم النقل والظاهر عدم ثبوته عند العقلاء فلإثبات كون اللفظ قبل مئات السنين علی معناه الفعلي لابد من ملاحظة القرائن. وكيف كان فلا ربط لهذا الاستصحاب بالاستصحاب المصطلح أصلاً .

انما الكلام بعد فرض تقدم المتيقنة علی المشكوكة في اعتبار كونهما في زمان خاص وبهذا الاعتبار يتصور الاستصحاب علی أربعة صور:

الصورة الاُولى: أن تكون القضية المتيقنة في الماضي والمشكوكة في الحال وهذا هو أكثر موارد الاستصحاب المتعارفة وهو القدر المتيقن منه وهو مورد صحيحه زرارة.

الصورة الثانية : أن تكون المتيقنة في الحال والمشكوكة في المستقبل ويعبّر عنه بالاستصحاب الاستقبالي ونسب إلی صاحب الجواهر قدس سره انكار حجيته وله امثلة:

منها : الاحكام المختصة بذوي الاعذار بناءً علی اعتبار استيعاب العذر لتمام الوقت فان احرز الاستيعاب من أول الوقت فلا اشكال في جواز البدار واما ان شك فيه فهل يجوز استصحابه بالنسبة الى ما بقي من الوقت فيجوز البدار أم لا ؟ واما إجزاؤه بعد انكشاف الخلاف ففيه تفصيل. والظاهر جريان الاستصحاب في هذا المورد إلا ما استثني بالنص كما في التيمم حيث اعتبر فيه اليأس من حصول الماء .

ومنها : جواز التصرف فيما انتقل عنه إلی غير مالك الثمن أو المثمن بالبيع الفضولي مع احتمال اجازة المالك بناءً علی كونها كاشفة للملك حين العقد.

الصورة الثالثة : أن تكون القضيتان في الماضي، كما اذا أحدث ثم غفل فصلی ثم شك في انه توضأ بعد الحدث وقبل الصلاة أم لا ؟ وسيأتي تفصيله في التنبيه الثالث .

الصورة الرابعة : ان تكون القضيتان في المستقبل، كما اذا تيقن بطروّ عجز في المستقبل عن اداء الحج مثلاً مع تمكنه فعلاً من الزاد والراحلة وغيرهما ولكنه شك في استمرار العجز إلی زمان الاعمال وارتفاعه قبلها، أو تيقن بطروّ القدرة مع العجز فعلاً وشك في بقاء القدرة الطارئة بعد ذلك إلی زمان الاعمال .

والظاهر هو اطلاق أدلة الاستصحاب وشمولها لجميع هذه الصور .

 

 

التنبيه الثالث

 

 

اشترط في الكفاية تبعاً للشيخ في جريان الاستصحاب فعلية الشك واليقين وأنه لا عبرة بهما اذا كانا مقدرين. وفرع عليه أمرين: الأول المسألة المتقدمة في الصورة الثالثة وهو ما اذا أحدث ثم غفل فصلی ثم شك في انه توضأ قبل الصلاة ام لا فقال بعدم جريان الاستصحاب لغفلته حال الصلاة فالشك واليقين تقديريان لا فعليان والنتيجة صحة الصلاة لقاعدة الفراغ. الثاني: ما إذا احدث ثم شك في الوضوء ثم غفل فصلی فاستصحاب الحدث جار والصلاة باطلة .

والكلام في مقامين: الأول في أصل المسألة والثاني في الفرعين.

أما في المقام الأول فتوضيح مقصوده في اعتبار الفعلية يتوقف علی ثلاث أمور:

 

الأمر الأول: ان المسالك في الاستصحاب ثلاثة:

المسلك الأول: ان الاستصحاب متقوم بيقين وشك حتى يمكن اعتبار بقاء اليقين بنحو التوسعة في الكشف وهذا مسلكنا.

المسلك الثاني: ان الاستصحاب إبقاء ما كان الی زمان الشك فاليقين ليس ركنا فيه بل هو طريق إلی احراز الكون السابق حتی يعتبر ابقاؤه إلی زمان الشك فالاستصحاب متقوم بكون سابق وشك لاحق. وهذا مسك الشيخ ظاهراً .

المسلك الثالث: ان الاستصحاب جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء فلا مدخلية للشك واليقين في حقيقته وهذا مسلك صاحب الكفاية كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

الأمر الثاني : أنه بناءً علی المسلكين الاخيرين من عدم تقوم الاستصحاب باليقين والشك فالسؤال أنه هل لهما مدخلية في مرحلة الفعلية أو الانشاء أم لا ؟

بيان ذلك: أن الأحكام الواقعية لها ثلاث مراحل (الانشاء والفعلية والتنجز) ولكن الأحكام الظاهرية علی مسلك القوم لها مرحلتان مرحلة الانشاء ومرحلة الفعلية والتنجز معاً ولا ينفك فيها مرحلة الفعلية عن التنجز ولذا ذكر صاحب الكفاية أنّ الشك في الحجية مساوق لعدم الحجية. والوجه في ذلك أن الأحكام الواقعية مطلقة بالنسبة إلی تعلق العلم بها وعدمه وذلك لأن جعلها في صورة الشك فيها أوفي موضوعاتها ليس لغواً لامكان الاحتياط. ولكن الأحكام الطريقية التي تجعل لتنجيز الواقع وللتعذير لا يمكن أن يترتب عليها التنجيز والتعذير إلا بعد الوصول صغریً وكبری فلا يترتب علی خبر الثقة مثلاً آثار القطع الطريقي مطلقاً إلا بعد الوصول والعلم بحجيته وكذا في سائر الحجج فما لم تصل الأحكام الطريقية يكون جعلها لغواً.  

ثم ذكر صاحب الكفاية أن العلم بالحكم وإن لم يمكن أخذه في موضوعه إلا انه يمكن أخذ العلم بالحكم في مرحلة الانشاء ــ مع تحقق الموضوع ــ موضوعاً له في مرحلة الفعلية وحينئذ يتنجز أيضاً فيساوق الفعلية مع التنجز .

واعترض عليه من تأخر عنه في اختيار هذا الطريق اي اخذ العلم في مرحلة الانشاء موضوعا في مرحلة الفعلية واما اصل المسألة وهو أن اطلاق الأحكام الطريقية بالنسبة للجاهل لغو ولا يمكن أخذ العلم بها في موضوعها فهو مسلّم عند الجميع فسلك كل منهم طريقاً في ذلك غير ما اختاره صاحب الكفاية فذهب بعضهم مثلاً إلی أن العلم بالمبرِز يمكن أخذه في موضوع الحكم الى غير ذلك من الطرق الذي ذكروها وليس هذا محل ذكرها. فتحصل أن مسلك القوم في الاحكام الظاهرية هو اندماج مرحلتي الفعلية والتنجز وأنّ ما لا يمكن أخذه في موضوع الحكم الانشائي يمكن أخذه في موضوع الحكم الفعلي باحدى الطرق.

والصحيح ــ كما ذكرناه في محله ــ امكان أخذ العلم بالموضوع في موضوع الحكم  الطريقي ولو في مرحلة الانشاء واما العلم بالحكم فلا يمكن ولابد من طريق آخر كأخذه في مرحلة الفعلية أو بمتمم الجعل. وأما العلم بالموضوع فلا محذور في أخذه في موضوع الحكم أصلاً فيقول إذا علمت بخبر الثقة وجب الأخذ به، وحيث إن اطلاقه لغو فلابد من تقييده بالوصول وهو ممكن في نفس انشاء الحكم.

وعلى ضوء ما ذكرنا يتبين ان اليقين والشك لابد من أخذهما في الاستصحاب علی المسلكين الاخيرين وان لم يكونا مقومين له لما عرفت من أن اطلاقه لغو بالنسبة إلی الجاهل بالحدوث فالملازمة المجعولة علی مسلك صاحب الكفاية حكم طريقي ولا يمكن أن يؤثر الامع العلم بالحدوث والشك في البقاء وان كان الاستصحاب في مرحلة الانشاء جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء لا بين المتيقن والمشكوك فلا دخل لليقين في جعل الاستصحاب ولكن اجراؤه وتحقق الحكم الفعلي به لا يكون الا بتعلق اليقين بالحدوث والشك في البقاء. ولكن هذا اليقين لا يمكن أخذه في مرحلة الانشاء لما عرفت من انه ليس الا جعل الملازمة ولكنه لابد من أخذه في مرحلة الفعلية للغوية اطلاقه ولكن بناءاً علی ما ذكرنا من امكان أخذ العلم بالموضوع في الحكم الطريقي فالأمر أوضح إذ يمكن حينئذ أخذ اليقين والشك في جعل الحجية للاستصحاب إذ متعلق اليقين هو الحدوث وهو موضوع الحكم الانشائي.

وبذلك ظهر انه لا تهافت بين ما ذكره في التنبيه الأول من اعتبار فعلية الشك واليقين وما ذكره في التنبيه الثاني من ان حقيقته ليس الا جعل الملازمة كما ذكره بعض الاعاظم وذلك لأن المراد بالتنبيه الثاني بيان حقيقة الاستصحاب في مرحلة الانشاء والمراد بالتنبيه الأول اعتبارهما في مرحلة الفعلية والتنجز .

الأمر الثالث: ان مقتضى ما ذكر في المنطق من أن كل ما أخذ في الموضوع يعتبر أن يكون بالفعل هو أن يكون المعتبر في الاستصحاب فعلية الشك واليقين علی المسالك الثلاثة إذ هما معتبران في موضوعه علی جميع المسالك إمّا في مرحلة الانشاء أو الفعلية سواء كان الدليل لا تنقض اليقين بالشك أو بناء العقلاء. انما الكلام في أن المعتبر هل هو الالتفات إليهما أيضاً أو يكفي وجودهما في اللاشعور وان كان غافلاً عنهما ؟

الصحيح ان الغفلة عن المعلومات لا توجب زوالها وارتفاعها فلا يتوقف صدق اليقين علی الالتفات اليه فما في مباني الاستنباط من اعتبار الالتفات محل تأمل. نعم لا يبعد التقييد بالالتفات من جهة البرهان الذي ذكرناه من لغوية خطاب الجاهل بالاحكام الظاهرية .

 

وأما في المقام الثاني وهو تفريع الفرعين علی هذا التنبيه فنقول :

 

ذكر الشيخ وتبعه المحقق الخراساني قدس سرهما انه لو أحدث ثم غفل وصلی ثم شك في انه كان متطهراً حال الصلاة أم لا صحت صلاته لقاعدة الفراغ وعدم جريان استصحاب الحدث لان الشك تقديري إذ المفروض غفلته قبل الصلاة وان كان بحيث لو التفت لشك فان فرض الغفلة يختلف بحسب التقدير فقد يكون بحيث لو التفت لعلم بالحدث أو الطهارة لقرب العهد وهذا خارج عن محل كلام الشيخ إذ لا مجال لتقدير الشك هنا وقد يكون قاطعاً أنه لو التفت لشك وهذا محل الكلام وحيث إن الشك تقديري حكم الشيخ بعدم جريان الاستصحاب وجريان قاعدة الفراغ وحكومته علی استصحاب الحدث بعد الصلاة . نعم لولا القاعدة لكانت الصلاة باطلة لهذا الاستصحاب لا استصحابه قبله لان الشك هنا فعلي وهناك تقديري. وشرط جريان قاعدة الفراغ هو حدوث الشك بعد العمل والمفروض انه كذلك.

واعترض عليه بوجوه :

الاعتراض الأول: ان قاعدة الفراغ انما تجري في مورد احتمال الغفلة حين العمل والمفروض انه قاطع بها فلا تجري ولا تصح الصلاة .

والبحث عن شروط جريان الفراغ سيأتي في محله ان شاء الله وما ذكر في الاعتراض قد يكون مبنيا على الاشكال في اطلاق روايات القاعدة لوجوه مذكورة هناك كالقول بأن القاعدة امضائية وبناء العقلاء خاص بمورد احتمال الغفلة. وقد يكون مبنيا علی التقييد بروايتين احداهما رواية محمد بن مسلم المروية بسند مخدوش في الفقيه ولكنها مروية في مستطرفات السرائر بسند آخر يمكن تصحيحه ومحل الاستدلال فيها هذه الجملة : (وكان حين انصرف اقرب الی الحق منه بعد ذلك)[8] بدعوی أن هذا التعليل لا يشمل الغافل، والثانية مضمرة بكير بن اعين ومحل الاستدلال قوله عليه السلام: (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك)[9] وهذا التعليل كذلك لا يشمل الغافل . هكذا ذكره جماعة من المتأخرين .

ولكن سيأتي ان شاء الله تعالى ان الصحيح جريان القاعدة حتی مع القطع بالغفلة لاطلاق الروايات وللخدشة في ما ذكر من الوجوه في منع الاطلاق ولعدم كونها قاعدة امضائية كما توهم ولان روايتي التقييد ليس فيهما تعليل حتی يقال بان العلة تعمم وتخصص بل الجملتان لتقريب المطلب الی ذهن المخاطب كما سيأتي توضيحه ان شاء الله .

الاعتراض الثاني: ان استصحاب الحدث بعد العمل غير جار من اصله فلا حاجة الی دفعه بحكومة قاعدة الفراغ عليه فان الاستصحاب المتقوم بالشك بعد العمل لا يؤثر في صحة العمل السابق وبطلانه. هكذا ذكره المحقق الهمداني قدس سره.

وما ذكر في الاعتراض مبني علی ما ذكرناه سابقاً من أن مسلك القوم في جعل الحجية للاستصحاب هو جعل الحكم المماثل فاستصحاب الشرط وعدم المانع يرجع الی جعل الشرطية والمانعية وحيث إنها اُمور انتزاعية فجعلها بجعل مناشئ انتزاعها وهي الاحكام التكليفية وحينئذ فاذا كان الشك المقوم للاستصحاب مقدماً علی العمل جری استصحاب الحدث ومرجعه إلی الحكم بعدم صحة الصلاة وأما ان كان متأخراً عنه فلو جری الاستصحاب كان مرجعه إلی كشف الحكم التكليفي قبله أي حين ارادة الصلاة فانه ظرف تحقق الحكم التكليفي وهذا متوقف علی صحة الكشف الانقلابي حتی بالنسبة إلی الاحكام التكليفية وما ينتزع منها قبل تحقق موضوعاتها وهذا غير معقول بل يختص الكشف الانقلابي بالاحكام الوضعية المجردة التي تستقل في الوضع كالملكية. والسرّ في ذلك ان الاحكام التكليفية انما تجعل للتأثير في نفس المكلف وقيادة ارادته وهذا لا يمكن في مثل ذلك كما لا يخفى. وعليه فلا مجال لاستصحاب الحدث حتی تتقدم عليه قاعدة الفراغ فان قلنا بجريان القاعدة فهو وإلاّ فنحكم ببطلان الصلاة لقاعدة (الاشتغال اليقيني يقتضي البرائة اليقينية) أو لاستصحاب الشغل بناءاً علی جريانه.

والجواب عن هذا الاعتراض أولاً أن الحق في جعل الاستصحاب هو التوسعة في الكشف كما ذكرناه وهذا لا مانع من تأخره عن المكشوف وهو مقارنة الصلاة للمانع.

وثانياً أنا ذكرنا سابقاً جريان استصحاب وجود الشرط وعدم المانع حتی بناءً علی جعل الحكم المماثل وان مرجعه إلی الحكم بانتفاء التكليف ومرجع استصحاب وجود المانع وعدم الشرط هو الحكم ببقاء التكليف فالاستصحاب جار حتى علی هذا المبنى .

الاعتراض الثالث: ان المسألة مورد قاعدة الفراغ سواء قلنا بجريان الاستصحاب مع الشك التقديري أم لم نقل به. وذلك لما ذكرناه من أن القاعدة لا تختص بمورد احتمال الغفلة فتجري حتی مع القطع بها وحينئذ فهي حاكمة علی كلا الاستصحابين ما قبل الصلاة وما بعدها حتی لو قلنا بجريانه مع الشك التقديري نعم لا تجري القاعدة لو كان الشك في الاستصحاب قبل الصلاة فعلياً وذلك لان أحد اركان القاعدة أن يكون الشك حادثا بعد العمل والمفروض انه سابق عليه حينئذ والشك بعدها امتداد لنفس الشك السابق.

وهذا الاعتراض وارد لا مدفع له.

ثم ذكر الشيخ قدس سره فرعاً آخر وهو انه لو أحدث ثم شك في الوضوء ثم غفل فصلی بطلت صلاته لجريان الاستصحاب قبل الصلاة وعدم جريان قاعدة الفراغ لان الشك سابق علی العمل .

ومورد كلامه هو عدم حدوث شك آخر بعد الصلاة كما لو احتمل الوضوء في حال الغفلة قبلها لان هذا شك حادث فتجري القاعدة وتصح الصلاة فمورد الكلام هو أن يكون الشك بعد الصلاة عين الشك قبلها وهو احتمال الوضوء بعد الحدث وقبل تحقق الشك السابق.

واعترض عليه انه لا فرق بين هذا الفرع والفرع السابق فان الشك كما انه مقوم للاستصحاب حدوثاً مقوم له بقاءاً والمفروض انه كان غافلاً قبل الصلاة فغايته انه لو التفت لشك وهذا حاصل في الفرع الأول أيضاً . هكذا ورد في مباني الاستنباط.

وقد ظهر الجواب عنه بما قدمناه من الاُمور الثلاثة في توضيح مرام الشيخ وصاحب الكفاية وذلك لان الغفلة غير السهو والنسيان وهي لا توجب زوال المعلومات واغلب معلوماتنا مغفول عنها في غالب الاوقات وانما يلتفت إليها الانسان بالالتفات الی ما يشابهها أو يضادها أو يقارنها في الحسّ كثيراً ويسمی هذا الالتفات بتداعي المعاني، فعدم التوجه إلی الصورة العلميّة التي قطع بها أو تردد فيها لا يوجب زوالها ، فالاعتراض بان الغفلة لا يجتمع مع الشك لا وجه له .

نعم يمكن الاشكال بان الالتفات إلی الموضوع معتبر في الاحكام الظاهرية أيضاً من جهة لغوية خطاب غير الملتفت فلا يجري الاستصحاب حين الغفلة من جهة اعتبار الالتفات لا لعدم فعلية اليقين والشك بخلاف الفرع السابق فانه من جهة عدم الفعلية وكونه حيث لو التفت لشك لو فرضنا العلم بذلك إذ يمكن ان يكون بحيث لو التفت لقطع فلا يكون شكاً تقديرياً أيضاً وأما هذا الفرع فالشك فيه فعلي إلا أنه في منطقة اللاشعور من النفس فاذا التفت إليه وجده لا انه يحصل بالالتفات .

والحاصل ان الاستصحاب في هذا الفرع غير جار لعدم الالتفات وقاعدة الفراغ غير جار أيضاً لاتحاد الشك الحاصل بعد الصلاة مع الشك الحاصل قبلها. فتصل النوبة إلی استصحاب الحدث بعد الصلاة وقد عرفت ان الحق جريانه خلافاً لما ذكره المحقق الهمداني في الفرع السابق . ولو فرضنا عدم جريانه كان مجرى قاعدة الاشتغال.

فتحصل أن الحكم بالصحة في الفرع الأول والبطلان في الثاني صحيح لا لما ذكره الشيخ بل لما ذكرناه إلا ان التفريع علی مسألة فعلية الشك واليقين غير صحيح.

 

 

التنبيه الرابع

 

أن المراد باليقين في أدلة الاستصحاب هل هو ما يعم مؤدّى الامارات والاُصول أم لا ؟ والبحث يقع في مقامين :

المقام الأول

 

في كفاية الامارات في جريان الاستصحاب: 

الظاهر من كلمات الاصحاب ان المتسالم عليه بينهم هو كفاية قيام الامارة في ذلك ولم يظهر من أحد خلاف فيه الا من العلامة الشيخ مهدي الاصفهاني قدس سره. وهذا البحث مما أحدثه المحقق الخراساني قدس سره. وقبل البحث عن السرّ في كفاية الامارة مع ان المأخوذ في لسان الدليل هو اليقين الظاهر في اليقين الوجداني لا بدّ من ذكر أمرين :

الأمر الأول: ان هناك بعض الروايات ربّما يستفاد منها في هذا المبحث فلا بد من ملاحظتها:

روى الكليني عن على بن إبراهيم عن أبيه عن اسماعيل بن مرار عن يونس عن معاوية بن وهب قال : قلت لأبي عبدالله عليه السلام: (الرجل يكون في داره ثم يغيب عنها ثلاثين سنة ويدع فيها عياله ثم يأتينا هلاكه ونحن لا ندري ما أحدث في داره ولا ندري ما حدث له من الولد الا انا لا نعلم انه أحدث في داره شيئاً ولا حدث له ولد، ولا تقسم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار حتی يشهد شاهدا عدل ان هذه الدار دار فلان بن فلان مات وتركها ميراثاً بين فلان وفلان أونشهد علی هذا؟ قال: نعم. قلت: الرجل يكون له العبد والأمة فيقول: أبق غلامي أو أبقت أمتي فيؤخذ بالبلد فيكلفه القاضي البينة أن هذا غلام فلان لم يبعه ولم يهبه أفنشهد علی هذا إذا كلّفناه ونحن لا نعلم أنه أحدث شيئاً فقال: كلّما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو اُمته أو غاب عنك لم تشهد به).[10]

والوجه في السؤال في القسم الأول من الحديث هو أن قضاة العامة ما كانوا يقبلون الشهادة علی الاسباب بل كانوا يطالبون بالشهادة علی المسببات ولا طريق للشهود في المقام الا استصحاب عدم الوارث الجديد وقاعدة اليد بالنسبة إلی عدم انتقال ملكه عن الدار لكفاية يد العيال والمستعير والوكيل ولان اليد كما تدل على أصل الملكية كذلك تدل علی بقائها وحيث إن الروايات تدل علی عدم جواز الشهادة إلا بمثل الشمس في الوضوح اشكل الأمر علی الراوي والمفروض ان الدار لا تقسم علی الورثة بدون هذه الشهادة والمراد بعدم القسمة عدم موافقة الحكومة والقضاة علی ذلك، فاجاز الامام عليه السلام هذه الشهادة. فهل هذه الاجازة علی وفق القاعدة أم بمقتضى الضرورة التي ألجأهم إليها مسلك قضاة العامة من عدم قبول الشهادة علی الاسباب؟ وقد ورد نظير ذلك في بعض الروايات من جواز تعديل الشهادة بنحو يقبلها القضاة ان خيف ضياع حق في صورة عدم الشهادة .

والحاصل أن الشق الأول من الرواية لا ربط لها بما نحن فيه بل خاص بجواز الشهادة علی طبق الاستصحاب أو قاعدة اليد فلا وجه لما ذكره بعض الاعاظم من دلالة صدر الرواية علی كفاية مؤدّى الامارة في الاستصحاب مع أن ما ذكر غفلة عما في ذيلها .

وأما القسم الثاني من الرواية فهو مورد الاستدلال علی عدم كفاية مؤدّى الامارة في جريان الاستصحاب وذلك لان مورد السؤال هو العبد المعلوم كونه عبداً لفلان سابقاً إلا انه يدعي اباقه فالشهادة علی الملكية حينئذ يتوقف علی صحة استصحاب الملكية التي دلت عليه قاعدة اليد قبل الاباق، فحكم الامام عليه السلام بعدم جواز الشهادة فهذه الرواية تدل علی خلاف مقصود بعض الاعاظم بموجب ذيلها.

ويمكن الخدشة في الاستدلال بهذه الرواية بوجوه .

الوجه الأول : ان اسماعيل بن مرار لم يوثق. وما ذكر في توثيقه من شهادة ابن الوليد بصحة كتب يونس الا ما تفرد بروايته محمد بن عيسی بن عبيد ضعيف إذ غاية ما يدل عليه ذلك ان كتب يونس التي انفرد بها محمد بن عيسی لم تثبت صحة اسنادها إليه أو عدم الزيادة فيها والنقيصة واما غير ذلك من الكتب فهي ثابتة عن يونس وأما توثيق كل من يروي هذه الكتب فهذا لا يدل عليه . واما ما ذكره السيد الخوئي دام ظله من وروده في تفسير على بن إبراهيم فهذا لا يثبت وثاقته أما أولاً فلان مقدمته التي صرّح فيها بوثاقة رواته غير معلوم الاسناد إليه كما ذكر في المقابيس وأما ثانياً فلان المراد بالمشايخ الذين وصفهم بالوثوق ليس كل من وقع في اسانيده. وتفصيله في محله .

الوجه الثاني : ان خلاف مضمون هذا الذيل ورد في رواية اُخری .

روى الشيخ باسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن أحمد بن الحسن وغيره عن معاوية بن وهب ولا أعلم ابن أبي حمزة الارواه عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: (الرجل يكون له العبد والأمة قد عرف ذلك فيقول: أبق غلامي أو أمتي فيكلفونه القضاة شاهدين بأن هذا غلامه أو أمته لم يبع ولم يهب أنشهد علی هذا إذا كلفناه قال : نعم).[11]

وسند الشيخ إلی حسن بن محمد صحيح ظاهراً وهو ثقة واقفي وكذلك أحمد بن الحسن الذي هو الميثمي ثقة والظاهر أنه واقفي أيضاً ومع أنه لم يقطع بنقله عن على بن أبي حمزة إلا انه يذكره من جهة أنه من كبار الواقفية وهو عندنا غير ثقة إلا أن في باقي السند كفاية .

وحاول السيد الخوئي أيده الله الجمع بين الروايتين بلحاظ أن المراد من الرواية المانعة المنع عن الشهادة بأكثر مما تعلم به والمراد من الاُخری الاجازة في حدود العلم وجعل شاهد الجمع صحيحة معاوية بن وهب التي نقلها الكليني عن على بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن وهب قال: (قلت له ان ابن أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان وتركها ميراثاً وانه ليس له وارث غير الذي شهدنا له فقال : اشهد بما هو علمك قلت ان ابن أبي ليلي يحلفنا الغموس فقال : احلف انما هو على علمك).[12]

ولكن ظاهر روايات الباب ــ كما ذكرنا ــ أن القضاة ما كانوا يقبلون الشهادة علی الاسباب والمفروض في الرواية المجوّزة للشهادة وهي موثقة معاوية أنه لم يعلم بأكثر من الاسباب والمطلوب منه الشهادة علی المسببات فلا يمكن حملها علی الشهادة في حدود العلم واما هذه الرواية الاخيرة فالظاهر ان قوله اشهد بما هو علمك لتقريب المطلب الى ذهن الراوي وأن الشهادة هنا بموجب العلم وان كان مستنداً إلی الاستصحاب فانه علم تعبدي وتجويز الحلف عليه انما هو للضرورة كما ذكرناه وتعليله بانه بموجب العلم أيضاً باعتبار كون الاستصحاب علماً تعبدياً. فهذه الرواية تحتاج الی التأويل لا الموثقة. وكيف كان فالمعارضة قوية لو كانت الرواية الاُولی حجة في نفسها ولكنها ليست معتبرة كما بيناه. وعليه فالمعتمد هذه الرواية الدالة علی الجواز وكان ينبغي ان يذكره من أراد الاستدلال بالروايات علی الجواز بدلاً عن الرواية الاُولی .

الوجه الثالث : أن عدم تجويز الشهادة بموجب الاستصحاب إذا كان مستنده الامارة لا يستلزم عدم جريان الاستصحاب في مثله أصلاً فان كلامنا في قيامه مقام القطع الطريقي ومورد الشهادة القطع الموضوعي، وربما يجوز الإخبار ولا تجوز الشهادة .

ويمكن الجواب عنه بأن القسم الأول من هذه الرواية  أجاز الشهادة بموجب الاستصحاب ومنع عنها في القسم الثاني وهذا التفكيك لا وجه له الاعدم جريان الاستصحاب في مؤدى الامارة .

وكيف كان فرواية إسماعيل بن مرار غير معتمدة عندنا للاستدلال علی جريان الاستصحاب في المقام ولا على عدمه .

وينبغي ان ننبه على اننا وان قبلنا الرواية الثانية الدالة على جواز الشهادة بموجب الاستصحاب في مؤدى الامارة إلا انه لابد من حمل هذه الروايات علی صورة الضرورة وإلا فالشهادة لا تجوز على وفق الامارات فضلاً عن الاستصحاب. نعم يجوز الاخبار بمؤدى الامارات لانها كما تقوم مقام القطع الطريقي تقوم مقام القطع الموضوعي أيضاً. ولا يجوز الاخبار استنادا الى الاستصحاب مع انه أيضاً كذلك بناءً على انه توسعة في الكشف والسبب وجود قرينة خارجية وهي استنكار العقلاء له فان الاعتماد في الاخبار على الاستصحاب لا يختلف عندهم عن الاعتماد فيها على الكذب وهو واضح. وأما عدم جواز الشهادة بموجب الامارات فلان القطع المأخوذ فيها مأخوذ بنحو الصفتية فقد ورد انه لا تجوز الشهادة الا على ما هو بين كالشمس . نعم تجوز للضرورة كمورد الروايات السابقة وتجوز أيضاً فيما إذا كان مؤدى الامارة من الوضوح بمكان يعتبر التشكيك فيه من قبيل التشكيك في البديهيات ككون فلان ابناً لفلان مع ولادته على فراشه وعدم احتمال كونه من غيره احتمالاً عقلائياً، فهذا تصح الشهادة عليه مع انه يبتني علی الامارات أيضاً.

والسيد الخوئي «دام ظله» اعترف بأصل المطلب إلا انه حمل القسم الأول من الرواية الاُولى حيث أجيزت الشهادة بموجب الاستصحاب على ان المراد بالشهادة الإخبار لعدم ذكر القضاة في الرواية . وقد بينا ان الظاهر من الروايات أن السؤال انما هو للضرورة التي ألجأه إليها القضاة من جهة عدم قبولهم الشهادة على الاسباب .

الأمر الثاني : ان المسالك في حجية الحجج ثلاثة :

المسلك الأول : تتميم الكشف . وقد قلنا به في بعض موارد الامارات كما مر بيانه في فصل الفرق بين الامارات والاصول في مبحث الاصل المثبت.

المسلك الثاني : جعل الحكم المماثل . وقد ذكرنا سابقا ان الأقوال فيه ثلاثة : الوجوب النفسي، والوجوب النفسي للغير، والوجوب الطريقي. ونحن نقول في الامارات المأخوذة علی وجه الموضوعية كالامارات الرسمية بهذا المسلك علی القول الأول.

المسلك الثالث : التنجيز والتعذير . وهذا رأي صاحب الكفاية ويلحق به القول بجعل الحجية كما عن المحقق الاصفهاني وجعل الحجية العقلائية كما عن بعض آخر.

ويختلف البحث فيما نحن فيه علی هذه المسالك، فعلى المسلك الأول تقوم الامارات مقام القطع الطريقي والموضوعي لأن المفروض اعتبارها علماً، وحيث إن موضوع الاستصحاب بناءً على الروايات هو اليقين الموضوعي فتقوم الامارة مقامه ويجوز الاستصحاب على طبق مؤداها . وهذا توسعة على وجه الحكومة .

وأما على المسلك الثاني فعلی القول الأول أي الوجوب النفسي يقتضي قيام الامارة على شيء علما وجدانيا بالحكم النفسي المجعول المماثل للحكم الواقعي فهو توسعة بنحو الورود لان العلم بالحكم المماثل في صورة كون الموضوع مخبراً به بخبر الثقة مثلاً انما هو توسعة واقعية بمعونة من التعبد إلا أن يقال: ان حيثية كونه مخبراً به حيثية تقييدية لا تعليلية فيكون موضوع الحكم المماثل غير موضوع الحكم الواقعي. ولعل القول الثاني أيضاً كذلك. وأما علی القول الثالث فيشكل لعدم اعتبارها علماً.

وأما على المسلك الثالث فهو محل الكلام والاشكال إذ المجعول هو المنجزية والمعذرية دون اعتبار الامارة علماً فلا تقوم مقام القطع وكذا بناءً علی جعل الحجية .

فتبين أن محل الكلام هو المسلك الثالث وهناك طريقان لاثبات حجية الاستصحاب على هذا المسلك :

الطريق الأول : ما ذكره صاحب الكفاية وهو (بتقريب منا) : أن عنوان اليقين لا دخل له في حقيقة الاستصحاب إذ هو إما ابقاء ما كان كما ذكره الشيخ أو جعل الملازمة ظاهراً كما ذكره صاحب الكفاية فاذا قامت حجة علی الحدوث كفى في اثبات البقاء بموجب هذه الملازمة المجعولة التي طرفاها نفس الحدوث والبقاء فلا حاجة إلی التوسعة بنحو الحكومة أو الورود إذ ليس اليقين موضوعاً في جعل الاستصحاب . فلا تدخل المسألة في مسألة قيام الحجج مقام القطع الموضوعي علی وجه الطريقية .

واعترض عليه بوجوه :

الوجه الأول : ان هذا مناقض لما ذكره في مقام الجواب عن الشيخ حيث ذهب الی اختصاص دليل الاستصحاب بموارد الشك في الرافع نظراً إلی أن المراد باليقين هو المتيقن باعتبار كونه مرآة له فلابد أن يكون فيه اقتضاء البقاء ليصح التعبير بالنقض فاعترض عليه صاحب الكفاية بأن اليقين بنفسه أمر مستحكم ثابت بخلاف الشك فيصح التعبير والظاهر منه أن اليقين دخيل في الاستصحاب وهذا مناقض لما ذكره في المقام.

والجواب عنه: انه لا منافاة بينهما لما ذكرناه مراراً من أن التناسب بين اجزاء الكلام انما يلاحظ باعتبار المراد الاستعمالي وان كان مخالفاً للمراد الجدي ففي صحة التعبير بالنقض يلاحظ نفس عنوان اليقين ومقتضياته وان كان المراد الجدي هو جعل الملازمة بين الحدث والبقاء وقد مر تفصيل ذلك في مناقشة التفصيل بين المقتضي والمانع.

 الوجه الثاني : ان مقتضی أصالة التطابق بين القضية اللفظية والقضية اللبية أن يكون اليقين هو الموضوع واقعاً فما ذكره صاحب الكفاية خلاف الظاهر .

والجواب عنه : ان خلاف الظاهر يصار إليه بالقرينة وذلك بعد ملاحظة كثرة استعمال اليقين في المرآتية الصرفية كقوله تعالی (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ..)[13] إذ لا خصوصية للتبين والموضوع نفس طلوع الفجر وقوله تعالی (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..)[14] بناءً على أن المراد بالشهود هو العلم.

والقرينة في ما نحن فيه داخلية وخارجية .

أمّا الأول فلانه من المعلوم ان المراد في المقام هو الحكم في مرحلة البقاء ولا دخل لكشف الشيء في مرحلة الحدوث في ذلك وانما الدخيل نفس الحدوث فالمراد بجعل الاستصحاب هو التعبد بالبقاء ولذا يجري الاستصحاب إذا كان في بقاء الشيء اثر دون حدوثه .

وأما الثاني فلان مقتضى دلالة موثقة معاوية بن وهب علی جريان الاستصحاب في مؤدى الامارة ومقتضى كونه أمرا متسالماً عليه عندهم ــ مع ان المجعول في حجية الامارة عند صاحب الكفاية هو المنجزية والمعذرية ــ هو أن تكون حقيقة الاستصحاب جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء دون جعل الحكم المماثل فلابد من أن يكون موضوع الاستصحاب في مورد الامارة نفس الحدوث والبقاء. وحيث انه لا يمكن التفكيك بين موارد الاستصحاب بان يقال في مورد العلم الوجداني بالتوسعة في الكشف وفي مورد الامارة بجعل الملازمة فلا بد من أن يكون العلم في لسان الدليل مأخوذاً بنحو المرآتية لا الموضوعية حتی يصح اعتبار الاستصحاب في مؤدى الامارات دون تفكيك في حقيقته ودون الالتزام بجعل الحكم المماثل.

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق النائيني من عدم امكان جعل الملازمة عقلاً .

والجواب عنه : ان جعله غير معقول بنحو الاعتبار القانوني واما بنحو الاعتبار الادبي فلا مانع منه ولذا يقولون في ما اذا ورد من الشارع التصريح بجعل السببية للزوال انه كناية عن كونه موضوعاً للحكم بوجوب الصلاة . ويمكن الالتزام به في المقام أيضاً فيكون المجعول حقيقة هو الحكم بالبقاء عند تحقق الحدوث ونعبر عنه بالملازمة بنحو الاعتبار الادبي .

الوجه الرابع : ما ذكره السيد الخوئي «دام ظله» كما في مباني الاستنباط وهو أن لازم جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء عدم انحلال العلم الاجمالي اذا قامت الحجة في بعض الاطراف فيكون هذا مخالفاً لما نقوله في قبال الاخباريين من انحلال العلم الاجمالي بوجود تكاليف شرعية لقيام الحجة علی المقدار المعلوم بالاجمال ولذا لا يجب الاحتياط . وورد في بعض تقريراته ان هذا لازم جعل الملازمة في المنجزية اذ يكون مفاد الاستصحاب حينئذ ان المنجز حدوثا منجز بقاءاً فيبقى العلم الاجمالي على منجزيته حتی بعد قيام الحجة .

والانصاف انا لم نفهم منه وجهاً صحيحاً يناسب مقام القائل إذ لا ربط لانحلال العلم الاجمالي بالاستصحاب فان كون الحادث هو الباقي مقطوع به الا ان الحادث كان مشتبها بين عدة امور وقيام الحجة رفع الاشتباه بنحو من الانحاء علی اختلاف الاقوال في المسألة فانحل العلم الاجمالي ولم يرفع امراً حادثا حتی ينافيه جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء.

واما بناءاً علی التقرير الثاني من أن ذلك لازم جعل الملازمة بين تنجز الحدوث وتنجز البقاء ففيه أولاً أن صاحب الكفاية لا يقول به. وثانياً ان هذا انما يتم فيما اذا كان منجز الحدوث باقياً وهم لا يقولون ببقاء العلم الاجمالي إذ المفروض انحلاله .

فتحصل أن هذه الاعتراضات غير واردة وان كلام صاحب الكفاية صحيح علی مبناه من جعل المنجزية والمعذرية في الامارات . نعم المبنى غير صحيح .

الطريق الثاني: ما ذكره المحقق الاصفهاني ويقاربه كلمات بعض الاعاظم وجماعة وهو ان المراد باليقين هو الحجة والمراد بالشك هو اللاحجة فادلة حجية الامارات توسع موضوع الاستصحاب بنحو الورود.

والسرّ في هذا القول أيضاً هو نفس القرائن التي ذكرناها في كلام صاحب الكفاية والفرق انه يقول بجعل المنجزية والمعذرية في الامارات فلزمه القول بالملازمة وهؤلاء يقولون بجعل الحجية فيها فيلزمهم القول بان المراد باليقين هو الحجة، مضافاً إلی القرائن الداخلية فان مورد صحيحتي زرارة هي الطهارة الحدثية والخبثية مع ان العلم الوجداني لا يحصل بهما غالباً بل يحكم بالأول بموجب قاعدة الفراغ وبالثاني بموجب قول ذي اليد ونظائره ومع ذلك ورد التعبير فيهما بانه علی يقين من طهارته ونظير ذلك مضافاً إلی مناسبة الحكم والموضوع وتنقيح المناط، كما ورد في تعابيرهم.

وفيه أولاً ان عدم حصول العلم الوجداني بالطهارة الحدثية والخبثية خلاف الوجدان ولو كان الانسان شاكاً في صحة وضوئه حتی حال الوضوء لم يجز له الاجتزاء به فالعلم حاصل إلا انه يمكن التشكيك فيه وازالة صفة العلم منه وهذا غير عدم حصول العلم اساساً.

وثانياً ان حمل اليقين علی الحجة والشك علی اللاحجة خلاف الظاهر. وهذا اشكال مشترك بينهم وبين صاحب الكفاية. ودعوی أنّ هذا الحمل انما يتم بموجب القرائن عذر مشترك أيضاً فلا وجه لتقديم هذا القول.

وثالثاً : ان الحجة هو ما يصح الاحتجاج به للمولی على العبد وبالعكس، ومرجع قوله عليه السلام (لا تنقض اليقين بالشك) الی جعل الحجة علی الحدوث حجة علی البقاء بتعبير المحقق الاصفهاني وإلی جعل الملازمة بينهما بتعبير بعض الاعاظم، ومن المعلوم انه لا يعتبر في الاستصحاب اتصاف الكاشف الاول بالحجية كما اذا كان المستصحب جزءً للموضوع ولا أثر له من حيث الحدوث فما يكشفه لا يطلق عليه الحجة إذ يختص ذلك بما إذا كانت الامارة موجبة للتنجيز والتعذير ليكون حجة علی العبد أو له، فاذا كان المراد باليقين هو الحجة لزم منه تضييق دائرة الاستصحاب بما اذا كان الأمر السابق ذا أثر في مرحلة الحدوث وهذا لا يقول به أحد من الاعلام، الا ان يقال: ان المراد بالحجة الحجة الشأنية التي لو قامت علی ماله أثر شرعي كان حجة. وهو كما تری.

وهذا الاشكال لا يلزم علی صاحب الكفاية فاذا قامت امارة علی ما ليس له أثر في مرحلة الحدوث صح اطلاق الحجة عليه باعتبار الملازمة وترتب الاثر في البقاء .

 

المقام الثاني

 

في جريان الاستصحاب في مؤديات الاُصول:

الاصل قد يكون جارياً في نفس الحكم الشرعي أو موضوعه وقد يكون جارياً في أمر آخر يثبت الحكم الشرعي بنحو من الملازمة الشرعية كطهارة الثوب المغسول بماء مستصحب الطهارة .

أما في القسم الأول فان كان الحكم السابق ثابتا بالاستصحاب كما اذا استصحب طهارة الثوب مع الشك في إصابة البول ثم شك في إصابة الدم مثلا فلا وجه لاستصحاب الحكم المستصحب لامكان استصحاب الحكم الواقعي السابق ولا فرق في شمول (لا تنقض اليقين بالشك) بين تعدد مناشئ الشك ووحدتها فالاستصحاب الأول باق في المقام ولا حاجة الی استصحاب آخر. وان كان الحكم السابق ثابتا بقاعدة الطهارة والحلية فكذلك لان دليل القاعدتين مغيّى بالعلم فما لم يعلم بالحرمة والنجاسة تجري القاعدة بنفسها والشك الحادث لا يؤثر في موضوعها إذ المفروض بقاء عدم العلم .

وأما في القسم الثاني فالاصل الأول لا يثبت الحكم الا حدوثاً فلا مانع من اجراء الاستصحاب للحكم ببقائه فاذا غسل الثوب المتنجس بماء مستصحب الطهارة حكم بطهارة الثوب حدوثا فاذا شك في إصابته بعد ذلك بنجاسة اخرى فلا مانع من إجراء الاستصحاب في طهارة الثوب وان كانت طهارتها ثابتة حدوثا باستصحاب طهارة الماء وكذا الحال فيما إذا كان الحكم بطهارة الماء المغسول به بموجب قاعدة الطهارة .

 

 

 

 

 

التنبيه الخامس

 

في أن القضية المتيقنة ان كانت معلومة بالعلم الاجمالي فهل يجري الاستصحاب أم لا ؟

وهذه المسألة يعبر عنها في كلمات القوم باستصحاب الفرد المردد وقد ذكرها بعضهم في مبحث الاشتغال باعتبار ان السؤال يقع في أنه هل يمكن قيام الاستصحاب مقام قاعدة الاشتغال أم لا ؟ فاذا شككنا في أن الواجب هل هو صلاة الظهر أو الجمعة مع الاتيان بأحدهما فهل نحكم ببقاء الوجوب المعلوم بالاجمال أم لا ؟ وذكرها السيد الطباطبائي قدس سره في البحث عن اصالة اللزوم في حاشية المكاسب وقال بجريان الاستصحاب في الفرد المردد وانه مغن عن استصحاب القسم الثاني من الكلي وذكرها بعضهم في بحث استصحاب الكلي وأما نحن فنخصّص لها تنبيها لاهميتها وذكرناها هنا لربطها بما مضی من حيث كون اليقين اما تفصيليا أو اجمالياً وبما يأتي من اقسام استصحاب الكلي.

ومحل الكلام فيما اذا كان الاثر مترتباً  علی الفرد لا على الكلي وله صور أربعة :

الصورة الأولى : ان يكون أحد المعلومين بالاجمال مقطوع البقاء علی تقدير حدوثه والآخر مقطوع الارتفاع كمسألة الظهر والجمعة التي مر ذكرها.

الصورة الثانية : ان يكون أحدهما مقطوع الارتفاع علی تقدير حدوثه والآخر مشكوك البقاء كما اذا صلی الظهر في المسألة السابقة وشك في اتيان الجمعة .

الصورة الثالثة : ان يكون أحدهما مقطوع البقاء علی تقدير حدوثه والآخر مشكوكه كما اذا علم بعدم اتيان احدهما وشك في اتيان الآخر .

الصورة الرابعة : ان يكون كل منهما مشكوك البقاء علی تقدير حدوثه كما اذا شك في اتيان كل منهما .

وهنا أقوال ثلاثة : جريان الاستصحاب مطلقا كما نقلناه عن السيد قدس سره وعدمه مطلقاً وعليه الأكثر وتفصيل المحقق النائيني بالقول بعدم الجريان في القسمين الاولين وجريانه في الاخيرين .

ومستند القول بعدم الجريان مطلقا هو أن المكشوف بالعلم الاجمالي أمر انتزاعي جامع وهو ثبوت أحد الوجوبين أو بتعبير مسامحي([15]) وجوب أحد الامرين، وهذا العنوان الانتزاعي لا اثر له إذ لا يترتب عليه حكم شرعي، والذي له الأثر الشرعي وهو وجوب الظهر خاصة أو وجوب الجمعة خاصة لم ينكشف، فلا يمكن الاستصحاب إذ لابد فيه من تعلق اليقين بما له أثر شرعي، والمفروض أنّ ما تعلق به اليقين جامع انتزاعي لا اثر له وما له الاثر لم يتعلق به يقين.

ومستند القول بالجريان مطلقا هو دعوى ان المكشوف بالعلم الاجمالي هو الواقع أي وجوب الفرد الواقعي وهناك طرق لتقرير هذا الامر:

الطريق الاول : ان العلم بالشيء قد يكون بانكشافه بنفسه وقد يكون بانكشافه بالعنوان الكلي المنطبق عليه . ولذا ذكر الشيخ في قوله عليه السلام (كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتی تعرف الحرام منه بعينه) ان المعرفة قد تكون بعين الشيء وقد تكون بعنوانه الكلي ويعبر عنه بالعلم الاجمالي فالقيد قيد للمعرفة لا للحرمة . وبعبارة اُخری الفرق بين العلم التفصيلي والعلم الاجمالي انما هو من جهة تصور الموضوع فالفرق بين قولك : صلاة الظهر واجبة وقولك : احدی الصلاتين واجبة انك تصورت الموضوع في الأول بصورته التفصيلية وفي الثاني بعنوانه المشير اليه. ولذلك يقال ان الوضع بنحو كون الوضع عاما والموضوع له خاصا امر ممكن باعتبار امكان تصور الشيء بوجهه وعنوانه .

والجواب عنه : ان الكلي لا يحكي عن الفرد فانه لا يحكي عما ينطبق عليه بل عما يطابقه . وضم الاشارة الوهمية الی العنوان المعلوم لا يوجب انكشاف متعلق الوجوب واقعاً وهو الفرد فقولك (ذلك الفرد الذي ينطبق عليه عنوان أحدهما) لا يوجب العلم به. والا لكان كل جاهل بسيط عالماً بالواقعيات اذ الجاهل بقيام زيد يعلم انه اما قائم أو غير قائم لامتناع ارتفاع النقيضين.

الطريق الثاني : ان العلم الاجمالي قد ينشأ من اشتباه المعلوم بالتفصيل مع غيره وفي هذا المورد لاشك في أن العلم الاجمالي يكشف عن واقع خارجي لان الصورة المنكشفة في الذهن مأخوذة من واقع خارجي اذ المفروض سبق العلم التفصيلي وحيث ان حقيقة العلم الاجمالي واحدة في جميع الموارد فلابد من أن يكون كاشفاً عن واقع الجزئي الخارجي دائماً.

والجواب عنه : أولاً ان هناك من يقول بالتفصيل المذكور في موارد العلم الاجمالي وهو المحقق النائيني قدس سره .

وثانياً : انه لا فرق في الموارد والعلم الاجمالي في الصورة المفروضة أيضاً لا يكشف عن الواقع والصورة المأخوذة لا يكشف عما أخذ منه بل عما يطابقه فلو فرضنا أن مؤسسة صناعية صنعت كمية من آلة مخصوصة وأخذت صورة من احداها وجعلت علی علبة كل منها صورة منه فان هذه الصورة لا تحكي عما أخذت منه اي تلك الآلة المصوّرة بعينها بل تحكي عما في العلبة لانطباقها عليها . وكذلك الصورة الذهنية فانها لا تحكي عما أخذت منه وان كان جزئياً بل تحكي عما يطابقها.

الطريق الثالث: وهو ما كنا نقول به سابقاً وهو أن العلم الاجمالي وان كان بالذات كاشفاً عن الجامع الا انه يكشف عن الواقع عند العقلاء وذلك في خصوص ما اذا كان منجزاً ويؤيد ذلك ما ذهب اليه بعض الاعلام من كشفه عن الواقع فهذه الاقوال وان كانت غير صحيحة علمياً الا  انها تؤيد الارتكاز العقلائي ومن هؤلاء الاعلام السيد صاحب العروة حيث ذهب الی جريان استصحاب الفرد المردد ومنهم المحقق العراقي حيث ذهب الی ان وجوب الموافقة القطعية من جهة أن العلم الاجمالي يكشف عن الواقع وينجزه فاحتمال التكليف في كل من الطرفين احتمال للتكليف المنجز ولا مانع من كون الشيء كاشفاً ذاتياً عن العنوان الجامع وكاشفاً عقلائياً عن الواقع . وما ذكره صاحب الكفاية وغيره من ان العام عنوان للخاص فيوجب تصوره بوجه ووضع اللفظ له، ونظائر هذا القول شواهد علی ان هذا من قبيل الامارات له نوع كاشفية عن الواقع . ولا مانع من كون الشيء كاشفاً بالذات عن شيء وبالعرض عن شيء آخر أو كون الشيء حجة ذاتية من جهة وعرضية من جهة اُخری كقطع المجتهد بالنسبة الی نفسه وبالنسبة الی مقلديه . والی ما ذكرنا يرجع قول صاحب الكفاية من أن العلم الاجمالي لا يكشف عن الواقع تمام الانكشاف ذكره في أواخر مبحث القطع فان المراد بالواقع ليس هو العنوان الكلي إذ هو معلوم تمام الانكشاف .

إذا صحّ هذا امكن القول في ما نحن فيه بجواز استصحاب الفرد المردد لانه منكشف بالعلم الاجمالي ولكنه يختص بما اذا كان منجزاً للتكليف، اذ لا نقول بكاشفيته مطلقا فلا يرد النقض بان الجاهل البسيط يعد عالماً حينئذ.

ولكنا عدلنا عن هذا القول فيما بعد ووجدنا الشواهد غير كافية لدعوى هذا الكشف العقلائي وفسرنا الفرق بين مورد احتمال التكليف المنجز عن غيره عند العقلاء بسبب آخر وهو ان الاحتمال اذا قارن العلم الاجمالي يعتبر من الاحتمالات القوية التي يجب الاهتمام بها فالتنجيز من باب الاحتمال المنجِّز لا احتمال التكليف المنجَّز .

توضيح ذلك اجمالاً : ان الاحتمال قد يكون من القوة بمكان يعد اطمينانا عقلائياً كما اذا كان 99% وقد لا يكون كذلك فان كان شبهة بدوية لم ينجز تكليفاً ولا يهتم به العقلاء وان كان 60% مثلاً وأما ان كان مقوماً للعلم الاجمالي ينجّز التكليف ويهتم به العقلاء مع انه 50% لان الاحتمالان يشكلان علماً اجمالياً فيلاحظ انه لو جمع احتمالات مائة مورد من الشبهة البدوية مع ان احتمال كل منها 90% لا يحصل منه علم اصلاً واما  اجتماع احتمالين في مورد العلم الاجمالي يوجب العلم مع ان كلاً منها 50% وليس هذا الا لتوزيع قدرة العلم الاجمالي عليهما ولذا لا يتنجز الاحتمال في الشبهة الغير المحصورة لان توزيع القدرة على محتملات كثيرة لا يوجب تقوية كل من الاحتمالات .

فتحصل أن القول بجريان الاستصحاب مطلقا يتوقف علی كون العلم الاجمالي كاشفاً عن الفرد الواجب الواقعي وهو غير كاشف . نعم لو كان كاشفاً عن ذلك لم يكن وجه للتفصيل بين كون أحدهما مقطوع الارتفاع  أم لا فما دام الواجب الواقعي المكشوف مشكوك البقاء يجري فيه الاستصحاب وان كان أحدهما بعنوانه التفصيلي مقطوع الارتفاع . ولكن قد عرفت ان المكشوف في العلم الاجمالي ليس الا الامر الانتزاعي وهو عنوان أحد الوجوبين دون الفرد الواجب الواقعي فالقول بجريان الاستصحاب مطلقا غير صحيح .

وفي قبال ذلك القول بعدم الجريان مطلقا لا في الفرد الواقعي ولا في العنوان الانتزاعي وهذا رأي المحققين العراقي والاصفهاني وان كان الثاني لم يتعرض الا لعدم جريانه في الفرد الواقعي ولكن الأول تعرض للعنوان الانتزاعي أيضاً وذكر انه وان كان مكشوفاً بالعلم الاجمالي الا انه لا يترتب عليه اثر شرعي فان المجعول شرعاً هو وجوب الظهر بحده أو الجمعة بحدّها وهو غير مكشوف والجامع بين الوجوبين ليس مجعولاً شرعياً فلا يمكن استصحابه.

ومحل الكلام في كون الجامع الانتزاعي ذا اثر شرعي أم لا هو مبحث الاشتغال ويمكن ان يستفاد من كلام صاحب الكفاية أيضاً القول بالترخيص في اطراف العلم الاجمالي نظراً الی ان المكشوف لا اثر له وما له أثر غير مكشوف وذهب الشيخ وتبعه المحقق النائيني الی ان العلم الاجمالي يقتضي بنحو العلية التامة حرمة المخالفة القطعية بدعوی أن عنوان أحدهما هو حدّ العلم وهذا المقدار يتنجز واما وجوب الموافقة القطعية فهو من جهة تعارض الاصول. والسرّ في ذلك أن الامر الانتزاعي ليس شيئاً في الواقع الا منشأ انتزاعه فاذا كان الفرد الواقعي موجباً للتنجز  لو انكشف فهذا الامر المنتزع منه الذي هو حدّ العلم ينجّز الواقع أيضاً اذ ليس له واقعية غير الواجب الواقعي وانما هو أمر ينتزعه العقل لبعض الدواعي. والداعي له في المقام تعلق العلم الاجمالي به فهو من الماهيات العقلية المخترعة لا من الماهيات التحليلية كالجامع الواقعي بين الأمرين كالانسان بالنسبة الی زيد وعمرو مثلاً فانه من قبيل التكثر الادراكي للشيء واما الماهيات الاختراعية فليس لها حقيقة غير الفرد الخارجي حتی بنحو التحليل والتكثر الادراكي ولذا لا يمكن للعقل أن يدرك عنوان أحدهما بتحليل حقيقة زيد وعمرو وانما هو أمر يخترعه لداع من الدواعي . فاذا صحّ ذلك فعنوان أحدهما الذي كشف العلم الاجمالي عن وجوبه متّحد في الحقيقة مع ذلك الفرد الواقعي الواجب فينجّز الوجوب بحدّه كما انه لو كان الفرد الواقعي مكشوفاً بنفسه لتنجز الوجوب بحدّه وهذا يقتضي بنحو العلية التامة وجوب الموافقة الاحتمالية .

وبهذا يظهر ان انكشاف عنوان أحدهما أيضاً له اثر شرعي فما ذكره المحقق العراقي من عدم الاثر له محل اشكال .

وأما تفصيل المحقق النائيني في المقام فهو أنه لو كان أحدهما مقطوع الإرتفاع على تقدير حدوثه لم يجر الاستصحاب وان لم يكن كذلك جرى .

والسرّ في ذلك ان المكشوف بالعلم الإجمالي هو أحد الوجوبين وقد عرفت انه له اثر شرعي وهو لا يقول بان المكشوف به هو الواقع والا لما احتاج في اثبات وجوب الموافقة القطيعة الى تعارض الاُصول بل اكتفى باحتمال التكليف المنجز في كل من الأطراف فإذا كان المكشوف أحد الوجوبين كان موضوعاً  لحكم العقل بوجوب  اتيان أحدهما فتجب الموافقة الإحتمالية وهذا المعنى هو الذي يستصحب حين الشك . وأمّا وجه التفصيل بين الموردين فهو أن في صورة كون أحدهما مقطوع الإرتفاع لا يبقى الشك الإجمالي فلا تتحد القضية المتيقنة والقضية المشكوكة .

توضيح ذلك: ان العلم الاجمالي يعاصر دائماً شكوكاً تفصيلية في الاطراف فان حدّ العلم هو عنوان احدهما الذي انتزعه العقل من الواقع المشكوك ليتعلق به العلم كما ينتزعه تارة ليتعلق به الوجوب كما في الواجب التخييري. وقد ينتزعه العقل ليكون حداً للتعبير فقط كما اذا كنت عالماً بان زيداً عادل ولمصلحة لم تذكر اسمه وانما تقول بالترديد احد الرجلين او الرجال عادلٌ فهذا عنوان  انتزاعي جعلته حداً لتعبيرك لمصلحة من المصالح ولكنه ليس حدَّا للعلم، فاذا قطع المكلف بارتفاع احد الوجوبين كما اذا اتى بالجمعة قطعاً وشك في اتيان الظهر او قطع بعدمه كان شاكاً في توجه التكليف بالظهر اليه شكاً تفصيلياً ولا يصح ان يقول بالشك في توجه احد الوجوبين بنحو يكون عنوان (احدهما) حدّا للشك بل لو قال ذلك كان حداً للتعبير كما في المثال المذكور فهو اجمال في مقام التعبير لا في الواقع. وحينئذ فاساس القضية المتيقنة وجوب أحد الامرين من الظهر والجمعة فالاجمال في الواقع وأساس القضية المشكوكة الحاصلة بعد القطع  بارتفاع احد الوجوبين لاتيانه بالجمعة الشك في وجوب الظهر فقط فلا يجري الاستصحاب واتحادهما باعتبار صحة القول بالقطع بوجوب أحدهما سابقاً والشك في وجوب أحدهما لاحقاً انما هو من جهة التعبير فقط فان عنوان (أحدهما) هناك حدّ للعلم وهنا حد للتعبير .

واعترض عليه المحقق الاصفهاني بأن الفرد الواجب الواقعي مشكوك فيه فلا فرق بين الصور فتنحصر المناقشة في ان ذلك الفرد الواقعي غير مكشوف .

وهذا الإعتراض مبني على أن يكون مورد الاستصحاب في كلام المحقق النائيني هو الفرد وعليه فلا فرق بين الصور وقد بينا أنه ليس كذلك.

واعترض عليه المحقق العراقي بوجهين :

الوجه الأول : ان الشك الإجمالي يجتمع مع العلم التفصيلي بأحد الطرفين كما يجتمع العلم الإجمالي مع الشك التفصيلي في الاطراف فلا مانع بعد العلم بارتفاع أحد الوجوبين من أن يقال اشك في وجوب أحدهما اذ المفروض بقاء الشك في الآخر .

والجواب عنه ظهر ممّا تقدّم. والقياس على العلم الإجمالي المعاصر للشك التفصيلي غير صحيح فان الشكين هناك مقومان لحقيقة العلم الإجمالي فلو انقلب الشك في أحدهما علماً لم يبق علم إجمالي ولذا ينحل انحلالاً حقيقياً، ولكن الشك الإجمالي لا يجتمع مع العلم التفصيلي بل ذلك شك تفصيلي في أحد الطرفين معينا وإنّما يجتمع مع الشك التفصيلي في الطرفين كما إذا شككت في عدالة كل من زيد وعمرو مع الشك في عدالة أحدهما أيضاً بمعنى انك لا تعلم اجمالا بعدالة احدهماوهنا يكون عنوان أحدهما حداً للشك أيضاً .

الوجه الثاني: ان هذا لو تم لجرى الاشكال في استصحاب القسم الثاني من الكلي فان العلم السابق كان معاصراً مع الشك في كون الموجود هو الفرد الطويل أو القصير والشك فعلاً انما هو في بقاء الفرد الطويل ان كان هو الموجود واما الفرد القصير فهو مقطوع الارتفاع فالاشكال مشترك الورود.

والجواب : ان الكلي المعلوم بالتفصيل هناك هو المستصحب والعلم متعلق به وهو عنوان واقعي فحد العلم هناك هو حد الواقع بعينه فان وجود زيد في الدار متحد مع وجود الماهية النوعية فالعلم هناك علم تفصيلي والشك في خصوصية زيد وعمرو لا يوجب انقلابه علماً اجمالياً كما أن الشك في خصوصيات المعلوم الشخصي كزيد مثلاً اذا شك في كونه عالماً أو جاهلاً لا يوجب كون العلم به علماً اجمالياً. وهذا بخلاف المقام فان عنوان احدهما عنوان مخترع جعل حداً للعلم وليس حداً للواقع بل حد الواقع مجهول وقد عرفت ان العلم بارتفاع أحدهما في المقام يوجب ارتفاع العلم الإجمالي بخلاف العلم بارتفاع أحد فردي الكلي هناك فانه ليس مقوماً للعلم بالكلي ولا هو مستصحب بل الكلي هو المستصحب والعلم بارتفاع أحدهما يوجب الشك في بقاء الكلي كما هو واضح.

والحاصل أن العلم هناك تفصيلي فلا ربط له بالمقام والعلم هنا إجمالي والشك أيضاً اجمالي فالعلم الإجمالي هو ما يكون متعلقاً بما ليس حداً للواقع وكذلك الشك فاذا تعلق الشك بما هو حد للواقع والعلم أيضاً بما هو حد للواقع فهذا معناه ان العلم تفصيلي والشك تفصيلي وكل منهما متعلق بأحدهما معيناً .

والذي يسهل الخطب ان مورد هذا الاستصحاب مورد لقاعدة الاشتغال أيضاً فهي مغن عنه فاذا علمنا بوجوب الظهر أو الجمعة وعلمنا باتيان أحدهما وشككنا في الآخر أو علمنا بعدمه فقاعدة الاشتغال تقتضي وجوب الاتيان به فلا حاجة الى الاستصحاب بل قاعدة الاشتغال تقتضي اكثر مما يقتضيه الاستصحاب فان مقتضاه بقاء العلم الإجمالي ووجوب الموافقة الاحتمالية ومقتضاها بقاء التكليف حتى يأتي بما يوجب البراءة اليقينية والموافقة القطعية.

هذا مضافاً إلى ان استصحاب وجوب أحدهما أي العنوان الإجمالي لا يترتب عليه أثر وقد عرفت انه مورد كلام المحقق النائيني والوجه في ذلك انه معارض باستصحاب عدم الوجوب في كل منهما. ولا يجري في المقام تعارض الاُصول الترخيصية في الاطراف كما يجري في صورة العلم الإجمالي. وذلك لأن المعارض لجريانها معاً هناك هو العلم والمعارض هنا استصحاب الوجوب فلا وجه لتقديمه عليهما .

 

 

التنبيه السادس

في استصحاب الكلي

 

قد بينا آنفا الفرق بين استصحاب الكلي واستصحاب المعلوم بالاجمال فان الاثر هنا مترتب على نفس الكلي الجامع وهناك على الفرد الواقعي المردد . فالعلم هنا تفصيلي وان كان المعلوم عنواناً جامعاً إلا انه عنوان واقعي وليس اختراعياً كعنوان أحدهما.

ولاستصحاب الكلي اقسام ثلاثة :

القسم الأول : أن يكون الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في بقاء الفرد الذي تحقق بتحققه الكلي كالشك في بقاء الإنسان للشك في بقاء زيد والعلم انما تعلق بوجود الانسان في ضمنه .

القسم الثاني : أن يكون الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في تحققه في ضمن فرد مقطوع الارتفاع أو فرد مقطوع البقاء.

القسم الثالث : ان يكون الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في تحقق فرد آخر له بعد العلم بارتفاع الفرد الذي تحقق في ضمنه أولاً. وقد أضاف السيد الخوئي ‹ دام ظله› قسماً رابعاً وسيأتي وجه النظر فيه.

وقبل التعرض لتفاصيل هذه الاقسام لابد من ذكر أمرين :

الأمر الأول :

أن المراد بالكلّي أعم من الكليات المتأصّلة كالإنسان والكليات الإنتزاعية كالمشتقات بناءاً على كونها انتزاعية والكليات الاعتبارية كالنجاسة والطهارة.

وأما المراد بالفرد فيختلف بحسب موارد اطلاقه فقد يطلق ويراد به الجزئي الاضافي كما يقال من ان استصحاب الفرد هل يغني عن استصحاب الكلي أم لا؟ فإن المراد به هنا ما يشمل الكلي الأضيق دائرة ففي مثال الحيوان مع البق والفيل مثلاً إذا قلنا بان استصحاب عدم الفرد الطويل مقدم على استصحاب الحيوان فالمراد بالفرد هنا هو الجزئي الاضافي فإن الفيل أيضاً كلي اضيق دائرة من الحيوان. وكذا في نظائره من الموارد. وذلك لأن الجزئي الحقيقي إذا وجد وجد بوجوده كليات متعددة بعضها أوسع من بعض فالاستصحاب في أحدها بالنظر الى شموله للجزئي الحقيقي يعبر عنه باستصحاب الكلي وبالنظر إلى دخوله تحت كلي آخر يعبر عنه باستصحاب الفرد .

وقد يطلق في مقام تمايز اقسام استصحاب الكلي فيراد به الجزئي الحقيقي أي ما هو ذو هوية شخصية، فإذا قلنا في القسم الأول ان الشك في بقاء الإنسان مثلاً من جهة الشك في بقاء فرده كان معناه الجزئي الحقيقي المتشخص وهو زيد مثلاً وان قلنا في القسم الثاني ان الشك في بقاء الحيوان من جهة الشك في تحققه في ضمن الفرد الطويل وهو الفيل أو الفرد القصير وهو البق فليس المراد كلي البق والفيل بل الجزئي الحقيقي منهما ولا يمكن ان يراد به الجزئي الاضافي في المقام حتى يشمل الكلي الاضيق دائرة من كلي آخر إذ الكلام هنا في بقاء الكلي ببقاء فرده فلابد أن يكون المراد بالفرد ما هو موجود في الخارج وهو يساوق التشخص، ولو كان المراد بالفرد ما يشمل الكلي الاضيق دائرة لم يكن وجه للاشكال الوارد في استصحاب القسم الثاني فإن مبنى الاشكال ــ كما سيأتي ــ هو ان الكلي الموجود بوجود هذا الفرد غير الكلي الموجود بوجود الفرد الآخر فالكلام إنما هو في الموجود وهو مساوق للمتشخص .

فالحاصل ان الميزان في تشخيص اقسام استصحاب الكلي هو وحدة الهوية الشخصية وتعددها . ولذا لو شككنا في بقاء الإنسان من جهة الشك في بقاء زيد وكان منشأ الشك هو الشك في كونه صحيحاً أو مريضاً لم يكن من القسم الثاني وان كان الصحيح والمريض جزئيان اضافيان بالنسبة الى الإنسان وأحدهما فرد طويل والآخر فرد قصير فلو كان المراد بالفرد الجزئي الاضافي كان داخلاً في هذا القسم ولكنه من القسم الأول والسرّ فيه ان الميزان في القسم الثاني هو تعدد الهوية الشخصية وسيأتي ان الصحة والمرض وغيرهما من الحالات الطارئة على الماهية الشخصية لا يوجب تعددها.

الأمر الثاني :

 أن القسم الأول يمتاز عن القسمين الاخيرين بعدم تعدد الهوية الشخصية فيه وهذا التعدد في مثل الامور التأصلة واضح كتعدد زيد وعمرو ولكنه يوجب الاشتباه في الاُمور الاعتبارية كالاحكام الشرعية فلا بد من بيان ضوابط لتعدد الهوية الشخصية فيها فانها ليست كالاُمور المتأصلة فمثلاً قد نعلم بوجود زيد ووجود الإنسان في ضمنه ولكنا نشك في انه رومي أو زنجي مثلا مع فرض انه باق على أحد الاحتمالين فقط فهذا الشك لا يوجب تعدد الهوية الشخصية فلا يدخل في القسم الثاني وهكذا كل شك متعلق باعراض المعلوم الشخصي المتأصل الذي يوجب الشك في بقائه ككونه مريضاً بالسرطان مثلاً فيعلم بموته أو مريضاً بجرح بسيط فيعلم ببقائه وهذا بخلاف الحدث فاذا علم بتحقق الحدث ولم يعلم صنفه أوجب ذلك تعدده كما سيأتي .

أما الضوابط التي اردنا ذكرها في الاحكام فهي ثلاثة:

الضابط الأول :

الاختلاف بالنوع كما إذا دار الأمر بين الحدث الأكبر والاصغر بل بين اقسام الحدث الاكبر فان التحقيق خلافاً للمحقق الثاني قدس سره هو اختلاف انواعها وقد ذكرنا في مبحث الأحكام الوضعية ان مقومها هو الأحكام التكليفية التي تستبطنها فتختلف باختلافها ومن المعلوم اختلاف الحكم التكليفي في الحدث الأصغر والحدث الاكبر فلا يجوز في الثاني المكث في المساجد دون الأول وكذا أنواع الحدث الاكبر فالحيض مثلاً  يستتبع حرمة الوطء دون الجنابة وهذا الاختلاف في الاحكام التكليفية يكشف عن اختلاف الهوية في الحكم الوضعي من حيث الصنف فإذا اختلف ذلك يحدث الشك في ان المتحقق هل هو مصداق هذا الصنف أو ذاك الصنف فتتعدد الهوية الشخصية .

 

الضابط الثاني :

الاختلاف في المحل والمعروض فلو فرضنا الشك في تعلق الوجوب بالظهر أو الجمعة فيتعدد الحكم إذ نسبة الأحكام الى متعلقاتها كنسبة الوجود إلى الماهيات العرضية، وكذا الأحكام الوضعية فتتعدد النجاسة إذا شك في تعلقها بالثوب أو الأرض مثلاً فلا يطهر الأول بالشمس بخلاف الثاني وأما إذا شككنا في أن زيدا في الجهة الشرقية من الدار أو الغربية ثم علمنا بإنهدام الجهة الشرقية فنشك في بقاء زيد ولا يوجب هذا تعدداً في المشكوك فإن كونه هنا وهناك لا يوجب تعدداً في هويته وانما ذلك موجب للشك في البقاء. والسرّ في ذلك ان الجوهر تقومه بذاتياته وكونه هنا وهناك من اعراضه وأما الأعراض كالبياض فهي تتعدد بتعدد المحل وكذلك العوارض ــ وهي اعم من الاعراض إذ تشمل الاُمور الاعتبارية ايضا ــ كالنجاسة والسر فيه ان المحل مقوم لوجودها ويقال في الفلسفة ان العلة في الاعراض ثلاثة الفاعل والغاية والمحل.

ومن هنا ظهر انه لا وجه لما ذكره المحقق النائيني من ان الجواهر والاعراض والعوارض لا تتعدد بتعدد المحل ولا تدخل في القسم الثاني كما سيأتي في الشبهة العبائية.

الضابط الثالث :

الاختلاف من حيث نوع السبب كما اذا شك في ان سبب النجاسة هو الدم أو البول فان كان الأول يطهر بالغسل مر‌‌ة واحدة بخلاف الثاني فالنجاسة الناشئة من البول غير النجاسة الناشئة من الدم لتعدد السبب الشرعي أي الموضوع وتعدد الاسباب الشرعية في حكم تعدد العلل الحقيقية بحسب الفهم العرفي ولما ذكرناه من الانحلال.

 

تفصيل الأقسام الثلاثة للكلي

 

أما القسم الأول فلا اشكال في أنه لو كان لكل من الفرد والكلي أثر شرعي جرى الاستصحاب في كل منهما ولكن الغالب فيما اذا كان الفرد جزئياً حقيقياً عدم ترتب الأثر الشرعي عليه إذ الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالجهة الجامعة فوجوب الاطاعة مثلاً متعلق بطبيعي أوامر المولى ووجوب الحج متعلق بطبيعي المستطيع وقلّما يوجد جزئي حقيقي يتعلق به حكم شرعي بعنوانه.

وكيف كان فالاستصحاب جار في الفرد والكلي إذا كان كل منهما موضوعاً لاثر شرعي إلا أن الكلام في أن استصحاب الفرد هل يغني عن استصحاب الكلي أم لا ؟ وأما عكسه فلم يذهب إليه أحد.

والاحتمالات هنا ثلاثة :

 الأول : أن استصحاب الفرد مغن عن استصحاب الكلي مطلقاً وهذا لازم ما ذكره صاحب الكفاية في مبحث خفاء الواسطة وقد مر بيانه والتعليق عليه في ذلك المبحث.

الثاني: أنه غير مغن عنه مطلقا فإذا ترتب أثر على كل منهما لزم استصحابه ليترتب عليه أثره ولا يكفي في ذلك استصحاب الآخر فلو لم يجر استصحاب الكلي لا يمكن ترتيب أثره باستصحاب الفرد مطلقا.

الثالث : الاحتمال الذي ذكره المحقق الاصفهاني وهو أن استصحاب الفرد مغن عن استصحاب الكلي ان كانا من قبيل الاحكام وغير مغن عنه ان كانا من الموضوعات فإذا ترتب وجوب التصدق مثلاً على وجود زيد ووجوب الصوم على وجود الإنسان كان اثبات أثر كل منهما متوقفاً على استصحابه بنفسه وأما ان كان المستصحب من قبيل الاحكام كالوجوب والطلب فإن علمنا بتحقق الطلب في ضمن الوجوب مثلاً والمفروض ان كلاً منهما مورد للاثر إذ يترتب على مطلق الطلب جواز الاسناد الى المولى وعلى الوجوب وجوب الإطاعة وحرمة العصيان فاستصحاب الوجوب كاف في اثباتهما. والوجه في ذلك ان التعبد في الموضوعات انما يتعلق بأحكامها وأحكامها متباينة كما ذكرنا وأمّا في الاحكام فالتعبد متعلق بانفسها لا بالاحكام العقلية المترتبة عليها.

وهذا الكلام يصح بناءً على كون حقيقة الاستصحاب جعل الحكم المماثل ففي الموضوعات يستلزم استصحاب كلّ من الفرد والكلي جعل حكمين متغايرين وأما في الاحكام فاستصحاب الوجوب كاف في اثبات الطلب من جهة ان الحكم المماثل المجعول هو نفس الوجوب ويتحقق في ضمنه الطلب طبعاً فلا حاجة إلى استصحاب الطلب وجعل حكم مماثل لانشاء الطلب وأما الطلب الجامع بين الوجوب والندب فليس قابلاً للانشاء.

وأما بناءاً على ما هو الحق من التوسعة في الكشف فلا يصح التفصيل إذ تعدد الاستصحاب بتعدد اليقين والشك فتعلق اليقين بالجامع واستصحابه يرجع إلى توسعة الكشف عن وجود الجامع، وفي الفرد يرجع إلى توسعة الكشف عن وجوده. واليقين بالفرد ليس عين اليقين بالجامع بل ملازم له وان كان وجود الإنسان عين وجود زيد إلّا ان اليقين به ليس عين اليقين بزيد. وتعدد اليقين بتعدد متعلقه ولو في وعاء الذهن فإن كانت الصورة الذهنية لأمر متيقن غير الصورة الذهنية لآخر كفى في تعدد اليقين فيمكن ان يتعلق اليقين بقيام زيد مثلاً والشك بقيام ابن عمرو مع انه منحصر فيه واقعا فاتحادهما في الخارج لا يوجب اتحاد الصورة الذهنية. فحيثما نعلم بوجود زيد يحصل لنا صورة علمية متعددة بتعدد الكليات الموجودة في ضمنه واتحادها في الخارج لا ينافي تعددها من هذه الجهة.

وما ذكرناه لا تختلف فيه الموضوعات والاحكام فاليقين بالطلب غير اليقين بالوجوب. فظهر ان الحق هو الاحتمال الثاني .

وأما القسم الثاني فله اقسام أربعة وهي التي ذكرناها في التنبيه السابق .

القسم الأول : أن يكون أحدهما مقطوع الارتفاع على تقدير حدوثه والآخر مقطوع البقاء على تقدير حدوثه .

القسم الثاني : أن يكون أحدهما مقطوع الإرتفاع كذلك والآخر مشكوك البقاء كذلك.

القسم الثالث : أن يكون أحدهما مقطوع البقاء كذلك والآخر مشكوك البقاء كذلك .

القسم الرابع : أن يكون كل منهما مشكوك البقاء كذلك .

هذا ولكن الشيخ قدس سره لم يذكر الا القسم الأول وتبعه من تأخر عنه واستشكل الشيخ في هذا الاستصحاب بأمرين :

أحدهما : أن الكلي يتعدد بتعدد أفراده فلا تتحد القضيتان المشكوكة والمتيقنة .

الثاني : ان الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في الفرد الطويل وأصالة عدمه مقدم على استصحاب الكلي لكونه سببياً .

ولعلّ عدم تعرضهم لهذه الأقسام لعدم جريان الاشكالين في جميع الصور والملاحظ أن الإشكال الثاني مختص بالقسمين الأولين إذ يبتني على أن يكون أحدهما مقطوع الإرتفاع حتى ينحصر الشك في بقاء الكلّي في الشك في تحقق الفرد الآخر المقطوع البقاء أو محتمله وليس كذلك في القسمين الاخيرين إذ أن أصالة عدم وجوده في ضمن أحدهما لا ترفع الشك في بقاء الكلي لاحتمال وجوده في ضمن الآخر الذي هو محتمل البقاء أو مقطوعه، وأما الاشكال الأول فسيأتي تقريبه بنحو يقتضي جريانه في جميعها .

وكيف كان فالصحيح هو أن الأقسام أربعة والمهم التعرض لتفصيل الاشكالين والجواب عنهما :

أمّا الإشكال الأول فتقريبه: أنه لو شككنا في وجود الإنسان في ضمن زيد أو عمرو فلا نعلم تفصيلا بوجود الإنسان بل نعلم اجمالاً بأحد الإنسانين فهذا الاستصحاب ليس إلاّ ما ذكرناه في التنبيه السابق من استصحاب المعلوم بالاجمال وقد عرفت ان الحق عدم جريانه مع انه لو كان أحدهما مقطوع الارتفاع كما هو مورد كلامهم فقد ذكرنا هناك ان الحق ما ذكره المحقق النائيني من عدم اتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة حينئذ .

توضيحه: أن الكلي بوصف الوحدة ــ وان كانت وحدة نوعية ــ لا يوجد في الخارج بل يوجد بوصف الكثرة وأمّا الوحدة النوعية أو الجنسية فهي أمر ذهني، وانسانية زيد مغايرة لإنسانية عمرو وان كانت الإنسانية متحققة في ضمن كل منهما بتمامها، فنحن نعلم إما بوجود هذه الإنسانية أو تلك وأما الجهة المشتركة بوصف كونها مشتركة لا وجود لها خارجاً فمتعلق الشك واليقين عنوان أحد الانسانين، والا لزم صحة ما ذكره الرجل الهمداني من ان نسبة الكلي إلى افراده نسبة الأب الواحد الى ابنائه وان الكلي الطبيعي موجود بالوحدة العددية مع ان الواقع ان نسبة الطبيعي الى افراده نسبة الآباء الى الأبناء بمعنى ان الطبيعي بتمامه يوجد في كل فرد بغير وجوده في الفرد الآخر فاذا تصورت زيداً ودخل في وعاء خيالك جرّده العقل من خصوصياته الشخصية وانتزع منه جهة جامعة يسمى بالإنسان ووعاؤه العقل وكذلك في عمرو. وهذا الأمر الذي حلّله العقل واستخرجه من صورة زيد بالغاء الخصوصية يختلف بحسب الافراد والقول باشتراكهما انما هو بالنظر الى انهما من سنخ واحد والا فالذي يحلّله العقل اي الجهة المشتركة لا وجود لها خارجاً .

ونظراً إلى هذا الاشكال ذهب بعض الاعاظم إلى ان اتحاد القضيتين هذا لا يصح بالنظر الدقيق العقلي إلا أن العرف يرى الاتحاد بينهما ونظره هو الملاك في ذلك. ولكن الظاهر أن الوحدة متحققة حتى بالنظر الدقيق ويتضح ذلك بملاحظة ثلاث جهات:

الجهة الأولى: أن العلم في المقام ليس علماً اجمالياً فان العلم الإجمالي متعلق بعنوان أحد الأمرين وهو عنوان اختراعي ذهني وأما ما نحن فيه فالعلم متعلق بجهة واقعية تحصل بالتحليل العقلي وهي معلومة بالتفصيل وإن كان كلياً.

الجهة الثانية: أن الإنسان الذي يحصل بتجريد زيد مثلاً وان كان مخالفاً لما يحصل بتجريد عمرو حتى في الوجود الذهني إلا أن الصورة الارتسامية لاتحكي عما تؤخذ منه بل عما يطابقه فكل من الصورتين تحكي عما هو في زيد وعمرو وغيرهما من افراد الإنسان فهي مرآة لكل ما يطابقها وهي ــ مع قطع النظر عن الخصوصيات الخارجية والوجود الذهني والخارجي ــ متحدة مع الكثير والواحد فهي الماهية المسماة بالكلي الطبيعي لقبولها التقسيم الى الخصوصيات المشخصة والتقسيم غير الترديد وهذه الصورة هي الموضوع لها الالفاظ. وهم يستدلون على كون اللفظ مشتركاً معنوياً بصحة التقسيم وبامكان القطع به والشك في الخصوصيات. فتبين ان الإنسان المحمول على زيد وعمرو ليس باعتبار وصف الاشتراك بل باعتبار ذاته أي الإنسان الموجود بوجود كل فرد المتكثر بتكثر الأفراد والمتحد بوحدة الفرد وان كانت الصورة مأخوذة من فرد واحد.

الجهة الثالثة: أن حقيقة الاستصحاب توسعة للصفة النفسية وهي اليقين سواء كان مطابقاً للواقع أم لا ووعاء اليقين والشك هو الذهن، والماهية التي تعلق بها اليقين والشك ليست متكثرة في ذلك الوعاء وان تكثرت في الخارج فلا مانع من توسعة اليقين باعتبار وحدة متعلقة ومتعلق الشك في وعائهما وهو الذهن.

الاشكال الثاني : ان هذا الاستصحاب لا يجري لوجود الأصل الحاكم وهو أصالة عدم حدوث الفرد الطويل أو ما يحتمل كونه طويلاً ليشمل القسم الثاني من الأقسام الأربعة المذكورة، وهذا الأصل سببي مقدم على استصحاب الكلي. وهذا الاشكال كما ذكرناه خاص بالقسمين الأولين .

وعمدة ما أجيب عنه ــ وهو الصحيح ــ أنه لا دليل على تقدم الأصل السببي على المسببي إلا إذا كانت السببية شرعية بمعنى ان يكون الأصل السببي جارياً في موضوع كبرى شرعية فيمنع من جريان الأصل في المحمول لأن دليل الأصل المسببي قاصر عن شمول هذه الصورة إذ مقتضاه عدم الاعتناء بالإحتمال المخالف والمفروض قيام الدليل وليس مجرد احتمال. وأما إذا كانت السببية تكوينية كما في المقام فلا يتقدم الأصل السببي فان الملازمة بين انتفاء الفرد ــ مع فرض القطع بانتفاء سائر الأفراد ــ وانتفاء الكلي أمر تكويني يدركه العقل.

ولكن المحقق النائيني استثنى من ذلك ما إذا كان انطباق الكلي على الفرد شرعياً ومثل له بالجنابة والحدث ومقتضى ذلك ان الجواب غير واف لجميع الموارد.

والصحيح ان الإنطباق في المثال المذكور ايضا ليس شرعياً فان الجنابة ان اُريد بها الحدث فانطباق كلي الحدث عليه أمر واقعي إذ لا معنى لجعل حدث الجنابة حدثاً وان اُريد بها موجبات الجنابة فهي موضوعة لحكم الحدث لا افراد له إذ لا هوهوية بينهما فهذا المثال خارج عن محل الكلام.

وأما سائر الاجوبة المذكورة في المقام فهي مخدوشة.

وهنا شبهة اخرى يمكن جعلها اشكالاً ثالثاً وهي: ان استصحاب القسم الثاني من الكلي يستلزم أمراً لا يمكن الالتزام به وهو ان المشهور ذكروا أن ملاقي بعض اطراف الشبهة المحصورة طاهر ولو في الجملة ولا يعتنى بالعلم الإجمالي بنجاسة الملاقي وطرف الملاقى إذ بين هذا العلم والعلم الاول عموم من وجه فادعوا مطلقا أو في بعض الصور انحلال العلم الثاني وحينئذ فإذا كان هناك اناءان أحدهما نجس قطعاً ثم طهر أحدهما قطعاً ثم لاقى اليد الاناء الآخر يحكم بطهارة اليد لما ذكرناه فان لاقى بعد ذلك الاناء الطاهر قطعاً يحكم بنجاسته بموجب استصحاب القسم الثاني من الكلي وهذا لا يمكن الالتزام به إذ يستبعد جداً الحكم بعدم نجاسة اليد إذا لاقى مشكوك النجاسة وبنجاسته إذا لاقى مقطوع الطهارة .

وأما ارتباطه باستصحاب الكلي فهو من جهة ان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الاناءين يتضمن علماً تفصيلياً بان اناءاً بين الاناءين نجس وبعد الطهارة لا يعلم ان هذا الكلي كان في ضمن ما طهر فنجاسته مرتفعة أو في ضمن الآخر فهي باقية وبموجب استصحاب الكلي يحكم بكون الاناء الكلي نجساً فان لاقى اليد كليهما يحكم بنجاسته لملاقاته ما هو محكوم بالنجاسة بحكم الاستصحاب وحينئذ فان كان المؤثر في النجاسة هو الطاهر فهو غير معقول وان كان الآخر كان منافياً لما ذكره المشهور من عدم نجاسة ملاقي أحد الاطراف.

وهذه الشبهة هي المعروفة بالشبهة العبائية ذكرها بعض العلماء في بعض مجالس النجف قديماً وتقريره ان أحد اطراف العباء نجس قطعاً ثم غسلنا أحدها معينا فالنجاسة مقطوع البقاء في أحدها على تقدير حدوثه ومقطوع الارتفاع في الآخر كذلك .

ولكن الحق ان هذه ليست شبهة في نفسها حتى يجب الجواب عنها واللازم المذكور ليس مستنكراً ولا مانع من الالتزام به وذلك لان ملاقاة الطاهر لم توجب النجاسة وانما أوجبت تحقق موضوع استصحاب النجاسة وهو ملاقاة الكلي المحكوم بالنجاسة والالتزام به لا مانع منه كما نلتزم فيما اذا لاقى اليد أحد المشتبهين بطهارته ثم لاقى شيء آخر الطرف الآخر فنحكم بنجاسة اليد فان هذا مستنكر أيضاً عند من لاخبرة له فان ملاقاة شيء آخر لا أثر له في الظاهر في نجاسة اليد مع ان هذا مما لا اشكال فيه ووجهه ان العلم الإجمالي الحاصل بعد ملاقاة الشيء الآخر ليس عاماً من وجه بالنسبة الى العلم الاول وأما العلم الحاصل قبل الملاقاة فبينهما عموم من وجه فيوجب الانحلال .

والسيد الخوئي أيده الله التزم بذلك في المقام كما أنا التزمنا به أيضاً في الدورة السابقة ولكن الاعلام تلقوها شبهة فاجابوا عنها .

وبهذا التقرير ظهر ان الشبهة ليست في وجود النجاسة بنحو الوجود المحمولي بل الشبهة في أن اناءً من الاناءين نجس فالمستصحب كلي. والمهم البحث في ان موضوع النجاسة هل هو الشخص أو الطبيعي فان قلنا بالأول فالمسألة داخلة في استصحاب المعلوم بالاجمال وان قلنا بالثاني فهي مما نحن فيه .

توضيحه أن موضوع النجاسة في المتنجسات لم يذكر في الروايات وإنما ذكر موضوع النجاسة في أعيان النجاسات وانه الصورة النوعية فاذا زالت زالت النجاسة كما هو مذكور في مطهرية الاستحالة وأما في المتنجسات فالمذكور هو المصاديق كالثوب والبدن ونحوهما ومن المعلوم ان الثوب بعنوانه ليس موضوعاً قطعاً حتى اذا تبدل بالفراش مثلاً تزول النجاسة وهذه الروايات صادرة في مقام الفتوى فلم يذكر فيها الموضوع الواقعي. وأما موثقة عمار فالوارد فيها (ما) الموصولة وهي مبهمة تشير الى الاشياء التي تصيبها النجاسة فالموضوع نفس الجزئيات ويقع السؤال في ان الجزئي هل هو بحدّه موضوع كموضوع وجوب التصدق في قولك: ان رأيت زيداً تصدق بدرهم مثلاً فان الموضوع زيد بحدّه لا بما هو انسان أم الموضوع هو الجزئي بما هو مصداق لكلي ؟

فإن قلنا بالأول فالماء في هذا الاناء بحده وفي ذلك الاناء بحده موضوع للنجاسة فلابد من استعمال كلمة أحد الاناءين ومتعلق العلم ليس أمراً متأصلاً وحمل النجاسة على عنوان أحدهما مع الواسطة في العروض والأثر للفرد ذوالهوية الشخصية. وعليه فلا ربط له باستصحاب الكلي بل هو داخل في استصحاب المعلوم بالاجمال وحينئذ فاستصحاب نفس الفرد الواقعي مبني على كشف العلم الإجمالي عن الواقع وهو ممنوع واستصحاب الجامع لا يجري مع كون أحدهما مقطوع الارتفاع لعدم اتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة .

وإن قلنا بالثاني فالعنوان الجامع اما هو الجسم أو الصورة النوعية والفرق يظهر في الاستحالة فعلى الاول لا تؤثر لبقاء الجسم وتؤثر على الثاني لان المراد الصورة النوعية العرفية وهي لا تبقى بعد الاستحالة فإذا كان الاثر للجامع وهو ماء نجس أو جماد نجس وقد لاقى اليد هذا الجامع قطعاً فيدخل في استصحاب الكلي ولابد من الالتزام بالنجاسة .

والظاهر من الادلة هو ما قواه الشيخ قدس سره من كون الموضوع في المتنجسات هو الصورة النوعية .

ثم انه لابد من ملاحظة الدليل الدال على تنجس الملاقي للمتنجس فان الروايات مختلفة و واردة في الموارد الجزئية، فهل مفادها ان الملاك في تنجيس المتنجس لملاقيه شخصه وان كانت النجاسة قائمة بصورته النوعية أم أن الملاك هو صورته النوعية . وبعبارة اُخرى المنجس في المتنجسات هل هو الجزئي الحقيقي بهويته الشخصية أم بما هو ماء بحدّه مثلاً ؟ الظاهر هو الثاني وتحقيقه في الفقه .

فإن قلنا بالأول فلابد من ان يكون المستصحب في المقام أحد الشخصين للعلم الإجمالي قبل طهارة أحدهما بان احد الشخصين منجس والشك في بقائه بعد الطهارة .

وان قلنا بالثاني فهو من استصحاب الكلي للعلم التفصيلي قبل عروض الطهارة بان اناءً بين الاناءين نجس والشك فيه بعد الطهارة فيستصحب .

ومن هنا ظهر ضعف كثير من الاجوبة في المقام .

منها ما ذكره المحقق النائيني قدس سره في الدورة الثانية من أن استصحاب بقاء النجاسة كاستصحاب بقاء الكرفي الحوض إذا افرغ من الماء السابق الذي كان كراً قطعاً وشك في أن الموجود فعلاً كرّ أم لا ؟ فان هذا الاستصحاب غير جار لانه استصحاب الوجود المحمولي لاثبات الوجود الرابط .

وجوابه ان الوجود في المقام رابط لا محمولي فان المستصحب اناء كان نجساً لا نجاسة الاناء كما تقدم بيانه .

ومنها : ما ذكره المحقق العراقي قدس سره من أن معروض الاعراض هو الجزئيات لا الكليات فالعلم لا يعرض الإنسان بل يعرض زيداً مثلاً وكذلك النجاسة .

وجوابه أولاً أن زيداً لو كان عالماً صدق القول بأن الإنسان عالم فمعروضه الإنسان المتخصص بالصورة الخاصة .

وثانياً : ان النجاسة عارضة للطبيعي المتخصص فقهاً .

وثالثاً : ان منجسية الملاقي هو الملحوظ والموضوع هناك فقهياً هو الصورة النوعية .

وأما ما ذكره المحقق النائيني في الدورة الاولي فمحصله أن الاستصحاب هنا من قبيل الفرد المردد فان الضابط في القسم الثاني من الكلي هو الترديد بين الهويتين والترديد هنا في المحل وهو لا يوجب تعدد الهوية الشخصية كما لو شككنا في وجود زيد في الجانب الشرقي أو الغربي ثم انهدم أحدهما معينا فان ذلك لا يصحح استصحاب الكلي .

والجواب أولاً ان الملاك في التنجس ليس عنوان ملاقاة النجاسة ولا ملاقاة المتنجس والا لم يمكن الحكم بنجاسة ملاقي مستصحب النجاسة مطلقاً حتى إذا كان استصحاباً شخصياً إذ لا يثبت استصحاب النجاسة أو التنجس أن الملاقي لهذا الشيء ملاق للمتنجس . ولذا يقال ان استصحاب العالم لا يثبت ان من وقع عليه الاكرام عالم إلا أن يكون الموضوع الشخص الموصوف بكونه عالماً فيستصحب كونه عالماً ووقوع الاكرام على الشخص وجداني . وكذا يقال ان استصحاب العدالة إذا كان عادلاً قبل العلم والآن عالم مشكوك العدالة لا يثبت عنوان العالم العادل، وان كان فيه نظر .

والحاصل ان الموضوع ليس ملاقي النجاسة حتى يقال بعدم تعدد الهوية بل الموضوع مركب من ملاقي الشيء ووصف كونه متنجسا والملاقاة محرزة بالوجدان فلا بد من استصحاب كون هذا الشيء متنجساً لا استصحاب النجاسة أو التنجس ومن الواضح أن كون هذا الشيء متنجساً مغاير لكون ذلك الشيء متنجساً فالترديد في الذات لا في المحل .

وثانياً: ان الترديد في محل النجاسة يوجب تعدد الهوية الشخصية لما ذكرناه من الضوابط في تشخيص ما به التعدد في الاعتباريات. والاشتباه نشأ من الخلط في معنى المحل فانه يطلق تارة ويراد به الاين واخرى ويراد به الموضوع المستغني عن الحال. والأول من الاعراض. والثاني من اجزاء العلة للاعراض فانها متقومة بالفاعل والغاية والمحل . فالأول بالنسبة لزيد مثلاً لا يوجب تعدد الهوية . وأما الثاني بالنسبة للنجاسة يوجب التعدد قطعاً لكونه علة لها .

وثالثا : سلمنا عدم التعدد ولكن لابد حينئذ من دخوله في استصحاب القسم الأول إذ الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في بقاء الهوية الشخصية . والمفروض أن موضوع الحكم هو الجهة الجامعة من النجاسة .

ورابعاً : سلمنا عدم دخوله في القسم الأول ولكن لا وجه لدخوله في الفرد المردد اذ تقومه بتعدد الهوية الشخصية وكما تنافي الوحدة مع القسم الثاني كذلك تنافي الفرد المردد إلا أن الموضوع للأثر هنا هو الكلي وهناك هو الفرد .

وهناك مباحث اخرى في القسم الثاني من استصحاب الكلي نذكرها في ضمن مباحث القسم الثالث لاشتراكهما فيها.

وأما القسم الثالث من اقسام الكلي فله اقسام ثلاثة :

القسم الأول : ان يعلم بارتفاع الفرد المعلوم تحقق الكلي في ضمنه الا انه يحتمل تحققه في ضمن فرد آخر مقارناً لزوال الفرد الأول فيشك في بقاء الكلي طبعاً .

القسم الثاني : ان يكون احتمال بقاء الكلي من جهة احتمال وجود فرد آخر له حين حدوث الفرد المعلوم الزوال .

القسم الثالث : ان لا يعلم بزوال الفرد الاول بل يحتمل تبدله الى فرد آخر كما إذا علم بأن الحمرة الشديدة ليست باقية بحالها لكن لم يعلم انعدامها بل احتمل تبدلها الى حمرة اضعف .

أما في القسم الأول فالمشهور عدم جريان الاستصحاب فيه ولكن العلامة الحايري قدس سره ذهب الى جريانه .

وجه ما ذهب اليه المشهور ان الكلي يوجد بوجود الفرد فوجود الفرد له اضافات متعددة فبالاضافة الى الماهية الشخصية يعتبر وجوداً للفرد وبالاضافة الى كل ماهية متحققة في ضمنه يعتبر وجوداً لها وكما أن الطبيعي يوجد بوجود هذا الفرد ينعدم هذا الوجود منه بانعدام هذا الفرد فله وجودات متعددة بتعدد وجودات الافراد واعدام متعددة بتعدد اعدامها فاذا انعدم زيد ووجد عمرو فقد انعدم الإنسان بانعدام زيد ووجد بوجود عمرو وليس وجود عمرو استمراراً لوجود زيد ولا لوجود الكلي المتحقق في ضمنه فلا يصدق البقاء الذي هو ركن جريان الاستصحاب .

ووجه ما ذهب اليه العلامة الحايري بتقريب منا هو أنّ العقل والعرف يؤيّدان القول بان الشك في المقام في بقاء الكلي. أما العقل فلان الطبيعي يوجد بوجود فرد واحد ولا ينعدم الا بانعدام جميع الافراد ولذا تختلف الموافقة والمخالفة في الأمر والنهي ومن هنا قالوا ان نقيض الموجبة الجزئية هو السالبة الكلية فاذا وجد الإنسان بوجود زيد لا ينعدم الا بانعدام جميع الافراد فاذا احتمل وجود عمرو حين زوال زيد لم يعلم انعدام جميع الافراد فيصدق الشك في بقاء الكلي. وأما العرف فلوضوح ان انقراض النوع عندهم لا يصدق الا بانعدام جميع افراده ويصدق عندهم بقاء النوع ببقاء الافراد المتعاقبة في الوجود .

والجواب عنه عدم صدق البقاء لا عقلاً ولا عرفاً أما عقلاً فلان التحقيق هو ما ذكرناه في بيان وجه المشهور من ان الطبيعي له وجودات متعددة واعدام متعددة والجملة المشهورة (الطبيعي يوجد بوجود فرد واحد ولا ينعدم الا بانعدام جميع افراده) غير صحيح فان الطبيعي ليس له وجود مستقل خارجاً والوجود الخارجي قد يضاف الى الماهية الضيقة فيقال له وجود الفرد وقد يضاف الى الماهية الكلية فيقال له وجود الطبيعي فالطبيعي يوجد بوجود كل فرد وينعدم بانعدام كل فرد ونقيض الواحد لا يكون الا واحداً فلا يمكن ان يكون للشيء وجودات متعددة وعدم واحد مع ان العدم طارد للوجود فلا بد من ان يتعدد بتعدده .

ولابد لتوضيح المقام من التنبيه على أمر: وهو أن لقولنا (وجود الطبيعة) اطلاقان فقد يطلق ويراد به صرف وجود الطبيعي وهو وجوده بوجود فرده وهذا هو الذي يتكثر بتكثر الافراد ويتكثر عدمه أيضاً بعدم كل فرد وقد يطلق ويراد به الوجود الشامل لجميع الوجودات ويقابله العدم الشامل لجميع الاعدام بمعنى ان عدم الطبيعي بانعدام جميع الافراد يقابل وجوده بوجود جميع الافراد من جهة تقابل كل وجود مع عدمه . فإذا قلنا العنقا موجود مثلاً فالمراد به الوجود بالمعنى الأول أي صرف وجود الطبيعة وأما إذا قلنا العنقا معدوم فالمراد به العدم بالمعنى الثاني أي انعدام جميع الافراد لا من جهة تقابل هذا العدم مع ذاك الوجود وان نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية بل من جهة اُخرى راجعة الى مقام الاثبات وهو أن المتكلم الحكيم إذا قال: العنقا موجود لا يمكن أن يريد به الوجود بالمعنى الشامل لجميع الوجودات إذ لا يمكن ان يتحقق ذلك خارجاً فإن افراد الطبيعي التي يمكن ان تكون افراداً له لا يمكن حصرها فكلما وجد للعنقا افراد خارجية مهما بلغت من الكثرة لا يوجب ذلك تضييقاً في صدق العنقا على فرد آخر لم يتحقق بعد ولذلك يجب حمل هذا الكلام على صرف وجود الطبيعة ونفس هذه القرينة توجب حمل الكلام الثاني على ارادة العدم الشامل إذ صرف العدم ضروري لعدم امكان تحقق جميع الافراد كما ذكرنا فلا بد من أن يكون المراد بهذه الجملة معنىً مفيداً غير ضروري وهو العدم الشامل .

وهذا المعنى الذي ذكرناه أوجب التوهم السابق وهو أن الطبيعة توجد بوجود فرد واحد وتنعدم بانعدام جميع الافراد فتكون المقابلة بين صرف الوجود والعدم الشامل مع وضوح فساد ذلك وقد بينا أن مقابل كل وجود عدمه .

وهكذا الكلام في الاوامر والنواهي فاذا قال المولى (تكلّم) فلا يمكن ان يريد به طلب ايجاد جميع الافراد إذ ليس ذلك ممكناً فلابد من حمله على صرف الوجود وأما اذا قال (لا تتكلم) فالمراد به طلب العدم الشامل لان صرف العدم ضروري لا يتعلق به طلب مع ان التحقيق ان الأمر والنهي بعث وزجر لا طلب لايجاد الطبيعة واعدامها.

وأما ما ذكر في المنطق من أن نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية فليس المراد به النقيض الاصطلاحي وهو رفع الشيء فان رفع جميع الافراد ليس مقابلاً لوجود بعضها بالضرورة بل المراد التنافي في صدق القضيتين بمعنى أن هاتين القضيتين لا تصدقان معاً في مورد واحد من جهة اشتمال كل منهما على لازم نقيض الآخر.

وأما تأييد العرف في المقام فهو ممنوع أيضاً فان المراد بالبقاء هو استمرار الوجود وهو غير ممكن بعد تعدده وأما بقاء النوع مع تعاقب الافراد فهو مبني على المسامحة بنحو من الاعتبار الادبي إذ المتحقق فعلاً وجودات منه غير ما كان متحققاً سابقاً نظير ما ورد في نهج البلاغة (العلماء باقون ما بقي الدهر اعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة) فان اعتبار الوجود المثالي استمراراً للوجود العيني ليس الا اعتباراً أدبياً والاعتبار الادبي لا يصحح وحدة القضية المتيقنة مع المشكوكة. والنظر العرفي إنما يتبع إذا لم يكن مبنياً على المسامحة.

فتحصل أن الحق هو ما ذكره المشهور من عدم جريان الاستصحاب في القسم الأول من القسم الثالث من استصحاب الكلي فإن الاستصحاب توسعة في الكشف بقاءً أو حكم بالبقاء والبقاء هو استمرار الوجود وهو لا يصدق مع تعدد الوجود والكلي يتعدد بتعدد افراده وجوداً وعدماً عقلاً وعرفاً .

وأما في القسم الثاني من أقسام القسم الثالث فالقائل بجريان الاستصحاب في القسم الأول يقول به هنا بطريق أولى وأما بناءاً على عدم الجريان هناك كما هو المشهور فقد ذهب الشيخ الى جريانه هنا. والوجه في هذا التفصيل هو ان الكلي معلوم التحقق في الزمان الأول إلا أن الشك في تحققه في ضمن فردين أو فرد واحد فهو باق قطعاً على التقدير الأول بعد العلم بانتفاء أحدهما وهو الفرد المعلوم تحققه ومنتف قطعاً على التقدير الثاني كذلك فاحتمال البقاء موجود في هذا القسم دون القسم الأول والمدار هو صدق البقاء وهو صادق مع احتمال تعدد الفرد كما في المقام دون القسم الأول الذي كان احتمال تحقق الكلي في ضمن الفرد الآخر في زمان العلم بانتفاء الأول وهذا لا يصدق عليه البقاء .

والجواب عنه ان مجرد احتمال البقاء لا يكفي في جريان الاستصحاب إذ لابد من كون متعلق احتمال البقاء هو المقطوع الحدوث لا مشكوكه والمفروض أن مقطوع الحدوث مقطوع الزوال ومحتمل البقاء مشكوك الحدوث. ولا يتوهم جريان هذا الاشكال في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي فان الكلي وان كان مشكوك الحدوث في ضمن الفرد الطويل إلا أن محتمل البقاء هو نفس الكلي في ضمن الفرد الذي تحقق في ضمنه قطعاً فمتعلق الشك واليقين واحد . فالحق عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم أيضاً .

وأما في القسم الثالث من أقسام القسم الثالث وهو أن يحتمل زوال الكلي بزوال فرده ويحتمل تبدله الى فرد آخر اشدّ واضعف فيما يقبل ذلك كالالوان والملكات النفسانية كالعدالة والاجتهاد فالمتسالم عليه بينهم جريان الاستصحاب فيه لوحدة وجود المتيقن والمشكوك فان ملكة الاجتهاد مثلاً إذا قويت لا تصدق عليها المغايرة مع حالتها الاولى من حيث الوجود. والاشتداد لا يوجب تبدل الوجود وأن أوجب تبدل الفرد فان هذه الملكة تعتبر فرداً آخر غير الملكة السابقة إلا أن ذلك لا يمنع من استصحاب الكلي فجريان الاستصحاب في هذا القسم مما لا كلام فيه وإنما  الكلام في ان هذا القسم هل يعد من أقسام القسم الثالث من استصحاب الكلي أم هو من القسم الأول منه.

وقد اعترض جماعة من الاعاظم على الشيخ حيث جعل هذا القسم من القسم الثالث منهم المحقق العراقي وبعض اعاظم العصر ووجه هذا الاعتراض أن الفرق بين القسم الأول والقسم الثالث هو أن الفرد غير متعدد في الأول والشك إنما هو في بقاء الكلي المتحقق في ضمن فرد من جهة عروض العوارض وهو متعدد في القسم الثالث كما لا يخفى ولا يعقل تعدد الفرد فيما نحن فيه فان الشدة والضعف من العوارض ولا يوجبان تعدد الفرد فلا بد من الحاقه بالقسم الأول .

وتوضيح الاشكال أن العقل والعرف لا يساعدان على تعدد الفرد في المقام.

أما العقل فلان فردية الفرد بوجوده فان الفردية هي التشخص وهو من لواحق الوجود فكيف يعقل ان يكون الوجود واحداً مع تعدد الفردية نعم يصح ذلك بناءً على أصالة الماهية حيث يعدّ الوجود أمراً اعتبارياً فالتكثر والوحدة تابعة للماهية وهي تتعدد بالشدة والضعف وأما بناءً على ما هو الحق من أصالة الوجود فالكثرة والوحدة تابعتان وهو متحد في المقام .

وأما العرف فلان الاختلاف من جهة الشدة والضعف لا يعتبر بالنظر العرفي تعدداً الا في العوارض والخصوصيات واختلاف العوارض لا يوجب تعدد الفردية .

والجواب أما عن الوجه العقلي فبناءً على أصالة الماهية الأمر واضح ومسلّم وأما بناءً على أصالة الوجود فتعدد الماهية بالشدة والضعف واضح ومسلّم أيضاً وقد جعلوا ذلك دليلاً على أصالة الوجود فقالوا: ان الشيء الواحد إذا اشتد أو ضعف يتحقق بالشدّة والضعف أنواع وماهيات متعددة فان قلنا بأصالة الوجود فالوجود الواحد يوجب وحدة هذه الانواع وأما ان قلنا بأصالة الماهية يلزم منها انحصار الانواع غير المتناهية بين حاصرين وهذا غير معقول . فتعدد الانواع لا اشكال فيه إلا أن المدعى وحدة الفردية بوحدة الوجود .

وتحقيق الكلام في ذلك ان في وضع الاعلام الشخصية قولين :

القول الأول : ان الوضع فيها عام والموضوع له عام أيضاً وكون الوضع خاصاً والموضوع له خاصاً غير معقول فالموضوع له فيها هو الماهية الضيقة التي انحصر في فرد واحد اتفاقاً . وبناءً على هذا القول وان المراد بالفرد في المقام ذلك فلا ربط لفردية الفرد بالوجود وإنما هو مرتبط بالتضيق الماهوي وإذا كان كذلك فالماهية الضيقة فرد للماهية الاوسع وكلما تعددت الذاتيات اختلفت الماهيات ولا يمكن لهذا الفرد أن يكون فرداً لماهيات متعددة وانما هو فرد للماهية الاوسع فقط فتتعدد الفردية بتعدد الانواع والماهيات.

والحاصل أن الأمر بناءاً على هذا القول واضح ويبتني على عدم إمكان خصوصية الوضع والموضوع له نظراً الى أن ذلك يتوقف على كون الوضع مرتبطاً بالوجود إذ لا تتحقق الجزئية والتشخص إلا به ولا يمكن ارتباط الوضع بالوجود إذ يلزم منه أن يكون قولنا زيد موجود قضية ضرورية، وقولنا زيد معدوم جمعاً بين النقيضين ويكون صحة قولنا زيد اما موجود واما معدوم متوقفاً على التجريد من هذا اللحاظ المأخوذ في الوضع مع أن ذلك كله خلاف الضرورة فلا بد من القول بعموم الوضع والموضوع له إلا انه كلي منحصر .

وهذا المبنى فاسد والصحيح كما ذكرناه في محله هو أن الاعلام الشخصية موضوعة للمعنى بلحاظ الوجود آناًما. وما ذكره من الاشكال مندفع بأن قولنا زيد موجود ليس ضرورياً فإن الوجود الدخيل في وضع (زيد) هو الوجود آناًمّا والوجود المستفاد من القضية هو الوجود حال النسبة فلا حاجة إلى التجريد.

القول الثاني: ــ وهو الصحيح ــ أن الوضع فيها خاص والموضوع له خاص فالوجود ملحوظ في الوضع. والفردية متعددة حتى على هذا القول أيضاً فان اضافة الفرد الى الوجود المعتبر في الوضع مرجعه الى أن الماهية تضاف الى الوجود وتكتسب منه التشخص والفردية. والوجود وان كان واحداً إلا أن الماهية إذا تعددت كما هو المفروض والمسلّم من الخصم تتعدد الفردية لتعدد المضاف فان الفرد هو الماهية المضافة الى الوجود الخاص فاذا تعددت الماهيات المضافة اليه تعددت الفردية والفرد ليس عبارة عن نفس الوجود الخاص .

وأما عن الوجه العرفي فبأن الظاهر أن التمايز عندهم كما يكون من جهة اختلاف الذاتيات والعوارض كذلك يكون من جهة اختلاف الشدة والضعف في نفس الماهية المعبر عنها بالكلي المشكك فيرى العرف السواد الشديد نوعاً مغايراً للسواد الضعيف وإن كانت المغايرة راجعة إلى الكمال والنقص في نفس الماهية أي ما به الامتياز عين ما به الاشتراك فالتعدد عقلي وعرفي واعتراض الجماعة على الشيخ قدس سره غير وارد.

وكيف كان فالاستصحاب جار في هذا القسم اتفاقاً لاتحاد الوجود وان تعددت الحدود بحسب اختلاف الماهية شدة أو ضعفاً الموجب لطروّ حدود متعددة وأنواع متعددة مع حفظ الجهة المشتركة بينها وهو كلي الحمرة أو العدالة مثلاً الذي وجد بوجود هذا الفرد فاذا شككنا في بقاء الكلي المتحقق في ضمن هذا الوجود نستصحبه وان تبدلت الماهية الى ماهية أشد او اضعف. ولا يأتي هنا الاشكال المذكور في القسمين الأولين وهو عدم صدق البقاء لان المفروض هنا أن متعلق الشك واليقين وجود واحد .

وينبغي التنبيه هنا على أمر وهو: أنّ صاحب الكفاية ذكر أنّ الوجوب والاستحباب من هذا القبيل أي أن الاختلاف بينهما بالشدة والضعف إلا أنّ المناط في جريان الاستصحاب وحدة القضيتين عرفاً والعرف يراهما ماهيتين مختلفتين ولذا لا يجري الاستصحاب إذا شك في تبدل الطلب الوجوبي إلى الندبي أو العكس مع احتمال ارتفاع الطلب رأساً .

ويختلف الكلام في دخول هذا المبحث فيما نحن فيه بحسب اختلاف المذاهب في الفرق بين الوجوب والندب فان قلنا بأن حقيقتهما هي الارادة المبرزة والفرق بينهما بالقوة والضعف فالبحث داخل في المقام كما ذكره قدس سره إلا أنّ دعوى تغايرهما عرفاً ممنوعة وان قلنا ــ كما هو الحق ــ بان اعتبار كل منهما مغاير لاعتبار الآخر وأنهما أمران اعتباريان لا ربط لهما بالارادة وأن الوجوب المولوي اما أن يكون حقيقته ربط الشخصية أو الايعاد على الترك كما ذكرناه سابقا وأما الاستحباب فحقيقته هو الوعد بالثواب على الفعل فالمُنشأ متعدد والانشاء متعدد أيضاً ولا ربط لهما بما نحن فيه أصلاً .

 

تنبيهات استصحاب الكلي

 

ولا بد لنا في هذا المقام من التنبيه على أمور:

 

الامر الأول : أن ما ذكرناه من جريان الاستصحاب في القسم الثاني وبعض أقسام القسم الثالث أو جميعها بناءاً على القول به إنما يتم إذا لم يحرز ما هو رافع للكلي كما إذا دل الدليل على ارتفاع الكلي واحرزنا موضوعه ولو بضم الوجدان الى الأصل وذلك لتقدم الدليل النافي للكلي على استصحاب بقائه.

وله امثلة:

(منها) انه إذا تنجس شيء وشككنا في صدق الاناء عليه فيحتاج تطهيره الى التعدد وعدمه فلا يحتاج فاذا غسل مرة أو مرتين يجري فيه استصحاب النجاسة ويمكن أن يكون من قبيل القسم الثاني من استصحاب الكلي لان الشك في محل النجاسة وقد ذكرنا سابقاً أن الترديد لو كان في محل العرض كان داخلاً في القسم الثاني، فاستصحاب النجاسة في نفسه جار في المقام إلا ان الاطلاقات الدالة على زوال النجاسة بالغسل مرة مقيدة بعدم كون المحل من الاناء ويمكن اجراء استصحاب العدم الازلي أو العدم النعتي كما هو الصحيح في كون المحل اناءاً فيتحقق موضوع تلك الادلة المطلقة فيحكم بزوال النجاسة بالغسل مرة .

(ومنها) انه إذا تنجس اناء وشك في أن نجاسته من ولوغ الكلب فيحتاج الى التعفير أو من غيره فلا يحتاج فان استصحاب النجاسة جار بعد الغسل بالماء إلا أن أصالة عدم الولوغ يحقق موضوع الادلة المطلقة فيحكم بزوال النجاسة ولا مجال حينئذ لاستصحابها وهو أيضاً من قبيل القسم الثاني لما ذكرناه من أن تعدد الاسباب يوجب تعدد الهويات الشخصية فيدور الأمر بين فردين طويل وقصير .

وكيف كان فاحراز موضوع الدليل الرافع للكلي في مثل ذلك يمنع من جريان استصحابه وان كان الاحراز بضم الوجدان بالأصل فان الغسل مرة أو بالماء في المثالين وجداني وعدم كون المحل اناءً أو عدم تحقق الولوغ ثابت بالأصل .

 (ومنها) إنه إذا كان الشخص محدثا بالحدث الاصغر ثم خرج منه بلل مشتبه بالمني ثم توضأ فيشك في ارتفاع الحدث وعدمه فاستصحاب الحدث جار في نفسه الا ان الدليل دلّ على أن الوضوء يرفع كل حدث أصغر إلا إذا كان الشخص جنبا وبضم أصالة عدم الجنابة الى تحقق الوضوء وجداناً نحكم بإرتفاع الحدث ولا يبقى مجال لاستصحاب كلي الحدث.

والدليل المذكور هو الآية المباركة (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا..)[16] فإن ظاهر قوله تعالى (إذا قمتم) هو القيام من النوم كما تدل عليه موثقة ابن بكير أيضاً قال‌ (قلت لأبي عبدالله عليه السلام قوله تعالى "إذا قمتم الى الصلاة" ما يعني بذلك؟ قال: إذا قمتم من النوم...) ([17]فالمراد هو الحدث الاصغر ومفاد الآية إن كل محدث بالحدث الاصغر يكفيه الوضوء ثم قيّد ذلك بقوله تعالى (وان كنتم جنباً فاطّهروا) أي إذا قمتم من النوم وكنتم جنباً فاغتسلوا والمراد به طبعاً هو الجنابة بالاحتلام بقرينة ذكر الملامسة بعد ذلك وبموجب قاعدة (التفصيل مانع للشركة) يتركب موضوع الوضوء من القيام من النوم وعدم الجنابة فإذا توضأ من كان محدثاً بالحدث الاصغر ولم يكن جنباً ارتفع حدثه وبضم الوجدان الى الأصل يتحقق الموضوع ولا مجال حينئذ لاستصحاب كلي الحدث سواء قلنا بانه من القسم الثاني أو القسم الثالث وعلى الثاني سواء قلنا إنه من القسم الثاني منه أو الثالث:

توضيح ذلك :

 أن الاحتمالات في الحدث الأكبر والأصغر ثلاثة:

الاحتمال الأول: أن تكون النسبة بينهما نسبة التضاد بحيث إذا اجنب من كان محدثاً  بالحدث الأصغر يرتفع حدثه الأصغر لعدم امكان اجتماعهما إما للتضاد من حيث أنفسهما وإما لتقيد موضوع الحدث الأصغر بعدم طروّ الحدث الأكبر.

الاحتمال الثاني: أن يكونا من قبيل المتخالفين فيمكن اجتماعهما.

الاحتمال الثالث : ان يكون الاختلاف بينهما بالشدة والضعف .

فان قلنا بالأول دخل البحث في القسم الثاني من استصحاب الكلي لأن الشك قبل الوضوء انما هو في أن الحدث الحاصل هل هو من الأصغر او الأكبر لاحتمال كون البلل منياً فيكون الاصغر مرتفعاً فالشك في الفرد الطويل والقصير .

وان قلنا بالثاني دخل في القسم الثاني من القسم الثالث فيجري على مسلك الشيخ فقط لأن الحدث الاصغر باق بعد خروج البلل المشتبه قطعاً فان كان البلل في الواقع منياً فقد حصل الحدث الاكبر أيضاً والا فلا فالشك بعد الوضوء إنما هو في حدوث فرد مقطوع البقاء حين وجود الفرد المقطوع الزوال وهو المناط في القسم الثاني من القسم الثالث .

وان قلنا بالثالث دخل في القسم الثالث من القسم الثالث لان الشك بعد خروج البلل في أن الحدث السابق هل هو باق على حاله أم اشتد فصار حدثا أكبر وبعد الوضوء نشك في بقاء الحدث الشديد أو ارتفاع الحدث رأساً .

ومن هنا يتبين ان تفصيل الشيخ حيث قال بجريان الاستصحاب في القسم الاول من القسم الثالث وبعدمه في القسم الثاني منه لا يخلو من اشكال فان المتسالم عليه بين الفقهاء هو كفاية الوضوء فيما إذا خرج بلل مشتبه بالمني مع ان مقتضى استصحاب الحدث عدم كفايته وانما اختص الاشكال بمسلك الشيخ إذ يمكن لغيره التخلص منه بدعوى ان النسبة بينهما هو التخالف فيدخل في القسم الثاني من القسم الثالث فلا يجري الاستصحاب ولكنه جار على مسلك الشيخ على جميع التقادير .

هذا ولكن المحقق النائيني ذكر ان الاشكال مندفع على جميع التقادير وعلى جميع المسالك لما ذكرناه من احراز رافع الحدث بضم الوجدان الى الأصل وتحقق موضوع الدليل الذي هو الآية الكريمة الدالة بالتفصيل الذي ذكرناه على وجوب الوضوء على كل محدث بالحدث الاصغر لم تتحقق منه الجنابة والأصل عدم الجنابة فيجب الوضوء ومعنى الوجوب هنا هو كفايته في تحقق الطهارة وإرتفاع الحدث المشروط في الصلاة فلا يبقى مجال لاستصحاب الحدث بعد دلالة الدليل على تحقق رافع الحدث إذ لا اشكال في تقدمه على ما يحرز نفس الحدث.

وقد قبل هذا التقرير جماعة من الاعلام منهم المحقق الاصفهاني حيث ذكر هذا المطلب في ضمن مباحث الاستصحاب التعليقي وردّه جماعة من الاعلام أيضاً وذكروا في الجواب عنه وجوهاً:

الوجه الأول : منع تركب موضوع وجوب الوضوء من جزءين أحدهما عدم تحقق الجنابة ومنع دلالة الآية الكريمة على ذلك، بل ظاهر الآية ان موضوع وجوب الوضوء هو القيام من النوم وموضوع وجوب الغسل هو الجنابة فلو كنّا وظاهر الآية كان الواجب على من قام من نومه جنباً الجمع بين الأمرين وليس هذا من قبيل التفصيل القاطع للشركة بل هو من قبيل الشرطيتين مختلفتي الموضوع فاذا قيل: (إن جاءك زيد فاكرمه وان جاءك عمرو فأهنه) لم يكن ربط بين الشرطيتين بل كل منهما مطلق بالنسبة للآخر فيجب اكرام زيد ان جاء سواء جاء عمرو ام لم يجئ وهكذا العكس فالشرط والجزاء متعددان فيهما وكذلك في قوله تعالى (إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا) وقوله (وان كنتم جنباً فاطّهروا).

والجواب عنه ان الآية الكريمة ليس كالمثال المذكور بل هي من قبيل اضافة شرط الى شرط آخر فاذا قيل مثلاً (ان جاءك زيد فاعطه غنماً وان جاءك مع جماعة فاعطه جملاً) فان موضوع الشرطية الثانية هو نفس موضوع الشرطية الاولى إلا انه مع امر زائد، وفي مثل ذلك لا محيص من تقييد الشرطية الاولى بعدم تحقق الشرطية الثانية وإلا كان الجزاء هو الجزاء الثاني لا الأول.

وأما كون الآية المباركة من هذا القبيل فلان المراد من القيام هو القيام من النوم كما هو الظاهر وكما دلت عليه موثقة ابن بكير وبقرينة ذكر الفرد الآخر من الحدث الاصغر بعد ذلك اي قوله تعالى (وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط). والمراد بالجنابة هو خصوص الاحتلام بقرينة ذكر الملامسة أيضاً بعد ذلك فالنتيجة ان القيام من النوم على وجهين تارة يكون الإنسان جنباً فيجب عليه الغسل وتارة لا يكون جنباً فيكفيه الوضوء فموضوع الشرطيتين هو القيام من النوم وإنما اضيف في الشرطية الثانية شرط آخر وهو الجنابة فيدخل هذا في المثال المذكور وتكون الشرطية الاولى مقيدة بعدم تحقق الشرط الزائد في الشرطية الثانية.

وقد يتوهم أن الآية الكريمة ليس كالمثال الذي ذكرناه فان اعطاء الجمل في الشرطية الثانية مقيدة بمجيء زيد الذي هو شرط في الاولى بخلاف وجوب الغسل في الآية فانه مترتب على الجنابة فقط ولا ربط له بالحدث الاصغر.

والجواب عنه ان مورد الآية كما ذكرنا هو خصوص الاحتلام لا مطلق الجنابة فهو مسبوق بالحدث الاصغر لا محالة ولا مانع من اجتماع الحدثين في ايجاب الغسل في خصوص الاحتلام ودليل وجوب الغسل في غير هذا المورد امر آخر.

الوجه الثاني : انا نسلّم تركب موضوع وجوب الوضوء من الأمرين واحراز وجوب الوضوء بضم الوجدان إلى الأصل إلا أن ذلك لا يمنع من جريان استصحاب الكلي والحكم بكونه محدثا فيتعارضان ويتساقطان ويصل الدور إلى الأصل الحكمي وهو عدم جواز مسّ القرآن مثلاً ولا وجه لتقدم اصالة عدم الجنابة على استصحاب الحدث إلا ما يقال في القسم الثاني من استصحاب الكلي من تقدم اصالة عدم الفرد الطويل على استصحاب الكلي وقد مرّ الكلام في هذا الاشكال على جريان القسم الثاني من استصحاب الكلي. والمقام من هذا القبيل إذ الجنابة هو الفرد الطويل من الحدث وقد جعلتم اصالة عدمه محققاً لموضوع الدليل المحرز لرافع الحدث .

والجواب عنه ان الوجه في عدم جريان استصحاب الحدث ليس تقدم اصالة عدم الجنابة عليه حتى يقال إنه لا وجه لذلك وان الجواب عنه هو الجواب عن الإشكال المذكور في القسم الثاني من استصحاب الكلي بل الوجه في ذلك ان مفاد الآية الكريمة ان الوضوء بالنسبة لمن صدر منه الحدث الأصغر ولم يكن جنباً رافع للحدث مطلقاً ومجوز للدخول في الصلاة فاصالة عدم الجنابة تحقق موضوع هذا الدليل والدليل ناظر إلى مقام رافعية الحدث ولا معنى حينئذ لاستصحاب الحدث إذ لا إشكال في تقدم الدليل الدال على ارتفاع الحدث على استصحاب نفس الحدث .

الوجه الثالث : انا نسلم ما ذكر من احراز رافع الحدث ولكن لا مانع من جريان استصحاب كلي الحدث مع ذلك إذ غاية ما يلزم منه اجتماع النقيضين وهو غير ضائر في الاعتباريات كما صحّ استصحاب الكلي في القسم الثاني مع عدم جريان اصالة بقاء الفرد الطويل ومرجع ذلك الى الحكم ببقاء الفرد الطويل إذ الكلي لا يبقى إلا في ضمنه وبعدم بقائه لعدم القطع بحدوثه. ولا يمكن ذلك إلا بالقول بعدم المانع في اجتماع النقيضين في الاُمور الاعتبارية .

والجواب ان اجتماع النقيضين ممتنع دائماً وفي جميع الاُمور وما ذكر من اجتماعهما في استصحاب القسم الثاني غير صحيح فان استصحاب الكلي هناك لا يثبت بقاء الفرد الطويل حتى يناقضه استصحاب عدمه الا على القول بالأصل المثبت. وكيف يعقل جواز اجتماع النقيضين في الاُمور الاعتبارية فيحكم مثلاً بالوجوب وعدمه والنجاسة وعدمها فإن ذلك يوجب التحير في مقام العمل.

وأما في ما نحن فيه فلو سلمنا جريان استصحاب الحدث لم يكن موجباً لاجتماع النقيضين أيضاً إذ لا يثبت الجنابة إلا بناءً على جريان الاصل المثبت وعدم جريانه ليس من جهة التناقض بل لما ذكرناه في الجواب عن الوجه الثاني .

الوجه الرابع : ما ذكره المحقق العراقي من ان هذا إنّما يتم لو لم نقل بالتضاد بين الحدثين وأما لو قلنا بالتضاد بينهما فلا يتم ذلك ولا يكفي هذا التقرير في جواز الدخول في الصلاة إلا بناءً على عدم اشتراط الصلاة بالطهارة وعدم مانعية الحدث وان الشرط في الصلاة هو نفس الغسلتين والمسحتين وهذا خلاف قوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم (لا صلاة إلا بطهور).

توضيح ذلك انا لو قلنا بأن النسبة بينهما هي التخالف أو الشدّة والضعف جاز دخول الصلاة بهذا الوضوء فان الحدث الاصغر أو درجة ضعيفة من كلي الحدث مرتفع بالوضوء والحدث الأكبر أو الدرجة القوية من الحدث مدفوع بالأصل. وأما لو قلنا بأن النسبة بينهما هي التضاد فبعد خروج البلل المشتبه يحصل علم اجمالي بحدوث أحد الحدثين ولا يمكن القول بالعلم بحصول أحدهما والشك في الآخر إذ ذلك متوقف على التخالف ولا القول بالعلم بحصول مرتبة ضعيفة والشك في المرتبة القوية فإنه متوقف على الرأي الآخر. وبعد الوضوء لا يعلم بارتفاع شيء من الحدث إذ لو كان الحاصل بعد خروج البلل المشتبه هو الجنابة لا أثر للوضوء أصلاً. فعلى هذا المسلك لا يمكن القول بعد الوضوء بحصول طهارة ما أو ارتفاع شيء من الحدث قطعاً بخلاف المسلكين الآخرين فإن الوضوء حينئذ رافع لاحد الحدثين أو احدى المراتب وموجب لنوع من الطهارة.

وبناءاً على هذا المسلك فإن قلنا بمانعية الحدث فلم يحرز إرتفاعه وان قلنا باشتراط الطهارة فلم يحرز تحققها. نعم ان قلنا بان الغسلتين والمسحتين شرط في صحة الصلاة كان مقتضى الآية المباركة مشروعية هذا الوضوء وكفايته في صحة الصلاة إلا أن ذلك مخالف لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم (لاصلاة إلا بطهور).

والجواب : عنه ان مفاد الآية الكريمة كما يدل عليه ذيلها اي قوله تعالى (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ..) أن الوضوء في هذا الحال رافع للحدث وموجب للطهارة لا خصوص اشتراط الصلاة بالطهارة فحسب فالشك الوجداني في ارتفاع الحدث بعد الوضوء وان كان حاصلاً إلا ان مقتضى ضم الأصل الى الوجدان وتحقق موضوع الآية الكريمة هو حصول الطهارة وارتفاع الحدث كما ذكرنا بلا فرق بين المسالك.

بل يمكن ان يقال: ان شرط الصلاة هو حصول الطهارة وأما مانعية الحدث فلا دليل عليه نعم للحدث آثار خاصة كعدم جواز دخول المسجدين للجنب مثلاً وبين الحدث والطهارة تقابل التضاد ويدل على اشتراط الطهارة ذيل الآية المباركة (ولكن يريد ليطهركم) وكذا مسّ كتابة القرآن فإن الظاهر أن الطهارة شرط في جوازه بدليل قوله تعالى (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ).[18] وحينئذ فإن لم يكن للوضوء أثر في حصول الطهارة فلا أثر له في جواز دخول الصلاة والمفروض الشك في حصول الطهارة به والقطع بعدمها قبله فيجري استصحاب عدم الطهارة ولا طريق الى اثبات صحة الصلاة إلاّ ما ذكرنا من دلالة الآية الكريمة على حصول الطهارة بالوضوء حينئذ .

ومن هنا يعلم أن اشكال استصحاب كلي الحدث لتقريب عدم جواز دخول الصلاة لا مورد له اصلاً فإن الحدث ليس مانعاً ولا أثر له وإنّما الطهارة شرط فينبغي أن يكون الإشكال هو استصحاب عدم الطهارة وجوابه حصول الطهارة بالدليل كما ذكرنا.

وكيف كان فالاشكال مندفع سواء قلنا بما نعية الحدث أو شرطية الطهارة إلا أن الاشكال على الاول من جهة استصحاب الكلي وداخل فيما نحن فيه وعلى الثاني فالاشكال من جهة استصحاب عدم الطهارة.

 

الأمر الثاني من تنبيهات استصحاب الكلي : ان استصحاب الكلي مطلقاً متوقف على كون الكلي ذا أثر شرعي واحرازه واضح فيما إذا كان الكلي موضوعاً أو متعلقاً لحكم شرعي في لسان الدليل. إنّما الكلام فيما إذا كان للأفراد آثار متشابهة فهل يمكن كشف أثر واحد للكلي الجامع بينها أم لا؟ فالملكية مثلاً بعنوانها الجامع لها أثر شرعي وهو عدم جواز التصرف إلاّ باذن المالك ولكل من أفراد الملكية أيضاً أثر خاص كالملك المستقر وغير المستقر. وكذلك الزوجية بعنوانها الجامع موضوع لجواز الاستمتاع (إلا على ازواجهم) وللدائم والمنقطع منها أثر خاص .

ولكن قد يكون الأثر الشرعي لاُمور متعددة دون أن يكون الجامع بينها موضوعاً في لسان الدليل فالحكم حينئذ بكون الأثر للجامع مشكل إذ يتوقف ذلك أولاً على كشف الملاك في الأثر المخصوص وثانياً على كون الموضوع هو الجهة الجامعة وكلاهما مشكلان إذ لعل الأثر لكل من الأفراد بخصوصه .

ومن هنا يشكل الأمر في كثير من الموارد إذ الروايات غالباً لا تتعرض الا لبيان الجزئيات وقلّما يكون موضوع الحكم في لسان الدليل أمر كلّي فلا بد من بيان طريق يستكشف به أن الجامع في هذه الموارد هو الموضوع الواقعي وإن لم يكن مأخوذاً في لسان الدليل مع أن الظاهر هو تطابق القضية اللبية واللفظية.

بيان ذلك أن الأدلة الشرعية المتكفلة لبيان الاحكام في الموضوعات الخاصة على قسمين:

القسم الأول : ما يرد في موارد جزئية كما إذا سأل السائل عن نجاسة شيء لاقى امرا خاصا من النجاسات ونحو ذلك مما ورد في بيان صغريات خاصة نقطع بعدم الخصوصية فيها وأن ذكر خصوص المورد إنّما هو من جهة حاجة السائل إليه ونعلم أن الامام عليه السلام يطبق الكبرى الكلية عليه فما أخذ في القضية اللفظية ليس موضوعاً للقضية اللبية ووظيفة الفقيه ترتيب الحكم على الموضوع الكلي مع ملاحظة ما يمكن كونه دخيلاً في الحكم مما ورد في الاستفتاء عن الإمام وطرح ما لا دخل له قطعاً.

القسم الثاني : ما يرد بعنوان التعليم لا الافتاء مما يظهر منه كون الامام في صدد بيان الحكم الكلي. وتعبير الروايات في أمثال ذلك مختلف فقد يكون الموضوع واقعاً هو الجهة الجامعة ومع ذلك لا يذكر في لسان الدليل إلا بعض اصنافه نظراً إلى خصوصيات مقام التعليم وحاجة المخاطب. ففي مثل ذلك إذا ورد في تعبير احدى الروايات ترتب أثر خاص على صنف خاص وورد في دليل آخر ترتب نفس ذلك الأثر على صنف آخر فهل يمكن إلغاء الخصوصيات الصنفية ودعوى كون الجامع بينها هو الموضوع واقعاً ؟

مقتضى أصالة التطابق بين القضيتين اللبية واللفظية هو عدم امكان ذلك وهذا الاصل لا يجري في القسم الأول للقطع هناك بعدم خصوصية في الصغريات الخاصة التي سأل عنها السائل كدم الرعاف في صحيحة زرارة مثلاً .

وقد حاول بعض الأعاظم دفع الاشكال المذكور في المسألة السابقة على هذا الاساس بتقريب أن الحدث الأصغر والأكبر كل منهما موضوع للحكم بعدم جواز دخول الصلاة وعدم مسّ كتابة القرآن ولكن الجهة الجامعة وهو كلي الحدث لم يثبت كونه موضوعاً لذلك فاستصحاب كلي الحدث بعد الوضوء غير جار في نفسه فلا حاجة الى جواب المحقق النائيني فتجوز الصلاة بعد الوضوء لارتفاع الحدث الأصغر قطعاً والأصل عدم تحقق الحدث الأكبر وجواز المسّ وصحة الصلاة مشروطان بفقدان كل من الحدثين لا الحدث الجامع .

ولا يخفى أن ما ذكره غير صحيح بناءً على عدم مانعية الحدث مطلقاً كما هو الصحيح وقد ذكرناه وقلنا إن الشرط هو الطهارة ولكن حصولها بالنسبة للمحدث بالأصغر بالوضوء وبالنسبة للمحدث بالأكبر بالغسل فلابد من احراز الطهارة ولا طريق إليه إلا ما ذكرناه. والكلام إنّما هو في أن الحدث بالمعنى الجامع هل هو أمر انتزاعي وليس موضوعاً للأثر شرعاً أم أنه بعنوانه العام موضوع للأثر شرعاً ؟

لفظ الحدث باطلاقه وارد في الروايات ومعناه اللغوي وان كان مطلق الشيء الحادث إلا أن المراد به فيها هو المعنى الاصطلاحي الخاص اي القذارة التي تختص بجسم الانسان في قبال الخبث الذي لا يختص بجسم والحدث بهذا المعنى قسمه الفقهاء الى أكبر وأصغر وليس لهذا التقسيم في الروايات عين ولا أثر، إلا أن الوارد فيها ترتيب أثر خاص إذا كان السبب لحصول هذه القذارة هو الجنابة مثلاً وأثر خاص آخر إذا كان سببه الحيض مثلاً وأثر خاص آخر إذا كان سببه أحد موجبات الوضوء فالحدث لم يستعمل في معان متعدة بل معناه في الروايات واحد وانما الاختلاف في الاسباب وبذلك المعنى الوحداني قد جعل فيها موضوعاً لأثر وهو نقض الوضوء كما في صحيحة اسحاق بن عبدالله الاشعري عن أبي عبدالله عليه السلام قال: (لا ينقض الوضوء الا حدث والنوم حدث) .([19]) 

وقد ورد في عدة روايات ان خروج المني ناقض للوضوء مع انه موجب للحدث الأكبر في اصطلاحنا فهذه الروايات تدل على ان المراد بقوله عليه السلام (لا ينقض الوضوء إلاّ حدث) يريد به المعنى الجامع حتى ينطبق على النوم ونظائره وعلى خروج المني ايضا.

فتحصل ان الحدث بالمعنى الجامع هو الناقض للوضوء الذي هو موجب للطهارة وهي شرط في صحة الصلاة فالحدث بالمعنى العام موضوع للأثر. وأما التعبير بحدث الجنابة مثلاً وجعله موضوعاً لحكم كعدم جواز دخول المسجد فليس المراد به ان لفظ الحدث أطلق على نفس الجنابة بل الحدث مستعمل في معناه الجامع ولكنه متحصص بحصة خاصة باعتبار خصوصية السبب .

وما ذكرناه في معنى الحدث من انه القذارة الخاصة بجسم الانسان هو الصحيح لا ما ذكر في بعض الرسائل العملية من أن الحدث هو القذارة الحاصلة لنفس الانسان في قبال الخبث الخاص بالجسم. وذلك لان بعض اسباب الغسل التي تعتبر حدثاً أكبر لا يمكن فيها القول بالعروض على النفس كالموت الموجب لغسل الميت إذ لا ريب في عروض هذه القذارة على جسمه فقط بل حتى في سائر الموارد وعروض القذارة على النفس بهذه الاسباب لا دليل عليه أصلاً .

 

الأمر الثالث من تنبيهات استصحاب الكلي : البحث عن جريان أصالة عدم التذكية . والوجه في ذكره هنا ان للفاضل التوني قدس سره كلام معروف يوهم ارتباط هذا الاصل باستصحاب القسم الثالث من الكلي. وحاصل ما ذكره انه لا اشكال في نجاسة الميتة كما هو المشهور خلافاً للصدوق من المتقدمين ولصاحب المدارك من المتأخرين والمشهور أيضاً الحكم بنجاسة الحيوان إذا شك في كونه ميتة لاصالة عدم التذكية كالجلد المطروح الذي لا يحمل امارات التذكية. واستشكل في ذلك الفاضل التوني بأن هذا من قبيل استصحاب عنوان الضاحك لاثبات وجود عمرو في الدار بعد العلم بتحققه في ضمن زيد وارتفاعه والشك في تحققه في ضمن عمرو. ولا اشكال في عدم جريان الاستصحاب في المشبه به فكذا المشبه.

وظاهر كلامه ان وجه عدم جريانه في المشبه به أمران :

 الأول : ان الضاحك في ضمن زيد غيره في ضمن عمرو ولذا لم يجر القسمان الاولان من القسم الثالث من استصحاب الكلي . الثاني : ان استصحاب الكلي لا يثبت الحصة الخاصة فلا يثبت استصحاب الضاحك وجود عمرو في الدار .

واما في المشبه فظاهر كلامه ان اصالة عدم التذكية لها ملزومان: أحدهما حال الحياة والآخر حال الموت حتف الانف، فاذا اجرينا استصحاب عدم التذكية حال الحياة لاثبات عدم التذكية حال الموت وهو الموت حتف الاتف كان مورداً للاشكالين المزبورين.

وما ذكره من التشبيه غير صحيح فان الكلي المتحقق في ضمن زيد غير الكلي المتحقق في ضمن عمرو كما مرّ تفصيله ولكن عدم التذكية لا يتعدد بتعدد ملزومه إذ ليس ذلك من قبيل الكلي المتحقق في ضمن كل منهما بل هو أمر عدمي لازم لكل منهما وهو أمر بسيط . نعم التشبيه صحيح من جهة واحدة وهو عدم امكان اثبات الملزوم به كما لا يمكن اثبات الفرد باستصحاب الكلي فاثبات الموت حتف الانف باستصحاب عدم التذكية غير صحيح ولكن الاشكال الآخر الوارد هناك غير وارد في المقام. مضافاً الى انه لا حاجة الى اثبات الموت حتف الانف فان بعضهم ذهبوا الى ان عدم التذكية جزء الموضوع للنجاسة والجزء الآخر محرز بالوجدان وهو كونه حيواناً زهق روحه.

ومن هنا يعلم انه لا سبيل الى تصحيح ما ذهب اليه الفاضل التوني فلاوجه لمحاولة السيد الخوئي دام ظله تطبيق مسلكه على مسلكه كما سيأتي.

وكيف كان فالكلام انما هو في ان الجلد المطروح واشباهه هل يحكم عليها بالنجاسة بموجب اصالة عدم التذكية أم لا ؟ وكذلك ما أخذ من يد الكافر فان الصحيح ان يده ليست امارة على عدم التذكية وانما يد المسلم امارة للتذكية.

المشهور هو الحكم بالنجاسة وخالف في ذلك جماعة. ومرجع النزاع الى ان موضوع النجاسة هل هو عنوان الميتة بالمعنى الوسيع على ما سيأتي توضيحه ان شاء الله أم الموضوع لها امران: الميتة بالمعنى الاخص وهو الحيوان الميت حتف انفه، والحيوان الذي زهق روحه ولم يذكّ.

وذهب المحقق الهمداني قدس سره إلى ان الموضوع ليس هو الميتة بل هو الحيوان الذي زهق روحه ولم يذك ولعله يظهر من كلام المحقق الخراساني أيضاً .

ودليلهما على ذلك امران :

الأول الاجماع على نجاسة الحيوان الذي لم يذكّ وان لم يمت حتف انفه ولم تصدق عليه الميتة وقد ذكر ذلك في الجملة المحقق الخراساني في تنبيهات البراءة.

الثاني : رواية قاسم الصيقل وقد تمسك بها لاثبات ذلك المحقق الهمداني.

وعلى هذا فلا حاجة الى اثبات عنوان الميتة حتى يلزم اشكال كون الاستصحاب أصلاً مثبتاً أو غير ذلك. هذا هو المسلك الأول .

وهذا المسلك غير صحيح، اما الاجماع المذكور فهو وان كان غير بعيد إلا أن المذكور في كلمات فقهاء العامة والخاصة هو عنوان الميتة ولم يتعرض أحد منهم لعنوان (الحيوان الذي لم يذكّ) وكذلك في تعابير الروايات. هذا مضافاً الى ان الاجماع حجة صامتة فلا يعلم ان الموضوع على تقدير كونه هو الحيوان غير المذكىّ هل هو بعنوان السالبة المحصلة حتى يمكن استصحابه أو بنحو العدم النعتي والموجبة المعدولة المحمول اي الحيوان الذي زهق روحه الموصوف بكونه لم يذكّ فلا يمكن اثباته باستصحاب عدم التذكية لما ذكرناه في مبحث الأصل المثبت من عدم امكان اثبات الموجبة المعدولة المحمول باجراء الاستصحاب في السالبة المحصلة. والحاصل أن الاجماع ليس له لسان يذكر حدود الموضوع .

وأما رواية قاسم الصيقل فهي في الكافي عن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن محمد بن عبدالله الواسطي عن قاسم الصيقل قال: كتبت الى الرضا عليه السلام (اني اعمل اغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فاصلّي فيها؟ فكتب اليّ: اتخذ ثوباً لصلاتك) فكتبت الى أبي جعفر الثاني عليه السلام (كنت كتبت الى أبيك عليه السلام بكذا وكذا فصعب عليّ ذلك فصرت اعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية فكتب اليّ: كلّ اعمال البرّ بالصبر يرحمك الله فان كان ما تعمل وحشياً ذكياً فلا بأس به)[20] ورواه الشيخ باسناده عن الحسين بن محمد.

وسندها ضعيف فان بعض رواتها مجهول الحال مضافاً الى عدم دلالتها على المقصود فان مورد الاستدلال هو الجملة الاخيرة (ان كان ما تعمل وحشياً ذكياً فلا بأس ) بدعوى دلالتها بالمفهوم على وجود البأس ان لم يكن ذكياً فالموضوع هو عنوان غير المذكى كذا ذكره المحقق الهمداني في حاشيته على الرسائل.

ويرده أن هذه الشرطية ليس لها مفهوم فان الشرط هنا مسوق لبيان تحقق الموضوع فالمراد ان هذا الذي ذكرته في كتابك وهو جلد الحمر الوحشية الذكية لا بأس به. والقضايا الشرطية قد تكون ثنائية وهي التي تشتمل على شرط وجزاء كما نحن فيه وفي مثل ذلك يكون الشرط مبيناً للموضوع وليس لها مفهوم وقد تكون ثلاثية وهي التي تشتمل على موضوع وشرط وجزاء كقولك زيد ان جاءك فاكرمه ولهذه الجملة مفهوم. وتفصيله في محله. والحاصل أن الجملة الشرطية في هذه الرواية لا مفهوم لها. ويشهد لذلك ذكر الوحشية أيضاً في الشرط مع انه لا دخل لذلك قطعاً فالمراد هو بيان حكم الموضوع المذكور في كتاب السائل.

المسلك الثاني: ان استصحاب عدم التذكية يثبت عنوان الميتة وهو موضوع الحكم والبحث في امكان اثبات ذلك وعدمه مفصّل. واجماله ان الميتة قد تطلق ويراد بها الميتة بالمعنى الاخص وهو ما مات حتف انفه، وقد تطلق ويراد بها المعنى الاعم وهو ما يشمل ذلك وكل حيوان زهق روحه ولم يذك تذكية صحيحة في الشرع أو القانون لكل مذهب وملة بحسب رأيه. ومورد الكلام هو الميتة بالمعنى الاعم والاحتمالات في حقيقة هذا العنوان ثلاثة:

الاحتمال الأول: انه موضوع مركب من جزءين: ازهاق الروح وعدم التذكية. وهذا الاحتمال هو اساس تفكير المتأخرين الا أن بعضهم ذهب الى امكان احراز جزء منه بالوجدان وجزء بالاصل وبعضهم انكر ذلك.

الاحتمال الثاني: انه عنوان بسيط منتزع من الأمرين وأنّ تقابله مع المذكى تقابل العدم والملكة. وهذا المعنى منقول من المحقق الخراساني في حاشيته على الرسائل .

الاحتمال الثالث: انه عنوان بسيط ولكنه امر اعتباري جعلي. وذلك لان الميتة ابتداءً جعل اسماً لمامات حتف انفه ثم بالتطور الذي يقضي باستعمال اللغات المجعولة للامور التكوينية في الاُمور الاعتبارية الجعلية ووضعها لها جعل كلمة الميتة للميتة القانونية بعد كونه في أصل الوضع موضوعاً للميتة التكوينية أي ما مات حتف أنفه نظير ما ذكرناه في مباحث الاحكام الوضعية ان النجاسة اسم للقذارة التكوينية ثم بالتطور جعل اسماً للقذارة القانونية وهو العنوان الذي يحتوي على احكام تكليفية خاصة بنحو اللفّ. وعلى هذا فالمستعمل فيه اللفظ هو نفس المعنى اللغوي إلا أن المراد به الفرد الاعتباري لا التكويني.

ثم ان ظاهر كلمات اللغويين هو الاحتمال الأول وهو المذكور في كلمات الاصحاب ولم يتعرض أحد منهم للاحتمالين الآخرين، إلا ان بعضهم ــ ومنهم الشيخ ــ ذهبوا إلى امكان احراز جزء منه بالوجدان وجزء بالأصل. ولا بد من ان يكون ذلك نظراً الى ان عدم التذكية المأخوذ في العنوان يراد به العدم بنحو السالبة المحصلة ليمكن اجراء الاصل فيه. وفي قبال ذلك القول بالتركب من جزءين لا يمكن اجراء الاصل في أحدهما كما إذا قلنا بان الجزءين وجوديان وهما ازهاق الروح وكون ذلك بسبب غير شرعي. وكذلك إذا قلنا بأن الجزء العدمي عدم نعتي فالميتة هو الحيوان الذي زهق روحه الموصوف بكونه لم يذك. واختار السيد الخوئي ايده الله القول الثاني اي التركب من جزءين لا يمكن اثبات أحدهما بالاصل واستدل على ذلك بما في مجمع البحرين من ان الموت هو زهاق النفس المستند الى سبب غير شرعي ([21]) واستدل في بعض مباحثه بما في المصباح المنير على ما نقل عنه في تاج العروس ج1 ص 587 من ان المراد بالميتة في عرف الشرع ما مات حتف انفه أو قتل على هيئة غير مشروعة. وعلى ذلك فالميتة مركبة من امرين وجوديين فلا يمكن اثبات أحدهما بالاصل ولا أقلّ من احتمال ذلك فيكفي في عدم جريان الاصل وعلى هذا افتى بطهارة ما يؤخذ من الجلود وليس عليها امارة التذكية .

واما الشيخ وجماعة فقد استظهروا كون الجزء الآخر امراً عدمياً لما في الصحاح من ان الميتة ما لم يلحقه الذكاة وكذا في القاموس وتاج العروس .

وكيف كان فما سلكه القوم جميعاً من تركب عنوان الميتة غير صحيح اساساً بل هو امر بسيط وعنوان وحداني فإن اللفظ لا يدل على أكثر من ذلك والتحليل العقلي لا يوجب تركب المعنى اللغوي. وما ذكره بعض أهل العلم من ان وحدة العنوان يثبت ان كان بنحو النعت لاوجه له إذ لا فرق في ذلك بين كونه عدماً نعتياً أو سلباً محصلاً أو غير ذلك. ومن الواضح ان كلمة الميتة لا تدل على ما ذكر من القيود لغة وانما هو عنوان بسيط. واما كلمات اللغويين فهي مشيرة الى التحول الذي طرأ على هذه الكلمة حيث كانت موضوعة أصلاً لما مات حتف انفه ثم استعمل في كلمات الفقهاء في معنىً جامع . ثم ان المصباح ليس كتاب لغة اصلاً بل هو كتاب لغة الفقه فقط وضعه مؤلفه لشرح كلمات شرح الرافعي لكتاب الغزالي وهو كتاب فقه فالتمسك به تمسك بكتاب فقه عامي ولذا نسب تفسير هذه الكلمة الى عرف الشرع. وقال في تاج العروس (قال شيخنا وقوله (في عرف الشرع) يشير إلى انه ليس لغة محضة ونسبه النووي الى الفقهاء). وكذلك نهاية ابن الأثير فانه كتاب يشرح لغات أحاديث العامة وقد ذكرنا في مبحث حجية قول اللغوي ان اللغويين تأثروا من مذاهبهم الفقهية في تفسير الكلمات اللغوية ومن هنا اختلفت تفاسيرهم في ما يرجع الى الفقه كالغنيمة فان بعضهم ذكر ان معناها لغة هو الفوز بالمال بلا عوض ومع ذلك فقد خصوا معناه بما يحصل في الحرب تبعاً لمذهبهم الفقهي. وكذلك في الكعب والعورة، بل نجد الاختلاف بين الكوفيين والبصريين في تفسير اللغات راجعاً الى اختلاف مذهبهم الفقهي فنرى الكوفيين في آرائهم اللغوية بل النحوية أيضاً متأثرين بالفقه الشيعي بخلاف البصريين ولهذه المطالب شواهد نذكرها في محله ان شاء الله تعالى.

وعليه فلا اعتماد على قول المصباح ونظائره في المقام في فهم المعني اللغوي خصوصاً بملاحظة تصريحهم ان ذلك معناه عند الشارع مضافاً إلى عدم تنبه هؤلاء إلى الفرق بين أخذ القيد عدمياً أو وجودياً والعدم نعتياً أو سلباً محصّلاً فلا يدل تعابيرهم على معنىً واقعي بل هو شرح للّفظ من دون ملاحظة هذه الخصوصيات الدقيقة.

فتحصل ان القول بالتركب باطل اساساً ولا مجال للبحث عن كون احد الجزءين وجودياً أو عدمياً والعدمي نعتياً أو غير ذلك من الاقسام الذي ذكروه مما لا محصّل له. ولو سلّم القول بالتركب لم يمكن احراز عنوان الميتة بالاستصحاب لعدم احراز أحد هذه الوجوه المذكورة وعدم الدليل على صحة شيء من أقوال اللغويين في المقام كما عرفت.

وأما بناء على الاحتمال الثاني أي كون عنوان الميتة أمراً بسيطاً وتقابله مع المذكى من قبيل تقابل العدم والملكة فقد ذكرنا في مبحث الأصل المثبت ان ما كان من هذا القبيل كالعمى المنتزع من عدم البصر والقابلية لا يمكن احراز جزء منه بالوجدان وجزء بالأصل لما ذكرناه هناك من ان مصحح الانتزاع ومنشأه ان كان أحدهما محرزاً بالوجدان لا يمكن اثبات الأمر الانتزاعي باجراء الأصل في الآخر إلاّ بدعوى خفاء الواسطة وقد ذكرنا ضعفها. وكيف كان فهذا الاحتمال اقرب إلى الواقع مما ذكره الاعلام من التركب. وعلى هذا الاحتمال أيضاً لا يمكن احراز عنوان الميتة باستصحاب عدم التذكية خلافاً للمحقق الخراساني.

وأمّا الاحتمال الثالث : فهو الذي  ذ‌كرنا في مبحث الاحكام الوضعية وهو أن الميتة ومرادفاتها في سائر اللغات كلفظة (مردار) في الفارسية موضوعة في أصل اللغة لما مات حتف انفه وبما ان ذلك يعتبر في التمدن البشري قذراً من جهة طيب الأكل وسائر الاستعمالات المرتبطة به كصنع آنية الاكل او الشرب من جلده اشتملت كلمة الميتة على أحكام وآثار خاصة عند العقلاء وبهذا الاعتبار اطلقت كلمة الميتة على كل حيوان لم يذبح بالطريقة المعتبرة قانوناً أو عرفاً أو شرعاً لاشتماله على نفس الأحكام والآثار وكان هذا الاطلاق ابتداءً بنحو الاعتبار الأدبي، ثم بالتطور صار اعتباراً قانونياً وصارت كلمة الميتة عنواناً اعتبارياً جعلياً كل حسب مذهبه واللفظة مستعملة في نفس المعنى اللغوي إلا ان المراد به فرد اعتباري ويختلف هذا الاطلاق بحسب اختلاف الاعتبارات والمذاهب والنظم فترى الحيوان المذكى عند المسلمين ميتة عند اليهود وبالعكس وعلى هذا فالتقابل بين الميتة والمذكى تقابل التضاد.

إذن فعنوان الميتة كالصلاة والصوم وغيرهما من الماهيات الاعتبارية إلا انا ذكرنا في مبحث الاحكام الوضعية ان الماهيات الاعتبارية إذا كانت تحمل على عين من الاعيان أو فعل من الافعال بهو هو يطلق عليها الماهيات الجعلية وإلا فيطلق عليها الاحكام الوضعية .

وقد ذكرنا تفصيل كيفية تطور اللغات من الاعتبارات الادبية الى الاعتبارات القانونية في مبحث الاحكام الوضعية فلا نعيد.

وبناءً على هذا الاحتمال فالميتة عنوان وجودي اعتباري وهو ما يشتمل بنحو اللف والاندماج على الأحكام التكليفية الخاصة، كما أن المذكى أيضاً عنوان وجودي اعتباري كذلك. والذكاة في أصل اللغة عبارة عن التمام والكمال من ذكى الغلام أي تمّت فطنته. وذكى النار أي تمت جذوته. وبهذا الاعتبار أطلق على الذبح الذي هو إنهاء لحياة الحيوان. وحيث كان الانهاء لحياة الحيوان اول مرحلة لإعداده للاكل تضمّن لفظ التذكية على معنى الطيب أي طيب الأكل ثم بالتطور صارت التذكية ماهية اعتبارية تطلق على ما يوجب الأحكام التكليفية الخاصة حتى ظن بعضهم كالمحقق الهمداني ان الذكاة في اللغة بمعنى النظافة والنزاهة مستدلاً على ذلك بما ورد في الحديث من أن ذكاة الجلد دباغته اوذكاة الجنين ذكاة أمه اوكل يابس ذكي واشباهها. وقد ذكرنا في محله ان الاستدلال بهذه التعابير غير صحيح فان بعضها بالزاء كما ورد (زكاة الارض يبسها) وبعضها بنحو من العناية نحو (ذكاة الجلد دباغته) و(ذكاة الجراد أخذه) و(ذكاة السمك اخراجه من الماء حياً).

والصحيح ــ كما مرّ ــ ان التذكية بالمعنى المتطور هي الماهية الاعتبارية المندمج فيها حكم حلية الأكل وجواز الاستعمال والميتة بالمعنى المتطور هي الماهية الاعتبارية المندمج فيها حكم حرمة الأكل وعدم جواز الاستعمال ونحو ذلك فهما متضادان.

ولكن المهم هو ملاحظة تاريخ التطور والوصول الى هذه المرحلة من المعنى وأنه هل كان في زمن الفقهاء أو الائمة الطاهرين عليهم السلام أو النبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلّم فمثلاً نلاحظ أن تطور كلمة الصلاة الى هذه الماهية الاعتبارية المخصوصة كان قبل الإسلام كما يشهد بذلك بعض أشعار الجاهلية. ولكن بعض هذه الماهيات يرجع تاريخ تطورها الى زمن الفقهاء كما ذكر بعض اللغويين في كلمة الميتة انه في عرف الفقهاء كذلك، فان كان كذلك فلا ثمرة تترتب على هذا التطور من حيث كشف الحكم الشرعي من تعابير الروايات.

إذن فالمهم في المقام ملاحظة استعمال هذه الكلمة في الروايات والمعنى المراد بها. والوارد في بعض الروايات والآيات الكريمة يراد به نفس المعنى الاصلي وهو الميتة بالمعنى الاخص ولو باعتبار القرائن كقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ..)[22] فإن مقابلة الميتة لما اهل به لغير الله والمنخنقة وغير ذلك تدل على ان المراد بها الميتة بالمعنى الأخص أي مامات حتف أنفه. ويبقى الترديد في أن ذلك من جهة عدم التطور في لفظة الميتة حتى ذلك الزمان أو من جهة القرائن. وكذلك الروايات الواردة في تعليل حرمة اكل الميتة باندماج الدم فيها فإن ذلك مختص بالموت حتف أنفه وأمثال ذلك كثيرة. ولكن كثيراً ما استعمل هذه الكلمة في الروايات في المعنى المتطور وهي عدة روايات نذكر منها بعض الشواهد.

منها: موثقة سماعة قال (سألته عن جلود السباع ينتفع بها ؟ قال: إذا رميت وسميت فانتفع بجلده وأما الميتة فلا).[23] فإن المراد بها بقرينة المقابلة لما سمّي عليها هو الميتة بالمعنى الأعمّ.

ومنها: رواية أبي بصير عن أبي عبدالله  عليه السلام (أنّه قال في إليات الضأن تقطع وهي أحياء: إنّها ميتة).[24] فإن الاجزاء المبانة من الحي ليست ميتة بالمعنى الأخص.

ومنها: الروايات الدالة على أن ما أخذته الحبالة فقطعت منه يداً أو رجلاً فهو ميت وهي عدة روايات. [25]

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: (سألته عن آنية أهل الكتاب فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيه الميتة والدم ولحم الخنزير) [26] فإن اليهود والنصارى لا يأكلون الميتة بالمعنى الأخص فلابد ان يراد به غير المذكى.

ومن هنا يعلم ان الميتة بالمعنى الاعم موضوع النجاسة وان هذا التحول والتطور طرأ قبل زمان الصادقين عليهما السلام. [27] وكيف كان فالميتة ماهية اعتبارية ومثلها ماهية النجاسة بل هي أوضح منها فان النجاسة في كثير من الروايات لم يعبر بها صريحاً وانما عبّر بكلمة اغسله ونحو ذلك وهذه الكلمات مشيرة إلى عنوان النجاسة وكذلك ما يرد في الآيات والروايات من النهي عما لم يذكر اسم الله عليه واشباهه فإن كل ذلك اشارة الى تحقق عنوان الميتة، كما أن الأمر بالتوضؤ لمن بال مثلاً اشارة الى تحقق عنوان المحدث. والسرّ في جميع ذلك هو ما ذكرناه في مبحث الأحكام الوضعية من توسط الأحكام التكليفية في تحقق الماهيات الاعتبارية. ويختلف تطبيق هذا العنوان على الخارج باختلاف المذاهب كما مرّ وذلك لما ذكرناه مراراً من أن انطباق الماهيات الاعتبارية على مصاديقها ليس كانطباق الماهيات التكوينية فإن انطباق التكوينيات قهري طبيعي وانطباق الاعتباريات يحتاج الى متمم الجعل التطبيقي وهو القانون الخاص في كل مجتمع بحسبه فترى الشيء النظيف عند اليهود نجساً عندنا وبالعكس وكذلك الميتة.

ويختلف هذا المسلك عن المسلك الأول والثاني في أن الميتة على الاول ماهية مركبة من أمرين تجمعها وحدة اعتبارية وعلى الثاني أمر منتزع من الأمرين كما ذكرنا بخلاف هذا المسلك فان الميتة بناءاً عليه ماهية اعتبارية وهناك فرق واضح بين الوحدة الاعتبارية والماهية الاعتبارية.

وقد بينا ان أصحاب المسلك الأول اختلفوا في امكان اثبات عنوان الميتة باستصحاب عدم التذكية وعدمه. فذهب بعضهم الى أنه يحتمل الأمرين إذ يمكن تصويره بنحو لا يمكن  احرازه بالأصل كما إذا قلنا بإنه عبارة عما ذبح على غير الطريقة الشرعية فإنه عنوان وجودي لا يمكن احرازه بالأصل ويمكن تصويره بنحو يمكن احرازه بالأصل كما إذا قلنا بأنه عبارة عما زهق روحه ولم يطرأ عليه فري الادراج أو النحر بالطريقة الخاصة فتكون سالبة محصلة بل حتى لو كانت بنحو العدم النعتي كالحيوان الموصوف بعدم كونه مقطوع الاوداج على النحو الخاص مثلاً فإن هذا النعت له حالة سابقة وهي في حال حياته فيستصحب هذا العنوان العدمي بعد زهاق روحه. والحاصل أن كلا من النحوين ممكن ولا نعلم ان الميتة وضعت لاي من نحوي التركيب وكلمات اللغويين مختلفة وفيها ما يلائم هذا القول أي احتمال المركب للأمرين وهو ما نقلناه عن الصحاح وغيره من أنه ما لم يلحقه ذكاة.

وذهب السيد الخوئي ‹ايده الله› الى ترجيح ما في المصباح ومجمع البحرين ولعلّه لم يلاحظ الأقوال المعارضة لهما وقال بعدم امكان احراز هذا العنوان بالأصل حتى لو لم نقل بالترجيح لأن الترديد كاف في ذلك وقد مر جوابه.

وذهب بعض أهل العلم الى أن وحدة العنوان تقتضي كونه بنحو العدم النعتي لما زهق روحه وهذا كلام لا اساس له اصلاً وكيف تقتضي وحدة العنوان أن يكون بعض الموضوع نعتاً لبعض آخر ثم على هذه الكيفية الخاصة من النعتية؟! مضافاً الى أن النعوت تنحل بحسب ارتكاز العقلاء الى الذات الموصوف بكذا كالعالم مثلاً اي الانسان المتصف بالعلم فيمكن اثباته جزءً بالوجدان وجزءً بالأصل.

وأمّا المحقق الخراساني فذهب الى امكان اثبات جزء بالأصل وجزء بالوجدان نظراً إلى ان مسلكه في حقيقة عنوان الميتة هو الاحتمال الثاني كما عرفت وهو يقول بجريان الاصل في موارد العدم والملكة. وقد مرّ الاشكال فيه ومرّ تفصيل الكلام في مبحث الاصل المثبت.

والصحيح هو ما ذكرناه من المسلك الثالث. وعليه فلو شك في كون حيوان ميتة هل يمكن اجراء الأصل في ذلك والحكم بطهارته أم لا ؟

الظاهر أنه لا محذور في إجراء أصالة عدم كونه ميتةً لان الحيوان لم يكن ميتة سابقاً والآن نشك فيه فيجري الاستصحاب. ولا يعارضه استصحاب عدم كونه مذكى لعدم جريانه في نفسه في المقام عندنا فإن الذي يترتب على التذكية هو الحلية فقط وأما الطهارة فالمفروض ان الحيوان كان طاهراً حال حياته فلا تؤثر التذكية في طهارته وإنما تؤثر في إباحة أكله.

وقد اوضحنا في مبحث البراءة ان اصالة عدم الاباحة أو أصالة عدم تحقق موضوع الاباحة لا يجريان أصلاً وان اجراءهما لغو. وقد ذكر الاصحاب أجوبة عن اشكال معارضة أصالة عدم الحرمة باصالة عدم الاباحة فيما اذا علم بان الشيء اما مباح واما حرام. وذكرنا هناك ان أصالة عدم الاباحة لا تجري في نفسها. وكذلك لا يجري الاصل في موضوع الاباحة كاصالة عدم التذكية.

والسرّ في ذلك ان أصالة عدم الاباحة لو اُريد من اجرائها اثبات الحرمة فهو يبتني على حجية الاصل المثبت فانه من قبيل اثبات أحد الضدين باستصحاب عدم الآخر ولو لم يقصد به ذلك فلا اثر يترتب على عدم جعل الاباحة للشيء إذ لا يؤثر اثراً في نفس المكلف وارادته، إذن فاصالة عدم التذكية لا تجري في نفسها فلا معارض لاصالة عدم كونه ميتة إلا اننا ذكرنا ان انطباق العناوين الاعتبارية يحتاج الى متمم الجعل التطبيقي وان انطباقها يخضع للقانون والملاحظ من الادلة الشرعية تطبيق هذا العنوان على الحيوان الذي زهق روحه ولم يذكّ وهذا التطبيق يعين موضوع الميتة فان الميتة عنوان اعتباري وتطبيقه حكم شرعي كتطبيق النجاسة وان كان هو بدوره موضوعاً للاحكام التكليفية الخاصة .

إذن فاصالة عدم الميتة أصل حكمي وهو لا يجري لو كان موضوعه مجرىً لاصل آخر وموضوعه بحسب هذه الادلة التطبيقية هو الحيوان الذي زهق روحه ولم يذكّ اي لم يذبح أو ينحر على الطريقة الخاصة والاصل الموضوعي يختلف بحسب اختلاف الموارد فاذا كان الحيوان قد زهق روحه وكان مما يجب ان ينحر وشككنا في انه قد نحر أو ذبح فالأصل عدم كونه منحوراً وهذا الاصل يتقدم على أصالة عدم كونه ميتة لأنه أصل سببي وكذا إذا كان الشك في ذبحه وهو مما يجب ان يذبح وغير ذلك مما يكون الاصل فيه موجباً لاثبات كونه ميتةً. ولكن قد يكون الشك بنحو يثبت الأصل كونه غير ميتة كما إذا شك في ارتداد الذابح والمفروض اشتراط الاسلام فيه فنحكم ببقاء اسلامه وصحة ذبحه. وكذا لو شك في أصل كونه مسلماً مع عدم اشتراط الاسلام والقول بكون المانع هو الكفر فإن استصحاب عدم كفره يثبت صحة ذبحه، ولا يعارضه استصحاب عدم الاسلام حال الصغر لما ذكرناه في مبحث الاصل المثبت من ان استصحاب مصحح الانتزاع إلى زمان حصول منشأ الانتزاع أو العكس لا يثبت الأمر الانتزاعي ومن هنا لا يمكن اثبات اعدام الملكات باستصحاب العدم الى زمان القابلية كما نحن فيه. وكذا إذا كان الحيوان وحشياً سابقاً ثم شككنا في أنه حال الصيد والرمي كان وحشياً أم انقلب اهلياً فاستصحاب بقاء وحشيته يوجب الحكم بصحة تذكيته ونفي عنوان الميتة وكذا اذا كان الشك في بقائه مستقبل القبلة حال فري الاوداج.. الى غير ذلك من الامثلة.

هذا كله مقتضى الأصل واما مقتضى الروايات الواردة في المقام فبحثه موكول الى محله في كتاب الطهارة.

هذا تمام الكلام في تنبيهات استصحاب الكلي.

 

القسم الرابع

 

هناك قسم رابع لاستصحاب الكلي اضافه السيد الخوئي ‹ايّده الله › بدعوى ان الاصحاب غفلوا عن هذا القسم، وهو انا لو علمنا بتحقق الكلي في ضمن فرد من الافراد قطعاً وعلمنا بتحقق كلي آخر أيضاً وشككنا في أنه تحقق في ضمن ذلك الفرد الأول أو في ضمن فرد آخر مع العلم بانتفاء الكلي الأول وأن الكلي الثاني لو كان متحققاً في ضمن الفرد الأول فهو معلوم الزوال وان كان في ضمن فرد آخر فهو اما مقطوع البقاء أو محتمله.

مثال ذ لك : انا نعلم بوجود قرشي في الدار وان ذلك القرشي خرج من الدار قطعاً ونعلم أيضاً بان العالم كان موجوداً في الدار أيضاً ولكنا نشك في انه كان متحققاً في ضمن ذلك القرشي فيكون معلوم الزوال أو في ضمن فرد آخر فيكون معلوم البقاء أو محتمله فلا مانع من استصحاب بقاء العالم وهذا ليس داخلاً في شيء من الاقسام السابقة وذلك للفرق بينه وبينها .

أما الفرق بينه وبين القسم الأول فواضح فإن الكلي هناك معلوم التحقق في ضمن فرد معلوم والشك في بقائه من جهة الشك في بقاء الفرد ولكنه هنا لم يعلم فرده الذي تحقق في ضمنه .

وأما الفرق بينه وبين القسم الثاني فهو ان الكلي هناك مردد بين الفرد الطويل والقصير وكل من الفردين مشكوك التحقق وهو السبب في الشك في بقاء الكلي ولكن أحد الفردين هنا معلوم التحقق ولكنه معلوم الزوال والشك في بقاء الكلي إنّما هو لاحتمال تحققه في ضمن فرد آخر .

وأما الفرق بينه وبين القسم الثالث فهو ان الكلي هناك مقطوع التحقق في ضمن فرد معلوم الزوال والشك في بقائه من جهة الشك في تحقق فرد آخر منه ولكنه هنا لم يعلم تحققه في ضمن فرد خاص أصلاً .

والمثال الفقهي لهذا القسم أنه إذا اجنب أحد يوم الجمعة مثلاً واغتسل له قطعاً ثم رأى في ثوبه منياً وشك في أن الجنابة الحاصلة من خروج هذا المني هل هو نفس الجنابة السابقة أم هو جنابة حادثة بعد الغسل.

والأصحاب في هذه المسألة يقولون بجريان استصحاب الطهارة المعلومة حال الغسل عن الجنابة الاولى ولم ينتبهوا الى اندراجه في قسم رابع من استصحاب الكلي وأما على هذا المسلك فاستصحاب الطهارة معارض باستصحاب الجنابة حال خروج هذا المني ولم يعلم ارتفاعه للشك في تحققه قبل الغسل فيكون مرتفعاً وبعده فيكون باقياً وبعد التعارض يصل الدور الى قاعدة  الاشتغال.

ولكن الصحيح ان القسم الرابع ليس قسماً مستقلاً وأن المثالين الذين ذكرهما يختلفان فمثال العالم والقرشي داخل في القسم الثاني ومثله كلما كان الترديد في تحقق الكلي بين فردين زمانهما واحد وأما اذا كانا في زمانين كمثال الحدث فان الجنابة مرددة بين تحققها في زمان الجنابة الاُولى أي قبل الغسل أو في زمان آخر فهي جنابة اُخرى حدثت بعد الغسل فالحق انه داخل في القسم الأول إلا أن فيه محتملات اخرى سنذكرها ان شاء الله .

 أما أن مثال العالم والقرشي داخل في القسم الثاني فلان الملاك في القسم الثاني أن يكون الشك في تحقق الكلي في ضمن الفرد الباقي أو الزائل والمقام من هذا القبيل فان الشك انما هو في تحقق العالم في ضمن هذا الفرد القرشي فيكون زائلاً قطعاً أو في ضمن فرد آخر فيكون باقياً. وما ذكر من الفرق ليس فارقاً وهو أنا نعلم بوجود أحد الفردين وهو القرشي فإن هذا لا يجعله قسماً آخر وليس من شرائط القسم الثاني ان يكون الفردان مشكوكي التحقق بل الملاك فيه هو ما ذكرنا وهو موجود في المقام ولذا يجري فيه كل ما جرى هناك من الاشكال والدفع، فكما اُورد هناك بأن الحيوان المتحقق في ضمن البق غيره في ضمن الفيل فلا تتحد القضيتان كذلك يمكن القول هنا بأن العالم المتحقق في ضمن القرشي غير المتحقق في ضمن غيره. والجواب هو الجواب. وكما اُورد هناك بأن بقاء الكلي متوقف على حدوث الفرد الطويل والأصل عدمه كذلك يمكن القول هنا بأن بقاء العالم متوقف على حدوث فرد غير القرشي والأصل عدمه. والجواب هو الجواب.

وأما المثال الثاني فالمحتملات فيه أربعة:

الاحتمال الأول: أن يكون الاستصحاب شخصياً وهذا يظهر من المحقق الهمداني والعلامة الآملي قدس سرهما.

الاحتمال الثاني: أن يكون استصحاباً كلياً من قبيل القسم الأول وهو الصحيح.

الاحتمال الثالث :أن يكون داخلاً في القسم الثاني .

الاحتمال الرابع : وهو ان يكون قسماً مستقلاً كما ذكره السيد الخوئي ‹أيّده الله› .

أما الاحتمال الأول فمنشأه أن تحقق الجنابة الشخصية وهي التي حدثت بخروج هذا المني المشار اليه معلوم الا ان مورد الشك زمان تحققه وانه هل كان قبل الغسل أو بعده وهذا لا يوجب كونه كلياً ذا فردين.

ومنشأ الاحتمال الثاني هو ما ذكرناه سابقاً من ان الأثر ان كان للجهة الشخصية في الوجود كان من استصحاب الشخص وان كان الأثر للجهة الجامعة الموجودة بهذا الوجود كان من استصحاب الكلي، وحيث ان الأثر هنا ليس مترتباً على شخص الجنابة أي الماهية الشخصية بل هو مترتب على طبيعي الجنابة فاستصحاب الجنابة لا يكون إلا كلياً.

وأما انه من القسم الأول فلما ذكرناه سابقاً من ان الهوية الشخصية في القسم الأول متحدة وفي القسم الثاني واستصحاب الفرد المردد متعددة وحيث ان الاختلاف بالزمان لا يوجب تعدد الهوية الشخصية فهذا داخل في القسم الأول. وبهذا البيان يعلم ان البحث ليس داخلاً في استصحاب الفرد المردد لأن الأثر هنا للجهة الجامعة وهناك للفرد ولأن الهوية الشخصية هنا متحدة وهناك متعددة .

ومن هنا ظهر ان منشأ الاحتمال الثالث هو توهم تعدد الهوية الشخصية. وظهر أيضاً وجه المناقشة في الاحتمال الرابع فان الاثر لو كان للفرد فالاستصحاب شخصي اما مردداً ان كانت الهوية متعددة واما غير مردد ان كانت متحدة وان كان الأثر للكلي فلابد من ملاحظة ان منشأ الشك هل هو تعدد الفرد وان أحدهما معلوم البقاء والآخر مقطوع الزوال فيدخل في القسم الثاني ام هو تعدد حالات الفرد الواحد فيكون من القسم الأول وقد عرفت ان الجنابة الشخصية الحاصلة من هذا المني الخاص معلوم التحقق وانما الشك في زمان تحققه وهو منشأ الشك في بقاء الكلي فانه ان كان متحققاً قبل الغسل تبعاً لتحقق سببه وهو خروج المني فهو مقطوع الارتفاع وان كان بعده فهو مقطوع البقاء والاختلاف الزماني لا يوجب تعدد الفرد والمفروض ان السبب واحد شخصي وهو خروج هذا المني الخاص فلا موجب للتعدد. فظهر ان القسم الرابع لا وجه له.

هذا وقد ناقش المحقق الهمداني في استصحاب الحدث في هذه المسألة بانا لا نعلم الا بحدوث الجنابة الاولى والجنابة الثانية محتملة فقط وذلك لاحتمال كون هذا المني سبب الاحتلام السابق والاصل عدم خروج مني آخر. نعم لو كنا نقطع بتعدد السبب جرى الاستصحاب كما اذا كانت الجنابة السابقة بالجماع وبعد الغسل وجد المني فنشك في ان خروجه كان قبل الغسل أم بعده فنستصحب الجنابة الحاصلة من خروج المني لعدم العلم بارتفاعه. وهذا بخلاف المثال السابق فان المعلوم سبب واحد والسبب الآخر محتمل.

والصحيح ان الفرق بين المثال الذي ذكره والمثال السابق ليس إلا من حيث دخول المثال السابق في استصحاب القسم الأول من الكلي وهذا المثال في القسم الثاني منه. وذلك لان الجنابة الحاصلة من هذا المني في المثال السابق اما قبل الاغتسال واما بعده وتعدد الزمان لا يوجب تعدد الهوية الشخصية فيدخل في القسم الأول والجنابة الحاصلة من الجماع مغايرة للحاصلة من خروج المني من جهة تعدد السبب الموجب لتعدد الهوية الشخصية فيدخل المثال الثاني في القسم الثاني من الكلي. وهذا الفرق لا يؤثر في جريان الاستصحاب في كلا المثالين.

بل يمكن ان يقال انه لا فرق بين المثالين أصلاً وذلك لان المقطوع تعدده في المثال الثاني هو ذات السبب لا السبب بما هو سبب وذات السبب لا أثر له في المقام فان خروج المني والجماع وان كانا سببين مستقلين للجنابة إلا أن المحتمل ان يكون المني خارجاً قبل الغسل فلا يكون موجباً لجنابة أخرى فلم يتعدد سبب الجنابة بما هو سبب واحتمال تعدد السبب بما هو سبب موجود في كليهما فإنه في المثال السابق أيضاً يحتمل ان يكون هذا المني سبباً لجنابة اُخرى غير ما اغتسل لها ولذا يحتمل بقاء الجنابة.

 

 

 

[1] هو من مشایخ سیدنا الاستاد دام علاه وقال سيدنا : ان له آراءاً متينة في الفقه والاصول وانها مؤثرة في مبانینا

[2] الكافي ج1 ص330 باب تسمية من رآه عليه السلام

[3] اختيار معرفة الرجال ج2 ص779 ح910

[4] فرائد الاصول ج3 ص244

[5] كفاية الاصول ص415

[6] البقرة: 57/ الاعراف: 160

[7] اقول: قوله دام ظله (جعله الآمر ولو ارتكازاً) لدفع  ما ربما يتوهم من أن التحديد في المقام حكم العقل فلا يثبته الاستصحاب . وحاصل الجواب ــ كما افاده ــ أن العقل ليس حاكما في المقام وانما هو مُدرك لاعتبار الشارع هذه الغاية حداً لامره ولو ارتكازاً نظير ما يدركه من اعتبار القدرة في الأحكام الشرعية ولا اشكال في أنه مجری الاستصحاب مع ان التقييد به ليس في لسان الادلة وانما هو من مدركات العقل إلا انه يدرك اعتبار الشارع له ولو ارتكازاً

[8] الوسائل: الباب 27 من ابواب الخلل في الصلاة ح3

[9] الوسائل: الباب 42 من ابواب الوضوء ح7

[10] الوسائل الباب 17 من الشهادات ح2

[11] الوسائل الباب 17 من الشهادات ح3

[12] الباب المذكور ح1

[13] البقرة: 187

[14] البقرة: 185

([15] ) السر في كونه تسامحاً ان الاحكام تتعدد بتعدد متعلقاتها .

[16] المائدة: 6

([17] ) الوسائل الباب 3 من ابواب نواقض الوضوء ح7 .

[18] الواقعة: 79

([19] ) الوسائل ب 3 / من نواقض الوضوء ج4 .

[20] جامع الاحاديث ج1 ص37 ح7 / الوسائل الباب 34 من ابواب النجاسات ح4

([21] ) الدراسات : ص 183 .

[22] المائدة: 3

[23] الوسائل الباب 49 من ابواب النجاسات ح2

[24] الوسائل الباب 62 من ابواب النجاسات ح1

[25] راجع الوسائل الباب 24 من ابواب الصيد والذبائح

[26] الوسائل الباب 54 من ابواب الاطعمة المحرمة ح60

[27] اقول: روايات حرمة ما قطعته الحبالة بعضها صادرة عن امير المؤمنين عليه السلام فتدل على تقدم تاريخ التطور.