[H

مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

تعارض الأدلة 01 - التمهيد و المدخل

1تمهيد:

كثيراً ما يواجه الفقيه اختلافاً بين نصوص الشريعة الإسلامية الأمر الذي يوجب صعوبة في استنباط الحكم الشرعي. كما يواجه الباحث في الشؤون الإسلامية أيضا مما يوجب عرقلة البحث. ومن هنا كان لزاماً على الدراسات الأصولية عقد هذا المبحث لحل مشكلة التعارض والاختلاف المتوهم بين الأدلة الشرعية. ويمتاز هذا البحث بخصائص تجعله من أهم المباحث الأصولية، منها:

1- فمن تلك الخصائص مسيس الحاجة إليه في عملية الاستنباط الفقهي حيث ان اختلاف الفقهاء خصوصاً في المسائل الأصلية يستند غالباً إلى تخالف الروايات واختلاف المواقف تجاهها من الجمع والترجيح والتخيير أو التساقط ثم الاختلاف في كيفية الجمع وموجبات الترجيح ونحو ذلك مما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى.

وأما المسائل التفريعية فهي وان كانت في الغالب لا ترتبط بهذا المبحث مباشرة إلا أنه يؤثر في انتخاب الاصول التي تبتني عليها تلك المسائل.

2- ومن تلك الخصائص أنه أقدم المباحث الأصولية حيث تمتد جذوره الفكرية إلى القرن الأول للهجرة حينما أحس فقهاء المسلمين بهذه المشكلة تجاه أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وآيات الكتاب العزيز حتى وصلت الافكار إلى مرحلة من النضج في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث وتوسع البحث العلمي فيه وبدأوا يهتمون به أكثر من ذي قبل حيث شرعوا بتصنيف كتب تحت عنوان اختلاف الحديث أو الناسخ والمنسوخ.

3- ومن تلك الخصائص التأثير العميق لهذا البحث في سائر المسائل الأصولية حيث يتوقف اتخاذ الموقف الصحيح في كثير منها على رأي الباحث في رفع اختلاف الأحاديث التي وردت بشأنها.

وقبل ان نخوض البحث على الطريقة المألوفة في كتب المتأخرين ودراستهم نقدم له مدخلاً نتعرض فيه لجوانب هامة من هذا الموضوع قد أهملت في كتب القوم مع أنها ربما تساعد الباحث على مزيد تعمق وبصيرة.

 

2المدخل

ويشتمل على عدة أمور:

2.1الأمر الأول: في تعيين الموقع الطبيعي لمبحث التعارض بين أبواب الأصول.

المتداول فيما بيننا جعله خاتمة للمسائل الأصولية عموماً. ولا بد من ملاحظة وجه تأخره عنها.

أما تأخره عن مباحث الالفاظ فالسبب فيه ان التخالف الشكلي المزعوم بين الأدلة الشرعية كثيراً ما يرتفع في ضوء دراسة الأدلة اللفظية وشؤونها وتحديد وجهة النظر فيها بما أنها تدل على الحكم الشرعي وأنواعه وشؤونه من الانحلال والشمول بقسميه (المكشوف بالوضع أو بمقدمات الحكمة) ونحوهما فضلاً عما يشتمل عليها من مباحث تصادم الظهورات كتعارض المنطوق والمفهوم، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، ونحو ذلك. وهذا يوجب بالطبع تضييقاً لدائرة موضوع البحث في هذا المقام.

وأما تأخره عن مباحث حجية الحجج التي تستنبط منها الأحكام فالسبب فيه أوضح فإن البحث عن تعارض الأدلة الشرعية وتعيين الوظيفة تجاه الأدلة المتعارضة متأخر بالطبع عن تشخيص الدليل الشرعي الذي هو محل التعارض.

ويبقى الكلام في وجه تأخيره عن سائر المباحث الأصولية. ولابد لتحقيق ذلك من ملاحظة منهج الدراسة الأصولية وتبويب مسائلها. وقد ذكرنا في مدخل الأصول العامة ان في تبويب ما سوى مباحث الالفاظ منهجين في كتب المتأخرين:

المنهج الأول: ما أبداه الشيخ الأعظم الانصاري قدس سره وفقاً لمتطلبات عصره والمرحلة التي وصل اليها علم الأصول آنذاك حيث جعل محور البحث وأساس التنظيم المنهجي الحالات النفسية الثلاث (القطع و الظن و الشك) فابتدأ كتابه بقوله:

«فاعلم ان المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي فإما أن يحصل له الشك فيه أو القطع أو الظن»

وقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام تعرض في القسم الثاني منها للأمارات وفي الثالث للأصول العملية. وجعل مبحث التعارض خاتمة الكتاب.

المنهج الثاني: ما اختاره جمع ممن سبقه أو عاصره كصاحبي القوانين و الفصول قدس سرهما من البحث أولاً عن الأدلة السمعية من الكتاب والسنة والاجماع وثانياً عن الأدلة العقلية والتعرض خلالها للأصول العملية مضافاً إلى البحث عن قاعدة الملازمة والقياس ونحوهما ثم البحث عن تعارض الأدلة.

ويلاحظ ان مبحث التعارض واقع في المنهج الثاني في موضعه الطبيعي إذ لم يفرق فيه بين الأدلة والأصول فكان تأخره عن جميع المباحث أمراً طبيعياً.

وأما على المنهج الأول فالمناسب أن يجعل خاتمة لمباحث حجية الظن ويقدم على الأصول العملية لأن الرجوع الى الأصل العملي كثيرا ما يكون بعد تعارض الأدلة وتساقطها فالبحث عن التعارض مقدم طبعا على البحث عن الأصول.

كما أن الشيخ قدس سره تعرض لتعارض الاستصحابين في خاتمة مباحث الاستصحاب، وتعرض لمباحث الاشتغال بعد مباحث البراءة حيث كان مرجعها إلى تعارض الأصول المرخصة في أطراف العلم الاجمالي المتعلق بالحكم الالزامي الذي هو الوجه الفني لوجوب الموافقة القطعية على الرأي السائد فعلاً.

وحيث انه التزم بحجية ظواهر الكتاب وخبر الثقة أو الموثوق به كان من المناسب أن يجعل البحث عن موارد حصول التعارض من جهة العلم الاجمالي بمخالفة أحد الدليلين للواقع بعد البحث المتكفل لإثبات حجية الحجج مباشرة من دون فصل بينهما بالكلام حول الأصول العلمية وتعارض الأصول المحرزة وغير المحرزة إذ هو من قبيل الفصل بالأجنبي ولا يوافق تثليث المباحث.

2.2الأمر الثاني: في تأثير تعارض الأدلة الشرعية وتصادم ظهوراتها في سائر المسائل الأصولية.

ونلاحظ هذا التأثير من زاويتين:

الأولى: من جهة تأثيره في إحساس الحاجة إلى هذه المسائل وإيجاد الدافع إلى طرحها على مائدة البحث.

الثانية: من جهة تأثيره في اتخاذ موقف في الأدلة غير المتعارضة يتناسب مع ملاحظة كثرة الاختلاف في الأدلة الشرعية.

وإذا كانت الشواهد متوفرة على هذين النوعين من التأثير في الأدلة غير المتعارضة أمكننا أن نعتبر هذه المسألة أم المباحث الأصولية. ويتجلى هذان النوعان من التأثير في مباحث الالفاظ وحجية الحجج.

2.2.1تأثير التعارض في مباحث الالفاظ:

من الواضح ان مواجهة الاختلاف الشكلي في النصوص الشرعية تستوجب التدقيق في معرفة الحقيقة والمجاز وتمييزهما والتحقيق عن علائمهما.

كما أنها تستدعي التأكد في محاولة استكشاف ظواهر الألفاظ الدالة على الاحكام الشرعية وأنواعها وعوارضها وتنبّه على ضرورة البحث عن جواز العمل بالعام أو المطلق قبل الفحص عن المخصص والمقيد وعدمه وضرورة التمييز بين أنحاء الالقاءات في الأدلة اللفظية وتقسيمها إلى تبليغ على مستوى الافتاء و تبليغ على مستوى التعليم والقاء الأصول الكلية واختلاف كيفية استنباط الاحكام الكلية من كل من النحوين وضرورة معرفة اللحن وتغيير الاُسلوب في مقام التعبير.

ومما يشهد في الجملة لما ذكرنا في هذا القسم ما ذكره صاحب المعالم رحمه الله بعد اختياره القول بكون صيغة «افعل» حقيقة في الوجوب حيث قال:

«فائدة: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة عليهم السلام ان استعمال صيغة الأمر في الندب كان شايعاً في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي فيشكل التعلق في اثبات وجوب أمر بمجرد ورود الأمر منهم عليهم السلام». (المعالم: ص48 ط طهران)

2.2.2تأثير التعارض في مباحث حجية الحجج:

ان التعارض بما أنه يتحقق مع العلم الاجمالي بمخالفة أحد الظاهرين او الظواهر للواقع يوجب حدوث الريبة بالنسبة اليهما كما سيجيء تفصيله ان شاء الله تعالى وكثرة وقوعه في الاخبار يوجب بالطبع حدوث الارتياب بالنسبة إلى الخبر الواحد بوجه عام حتى لو لم يكن مبتلى بالمعارض فيكون ذلك من دواعي التقيد في العمل بخبر الواحد بالنقد الخارجي والداخلي.

والأول يتمثل في البحث والتنقيب عن أحوال الرواة ووثاقتهم وعدمها ومعرفة طبقاتهم لتشخيص المراسيل بحذف الواسطة والاطلاع على مذاهبهم واتجاهاتهم ونحو ذلك.

والثاني يتمثل في مقايسة مضمون الخبر بالأصول القطعية وهي المعبر عنها في كتب المحدثين بالأخذ بشواهد الكتاب والسنة وقد عقد لهذا الموضوع بابان في كتاب المحاسن للبرقي (المتوفى سنة 274 او280) أحدهما تحت عنوان باب الاحتياط في الدين والأخذ بالسنة والآخر تحت عنوان باب الشواهد من كتاب الله (راجع كتاب مصابيح الظلم من المحاسن الباب 11 ص 171 و الباب12ص174 ط النجف). وعقد الكليني رحمه الله (المتوفى سنة 328) بابين ايضا في الكافي أحدهما تحت عنوان باب الرد إلى الكتاب والسنة والآخر باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب (الكافي ج 5 ص 69 ط طهران).

وإلى هذا المعنى يشير ما اشتهر بين قدماء أصحابنا من أن خبر الواحد لا يوجب علما ولا عملاً. وقولهم في مقام رد بعض الروايات أنها لا توافق الأصول وقد نبهنا الأئمة الطاهرون عليهم السلام إلى ضرورة ملاحظة هذه الجهة في روايات كثيرة سيجيء التعرض لها ان شاء الله تعالى.

وكما ان النقد الداخلي للحديث اشتهر بين قدماء أصحابنا بإرشاد الأئمة الطاهرين عليهم السلام كذلك قد اشتهر بين الكوفيين من العامة الذين خالطوا أئمتنا واقتبسوا نوعا ما من تعالميهم كما يرشد إلى ذلك ما ذكره ابو يوسف في الرد على الاوزاعي على ما نقله الشافعي في كتاب الأم.

نقل الشافعي عن أبي يوسف قوله في ضمن كلام طويل:

«فعليك من الحديث بما تعرف العامة وإياك والشاذ منه فإنه حدثنا ابن أبي كريمة عن أبي جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه دعا اليهود فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فخطب الناس فقال (ان الحديث سيفشو عني فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عنّي). مسعر بن كدام والحسن بن عمارة عن عمرو بن مرة عن البختري عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه انه قال: إذا أتاكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا انه الذي هو أهدى والذي هو أتقى والذي هو أحيا - إلى أن قال أبو يوسف -: والرواية تزداد كثرة ويخرج منها ما لا يعرف ولا يعرفه أهل الفقه ولا يوافق الكتاب ولا السنة فإياك وشاذ الحديث وعليك بما عليه الجماعة من الحديث وما يعرفه الفقهاء وما يوافق الكتاب والسنة فقس الاشياء على ذلك فما خالف القرآن فليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن جاءت به الرواية». (الاُم: ج7 ص338 ط بيروت – كتاب سير الاوزاعي باب سهم الفارس والراجل)

ونقل عن بعض من لم يسمّه في مناظرة بينه وبينه وهو من الكوفيين بالطبع كما يظهر من عباراته أنه قال:

«بلغني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما جاءكم عني فاعرضوه على القرآن فإن وافقه فانا قلته وان خالفه فلم أقله» (الأم ج7ص15).

والظاهر ان المراد بأبي جعفر في الرواية الأولى هو الامام الباقر عليه السلام فتكون هذه الفكرة قد تسربت إلى فقه الكوفيين من قبل أئمتنا عليهم السلام وأما ابن ابي كريمة فهو إسماعيل بن عبد الرحمن السدي المعروف المتوفى سنة 127 وهو من أصحاب الأئمة السجاد والباقر والصادق عليهم السلام وربما يستبعد أن يروي عنه أبو يوسف فإن ولادته سنة 113 فيكون عمره حين وفاة ابن أبي كريمة 14 سنة ولكنه ليس ببعيد فإنهم كانوا يدرسون القرآن والحديث في سن مبكر. ويحتمل ان تكون روايته عنه بواسطة أبي حنيفة فإنه روى عن ابن أبي كريمة بلا إشكال.

وينبغي أن ننبه بهذه المناسبة على أن فقهاء الكوفة كثيراً ما كانوا يستفيدون من علوم أهل البيت عليهم السلام فكما كانوا يميلون من الجانب السياسي إلى العلويين كذلك كانوا يميلون إليهم في ثقافتهم وعلومهم حتى ان فقهاء أهل الرأي وخصوصاً شيخهم أبا حنيفة كانوا يعدون مدرستهم امتداداً لمدرسة أمير المؤمنين عليه السلام الفقهية.

ويظهر بالتأمل في فقه الكوفيين ومقارنته بمذهب أهل البيت عليهم السلام تأثرهم العميق بعلومهم والأخذ من أصحابهم كزرارة ومحمد بن مسلم وزيد بن علي وغيرهم. وهناك شواهد فقهية كثيرة على ذلك لا يناسب المقام ذكرها.

2.3الأمر الثالث: في بداية توجه عامة المسلمين الى مشكلة تعارض الأدلة الشرعية وما بذلوه من الجهد لحلها:

الذي يظهر من ملاحظة الشواهد ان المسلمين أحسوا بهذه المشكلة في عهد قريب جداً من عهد الرسالة ويبدو أنهم واجهوها في ثلاثة موارد:

  1. تصادم ظواهر الآيات المباركة بعضها مع بعض.
  2. تعارض الروايات الحاكية عن السنة النبوية الشريفة بعضها مع بعض.
  3. تعارض الروايات مع ظواهر بعض الآيات.

وكانوا يعلمون بالطبع أن كثيراً من وجوه التعارض إنما هي حصيلة اشتمال الآيات والروايات على العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، مضافاَ إلى ما أحدثته أيدي الدس والتحريف في السنة النبوية فكان موجبات التعارض في السنة أكثر منها في آيات الكتاب وكان المستند لأغلب الأحكام الشرعية بأقسامها من العبادات والمعاملات والجزائيات والسياسيات وغيرها هي السنة الشريفة بما تتضمن من تفسير وبيان لآيات الكتاب وبما تحتوي عليه من أحكام لم يرد ذكرها فيه.

ولهذين الأمرين أصبحت مشكلة التعارض أمسّ بالأحاديث وأوضح في هذا المجال.

ولذلك فقد لاقى المهتمون بأحكام الشريعة صعوبات في البحث من بدو انتشار الثقافة الإسلامية ويشهد له في شطر من تاريخ الفقه الإسلامي أي في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني ما نقل عن الزهري (المتولد سنة 50 على الارجح والمتوفى سنة 124) من قوله:

«أعيى الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه». (مقدمة ابن خلدون : ص49 ط دار الفكر فصل علوم الحديث) 

والمراد من الناسخ والمنسوخ في كلامه ليس هو المصطلح المعروف عندنا بل مراده مطلق الظواهر المتصادمة فيشمل المتنافيين بالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد أيضاً. وهكذا في كلام غيره من السلف كما يدل عليه شواهد عديدة من كلماتهم وصرح به جمع من العلماء.

(راجع اعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: ج 1 ص 36 وان كان في تعميمه من بعض الجهات اشكال وراجع ايضا البيان للسيد الخوئي ص 295).

وبهذه المناسبة نذكر ان الذي يتبين من خلال الشواهد في الحديث والتاريخ ان تلقي الاحكام الشرعية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان على نحوين:

النحو الأول: طريقة تلقي الصحابة بصورة عامة.

ولكي نأخذ عنها صورة اجمالية نلاحظ ما ذكره أحد علماء السنة في رسالته المسماة «الانصاف في بيان سبب الاختلاف» (دائرة المعارف: ج 3 ص 197) وقد وصف فريد وجدي في دائرة المعارف مؤلفها بأنه أحد كبار مؤلفي الاسلام ولاهتمامه بالرسالة نقلها حرفياً في مادة «جهد» قال فيها:

«أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يتوضأ فيرى الصحابة وضوءه فيأخذون به من غير أن يبين هذا ركن وذلك أدب فكان يصلي فيرون صلاته فصلوا كما رأوه يصلي وحج فرمق الناس حجه ففعلوا كما فعل هذا كان غالب حاله صلى الله عليه وسلم ولم يبين ان فروض الوضوء ستة أو أربعة ولم يفرض أنه يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة حتى يحكم عليه بالصحة أو الفساد إلا ما شاء الله وقلّما كانوا يسألونه عن هذه الأشياء.

عن ابن عباس قال: ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن منهن «يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه» و «ويسألونك عن المحيض» قلّ ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.

قال ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن.

قال القاسم: انكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها و تنقرون عن أشياء ما كنا ننقر عنها وتسألون عن أشياء ما أدري ما هي ولو علمناها ما حلّ لنا ان نكتمها…»

إلى آخر ما ذكر من الشواهد على أن الصحابة ما كانوا يسألون ابتداءً وإنما كانوا يحفظون ما يسمعونه. وهناك رواية تكشف لنا جانباً هاماً من موقف الصحابة إزاء الوقائع.

روى مسلم في صحيحه باسناده عن أنس بن مالك قال:

«نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ...» الحديث. (صحيح مسلم: ج 1 ص 41 باب في بيان الايمان بالله على ما في الموسوعة الشاملة)

ويصدّق هذا المضمون ما ورد في نهج البلاغة من قول أمير المؤمنين عليه السلام:

«وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان يسأله ويستفهمه حتى ان كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلا سألته عنه وحفظته…»

وفي عنوان النهج قال الشريف الرضي رحمه الله:

«ومن كلام له عليه السلام وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر».

(وهذا السائل هو سليم بن قيس الهلالي على ما ورد في الكافي و اعتقادات الصدوق و الغيبة للنعماني و الوسائل عن كتاب سليم بن قيس والنص مذكور في جامع الأحاديث باختلاف يسير عن عدة مصادر، راجع ج 1 ص 22 وسيأتي ان شاء الله تعالى تفصيل القول في الحديث ومصادره.)

النحو الثاني: طريقة أمير المؤمنين عليه السلام في تلقي الأحكام ومختلف العلوم وكانت تمتاز بالسعة والشمول والضبط والتدوين وقد ورد في عدة من المصادر ذكر صحف علي عليه السلام وأنها كانت بإملاء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخطه عليه السلام (راجع جامع احاديث الشيعة باب حجية فتوى الائمة عليهم السلام) وبقيت تلك الصحف مودعة عند الأئمة الطاهرين من ولده عليهم السلام وكانت من أهم مصادرهم التي يعتزون بها في ما يصدرونه من الأحكام والفتاوى كما في جملة من الروايات وقد ذكرنا تفصيل البحث عنها وإقامة الشواهد عليها من كتب الفريقين في مدخل البحث عن حجية خبر الواحد.

وأما النحو الأول فقد حدث فيه الاختلاف الشديد نتيجة لعوامل عديدة لعل أهمها ما يلي: 

  1. المنع من تدوين السنة من قبل السلطة

بل المنع من رواية الأحاديث النبوية ونقلها إلا في حدود خاصة وتحت شروط معينة. وقد بقي المنع نافذ المفعول في المجتمع الاسلامي العام إلى منتصف القرن الثاني وربما نسب هذا المنع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكانت كتابة الحديث تعتبر مخالفة لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم أو على الأقل مخالفة لمنع ولاة الأمر. ولا شك ان ذلك كان يحدث وازعاً نفسياً عن كتابة الحديث حتى في السر.

وقد رخّص في ذلك عمر بن عبد العزيز في ضمن خططه الاصلاحية بل حثّ عليه ولكنه لم ينجح في محاولته. ومهما كان فلسنا هنا بصدد البحث والتنقيب عن عوامل منع تدوين الحديث وأسبابه السياسية والثقافية والاجتماعية ومدى تأثيره في جمود الحركة العلمية و ضياع جزء كبير من الأحاديث النبوية والتحريف المتعمد وغير المتعمد في قسم منها واختلاط قسم آخر بالروايات الموضوعة وسقوط قسم آخر عن الاعتماد عليها من الجانب التخصصي لعدم وثاقة الرواة أو عدم توفر سائر الشروط فيها حسب اختلاف الآراء إلى غير ذلك من النتائج المترتبة عليه ولتفصيل القول فيه مجال آخر.

وهذا في نهاية الوضوح لمن له إلمام بمصادر أهل السنة وكلمات علمائهم.

  1. التعصب الثقافي الإقليمي.

لم تكن ظاهرة التعصب الإقليمي في مستهل الثقافة الإسلامية واختلاف الآراء الفقهية أمراً سائداً إلى أن وصل الدور إلى التابعين وتابعي التابعين وهم – على الأكثر – من الموالي.

(ذكر ابن القيم نقلاً عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم انه قال: لما مات العبادلة عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي فكان فقيه أهل مكة عطاء بن أبي رباح وفقيه أهل اليمن طاووس وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير وفقيه أهل الكوفة إبراهيم وفقيه أهل البصرة الحسن وفقيه أهل الشام مكحول وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني إلا المدينة فإن الله خصها بقرشي فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المسيب غير مدافع).

والسائد في غير العرب العصبية البلدية نتيجة لسبق تحضرهم فنشأت العصبية الثقافية الاقليمية وأثر ذلك في الأوساط العلمية بوجه عام.

(اعترف بذلك محمد أبو زهرة في كتابه (أبو حنيفة) واستشهد ببعض الشواهد، راجع ص 314 و 329 و 331).

ومن هنا انقسم الفقه والحديث بحسب البلدان ففي الدرجة الأولى كان التقابل بين المدينة المنورة والكوفة وهما يعدان المركزين الرئيسين لنشر الثقافة الاسلامية آنذاك. ويأتي في الدرجة الثانية مكة المكرمة والبصرة وتشكلت بذلك كتلتان من الفقهاء والمحدثين في الحجاز والعراق وانقسم الحديث من جراء ذلك إلى أحاديث الحجازيين والعراقيين وكان الطابع العام لعلماء الفريقين هو عدم الاعتماد والركون إلى أحاديث الفريق المعارض وربما وقعت المقابلة والرد فيما بين علماء مكة والمدينة أيضاً. كما يظهر ذلك بوضوح من مراجعة الكتب المشتملة على المناظرات الفقهية كـ الأم للشافعي.

قال الشافعي رداً على حديث استدل به مناظره الكوفي:

«فقلت له فهذا غير معروف عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا خلاف هذا» (الاُم: ج 7ص 15).

وقال في موضع آخر من المناظرة

«فذكرت له ما كتبت في كتبي من قول الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما روي عن أبي بكر وعمر وعثمان. فقال: لم يذكر صاحبنا هذا – إلى أن قال – فقلت له فصاحبك إن كان علم سنة فسكت عنها فلم ينصف وان كان لم يعلهما فقد عجل قبل أن يعلم» (الاُم: ج 7 ص 37).

والظاهر ان المراد بصاحبه أبو حنيفة.

وقال في موضع آخر

«قلت ليس من بلد إلا وفيه من أهله الذين هم بمثل صفته يدفعونه عن الفقه وتنسبه إلى الجهل أو إلى أنه لا يحل له أن يفتي ولا يحل لأحد أن يقبل قوله وعلمت تفرق أهل كل بلد بينهم ثم علمت تفرق كل بلد في غيرهم» ثم عدّ فقهاء البلدان واختلافهم مع بعض. (الاُم: ج 7 ص 280)

وقال في موضع آخر نقلاً عن مناظره

«قال: فليس هذا مما روينا قلنا: وإن لم ترووه فقد رواه ثقة عن ثقة فلا يوهنه ان لا ترووه وكثير من الأحاديث لم ترووه فلم يوهنه ذلك» (الاُم: ج 3 ص 215).

ومثل هذا وأوضح من هذا كثير في مناظرات الشافعي.

وقد حكي عن مالك – الذي عدّ امام المدينة في عصره - انه كان يعبّر عن الكوفة بدار الضرب في حين انه كان يرى اجماع أهل المدينة خاصة حجة مستقلة يمتازون بها دون غيرهم من أهالي البلدان الإسلامية. وقد استند إليه في كثير من المسائل كما هو واضح بمراجعة الموطأ. وقد ناقش العلماء في ذلك واعترضوا عليه كبروياً وصغروياً ولم نجد في تعابير الاستنكار أشد من كلمات تلميذه الشافعي في الأم في مواضع متعددة.

قال الشافعي في جواب المالكية:

«وأنتم تدعون انكم تتبعون أهل المدينة وقد خالفتم ما روى صاحبنا عنهم كله إنه لبيّن في قولكم أنه ليس أحد أترك على أهل المدينة لجميع أقاويلهم منكم مع ما تبين في غيره ثم ما أعلمكم ذهبتم إلى قول أهل بلد غيرهم فإذا انسلختم من قولهم وقول أهل البلدان ومما رويتم وروى غيركم والقياس والمعقول فأي موضع تكونون به علماء وأنتم تخطئون مثل هذا وتخالفون أكثر الناس» (الاُم: ج 7 ص 209).

وقال في ص 208: «وأنه لا خلق أشد خلافاً لأهل المدينة منكم» وقد فصل القول في ذلك في باب قطع العبد. (راجع كتاب الاُم: ج 7 ص 258 فما بعده)

هذا وقد كان للسلطة آنذاك دور هام في توسيع رقعة الخلاف وتشجيع كل من أطراف المنازعة شطراً من الزمن وفقاً لمصالحها ويكفينا شاهداً على التعصب الاقليمي اختلاف الامصار الأربعة في كيفية الأذان مع أنه من أوضح السنن المستمرة من زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومع تكراره كل يوم خمس مراتب على المنائر وعلى رؤوس الأشهاد وبمسمع ومرأى من عامة المسلمين فكان لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان. وقد ذكرنا توضيح ذلك في مبحث الصلاة.

قال ابن رشد في البداية:

اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة: إحداها تثنية التكبير فيه وتربيع الشهادتين وباقيه مثنى وهو مذهب أهل المدينة مالك وغيره، واختار المتأخرون من أصحاب مالك الترجيع وهو أن يثني الشهادتين أولا خفيا ثم يثنيهما مرة ثانية مرفوع الصوت. والصفة الثانية أذان المكيين وبه قال الشافعي وهو تربيع التكبير الأول والشهادتين وتثنية باقي الأذان. والصفة الثالثة أذان الكوفيين وهو تربيع التكبير الأول وتثنية باقي الأذان وبه قال أبو حنيفة. والصفة الرابعة أذان البصريين وهو تربيع التكبير الأول وتثليث الشهادتين وحي على الصلاة وحي على الفلاح يبدأ بأشهد أن لا إله إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح ثم يعيد كذلك مرة ثانية أعني الأربع كلمات تبعا ثم يعيدهن ثالثة وبه قال الحسن البصري وابن سيرين.

ونقل ابن حزم في المحلى اختلاف أذان مكة والمدينة والكوفة (راجع ج 3 ص 198 ط مصر وراجع أيضاً تفسير القرطبي: ج 6 ص 226 ط مصر).

  1. عدم الاهتمام اللائق بما عند أهل البيت عليهم السلام وما استودع لديهم من سنن الرسول صلى الله عليه واله وسلم و أصول العلم التي كانوا يرثونها كابر عن كابر كما في الروايات.

وكان السبب في ذلك ما نشرته السلطة وأذنابها والجمعيات المعارضة لأهل البيت ضدهم من الكذب عليهم والاعلام ضدهم إعلاناً وإسراراً للحطّ من كرامتهم مضافاً إلى المراقبة الشديدة والمطاردة لكل من له أدنى تمايل للنزعة العلوية ثم معاملتهم بكل قسوة وخشونة فأثر ذلك في ضعفاء النفوس الذين كانوا يتطلعون للظهور على منصة الزعامة الدينية فتخلوا عن مدرسة أهل البيت نهائياً وأما غيرهم فقد عزلوا عن المجتمع وربما أودى ذلك بحياة بعضهم.

راجع كتب التاريخ حول حياة أبي حنيفة والشافعي وما نالاه من أذى خصوصاً الأول لتأييدهم مواقف العلويين وولائهما لهم.

وهذه الأمور الثلاثة ونحوهما كلا أو بعضاً كان السبب في قلة وثوق بعض المفكرين من الفقهاء بالسنن النبوية المنقولة عن طريق الجمهور.

قال ابن خلدون:

«واعلم أيضاً ان الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الاكثار من هذه الصناعة والاقلال فأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقال بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثاً أو نحوها ومالك رحمه الله إنما صح عنده ما في كتاب الموطأ وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها وأحمد بن حنبل في مسنده خمسون ألف حديث». (تاريخ ابن خلدون ج 1 ص 561 على ما في الموسوعة الشاملة)

وإن كان الأول لا يخلو من مبالغة والثاني مختلف القول باختلاف روايات الموطأ وربما بلغ عددها على بعض الروايات ما يزيد على الألف وكيف كان فالفرق كبير جداً بين هذه الاعداد وروايات ابن حنبل.

نعم ان الشافعي المتولد سنة 150 والمتوفى سنة 204 قد جمع ما أمكنه من حديث الطائفتين وثقافتهما واسس على ضوئها مدرسة جديدة وبذل جهداً في معرفة مبادئ الفقه واُصوله وجمع بعضها في كتابه «الرسالة». وألف كتاباً في اختلاف الحديث وأودعه بعض الأمور البدائية بهذا الشأن بحيث يعد كتابه خطوة أولى نحو هذا المقصد الذي كانوا بحاجة ماسة إلى مواصلة السير فيه.

وأما في القرن الثالث فقد أكبوا على تدوين الحديث وتطويره وأقبلوا عليه إقبالاً مؤكداً خصوصاً بعد تولي المتوكل للخلافة حيث قام بتشجيع المحدثين والحفاوة بهم وتشديده على المفكرين من الفقهاء وغيرهم رعاية لمصالحة الخاصة. وكان من نتائج هذا التحول تأليف الصحاح الستة وغيرها من كتب الحديث إلا أن الحركة الفكرية كانت قد ضعفت فيهم فلم يظهر تقدم ملموس لهم في استنباط القواعد الأصولية وبانتهاء القرن الثالث تقريباً انتهى دور المجتهدين نهائياً وبدأ دور التقليد وشاع الفقه الخلافي الذي وضع لمحض الدفاع عن آراء بعض فقهاء القرن الثاني والثالث.

والجدير بالذكر ان هذه الجهود المبذولة لتدوين الحديث وجمعها وتبويبها الموجب لتسهيل المراجعة والمفيد جداً في عملية الاستنباط وسيطرة الفقيه على مجموعة الأحاديث المرتبطة بالموضوع المبحوث عنه لم تؤثر الأثر المقصود في تحديد المسار الفقهي وتوجيه حركة الاستنباط وذلك لأن هذا التحول إنما نشأ بعد دور الفقهاء الأربعة الذين استقر على مذاهبهم تقليد القوم.

2.4الأمر الرابع: في بدو توجه الشيعة الى مشكلة تعارض الأدلة

ونتعرض هنا لاهتمامهم بأهم مواضيعها وهو اختلاف الأحاديث.

والظاهر أنهم واجهوا نوعين من الاختلاف:

  1. اختلاف أحاديث أهل البيت عليهم السلام وفتاواهم مع أحاديث الجمهور وفتاواهم

وقد بدأ التوجه اليه في أوائل القرن الأول كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى.

  1. الاختلاف بين نفس الأحاديث المنقولة عن أهل البيت عليهم السلام وفتاواهم

والظاهر أن التوجه اليه ابتدأ في عهد الامامين الباقر والصادق عليهما السلام فإن الظروف ساعدتهما على نشر الأحكام الشرعية وفقاً لمصادرها الاصلية السليمة وذلك من أوائل القرن الثاني حتى نهاية حياة الإمام الصادق عليه السلام سنة 148 حيث كانت الدولة الأموية في دور الضعف والسقوط والدولة العباسية في دور التشكيل وعدم الاستقرار الكامل.

ويشهد للإحساس بالنوع الأول روايات كثيرة نذكر بعضها:

  • حديث سليم بن قيس الهلالي. قال:

«قلت لأمير المؤمنين عليه السلام: إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئاً من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم غير ما في أيدي الناس ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون (1) ان ذلك كله باطل. أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعمدين ويفسرون القرآن بآرائهم؟! قال فأقبل علي عليه السلام فقال: قد سألت فافهم الجواب. ان في أيدي الناس حقاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده ...» الحديث (جامع أحاديث الشيعة: المقدمة ص 22) وهو طويل.

(1): قال ابن دريد في الجمهرة (أكثر ما يقع الزعم على الباطل) ثم قال (وقد يجيء الزعم في كلامهم بمعنى التحقيق) وورد الاختلاف ايضا في تهذيب اللغة للازهري وغيره ولكن الغالب انه يستعمل في الباطل وقد ورد في بعض الروايات ان الراوي سأل الامام: الست زعمت كذا … قال: لا. فأبدى تعجبه فأوضح له الامام عليه السلام ان التعبير بالزعم يختص بالكذب.

والذي يظهر ان العامة كانت تستعمل هذه الكلمة في مطلق القول دون الخاصة وعليه يحمل الزعم في هذه الرواية.

  • معتبرة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال

«قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه قال: ان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن». (جامع أحاديث الشيعة: ص 67 ح 4)

  • معتبرة منصور بن حازم قال

«قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب ثم يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر؟ فقال: إنا نجيب على الزيادة والنقصان. (سيجيء تفسير هذه الجملة ان شاء الله تعالى) قال قلت فأخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدقوا على محمد أم كذبوا؟ قال بل صدقوا. قال قلت فما بالهم اختلفوا؟ فقال: أما تعلم ان الرجل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب ثم يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب فنسخت الأحاديث بعضها بعضاً». (جامع أحاديث الشيعة: ص 67 ح 465)

  • رواية أحمد بن الحسن الميثمي

أنه سأل الرضا يوماً وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشيء الواحد فقال «ان الله عز وجل حرم حراماً وأحل حلالاً وفرض فرائض». الحديث. وهو طويل (جامع أحاديث الشيعة: ص 64 ح 48).

ويستفاد من هذه الروايات ان اختلاف أحاديث الأئمة عليهم السلام مع أحاديث العامة كانت مشكلة الرواة والفقهاء فعرضوها عليهم على اختلاف العصور وكان الجواب واحداً وهو ان أحاديث العامة اختلط فيها الناسخ والمنسوخ وورد فيها العام دون الخاص ونحو ذلك. وقد ذكرنا تفصيل البحث عن السرّ في عدم الاعتماد الكامل على أحاديث العامة بوجه عام في مدخل البحث عن حجية خبر الواحد.

ويشهد للإحساس بالنوع الثاني من الاختلاف، طوائف من الروايات سيجيء ذكرها في البحث عن علل اختلاف الحديث وفي بحث الأخبار العلاجية وقد اهتم علماء الشيعة بحل المشكلة وبذلوا جهوداً متواصلة كما سنبين بعض معالمها وأسبابها في الأبحاث الآتية ان شاء الله تعالى.

2.5الأمر الخامس: في بدو تصنيف الشيعة في موضوع اختلاف الأدلة الشرعية

الظاهر ان السابق في ذلك جماعة من الطبقة السادسة أرباب الجوامع الاُولى وقد ألف بعضهم في الرجال أيضاً كحسن بن علي بن فضال وعبد الله بن جبلة مما يدل على اهتمامهم لجميع جوانب التحقيق حول شؤون الحديث.

فمن هؤلاء يونس بن عبد الرحمن له كتاب اختلاف الحديث كما في فهرست الشيخ الطوسي (ص 211 ط النجف) وكتاب علل الحديث كما في رجال النجاشي (1) وكان – على ما يظهر من مواضيع تصانيفه – فقيهاً متكلماً محدثاً مفسراً، وكان الرضا عليه السلام يشير إليه في العلم والفتيا وقد توفي في سنة 208 (خلاصة الاقوال في معرفة الرجال للعلامة الحلي: ص 184. ط النجف) عن عمر طويل حيث أنه ولد في أيام هشام بن عبد الملك (النجاشي ص 311، رجال الكشي: ص920) وقد مات هشام في سنة 125 (مروج الذهب: ج 3 ص 216) ومن هنا يظهر انه متقدم في العلم والتصنيف على الشافعي المتولد سنة 150 وان توفي يونس بعده. ويعد الشافعي أول من صنف في هذا الموضوع من العامة. هذا ولم يصل إلينا كتابا يونس في اختلاف الحديث وعلله إلا اننا نستكشف بعض آرائه من روايات مختلفة عنه نذكر منها نموذجاً واحداً:

«روى الكشي بسنده عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن أن بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر فقال له يا أبا محمد ما أشدك في الحديث و أكثر انكارك لما يرويه أصحابنا فما الذي يحملك على ردّ الأحاديث فقال: حدثني هشام بن الحكم انه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول «لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة...»» الى آخر كلامه وهو يشتمل على فوائد مهمة. (رجال الكشي: ص 401)

ومنهم محمد بن أبي عمير المتوفى سنة 217 (رجال النجاشي : ص230) وقد ذكر له النجاشي كتاب اختلاف الحديث وكان فقيهاً متكلماً محدثاً وقد سمع من بعض علماء العامة حديثهم ومنهم مالك بن أنس المتوفى 179 حيث قال الشيخ الطوسي في الفهرست في كلامه حول مالك:

«له كتاب أخبرنا به جماعة عن أبي المفضل عن ابن بطة عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن أبي عمير عنه» (الفهرست: ص 196 ط النجف).

وروى الكشي في رجاله عن علي بن محمد القتيبي قال:

«قال أبو محمد الفضل بن شاذان سأل أبي رضي الله عنه محمد بن أبي عمير فقال له: إنك قد لقيت مشايخ من العامة فكيف لم تسمع منهم فقال قد سمعت منهم غير أني رأيت كثيراً من أصحابنا قد سمعوا علم العامة وعلم الخاصة فاختلط عليهم حتى كانوا يروون حديث العامة عن الخاصة وحديث الخاصة عن العامة فكرهت أن يختلط علي فتركت ذلك وأقبلت على هذا». (رجال الكشي: ح 1105)

ومما يشهد على اهتمامه باختلاف الأحاديث ما كتبه من الحواشي على كتاب عبيد الله بن علي الحلبي (1) وهي عبارة عن الروايات المعارضة التي لم يذكرها الحلبي وبمرور الأيام ادرجت الحواشي في المتن. ويستفاد ذلك مما نقله الصدوق رحمه الله عن شيخه ابن الوليد عن الصفار انه قال:

«كل ما كان في كتاب الحلبي (وفي حديث آخر) فذلك قول محمد بن أبي عمير رحمه الله». (معاني الأخبار ص 147 ط النجف باب معنى شرب الهيم)

(1): قال النجاشي في ترجمة الحلبي ص160 ط قم: وصنف الكتاب المنسوب إليه وعرضه على أبي عبد الله عليه السلام وقال عند قراءته: أترى لهؤلاء مثل هذا؟!

هذا ويدل على مكانته العلمية ما حكاه الشيخ قدس سره عن الجاحظ المتوفى سنة 255 انه قال فيه «إنه أوحد أهل زمانه في الأشياء كلها» (الفهرست: ص 268). وما رواه الكشي عن محمد بن مسعود قال سمعت علي بن الحسن بن فضال يقول «كان محمد بن أبي عمير أفقه من يونس وأصلح وأفضل».

ومنهم الحسن بن علي بن فضال التيملي المتوفى سنة 224 وكان فقيهاً محدثاً رجالياً جليل القدر عظيم المنزلة وله كتاب الناسخ والمنسوخ كما ذكره النجاشي وبملاحظة معنى النسخ في عرف القدماء وشموله لجميع أنحاء التنافي كما مر سابقاً يعلم ارتباط هذا الكتاب بموضوع البحث.

ثم نأتي إلى الطبقة السابعة وهم أصحاب الجواد والعسكريين عليهم السلام فممن صنف في هذا الموضوع من علماء هذه الطبقة أحمد بن محمد بن خالد البرقي المتوفى سنة 274 أو 280 وكان محدثاً رجالياً مؤرخاً وقد عدّه المسعودي في مقدمة مروج الذهب فيمن عدّه من مشاهير المؤرخين على ما صرح به بعد ذلك فقال «وأحمد بن محمد بن خالد البرقي الكاتب صاحب التبيان» (مروج الذهب: ج 1 ص 1). وله كتاب المحاسن الذي يعتبر بحق دائرة للمعارف إلا أنه لم يصل الينا الا قسم ضئيل منه ومن أجزائه كتاب اختلاف الحديث كما في فهرست الشيخ وذكر له النجاشي كتاب علل الحديث. وقد عد ابن النديم كتاب المحاسن لأبيه محمد ثم قال: «قرأت بخط علي بن همام قال: كتاب المحاسن للبرقي يحتوي على نيف وسبعين كتابا ويقال على ثمانين كتاباً» ثم عد بعض أجزائها ومنها كتاب علل الأحاديث (الفهرست لابن النديم ص 221 ط بيروت).

( ومنهم ) أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي المتوفى بعد البرقي (1) وقد كان محدثاً مهتماً بنقد الأسانيد على ما يظهر من ترجمته وله كتاب الناسخ والمنسوخ كما ذكره الشيخ والنجاشي.

(1): يدل على ذلك ما نقله العلامة في الخلاصة ص 14 ط النجف في ترجمة البرقي عن ابن الغضائري انه لما توفي مشى أحمد بن محمد بن عيسى في جنازته حافياً حاسراً.

ثم نأتي إلى الطبقة الثامنة فنجد منهم عبد الله بن جعفر الحميري الذي كان عالماً محدثاً وله كتاب اختلاف الحديثين ذكره النجاشي.

وفي الطبقة العاشرة ألف محمد بن أحمد بن داود المتوفى سنة 368 كتاب الحديثين المختلفين كما في رجال النجاشي. وكان فقيهاً بارعاً ورجالياً محدثاً كثير الحديث وقد قال في حقه شيخ الشيعة في عصره الحسين بن عبيد الله الغضائري انه لم ير أحداً أحفظ منه ولا أفقه ولا أعرف بالحديث (رجال النجاشي: ص 272). وهو الذي أوضح بطلان القول بالعدد في شهر رمضان الذي اشتهر بين معاصريه وتبعه من أتى بعده من فقهاء الامامية.

ومنهم ابن الجنيد وله رسائل مرتبطة بالموضوع كما سيجيء بيانها مضافاً إلى ما كتبه في الأصول بصورة عامة. وهو كثير التصنيف جداً كما يظهر من فهرست كتبه في رجال النجاشي.

ومنهم الشيخ الصدوق قدس سره المتوفى سنة381 فمن كتبه «الناسخ والمنسوخ» وفي الطبقة الحادية عشرة ألف احمد بن عبد الواحد المعروف بـ «ابن عبدون» المتوفى سنة 423 كتاب الحديثين المختلفين كما ذكره النجاشي. وكان أديباً محدثاً كثيراً السماع والرواية.

وألف أحمد بن نوح السيرافي كتاب القاضي بين الحديثين المختلفين وكان فقيهاً بصيراً بالحديث والرواية.

وألف شيخنا المفيد المتوفى سنة 413 كتاباً في جواب المسائل في اختلاف الأخبار وهو غني عن التوصيف.

ومن هذا العرض السريع والمجمل لما وصل إلينا من تصانيف أصحابنا حول هذا الموضوع تظهر المساهمة الجادة في هذا البحث وتطوير دراسته من المتكلم والمحدث والفقيه والمفسر الأمر الذي ينبهنا على الصلة الوثيقة بين هذه العلوم وهذا الموضوع.

 

2.6الأمر السادس: في أسباب اهتمام المتكلمين بحل مشكلة التعارض في الأدلة الشرعية

  1. السبب الأول:

ان بعض المباحث الكلامية لا يمكن للمتكلم أن يتبنى فيها رأياً إلا بملاحظة الروايات الواردة بشأنها وهنا قد يواجه اختلاف الروايات فلابد له من البحث عن حل حاسم للمشكلة. ومن ذلك اختلاف الروايات في علم النبي والإمام وحدود عصمتهما وحقهما في التشريع ونحو ذلك.

ومن هنا نشأ اختلاف العلماء في هذه المسائل وقد حكى الشيخ المفيد في شرح عقائد الصدوق انه حكي عن ابن الوليد انه قال: «أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام» ثم قال : «فإن صحت هذه الحكاية عنه فهو مقصر مع أنه من علماء القميين ومشيختهم» ثم قال «وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصرون تقصيراً ظاهراً في الدين وينزلون الأئمة عليهم السلام مراتبهم ويزعمون أنهم كانوا لا يعرفون كثيراً من الأحكام الدينية حتى ينكت في قلوبهم ورأينا في أولئك من يقول أنهم ملتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون ويدعون مع ذلك أنهم من العلماء وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه» (تصحيح اعتقادات الامامية ص 135).

وكثيراً ما نجد في كتب الرجال من نسب إلى الغلو. والسبب فيه هو اختلاف الروايات الموجب لاختلاف العقائد. وكثيراً ما يجد المتتبع في الكتب الكلامية اختلاف العلماء في العقائد واستناد كل طائفة منهم إلى قسم من الروايات.

  1. السبب الثاني:

ان هذه المسألة ترتبط بعلم الكلام بما أنها من المسائل الأصولية بل من أهمها وذلك لما ذكرناه في الجهة الثانية من المدخل العام للأصول من الترابط الجذري بين العلمين. وقد تعرضنا هناك لجوانب من تأثير الفلسفة والكلام في الآراء الأصولية و مما ينبغي ذكره هنا أمران من وجوه الترابط بين العلمين في خصوص هذه المسألة:

الأمر الأول: سيأتي في موضعه ان الروايات التي جعلت موافقة الكتاب والسنة ومخالفتها مقياساً للعمل بالخبر على قسمين:

  1. ما دل على طرح مخالفهما رأساً أو اعتبر الموافقة شرطاً أساساً في العمل بالخبر مطلقاً.
  2. ما دل على الترجيح بموافقتهما في خصوص المتعارضين وطرح المخالف منهما.

والرأي السائد في تفسير الموافقة والمخالفة يبتني على الفرق بين الموضعين ففسرت المخالفة في القسم الأول بما إذا كانت النسبة بين الخبر والآية أو الحديث القطعي هي التباين الكلي واختلف في شمولها للتباين الجزئي أي تباين العامين من وجه بالنسبة إلى المجمع.

وعلى هذا الأساس تم تأويل ما اشترط فيه الموافقة من روايات هذا القسم بإرادة عدم المخالفة بهذا النحو.

وفسرت الموافقة في القسم الثاني على تطابق الخبر مع عموم الكتاب أو السنة القطعية وبعكسه المخالفة.

ويلاحظ في كلا الموضعين أن تفسير المخالفة والموافقة يبتني على أساس ملاحظة النسب الأربع بين الدليلين ومن المحتمل أن يكون منشأ ذلك هو التأثر بالمفاهيم المنطقية والفلسفية.

مع أن بالإمكان تفسيرهما بوجه آخر وهو أن:

المراد بالمخالف في القسم الأول ما كان يتضمن هدماً لما بنته الشريعة الاسلامية وفقاً للنصوص القطعية من الكتاب والسنة أو يتضمن بناءً لما هدمها.

والمراد بالموافقة في القسم الثاني التوافق الروحي مع مضامين الكتاب والسنة دون التوافق النصي الذي هو أساس التفسير السابق وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى.

الأمر الثاني: أن تعارض الأدلة الشرعية قد يخرّج على أساس كونه من قبيل تصادم المقتضيات التكوينية وعليه فيعتبر مقاييس الترجيح من معالم القوة في أحد المقتضيين وبذلك تتدخل فيه النظرة الفلسفية.

والواقع ان هذا لا يعدو تعبيراً أدبياً والحجة العقلائية محدودة من أول الأمر ومقاييس الترجيح إنما وضعت لتمييز الحجة عن اللاحجة لا لتمييز الأقوى عن الأضعف. وسيجئ توضيح هذه النقطة أيضاً في موضعها ان شاء الله تعالى.

  1. السبب الثالث:

ان البحث عن الفقه الخلافي واُصوله التي من أهمها هذه المسألة يعد امتداداً طبيعياً للبحث الكلامي حول الإمامة ويعبّر عن الجانب الثقافي للتشيع. ومن هنا نجد بعض الكتب الكلامية مشتملة على جملة من الأبحاث الأصولية في إطار الفقه الخلافي وقد أوضحنا ذلك في الجهة الرابعة من المدخل العام للمباحث الأصولية.

  1. السبب الرابع:

ان مشكلة اختلاف الأحاديث الشرعية أثرت في الاضطراب العقائدي ومن وظيفة المتكلم الحفاظ على هذا الجانب من الشؤون الدينية و هناك شواهد تاريخية تدل على أن المشككين قد اغتنموا موضوع اختلاف الأحاديث فاخذوا يزرعون الشك في قلوب المؤمنين فالملاحدة كانوا يعترضون على أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للتشكيك في أصل النبوة وجمع من مخالفي الامامية كانوا يعترضون عليهم باختلاف أحاديثهم ويجعلونه ذريعة لإبطال معتقدهم في الأئمة عليهم السلام او إدخال الشك في قلوب بعضهم.

ويشهد للأول ما ذكره الطحاوي المتولد سنة 239 والمتوفى سنة 321 وهو من أئمة الحنفية في مقدمة كتابه المشهور بـ معاني الآثار ما لفظه:

«سألني بعض أهل العلم ان أضع له كتاباً أذكر فيه الآثار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يتوهم أهل الالحاد والضعفة من أهل الاسلام ان بعضها ينافي بعضاً لقلة علمهم بناسخها ومنسوخها وما يجب العمل بها لما يشهد له من الكتاب والسنة المجمع عليها» وقد ذكروا أنه باكورة كتبه الكثيرة (دائرة المعارف الإسلامية ج 10: ص 100) ويظهر من ذلك اهتمامه بهذا الموضوع واحساسه للحاجة الماسة إلى حل هذه المشكلة.

و للأمر الثاني شواهد كثيرة نذكر بعضها حسب التسلسل الزمني:

الأول: ما في فرق الشيعة للنوبختي من أن من قال بإمامة أبي جعفر محمد الباقر عليه السلام أقاموا على إمامته إلى أن توفي غير نفر يسير منهم فإنهم سمعوا رجلاً منهم يقال له عمر بن رباح زعم أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن مسألة فأجابه فيها بجواب ثم عاد إليه في عام آخر فسأله عن تلك المسألة بعينها فأجابه بخلاف الجواب الأول فقال لأبي جعفر عليه السلام: هذا خلاف ما أجبتني في هذه المسألة العام الماضي فقال له: جوابنا ربما خرج على وجه التقية فشكك في أمره وإمامته... إلى آخر ما نقله

وحكى عنه في ضمن كلامه قوله: لا يكون إماماً من يفتي على الباطل بوجه من الوجوه ولا في حال من الأحوال ولا يكون إماماً من يفتي بتقية من غير ما يجب عند الله ولا من يرخي ستره ويغلق بابه ولا يسع الإمام إلا الخروج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمال بسببه إلى قول البترية ومال معه نفر يسير (فرق الشيعة: ص 72 ط النجف).

وقال الكشي: «عمر، قيل أنه كان أولا يقول بإمامة أبي جعفر عليه السلام ثم إنه فارق هذا القول وخالف أصحابه مع عدة يسيرة بايعوه على ضلالته فإنه زعم…» ونقل القضية بتمامها (رجال الكشي: ح 430).

ويظهر من كلام الكشي أن سبق اعتقاده بإمامة الباقر عليه السلام لم يكن ثابتاً لديه ولذا نسبه إلى قائل مجهول ولعله كان من أول الأمر معتنقاً لمذهب آخر أو منتحياً إلى جمعية معارضة واندس متسللاً في أصحاب الامام عليه السلام بغية إغواء بعضهم بالتشكيك في عقائدهم كما يشهد له اعتباره الشرائط المذكورة في الامام الامر الذي يدل على كونه جزءاً من عقائده مسبقاً.

ومهما كان فدفع مناقشاته في الإمامة بسبب عدم اعترافه بجواز التقية قولاً وعملاً بعد تسليم صدور الجوابين المختلفين موكول إلى علم الكلام كسائر ما ذكره بهذا الصدد.

الثاني: ما سيأتي من رواية أبي بصير قال:

«قيل لأبي جعفر عليه السلام وأنا عنده ان سالم بن ابي حفصة وأصحابه يروون عنك إنك تكلّم على سبعين وجهاً لك منها المخرج قال فقال: ما يريد سالم مني …» الحديث (1).

الكافي: ج 8 ص 100 ح 70 ورواه الكشي في رجاله ص 425 وفيه (قيل لابي عبد الله عليه السلام) ولم يذكر (واصحابه).

وسالم بن أبي حفصة من البترية أيضاً وإنما أراد هو وأصحابه بنقل هذا وأشباهه التشكيك في عقائد الناس بالنسبة إلى الصادق عليه السلام وسيجيء في موضعه توضيح مضمون هذه الرواية وان المراد بها التورية واللحن وهما من محسنات الكلام العربي.

الثالث: ما في فرق الشيعة للنوبختي أيضاً قال:

«وأما الفرقة الاُخرى من أصحاب أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام فنزلت إلى القول بإمامة أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام فلم تزل ثابتة على إمامته أيام حياته غير نفر يسير منهم …» إلى أن قال «ومالوا إلى مقالة البترية ومقالة سليمان بن جرير (1) وهو الذي قال لأصحابه …» إلى أن قال «وأما التقية فإنه لما كثرت على أئمتهم مسائل شيعتهم في الحلال والحرام وغير ذلك من صنوف أبواب الدين فأجابوا فيها وحفظ عنهم شيعتهم جواب ما سألوهم وكتبوه ودونوه ولم يحفظ أئمتهم تلك الاجوبة لتقادم العهد وتفاوت الأوقات لأن مسائلهم لم ترد في يوم واحد ولا في شهر واحد بل في سنين متباعدة وأشهر متباينة وأوقات متفرقة فوقع في أيديهم في المسألة الواحدة عدة أجوبة مختلفة متضادة وفي مسائل مختلفة أجوبة متفقة فلما وقفوا على ذلك منهم ردوا اليهم هذا الاختلاف والتخليط في جواباتهم وسألوهم عنه وأنكروه عليهم فقالوا: من أين هذا الاختلاف وكيف جاز ذلك قالت لهم أئمتهم إنما أجبنا بهذا للتقية ولنا أن نجيب بما أحببنا وكيف شئنا لأن ذلك الينا ونحن نعلم بما يصلحكم وما فيه بقاؤكم وكف عدوكم عنا وعنكم…» (فرق الشيعة: ص 75 ط النجف).

(1): هو من فقهاء الزيدية على ما في البحر الزخار ج 1 ص 40 وورد فيه انه اول من سمي بالابتر واليه تنسب البترية.

وسيأتي تفصيل القول في اختلاف الاجوبة الصادرة عن الأئمة عليهم السلام وأنه لا ينحصر فيما صدر في السنين المتطاولة وانه لا يعدو اختلافاً شكلياً موهوماً يرتفع بملاحظة اسبابه التي سنبينها إن شاء الله تعالى.

الرابع: ما نقله الصدوق في كمال الدين من أن أبا زيد العلوي ألّف كتاب الاشهاد وقال فيه:

«ان اختلاف الشيعة اما أن يكون مولداً من أنفسهم أو من الناقلين اليهم أو من عند أئمتهم فإن كان من قبل أئمتهم فالإمام من جمع الكلمة لا من كان سبباً لاختلاف الأمة سيما وهم أولياؤه دون أعدائه» (كمال الدين: ص 106 ط النجف) فأجاب عنه ابن قبة بما سننقله إن شاء الله تعالى.

الخامس: ما ذكره الشيخ في مقدمة التهذيب نقلاً عن بعض الأصدقاء انه ذاكره بشأن أحاديث أصحابنا وما وقع فيها من الاختلاف وان مخالفينا قد جعلوا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا وتطرقوا إلى إبطال معتقدنا… (إلى أن قال) «حتى دخل على جماعة ممن ليس لهم قوة في العلم ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ شبهة وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لما اشتبه عليه الوجه في ذلك وعجز عن حل الشبهة فيه …» إلى آخره.

فتبين مما قدمناه أن المتكلمين من الفريقين اندفعوا من جهات عديده لخوض غمار البحث عن حل لمشكلة اختلاف الأحاديث وستأتي الإشارة إلى الطرق التي ذكروها بهذا الصدد ويتبين منها أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين آرائهم وآراء المجتهدين وأصحاب النظر من الفقهاء ويظهر أنهم اتفقوا على تحميل أكثر المسؤولية على عاتق الرواة والمحدثين.

2.7الأمر السابع: في أسباب اهتمام المحدثين ومن يميل إليهم من فقهاء الفريقين بحل المشكلة

السبب الأول: الدفاع عن انفسهم وعن السنة المقدسة في قبال التهمة الموجهة إليهم من قبل المتكلمين والمجتهدين من الفقهاء وهذا هو السبب في تصنيف ابن قتيبة المتوفى سنة 213 او 217 كتابه المسمى بـ تأويل مختلف الحديث قال في مقدمته ما لفظه:

«فإنك كتبت إليّ تعلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل الحديث وامتهانهم واسهابهم في الكتب بذمهم ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الإختلاف وكثرت النحل وتقطعت العصم وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضا وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث» وذكر في الجواب بما يحتوي على تهجم شديد على المتكلمين من أهل السنة والشيعة ثم شنّع على فقهاء أهل الرأي وخصوصاً أبي حنفيه بما ينبغي أن يلاحظ. (راجع ص 51 طبعة بيروت)

السبب الثاني – وهو الأهم –: أن المحدثين بلحاظ مزاولتهم لنقل الأحاديث واختصاصهم فيه لمسوا تخالفها وتعارضها مما أوجب حدوث الريبة في نفوسهم بالنسبة لتمييز ما هو المطابق منها للواقع وبذلك أحسوا بالحاجة الماسة إلى حل المشكلة وخصوصاً عندما قرروا تدوين الجوامع وكان ابتداء تدوينها في أحاديث الشيعة في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث.

وبادر إلى ذلك جمع من أعلام أصحاب الإمامين الكاظم والرضا عليهما السلام وقد دعاهم إليه ما وجدوه في كتب السابقين والمعاصرين من خلل في التنظيم وعدم استيفاء للروايات المترابطة في الباب الواحد بلحاظ الموضوع الفقهي بل ربما كان بعضها مشتملاً على مجموعة من الروايات المتفرقة غير المترابطة وذلك مما يوجب عرقلة البحث الفقهي وكان لابد من تدوين ما يجمع شتات الأحاديث وتنظيمها تسهيلاً لعملية الاستنباط.

مضافاً إلى أن جمع الروايات المترابطة في باب واحد مما يساعد كثيراً في رفع الإختلاف الشكلي وذلك بملاحظة اقتران المتشابه من الروايات بالمحكم منها الأمر الذي يساعد في رفع التشابه عن القسم الأول وبملاحظة اقتران ما صدر عن الأئمّة عليهم السلام على أساس الإفتاء وتعيين الوظيفة العملية للمستفتين بما صدر عنهم عليهم السلام على أساس التعليم وإلقاء الأصول الكلية.

وهذا مما يوجب رفع الإختلافات الشكلية التي تكثر في الفتاوى بلحاظ تطبيق الأصول على الحوادث الخاصة المختلفة. ولا شك أن معرفة الأصول المرتبطة بموضوع الإستفتاء يساعد على معرفة وجه الاختلاف في الفتاوى وبالتالي يساعد في رفع الاختلاف.

وسيأتي توضيح ذلك في المقصد الثاني من هذه الأبحاث تحت عنوان «علل اختلاف الأحاديث».

هذا مضافاً إلى ما يترتب على تدوين الجوامع من نتائج أخرى هامة.

وبهذه المناسبة نودّ أن نلقي بعض الضوء على كتب الحديث لدى الشيعة الإمامية حين بدأ الطبقة السادسة من رواتنا بتأليف الجوامع الحديثية حيث تعتبر تلك الكتب كمصادر لهذه الجوامع. ونقصد بها خصوص ما ألف في الأحاديث المرتبطة بالأحكام الشرعية.

وهي تنقسم من حيث الترتيب الزمني إلى قسمين:

القسم الأول: ما ألف في القرن الأول للهجرة في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو أحاديث أمير المؤمنين عليه السلام. ومن هذا القسم كتب آل ابي رافع وكتاب سليم بن قيس الهلالي وهو من الأصول القديمة المعروفة وكتاب الاصبغ بن نباتة الذي روى عهد امير المؤمنين عليه السلام إلى الاشتر رضوان الله عليه ووصيته الى محمد ابنه. وكتاب ربيعة بن سميع عن أمير المؤمنين عليه السلام في زكوات النعم. ذكر ذلك جميعه النجاشي في رجاله.

القسم الثاني: ما ألف في القرن الثاني في أحاديث الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام وهي كتب كثيرة جداً. صنفها طبقتان من الرواة:

  1. الطبقة الرابعة وهم الذين أدركوا الإمامين عليهما السلام ولا يتجاوز تاريخ وفاتهم غالباً عن سنة 150 كزرارة ومحمد بن مسلم و حمران.
  2. الطبقة الخامسة وهم أحداث أصحاب الإمام الصادق عليه السلام وقد عدّ ابن عقدة من أصحابه أربعة آلاف رجل. ثم استدرك عليه بعض من تأخر عنه.

ولم يكن أصحاب الإمامين وتلاميذهما على غرار واحد فبينما كان منهم من يتلقى الأحاديث والفتاوى تلقياً ساذجاً من دون دراسة وتحليل أو تفريع واستنباط كان هناك جماعة منهم يتفقهون عليهما ويتلقون دروساً واسعة في تفسير آيات الكتاب المجيد وبيان السنة النبوية المقدسة واُصول الاحكام وجوامع الكلم وكيفية التفريع عليها وطريقة استنباط الاحكام من مصادرها وتمييز الناسخ من المنسوخ ومعرفة أساليب الكلام والاستنتاج من لحن القول ومن ملاحظة النصوص في الاطار الخاص الذي صدرت فيه من حيث الوضع الاجتماعي والحالة النفسية للمتكلم والسائل.

ثم إن كتب الحديث في هذه الطبقة لم تكن سواسية في درجة الوثوق والاطمئنان فهناك مزايا تتمتع بها بعضها دون بعض واليك نموذجاً منها:

  • العرض على الامام.

فقد كان بعض الاصحاب يعرضون مدوناتهم عليه ولا شك ان ذلك مما يزيد في الوثوق بمضامين الكتاب. قال النجاشي في ترجمة عبيد الله الحلبي:

«وصنف الكتاب المنسوب إليه وعرضه على أبي عبد الله  عليه السلام وصححه» (رجال النجاشي: ص 160).

  • التدوين عند سماع الحديث

فقد ورد في حديث عن ابن بكير قال:

«دخل زرارة على أبي عبد الله عليه السلام – إلى أن يقول – وفتح الواحه ليكتب ما يقول …» (جامع أحاديث الشيعة: ج 2 ص 54 ح 411).

وورد في حديث سعيد بن يسار أنه قال:

«سألت أبا عبد الله عيه السلام عن البعير بالبعيرين يداً بيد ونسية فقال نعم لا بأس إذا سميت الأسنان جذعين أو ثنيين ثم أمرني فخططت على النسية» (الوسائل: ج 12 ص 451 ب 17 من الربا).

ومن الواضح ان الحديث المدون اتقن وأوثق من الحديث المحفوظ.

  • العرض على فقهاء الأصحاب للتأكد على سلامة النقل.

ذكر سيدنا الاستاد هنا شاهدا لذلك عن مواريث كتاب الكافي ولم اعثر عليه.

  • شهرة الكتاب وكثرة رواته.

وقد وصف النجاشي كثيراً من الكتب بهذا الوصف حيث يقول: «رواه جماعات من أصحابنا» أو ما يقاربه من التعبير بخلاف بعض الكتب التي لم تشتهر في أوساط الرواة والعلماء، الأمر الذي كان يعرضها بالطبع للدس والتحريف وقد روى يونس عن هشام عن أبي عبد الله عليه السلام (في حديث) انه قال: «ان المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي…»

وقال يونس انه عرض كتباً من أصحاب الإمامين الباقر والصادق على الإمام الرضا عليهم السلام قال:

«فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله عليه السلام وقال لي: ان أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله عليه السلام لعن الله أبا الخطاب وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه السلام…» (1).

(1): رجال الكشي: ص 224 ح 201، جامع أحاديث الشيعة: ج 1 المقدمات ص 65 ح 9.

2.8الأمر الثامن: في بيان مسالك بعض قدماء أصحابنا رضوان الله عليهم في حل مشكلة اختلاف الأحاديث

والكلام في مواضع:

2.8.1الموضع الأول: في بيان مسلك أبي جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي

(1): ابن قبة بكسر القاف وفتح الباء على ما في خلاصة العلامة رحمه الله من علماء أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع وهو من مشاهير متكلمي الشيعة وفحولهم على ما اعترف به بعض من قارب عصره ويدل عليه بعض آثاره التي وصلت الينا بنقل الشيخ الصدوق في كمال الدين فمنها نقضه على كتاب الاشهاد الذي ألفه أبو زيد العلوي من علماء الزيدية في الرد والاعتراض على الامامية ولابن قبة آراء اُصولية بقي بعضها مورداً للبحث كاشكاله في معقولية التعبد بخبر الواحد بل مطلق الظن ويبحث عنه في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري وله أيضاً مناقشات ومباحثات في الامامة مع شيخ المعتزلة أبي القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي وهو متكلم اُصولي تنسب إليه الكعبية من المعتزلة وله شبهة معروفة في نفي المباح وقد توفي سنة 317 ويظهر من رجال النجاشي أن ابن قبة توفي قبله كما أن لابن قبة أسئلة عن الفيلسوف المتكلم الحسن بن موسى النوبختي وقد أجابه عنها وفي عصره عدل كثير من المعتزلة إلى مسلك الشيعة الامامية وكان ذلك قبل عصر الديالمة.

وقد تبين لنا مسلكه من خلال ما ذكره في نقض كتاب الاشهاد لأبي زيد العلوي على ماحكاه عنه الصدوق في كتابه كمال الدين قال أبو زيد

«ثم لم يخل اختلافهم من أن يكون مولداً من أنفسهم أو من عند الناقلين إليهم أو من عند أئمتهم فإن كان اختلافهم من قبل أئمتهم فالإمام من جمع الكلمة لا من كان سبباً للاختلاف بين الأمة لا سيما وهم أولياؤه دون أعدائه ومن لا تقية بينهم وبينه...» إلى آخر ما اعترضه على الشيعة على الافتراضين الآخرين أيضاً (كمال الدين: ص 106).

وقال أبو جعفر بن قبة في الرد عليه ما لفظه:

«إن اختلاف الامامية إنما هو من قبل كذابين دلسوا أنفسهم فيهم في الوقت بعد الوقت والزمان بعد الزمان حتى عظم البلاء وكان أسلافهم قوم يرجعون إلى ورع واجتهاد وسلامة ناحية ولم يكونوا أصحاب نظر وتمييز فكانوا إذا رأوا رجلاً مستوراً يروي خبراً أحسنوا به الظن وقبلوه فلما كثر هذا وظهر شكوا إلى أئمتهم فأمرهم الأئمة عليهم السلام بأن يأخذوا بما يجمع عليه فلم يفعلوا وجروا على عادتهم فكانت الخيانة من قبلهم لا من قبل أئمتهم...» إلى آخر ما أفاده.

ونعلق على كلامه بما يلي:

أولا: ان مراده من أسلاف الشيعة هو بعضهم من باب ذكر العام وإرادة الخاص فإن كثيراً من فقهائنا المعاصرين للأئمة عليهم السلام كانوا من نوابغ المفكرين والعلماء البارزين كزرارة ومحمد بن مسلم وجميل بن دراج ويونس بن عبد الرحمن وفضل بن شاذان وغيرهم ممن لا مجال هنا لعدهم ولم يكونوا يقولون بحجية خبر الواحد بل كانوا يعتبرون النقد للخبر ومقايسته بمضامين الكتاب والسنة وحكم العقل القطعي وملاحظة وجود شاهد عليه منها.

نعم كان هناك جماعة من الفقهاء ومن عامة الشيعة ممن ينطبق عليهم كلامه كما يتضح ذلك بملاحظة كتب الرجال وكلمات الاعلام كالمفيد والمرتضى والشيخ في الاعتراض على الحشوية من الشيعة.

ثانيا: ان الاختلاف الموجود بين الشيعة آنذاك كان على ثلاثة أنحاء:

  • الاختلاف الناشئ من الاختلاف الشكلي في كلمات الأئمة عليهم السلام

إما لكونه مقتضى طبيعة مستوى التبليغ من الفتيا والتعليم أو لأسباب اُخرى طارئة مما سيأتي بيانها.

  • الاختلاف الناشئ من اختلاف الرواة في النقل

مع التعمد أو بدونه وقد اهتم فقهاء الإمامية بهذه الناحية من علل الحديث وأسقامه اهتماماً بالغاً فاعتبروا النقد الداخلي (المضموني) والخارجي (السندي).

  • الاختلاف الذاتي الناشئ من تفاوت الفقهاء في مراتب الفقاهة ومعرفة أساليب الكلام ومضامينها وملاحظة ظروف المتكلم والسائل.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته في مسجد الخيف «نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب فرب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه…» (جامع أحاديث الشيعة: ج 1 المقدمات ص 53 ح 348).

وليست هذه الأنحاء الثلاثة من الاختلاف مما يخفى على مثل ابن قبة خصوصاً القسم الأول فقد صرح به في روايات كثيرة إلا أنه لم يتطرق لذكرها لعدم تناسبه في موضع النقض على مناقش جدلي متزمت أعني صاحب كتاب الاشهاد حيث يتوقف الاذعان بذلك على معرفة تامة واطلاع واسع في الشؤون الاجتماعية والنفسية ونحوها.

والظاهر ان المجادل الزيدي أراد بالترديد المذكور في كلامه التركيز على خصوص الاحتمال الثالث اي كون الاختلاف مستندا الى الائمة عليهم السلام وذلك كمحاولة لإبطال الاعتقاد بإمامتهم وادخال الريب في قلوب شيعتهم.

وكلامه هذا يعد امتداداً للحملة الاعلامية التي ارتكبها اسلافه من الزيدية ضد الأئمة عليهم السلام كما يظهر بملاحظة ما قدمناه عند البحث عن اسباب اهتمام المتكلمين بمشكلة اختلاف الأحاديث من الشواهد على ان الزيدية هم الذين اثاروا هذه الشبهة التي نشأت عن الجهل أو التجاهل بأسباب الاختلاف الشكلي التي لا تخفى على من كان مطلعاً على الشؤون الإجتماعية والموقف القيادي منها. وقد بقيت هذه الشبهة عند الزيدية يتوارثونها كما يظهر بملاحظة مقدمة كتاب التهذيب.

ثالثا: ربما يناقش فيما ذكره كعلاج للمشكلة وهو الاخذ بالمجمع عليه حيث ان الروايات المجمع على نقلها في غاية الندرة فلا يكفي ذلك في مقام معالجة الموقف لكثرة الروايات المتعارضة.

وهذه المناقشة واردة حتى على افتراض ان يكون المراد بالمجمع عليه ما يعم المجمع على الافتاء به ولعل الشيخ الاعظم الكليني قدس سره اشار الى هذا الاعتراض في كلامه في مقدمة الكافي حيث يقول: «ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا اقله» واشار بذلك إلى المرجحات المنصوصة وسيأتي توضيحه.

ولا يبعد ذلك تاريخياً حيث انهما كانا معاصرين وساكنين في بلدة واحدة وهي «ري» ومن المحتمل تلمذ الكليني على ابن قبة الذي وصف بكونه شيخ الإمامية في الري.

هذا ومن الممكن دفع المناقشة بان مراده من المجمع عليه ليس هو المجمع عليه حقيقة بل الأعم منه ومما هو كذلك حكما. ويستفاد هذا من كلام الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد ويتضح أكثر بملاحظة كلام شيخ الطائفة في مقدمة الاستبصار حيث انه بعد أن قسم الخبر إلى متواتر وغير متواتر والثاني إلى ما يقترن به قرينة توجب العلم وما ليس كذلك، وعد من القرائن إجماع المسلمين وإجماع الطائفة قال في القسم الآخر أي غير المتواتر:

«فإذا كان الخبر لا يعارضه خبر آخر فإن ذلك يجب العمل به لأنه من الباب الذي عليه الإجماع في النقل إلا أن تعرف فتاواهم بخلافهم ...» الى اخر كلامه. فاعتبر خبر الواحد الذي لم يعارضه خبر آخر ولا فتوى الأصحاب في حكم المجمع عليه.

ثم قال بعد فرض التعارض بين خبرين وذكر المرجحات:

«وإذا لم يمكن العمل بواحد من الخبرين إلا بعد طرح الآخر جملة لتضادهما وبعد التأويل بينهما كان العامل أيضاً مخيراً في العمل بأيهما شاء من جهة التسليم – إلى أن قال – ولأنه إذا ورد الخبران المتعارضان وليس بين الطائفة إجماع على صحة أحد الخبرين ولا على إبطال الخبر الآخر فكأنه إجماع على صحة الخبرين …» الى اخر ما افاد.

وتوضيح ما ذكره والتحقيق فيه موكول إلى مبحث الإجماع عند الكلام في المراد بالإجماع في مصطلح متأخري البغداديين من أصحابنا كالمفيد والمرتضى والشيخ قدس الله أسرارهم.

2.8.2الموضع الثاني: في بيان مسلك ثقة الإسلام الكليني قدس سره المتوفى 328 / 329

أما رأيه في حجية الخبر فالظاهر انه يعتمد على الصحيح باصطلاح القدماء وربما يستفاد من الروايات التي نقلها في باب الأخذ بشواهد الكتاب والسنة من الكافي انه يعتقد أن توافق الحديث لمضمون الكتاب والسنة يغني عن ملاحظة السند. ولتوضيحه محل آخر.

وأما فيما نحن بصدده فإنه قد نقل أحاديث متعددة في باب إختلاف الحديث من الكافي إلا أن موقفه النهائي يظهر مما ذكره في مقدمة كتابه حيث ذكر في جواب كتاب ارسله إليه بعض الشيعة:

«وذكرت أن أموراً قد أشكلت عليك لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها وإنك تعلم أن اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها وأسبابها وأنك لا تجد بحضرتك من تذاكره وتفاوضه ممن تثق بعلمه فيها وقلت إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدى فرض الله عزّ وجلّ وسنة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ...»

إلى أن قال

«فاعلم يا أخي أرشدك الله انه لا يسع أحداً تمييز شيء مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه إلا على ما أطلقه العالم بقوله عليه السلام: اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله عز وجل فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه وقوله: دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم وقوله عليه السلام خذوا بالمجمع عليه فإن المجمع عليه لا ريب فيه. ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردِّ علم ذلك كله إلى العالم وقبول ما وسّع من الأمر فيه بقوله بأيّما أخذتم من باب التسليم وسعكم …» الى اخره. (الكافي ص 8)

ولتوضيح مسلكه وبيان موقفنا منه لابد من ملاحظة ما يلي:

أولا: ان الظاهر من كلام السائل بنقل الكليني رحمه الله انه يذعن بأنّ الحكم الواقعي واحد سواء كان من فرائض الله أو سنن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وانه قد خفي عليه ذلك في بعض الموارد نتيجة لاختلاف الروايات الواردة فيها وان اختلافها لا يحكي عن اختلاف واقعي في آراء الأئمة عليهم السلام وأقوالهم بل هو تابع لعلل اُخرى.

وما يمكن أن يعتبر علة للاختلاف إما أن يكون أحد أسباب الاختلاف الشكلي الذي يقتضيه طبيعة تبليغ الحكم وإما أن يكون من ناحية النقلة والرواة.

ولا شك أن تمييز كون الاختلاف الملحوظ بين الروايات من أحد القسمين وبالنتيجة استكشاف الحكم الواقعي على ضوء معرفة سبب الاختلاف يتوقفان على خبرة ودراسة وعلم بالأسباب بصورة عامة وقدرة على التطبيق في الموارد الخاصة. ويظهر ان الخبير الموثوق به في ذلك هو ضالة هذا السائل.

ثانيا: ان المتراءى من العقد المستثنى منه في جواب الكليني (لا يسع أحداً …) هو أنه رحمه الله لا يجوّز محاولة تمييز الحق من الباطل على أساس الشواهد والقرائن العقلائية مطلقاً بدعوى انه من العمل بالرأي الممنوع عنه شرعاً ولعل من اسباب نسبة القول بالراي والقياس إلى جمع ممن تقدم عليه هو التعدي عن المرجحات المنصوصة. وتوضيح ذلك في محله.

و الكليني يرى أن هناك وظيفة تعبدية شرعية تجاه الروايات المتعارضة ولابد من العمل وفقاً لها ليتحقق اتباع الأثر، ويرى الوظيفة منحصرة في أحد الأمرين:

إما الترجيح بالمرجحات الثلاثة المنصوصة وإما التخيير الأخذي من باب التسليم.

وسيجيء البحث عن ذلك عند الكلام في جواز التعدي عن المرجحات المنصوصة وعدمه.

ومن ملاحظة هذه الزاوية من جواب الكليني قدس سره مع ما استظهرناه من فكرة السائل يظهر أنه لم يوافقه في ما يراه الحل الطبيعي لمشكلة اختلاف الأحاديث والذي يتم بالبحث عن علل الاختلاف وأسبابه. وسيأتي في شرح منهج الصدوق ومشايخه توضيح هذا الاتجاه وبيان أنه كان الرأي السائد في تلك العصور ولعل السائل كان متأثراً بهذه المدرسة.

وأما الكليني فإنه يرى وجوب التسليم والتعبد المحض الذي يمثل التخيير أسلم طريق لتحقيقه.

وسيتبين ان شاء الله تعالى من الابحاث الآتية قيمة كل من الاتجاهين وتمييز ما هو الاقرب الى الصواب منهما.

ثالثا: أنه يرى الاعتماد على المرجحات المنصوصة في حل مشكلة الاختلاف أمراً مشكلاً أيضاً إذ لا يمكن الجزم بانطباق كل منها في مرحة التطبيق. وبتخلل النظر والرأي يعود الإشكال السابق في التعدي عن المرجحات المنصوصة وقد أوضح كل من العلامة المجلسي والمحدث البحراني مدعاه (مرآة العقول: ج 1 ص 23 ط طهران، الحدائق: ج 1 ص 106). وقال الأول في آخر كلامه: «فظهر ان ما ذكره قدس سره من قلة ما يعرف من ذلك حق».

هذا وقد مر احتمال أن تكون هذه الجملة إشارة إلى الاعتراض على ابن قبة حيث اكتفى بالأخذ بالمجمع عليه.

رابعا: قد اختلف في مراده قدس سره وانه هل يقول برفع اليد عن المرجحات مع كثرة رواياتها والأخذ بالتخيير مطلقاً أم يقول بالتخيير مع عدم التمكن من الترجيح.

قال العلامة المجلسي رحمه الله

«…لكن كلامه يحتمل وجهين، الأول: انه لما كان الاطلاع عليها عسراً والانتفاع بها نزراً فينبغي تركها والأخذ بالتخيير وهذا هو الظاهر من كلامه فيرد عليه انّ ذلك لا يصير سبباً لتركها فيما يمكن الرجوع اليها مع ورودها في الأخبار المعتبرة. والثاني: أن يكون المراد ان الانتفاع بقاعدة التخيير أكثر والانتفاع بغيرها أقل ولابد من العمل بها جميعاً في مواردها. وهذا صحيح لكنه بعيد من العبارة ويؤيد الأول ترك المصنف إيراد الاخبار المتعارضة واختيار ما هو قوي عنده. وفيه ما فيه …» الى اخره. (مرآة العقول: ج 1 ص 24)

وقال صاحب الحدائق:

«المستفاد من كلام ثقة الإسلام وعلم الاعلام قدس سره في ديباجة كتاب الكافي ان مذهبه فيما اختلفت فيه الأخبار هو القول بالتخيير ولم أعثر على من نقل ذلك مذهباً له مع أن عبارته طاب ثراه ظاهرة الدلالة طافحة المقالة. وشراح كلامه قد زيفوا عبارته و اغفلوا مقالته». (الحدائق: ج 1 ص 106)

واختار هذا الرأي في تفسير كلامه المحقق الخراساني قدس سره في الكفاية وبه ردّ من ادّعى الاجماع على لزوم الترجيح في الجملة (الكفاية: ج 2 ص 395) وستأتي المناقشة فيما أفاده مفصلاً إن شاء الله تعالى.

هذا ولكن الأكثر استظهر من عبارته القول بالترجيح ثم التخيير وسيأتي ان صاحب الكفاية قد حصلت له شبهة في نقل العبارة.

وممن قال بهذا القول المحدث الاسترآبادي على ما حكاه السيد الطباطبائي في رسالة التعادل و التراجيح والسيد نفسه (رسالة التعادل و التراجيح: ص 204) والمحقق الاصفهاني وجماعة اُخرى بل يستفاد من كلام صاحب الحدائق الذي مر نقله انه قول جميع شراح الكافي كما يظهر ذلك أيضاً بملاحظة كلام المجلسي والقزويني. وهذا هو الصحيح.

فتحصل ان مراده هو أن القطع بانطباق أحد المرجحات الثلاثة غير حاصل إلا نادراً وبذلك تنحصر وجوه الاستفادة منها في موارد لا يعتد بها.

وأما ما أيّد به العلامة المجلسي إرادة المعنى الأول وهو ترك الكليني إيراد الاخبار المتعارضة فيمكن أن يناقش فيه باحتمال أن يكون الكليني مقتصراً على نقل الاخبار التي يرى العمل بها إما من باب الترجيح أو التخيير. أضف إلى ذلك أنه يتعرض في بعض الموارد للأخبار المتعارضة كما صنعه في كتاب الصوم حيث نقل أولاً الروايات الدالة على اعتبار الرؤية ثم استعرض الروايات الدالة على القول بالعدد تحت عنوان (باب نادر) الأمر الذي يوحي بعدم الاعتماد عليها.

خامسا: ان في كلامه «ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع…» لفاً ونشراً مرتباً.

ومراده أن الأحوط رد علم ذلك إلى العالم تجنباً عن شبهة القول بالرأي والأوسع قبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه السلام «بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» وهذا هو الظاهر من شراح الكافي ويقتضيه التدبر في العبارة.

ولا يظهر منها الحكم بكون التخيير أحوط كما فهمه الشيخ الأعظم الأنصاري وحاول توجيهه (الرسائل: ص 449) وتبعه صاحب الكفاية والظاهر انه نشأ من الإيجاز المخل بالمقصود في نقل العبارة حيث وردت في الكفاية هكذا «ولا نجد شيئاً أوسع ولا أحوط من التخيير» والعبارة ليست كذلك.

سادسا: سيأتي أن التخيير الأخذي لا يستفاد من الروايات وإنما يستفاد منها التخيير في خصوص الموسعات.

إذن فلا يمكننا الموافقة مع الشيخ الأعظم الكليني قدس سره على منهجه هذا حتى مع فقد المرجحات كما سيتضح في موضعه إن شاء الله تعالى. ولا يبعد أن يكون الأساس في تبلور هذه الفكرة لديه هو ملاحظة الروايات الدالة على تفويض أمر الدين إلى الأئمة عليهم السلام والتي عقد لها باباً في كتاب الحجة من الكافي وسيجيء البحث عن مفادها في محله إن شاء الله تعالى.

سابعا: ان في كلامه نقطتي إبهام:

الأولى: انه لم يتعرض للجمع الدلالي بكلا منهجيه: منهج القدماء الذي سنشير إليه في موضع بيان مسلك الصدوق والمفيد قدس سرهما ومنهج المتأخرين الذي سنوضحه إن شاء الله تعالى في المقصدين الأول والرابع.

مع أن لهذه النقطة أهمية قصوى في دفع توهم الاختلاف بين الروايات وقلما يجد الباحث في كتاب الكافي إشارة إلى الجمع بين الأحاديث على غرار ما نراه متوفراً في الفقيه والتهذيبين وعليه دأب القدماء كما يستفاد من تصريح بعضهم وملاحظة فتاواهم التي تبتني على أساس الجمع بين الأحاديث. ومن هذه الجهة يمكن أن يعد مسلكه مخالفاً للمشهور.

الثانية: انه لم يتعرض للمقياس الذي يتميز به الصحيح من الأحاديث عن غيره والمعمول به منها عن غيره.

وهناك نقطة اُخرى يمكن أن تعتبر وجهة خلاف بين الكليني والمسلك المشهور وهي عدم الاعتناء بالمرجحات مطلقاً أو في غير الموارد النادرة مع الحكم بعدم التعدي عن المرجحات المنصوصة.

وهذا مما يبتني عليه مسلكه على كلا التفسيرين لكلامه المتقدم ولا يمكن ان ينسب ذلك إلى المشهور بل يمكن دعوى الشهرة على خلافه. نعم يظهر من بعض المتأخرين ممن يميل إلى مسلك الأخباريين موافقته لذلك في الجملة وسنذكر كلامه ونقده في المقصد الثالث عند التعرض لروايات التخيير من الاخبار العلاجية.

2.8.3الموضع الثالث: في بيان مسلك محمد بن أحمد بن الجنيد الاسكافي قدس سره

وهو من أعلام فقهاء الطائفة في منتصف القرن الرابع.

لم يذكر في التراجم تاريخ ولادة ابن الجنيد ولا وفاته ويمكن استكشاف عصره بالتقريب من ملاحظة ما يلي:

  1. يستفاد من المسائل الصاغانية للمفيد ص 17 انه سافر إلى نيسابور سنة 340 وانه كان آنذاك من مشاهير فقهاء الإمامية.
  2. ورد في كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 241 أنه ينقل عن الشلمغاني المقتول سنة 323 وذلك بعد ارتداده.
  3. عدّ النجاشي من مؤلفاته جوابات معز الدولة وهو من أمراء آل بويه وقد تولى الحكم سنة 334 وتوفي سنة 356 وهذا يدل على أنه كان آنذاك بمكانة من الشهرة في العلم. وكذا عدّ منها جوابات سبكتكين العجمي وهو من قواد معز الدولة.
  4. انه راوي كتاب أحمد بن محمد بن أحمد بن طلحة العاصمي كما في طريق الشيخ اليه في الفهرست ص 52 بعنوان (أحمد بن محمد بن عاصم) والعاصمي من مشايخ الكليني كما صرح به في الروضة من الكافي ذيل ح 3 صحيفة علي بن الحسين عليه السلام.
  5. يروي عنه المفيد في المسائل الصاغانية ص 19 ويظهر منه انه كان يناقشه في بعض آرائه مواجهة. وكانت ولادة المفيد سنة 336 / 338 ولا أقل من أن تكون مناقشتهما في حوالي سنة 360
  6. عدّه ابن النديم في الفهرست قريب العهد به وقد ألفه في سنة 377 كما صرح به في مقدمته ومن هنا يظهر ان وفاته كان قبل ذلك فما قيل من أن وفاته سنة 381 غير صحيح ولعله نشأ من الاشتباه الذهني بين تاريخ وفاته ووفاة الصدوق.

ويستفاد مما ذكره الشيخ المفيد في عبارته الآتية انه يعدّ من أنحاء الاختلاف الواقع في الروايات المنقولة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ما يستند إلى قولهم بالرأي. وفي تفسير هذه العبارة اتجاهان:

الإتجاه الأول: ان مراده من ذلك هو تعليل بعض أنحاء الاختلاف في رواياتهم باستناد بعض فتاواهم إلى القياس وما يشبهه وأساس هذا الاتجاه هو التفسير المعروف في اصطلاح المحدثين لكلمة «الرأي» حيث انهم يسمون القائلين بالقياس أصحاب الرأي ويقصدون بذلك أنهم يأخذون بآرائهم فيما يشكل من الحديث وما لم يأت فيه حديث ولا أثر. (راجع لسان العرب: ج 16 ص 300 ط بيروت)

وقد نسب المفيد قدس سره القول باستناد الأئمة إلى الرأي إلى بعض القميين ممن ورد عليه (تصحيح الاعتقاد: ص 261 ط النجف) وسلك العلامة الطباطبائي هذا الاتجاه في تفسير عبارة المفيد الآتية حول مسلك ابن الجنيد فقال في ترجمته:

«والظاهر انه قد زلت لهذا الشيخ المعظم قدم في هذا الموضع ودعاه اختلاف الاخبار الواردة عن الأئمة عليهم السلام إلى القول بهذه المقالة الردية» (الفوائد الرجالية: ج 3 ص 14).

ولا ريب في فساد القول باستناد الأئمة عليهم السلام إلى الرأي بل فساده من ضروريات المذهب. وقد صرح في كثير من الروايات بأنه لم يكن شيء من فتاواهم مبتنياً على الرأي والقياس وأنهم إنما يحكمون بموجب اُصول علم يرثونها كابر عن كابر وان لديهم صحف علي عليه السلام مما أملاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فلق فيه. (للتحقيق عن جميع ذلك راجع جامع أحاديث الشيعة: المقدمات، باب حجية فتوى الائمة عليهم السلام).

أضف إلى ذلك الروايات الكثيرة الواردة في مستقى علومهم وانهم مؤيدون بالتأييد الغيبي الإلهي ومعصومون من الزلل والخطأ وحسبك من ذلك حديث الثقلين المتفق عليه المصرح بأنهم لن يفترقوا عن الكتاب.

الاتجاه الثاني: انه يقصد بذلك خصوص الاحكام الصادرة عنهم بما أنهم ولاة الأمر وهي مقصورة على الحدود التي فوض إليهم أمر التشريع فيها بلحاظ المصالح المتغيرة وهي الموسعات – على حد تعبير بعض الأحاديث – وخصوصاً في التعزيرات والحدود وسائر الاحكام الجزائية الموسعة.

ونطلق على جميعها منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي ويظهر ذلك أيضاً بملاحظة الروايات المختلفة الواردة في كفارة وطي الحائض. ولهذا الاجمال تفصيل سيأتي في الفصل المخصص للبحث عن علل اختلاف الأحاديث.

وملخص هذا الاتجاه ان الاحكام الصادرة عنهم عليهم السلام على نحوين:

النحو الأول: ما كان على نحو التبليغ عن الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم من الفرائض والسنن والاختلاف الواقع فيها إما من ناحية التقية أو هو اختلاف شكلي تكمن وراءه الحقيقة التي يمكن استكشافها بملاحظة الجمع الدلالي والاستنباطي.

النحو الثاني: ما كان صادراً على وجه الولاية على المسلمين. والاختلاف فيها اختلاف واقعي يتبع تغير المصالح التي تبتني عليها تلك الاحكام فلا مجال للجمع الدلالي فيها.

وهذا الاتجاه هو الأوفق بعبارة المفيد التي تمثل رأي ابن الجنيد قدس سرهما حيث قال في المسائل السروية: (1) «واجبت عن المسائل التي كان ابن الجنيد جمعها وكتبها إلى أهل مصر ولقبها بالمسائل المصرية (2) وجعل الاخبار فيها أبواباً وظن أنها مخلتفة في معانيها ونسب ذلك إلى قول الأئمة عليهم السلام فيها بالرأي وأبطلت ما ظنه في ذلك وتخيله وجمعت بين جميع معانيها حتى لم يحصل فيها اختلاف». (الفوائد الرجالية للسيد بحر العلوم: ج 3 ص 208)

1: قيل: ورد في أولها «انها المسائل التي سألها عنه سيد شريف فاضل بسارية مازندران» وهذا وجه تسميتها بالمسائل السروية. وقد اثبتها في قائمة تصانيفه ابن شهر اشوب المتوفى سنة 588 في معالم العلماء. والجدير بالملاحظة أن ابن شهراشوب من سارية مازندران ايضاً وهو مما يقوي احتمال وصول الرسالة اليه يدا بيد ولم نجد في كلمات المتأخرين الذي تعرضوا لذكرها والتي اطلعنا عليها توقفا في ثبوتها للمفيد قدس سره الا ما في معجم رجال الحديث: ج 14 ص 342 في ترجمة ابن الجنيد.

2: الظاهر أنها هي التي ذكرها النجاشي من مصنفات ابن الجنيد بعنوان (رسالة الجنيدي إلى أهل مصر) راجع ترجمه في رجال النجاشي).

 

وهو المناسب ايضاً للمقام الشامخ الذي يشغله هذا الشيخ الجليل بين اعلام الطائفة ورواد المذهب كما هو واضح من ملاحظة الكلمات التي قيل في ترجمته (لاحظ الفوائد الرجالية لسيدنا العلامة بحر العلوم قدس سره).

اُضف إلى ذلك أن ملاحظة فتاواه المنقولة في المصادر الفقهية تنبئ عن تسليمه واتباعه لروايات أهل البيت عليهم السلام اتباع من لا يجد في نفسه حرجاً مما حكموا به حيث يستند فيها إلى الكتاب والسنة المنقولة عن طرقهم عليهم السلام الأمر الذي يدل بوضوح على أنه يؤمن بها مصدراً غنياً للأحكام الشرعية وذلك لا يجتمع مع اسناد فتاواهم إلى الرأي والقياس.

هذا مع أنا نجد من حكم بترك كتبه وعدم الاعتناء بفتاواه في تحديد الوفاق والخلاف خلافاً للأكثر إنما يعلل ذلك بذهابه إلى القول بالقياس. ولو كان قائلاً باستناد الأئمة عليهم السلام إلى الرأي لكان أجدر بالتعليل لأنه أبعد عن المذهب وأوضح فساداً.

وربما يناقش في هذا الاتجاه الذي اخترناه لتفسير عبارة ابن الجنيد قدس سره ان استنكار المفيد لرأيه مما يبعد احتمال ذلك إذ لا يبقى له مبرر بناء على هذا الاحتمال.

والجواب عنه ان المستفاد من ملاحظة فتاوى فقهائنا رضوان الله عليهم منذ عصر المفيد إلى زماننا والذي يظهر أيضاً من منهجهم الاستدلالي هو اعتبار جميع الأحكام المنقولة عن الأئمة عليهم السلام في رواياتنا صادرة – على تقدير صدورها – على أساس التبليغ عن الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يظهر منهم اعتبار صدور بعضها على اساس الولاية وبما أنهم أصحاب السلطتين القضائية والتنفيذية ولذلك لم يحاولوا توجيه بعض أنحاء الاختلاف في الأحاديث على هذا الأساس ولعل ذلك مما يوهمه ظاهر بعض الروايات وسيأتي الكلام فيه في فصل خاص ان شاء الله تعالى.

فهذا هو السبب في عدم ملاحظة المفيد قدس سره هذا الاحتمال في كلامه والله العالم.

2.8.4الموضع الرابع: في بيان مسلك الشيخ الصدوق قدس سره المتوفى سنة 381.

ولا يبعد أن يكون هذا أيضاً مسلك والده علي بن بابويه المتوفى سنة 329 ومسلك شيخه محمد بن الحسن بن الوليد المتوفى 343 – ولو في خطوطه الاصلية – لقيام الشواهد الكثيرة على توافق الثلاثة في المنهج العلمي بل يمكن أن يعد ذلك مسلك بعض من تقدم عليهم كصاحب كتاب التكليف.

والمصدر الذي استقينا منه نظرية الصدوق هو رسالة الاعتقادات في الدرجة الأولى ثم ملاحظة تحقيقاته وتطبيقاته الخاصة المتفرقة في الفقيه وغيره من مؤلفاته.

وله في رسالة الاعتقادات فصلان يرتبطان بموضوع بحثنا:

الأول: ما ذكره بعنوان «باب الاعتقاد في الاخبار المفسرة والمجملة» وفيه «قال الشيخ: اعتقادنا في الحديث المفسر انه يحكم على المجمل كما قال الصادق عليه السلام».

الثاني: ما ذكره بعنوان: «باب الاعتقاد في الحديثين المختلفين» قال فيه:

«اعتقادنا في الاخبار الصحيحة عن الأئمة عليهم السلام انها موافقة لكتاب الله متفقة المعاني غير مختلفة لأنها مأخوذة من طريق الوحي عن الله سبحانه ولو كانت من عند غير الله لكانت مختلفة ولا يكون اختلاف ظواهر الاخبار إلا لعلل مختلفة مثل ما جاء في كفارة الظهار عتق رقبة وجاء في خبر آخر صيام شهرين متتابعين وجاء في خبر آخر اطعام ستين مسكيناً وكلها صحيحة. فالصيام لمن لم يجد العتق والاطعام لمن لم يستطع الصيام وقد روي انه يتصدق بما يطيق وذلك محمول على من لم يقدر الاطعام ومنها ما يقوم كل واحد منها مقام الآخر مثل ما جاء في كفارة اليمين اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ومن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. فإذا ورد في كفارة اليمين ثلاثة أخبار احدها الاطعام وثانيها الكسوة وثالثها تحرير رقبة كان ذلك عند الجعل مختلفا وليس بمختلف بل كل واحدة من هذه الكفارات يقوم مقام الأخرى وفي الاخبار ما ورد للتقية» (اعتقادات الصدوق الباب الأخير).

ثم نقل رواية سليم بن قيس الهلالي المفصلة عن أمير المؤمنين عليه السلام وسيأتي الكلام حولها إن شاء الله تعالى.

وهنا عدة نقاط لابد من ملاحظتها لتوضيح نظريته:

  1. النقطة الأولى:

ان المراد بـ «المجمل» في كلامه ليس هو المعنى المصطلح بل يشمل كل ما أطلق فيه الحكم. والمراد بـ «المفسر» الذي قد يعبر عنه بـ «المفصل» أيضاً في بعض موارد «الفقيه» هو ما يدل على اختصاص الحكم ببعض الصور فيشمل الخاص والمقيد إذا اقتضت القواعد حمل المطلق على المقيد ويتضح ذلك بملاحظة تطبيقاته في الفقيه نذكر نموذجين منها:

  • النموذج الأول:

أنه ينقل في الفقيه رواية تدل على أن الوصية لا تنفذ إلا في الثلث. ثم قال:

«وأما حديث علي بن أسباط «الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح ان أوصى به كله فهو جائز له» فإنه يعني به إذا لم يكن له وارث قريب ولا بعيد فيوصي بماله كله حيث شاء ومتى كان له وارث قريب أو بعيد لم يجز له أن يوصي بأكثر من الثلث وإذا أوصى بأكثر من الثلث رد إلى الثلث وتصديق ذلك ما رواه اسماعيل بن أبي زياد السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام انه سئل عن الرجل يموت ولا وارث له ولا عصبة قال: «يوصي بماله حيث يشاء في المسلمين والمساكين وابن السبيل». وهذا حديث مفسر والمفسر يحكم على المجمل». (من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 150 ط طهران ب 97)

  • النموذج الثاني:

وفيه أيضاً:

«وفي كتاب زياد بن مروان القندي وفي نوادر محمد بن أبي عمير ان الصادق عليه السلام قال: «في رجل صلى بقوم من حين خرجوا من خراسان حتى قدموا مكة فإذا هو يهودي أو نصراني قال: «ليس عليهم إعادة»» وسمعت جماعة من مشايخنا يقولون انه ليس عليهم اعادة شيء مما جهر فيه وعليهم اعادة ما صلى بهم مما لم يجهر فيه والحديث المفصل يحكم على المجمل» (من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 263 ح 110 في الجماعة وفضلها).

ويلاحظ في كلامه انه ينزل فتاوى مشايخه منزلة روايتهم وهذا كان أمراً متعارفاً عند جماعة من القدماء بالنسبة إلى فتاوى بعض الأعاظم كما أوضحناه في مبحث الاجماع وأشرنا إلى مصادره.

  1. النقطة الثانية:

أنه جعل موضع البحث خصوص اختلاف الاخبار الصحيحة. ويظهر من كلامه ان اختلاف الأحاديث لا تنافي الحكم بصحتها.

ولابد من تقييم هذه الدعوى بناء على التفسيرين القديم والحديث لكلمة «الصحيح» فنقول:

«الصحيح» في المصطلح الحديث هو خصوص ما كانت رواته عدولاً اماميين وربما يطلق على ما يشمل خبر الثقة وان كان غير إمامي أو يتوسع فيطلق على ما يشمل خبر الامامي الممدوح المعبر عنه في اصطلاح المتأخرين بالحسن وعلى جميع هذه التقارير فمن الواضح ان اختلاف الحديثين لا يوجب سلب وصف الصحة عن شيء منهما بعد أن كان المقياس في الصحة هو الوصف الخاص في السند ولا ينافي ذلك القول بسقوط أحدهما عن الحجية.

وأما «الصحيح» في المصطلح القديم فيراد به خصوص ما يثبت صدوره عن المعصوم وهو المناسب للمعنى اللغوي للكلمة والمتعارف استعماله لدى القدماء إلى زمان حدوث المصطلح الجديد وتنويع الأحاديث. وما نسبه المحدث النوري إلى القدماء من أن الصحيح عندهم هو خصوص خبر الثقة فالشواهد تدفعه.

ومن الممكن أن يناقش في الدعوى المذكورة على هذا الاصطلاح نظراً إلى أن التعارض المستقر قد يمنع من حصول الاطمئنان بصدور المتعارضين وذلك كنتيجة حتمية لسراية الريبة الحاصلة من العلم الاجمالي بمخالفة أحد الخبرين للواقع إلى مرحلة الصدور وعليه فلا يمكن الاذعان باتصافهما معاً بالصحة.

ولعل الوجه في عدم اهتمامه بهذه المناقشة ما سيأتي توضيحه ان شاء الله تعالى من أن تصريحات الأئمة عليهم السلام بوقوع الاختلاف في كلماتهم وانهم يتكلمون على سبعين وجهاً تمنع من سراية الريبة إلى مرحلة الصدور إلا بعد فقدان الوجوه المبررة للاختلاف.

ولا يتحقق ذلك إلا في بعض الموارد النادرة. وهذا هو السبب في عدم تعرضه رحمه الله للمرجحات عند التعارض. وحيث ان الرسالة مبنية على الاختصار وغير مخصصة لبيان اُصول الفقه لم تناسب اطالة الكلام والتعرض لجميع الفروض والمحتملات.

ومهما كان فالصدوق لم يتعرض الا لاختلاف الأحاديث الصحيحة لعدم حجية ما عداها فلا يمكن أن تعارض الصحيحة ولا عبرة بما اتفق منها فكيف بما تعارض.

  1. النقطة الثالثة:

ان في قوله: «الاخبار الصحيحة … متفقة المعاني غير مختلفة» إشارة إلى عدم ارتضائه للقول بالاختلاف الواقعي في كلام الأئمة عليهم السلام ولو في الجملة. وهذا الرأي يتمثل في مسلكين:

المسلك الأول: القول بأن من أسباب اختلاف روايات الأئمة عليهم السلام استنادهم إلى الآراء والظنون في الفتاوى. وهذا ما نقله شيخنا المفيد عن بعض القميين وقد تقدم. كما تقدم انه أضعف الاحتمالين في عبارة ابن الجنيد الذي كان معاصراً للصدوق. (من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 24 و 25 باب صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)

المسلك الثاني: القول بأن منشأ الاختلاف هو تفويض أمر الدين إلى الأئمة عليهم السلام. وذلك على أحد وجهين:

الوجه الأول: أن يقال به في جميع موارد اختلاف الاخبار الصحيحة بصورة عامة.

وهو يناسب مسلك الكليني الذي هو في طبقة مشايخ الصدوق حيث ذهب إلى جواز الأخذ بكل من الخبرين المختلفين من باب التسليم ويشهد له الباب الذي عقده في الكافي لنقل روايات التفويض وخصوصاً المشتملة منها على تعليل اختلاف الحديث بالتفويض.

وليس لنا أن نناقش في مسلكه أو نستبعد منه نظراً إلى لزوم مخالفة الروايات للكتاب والسنة وتحليل الحرام وتحريم الحلال وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار ان الكليني إنما يقول به في خصوص الاخبار الصحيحة وهو يعتبر من شروط صحة الخبر الأخذ بشواهد الكتاب والسنة كما مر فما يخالفهما هدفاً وروحاً ساقط عن الحجية رأساً.

الوجه الثاني: ان يقال به في خصوص الروايات الناقلة للأحكام الصادرة من باب الولاية العامة وعليه فالسر في الاختلاف هو اختلاف المصالح المتغيرة التي تتبين عليها تلك الأحكام وهذا هو الذي استظهرناه من كلام ابن الجنيد رحمه الله.

والصدوق لا يوافق المسلكين جميعاً أما الأول فواضح وأما الثاني فلما يظهر من بعض كلماته منها ما ذكره في الفقيه بشأن الوضوء بعد أن روى رواية الأحول:

«فرض الله الوضوء واحدة واحدة ووضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للناس اثنين اثنين»

فعقبها بقول

«وهذا على جهة الانكار لا على جهة الاخبار كأنه عليه السلام يقول: حدّ الله حدّاً فتجاوزه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعداه؟! وقال الله تعالى {ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه} ثم قال بعد نقل عدة روايات: وقد فوّض عز وجل إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أمر دينه ولم يفوّض اليه تعدّي حدوده» ().

ولا يبعد أنه حمل روايات التفويض على التفويض في مرحلة النشر والكتمان كما هو أحد المحتملات في بعض الروايات الدالة عليه.

  1. النقطة الرابعة:

قوله: «ولا يكون اختلاف ظواهر الأخبار إلا لعلل مختلفة» يشير بذلك إلى علل اختلاف الاخبار في مرحلة الصدور عن المعصومين عليهم السلام حيث ان مورد كلامه الاخبار الصحيحة. ولم يتعرض للاختلاف الناشئ في مرحلة الرواية والنقل عن عمد أو غير عمد. والإمام أمير المؤمنين عليه السلام أشار في حديثه الذي نقله إلى كلا القسمين.

قال عليه السلام: (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده …) والرواية مروية في نهج البلاغة ومصادر اخرى كما مر الكلام فيها وسيجئ مفصلاً إن شاء الله تعالى.

ثم ان كلامه رحمه الله بما أنه يشتمل على الاعتراف بوجود أنحاء من الاختلاف في الاخبار الصحيحة أي التي تثبت صدورها عن الأئمة عليهم السلام يصلح ان يعتبر مشيراً إلى عدم ارتضائه بما نقله في إكمال الدين عن ابن قبة حيث حمل مسؤولية الاخبار على الوضاعين والدساسين وأدان متقدمي رواة الإمامية بأنهم تساهلوا في التدقيق في أحوال الرواة.

  1. النقطة الخامسة:

نستنتج من مجموع كلامه في الفصلين أنه يقسم الاخبار المتعارضة بالمعنى الأعم إلى أربعة أقسام:

  • القسم الأول:

ما ذكره في الفصل الأول ولم يعتبره من أقسام الأحاديث المختلفة وهو ما يمكن فيه الجمع الدلالي حيث حكم فيه بحكومة الأخبار المفسرة على المجملة وقد مر توضيحه. والظاهر من سياق كلامه أنه لا يرى في هذا القسم وجهاً للبحث عن علل الاختلاف لكونه بدوياً غير مستقر.

  • القسم الثاني:

ما أشار اليه بقوله: «مثل ما جاء في كفارة الظهار» وهو الذي يعبر عنه في الفقيه بـ «اختلاف الحكم باختلاف الأحوال» و لتوضيحه نذكر ما يلي:

أولا: ان أغلب الاحكام المنقولة عن الأئمة عليهم السلام صادرة في مقام جواب المستفتين وهم بطبيعة الحال مختلفون في الوظيفة العملية لاختلافهم في الظروف والإمكانيات الخاصة التي يتغير باختلافها الحكم الكلي المنطبق عليهم.

والمتعارف في الفتيا هو تطبيق الحكم الكلي المجعول بنحو القضية الحقيقية على المكلف بلحاظ الواقعة الخاصة المبتلى بها واعلام نتيجة التطبيق وكثيراً ما يشاهد اختلاف الحكم شكلاً حيث يلاحظ وحدة الواقعة المسؤول عنها بجميع خصوصياتها التي ذكرها السائل ولكن الواقع ان المستفتين مختلفون من الجهات التي أشرنا اليها والموجبة لاختلاف الحكم الفعلي الذي هو مورد ابتلائهم فتكون الفتاوى مختلفة بحسب الظاهر.

وهذا الاختلاف تقتضيه طبيعة الافتاء وسيأتي تفصيل البحث عنه في فصل خاص من المقصد الثاني ان شاء الله تعالى.

ثانيا: ان كفارة الظهار التي مثل بها من الكفارات المرتبة والأصل فيها قوله تعالى:

{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا...} (المجادلة: 3 و 4).

وأما الروايات الأربعة المشار اليها في كلامه فلم نجدها فيما بأيدينا من الجوامع. ولعل في عبارته سقطاً والصحيح: «مثل ما إذا جاء» نظير ما ذكره في القسم الآخر إلا أنه يبعده ذيل العبارة «وقد روي انه يتصدق بما يطيق …».

ثالثا: ان الموارد التي يعلل فيها اختلاف الاخبار باختلاف الأحوال على قسمين:

الأول: ما إذا ورد التصريح به في دليل منفصل وهذا كما في المثال المتقدم وما سيجيء في المقصد الثاني ان شاء الله تعالى.

الثاني: ما يستكشف ذلك بملاحظة القرائن الداخلية والخارجية كما نبه عليه الامام عليه السلام في شرح سنن الحيض الثلاثة في مرسلة يونس الطويلة التي سيجييء توضيحها ان شاء الله تعالى.

و في الفقيه أمثلة لهذا النوع:

منها: قوله بعد ذكر روايات مختلفة في دية أهل الكتاب «هذه الاخبار اختلفت لاختلاف الأحوال وليست هي على اختلافها في حال واحد…» (من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 91 ط طهران).

و منها: قوله بعد نقل ما يدل على وجوب الدية الكاملة في قطع رأس الميت وما يدل على وجوب دية الجنين فيه «هذان الحديثان غير مختلفين لأن كل واحدة منهما في حال متى قطع رجل رأس ميت وكان ممن أراد قتله في حياته فعليه الدية ومتى لم يرد قتله في حياته فعليه مائة دينار دية الجنين». (ص 117).

و منها انه نقل رواية مسمع في أربعة شهدوا على امرأة بالفجور أحدهم زوجها قال: «يجلدون الثلاثة ويلاعنها زوجها ... الحديث» ثم قال: وقد روي ان الزوج أحد الشهود وعقبهما بقوله: «هذان الحديثان متفقان غير مختلفين وذلك أنه متى شهد أربعة على امرأة بالفجور أحدهم زوجها ولم ينف ولدها فالزوج أحد الشهود ومتى نفى ولدها مع إقامة الشهادة عليها بالزنا جلد الثلاثة الحد ولاعنها زوجها وفرق بينهما ولم تحل له أبداً لأن اللعان لا يكون إلا بنفي الولد» (من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 37 ط طهران).

إلى غير ذلك من الموارد.

  • القسم الثالث:

ما أشار إليه بقوله: «ومنها ما يقوم كل واحد منها مقام الآخر مثل ما جاء في كفارة اليمين …»:

أولا: ان الافتاء – في الواقع – ليس إلا امداداً للمستفتين بما يوصله إلى هدفه الشرعي سواء كان ذلك من قبيل تفريغ الذمة عما اشتغلت به من التكليف الالهي أو التسبيب إلى امر اعتباري يريد تحقيقه في الخارج فإذا كان ما يمكن أن يوصله إلى الهدف أمراً موسعاً ككونه واجباً تخييرياً أو ذا أفراد طولية جاز للمفتي أن يرشده إلى ما هو الأنسب بحاله من طرق الوصول إما بلحاظ انه أوفق بظروفه وإمكانياته الخاصة أو لكونه أفضل الأفراد شرعاً أو لغير ذلك مما سيجيء البحث عنه في محله ان شاء الله تعالى وهذا من باب اختلاف الفتاوى في الموسعات.

ثانيا: الظاهر ان الروايات التي افترض ورودها في كفارة اليمين لا تعدو الافتراض ولم نجد فيها ما يدل على تعينها في أحد الأمور الثلاثة. نعم ربما اقتصر في بعضها على ذكر الاطعام ولكنها واردة في مقام بيان مقدار الاطعام الواجب تخييراً.

ثالثا: أنه رحمه الله طبق هذا القانون في بعض موارد الفقيه:

منها: ما ذكره في باب مواقيت العمرة من مكة وقطع تلبية المعتمر حيث نقل سبعة أحاديث تختلف في موضع قطعها ثم عقبها بقوله:

«هذه الاخبار كلها صحيحة متفقة ليست بمختلفة والمعتمر عمرة مفردة في ذلك بالخيار يحرم من أي ميقات من هذه المواقيت شاء ويقطع التلبية في أي موضع من هذه المواضع شاء وهو موسع عليه ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» (من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 277 ط طهران).

  • القسم الرابع:

ما أشار اليه بقوله: «وفي الاخبار ما ورد للتقية» ولا ريب في أن التقية أحد أسباب اختلاف الأخبار في مرحلة الصدور عن الأئمة عليهم السلام كما سيأتي البحث عنه مفصلاً إن شاء الله تعالى.

ويظهر من التقسيم الذي استنتجناه من مجموع كلامه أنه يذهب إلى ضرورة توجيه الاختلاف بحمل ما يوافق العامة من الخبرين على التقية عند عدم إمكان إدراجه في أحد الأقسام الثلاثة الاُخرى.

وقد طبق هذه القاعدة على بعض الموارد مما أثار حوله المناقشات. فمن ذلك أنه عمل بأخبار العدد في تحديد شهر رمضان وفاقاً لجمع من معاصريه بزعم ان غيرها من الروايات واردة مورد التقية. قال في الفقيه بعد نقل جملة من أخبار العدد:

«من خالف هذه الاخبار وذهب إلى الاخبار الموافقة للعامة في ضدها اتقي كما يتقى العامة ولا يكلم إلا بالتقية كائناً من كان إلا أن يكون مسترشداً فيرشد ويبين له فإن البدعة إنما تماث وتبطل بترك ذكرها ولا قوة إلا بالله» (الفقيه ج 2 ص 171).

ولعله أعرب بذلك عن عدم موافقته لما ذهب اليه الفقيه الجليل المعاصر له أحمد بن محمد بن داود القمي قدس سره من القول باعتبار الرؤية في تحديد شهر رمضان (من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 111).

وقد تصدى جمع من الاعلام ممن تأخر عنه كالمفيد والمرتضى والشيخ الطوسي رضوان الله عليهم لتفنيد هذه المقالة وألف بعضهم في ذلك رسالة خاصة.

  1. النقطة السادسة:

يبقى في مسلك الصدوق قدس سره نقطة استفهام وهي:

انه هل يقول بالتدرج بين طرق العلاج الأربعة المتقدمة حسب الذكر فمع امكان الجمع الدلالي بحمل المجمل على المفسر لا يصل الدور إلى توجيه الاختلاف بالاختلاف الموضوعي ومع إمكانه لا نلجأ إلى توجيهه بلحاظ تعيين بعض الأفراد في الموسعات ومع إمكانه أيضاً لا يحمل احدى الروايتين على التقية. أم لا يقول به؟

الظاهر أنه يرى الترتيب بين القسم الأول والثلاثة الاُخرى نظراً إلى أنه فصل بينه وبينها ولم يعتبر موارد الجمع الدلالي من أنحاء اختلاف الروايات وأما فيما بين الثلاثة فلم يظهر من عبارته القول بالتدرج إذ لا يقتضيه الترتيب في الذكر إلا أن ملاحظة السرّ في رفع الاختلاف بكل منها تؤيد فكرة التدرج كما أن ملاحظة تطبيقاته في الفقيه تشهد على التزامه بها.

2.8.5الموضع الخامس: في بيان مسلك الشيخ أبي عبد الله المفيد قدس سره (336 - 413)

ومحور دراستنا ما ذكره في كتابه «تصحيح الاعتقاد» الذي وضعه لشرح اعتقادات الصدوق أو نقدها. وذلك حيث علّق على المقدمة و يتلخص ملاحظاته عليها فيما يلي:

  1. الملاحظة الاُولى:

عدم تعرضه لطريقة تمييز الصحيح والمعمول به من الأحاديث عن غيرهما.

قال قدس سره: «لم يوضح أبو جعفر رحمه الله عن الطريق التي توصل إلى علم ما يجب العمل عليه مما لا يجب بل أجمل القول في ذلك اجمالاً مع صدق الحاجة إلى التفصيل والتفرقة بين ما يلزم وما لا يلزم بما يتميز به كل واحد منهما ويعرف بذلك حق الحديث من باطله والذي أثبته أبو جعفر رحمه الله من مجمل القول فيه لم يجد نفعاً». (تصحيح الاعتقاد: ص 266 ط النجف)

ونستخلص من مجموع ما وصل الينا من كلماته بهذا الشأن أنه يقسم الخبر بتقسيمين:

القسم الأول: تقسيمه إلى الصحيح وغيره، والمراد بالصحيح ما ثبت صدور عن المعصوم سواء كان حجة في مضمونه أم لا كما إذا قامت قرينة على إرادة التقية أو المداراة مما يمنع جريان أصالة الجهة فيه.

ويقابله في الجملة الباطل وهو ما نسب إليهم عليهم السلام بالدس والوضع أو اشتباه الرواة والنقلة ولابد من التفرقة والتمييز بين القسمين بملاحظة المقاييس والقرائن.

قال قدس سره «فصل: وجملة الأمر أنه ليس كل حديث عزي إلى الصادقين عليهم السلام حقاً عنهم وقد اُضيف اليهم ما ليس بحق عنهم ومن لا معرفة له لا يفرق بين الحق والباطل». (تصحيح الاعتقاد: ص 266 ط النجف)

القسم الثاني: تقسيمه إلى ما هو الحجة في مرحلتي الاسناد والاستناد وما ليس كذلك وبعبارة اُخرى ما يعمل بموجبه وما لا يعمل بموجبه.

وقد تعرض للفرق بين القسمين في عدة موارد نشير إلى بعضها:

  • المورد الأول:

قوله في أوائل المقالات «لا يجب العلم ولا العمل بشيء من أخبار الآحاد ولا يجوز لأحد أن يقطع بخبر الواحد في الدين إلا أن يقترن به ما يدل على صدق راويه على البيان. وهذا مذهب جمهور الشيعة وكثير من المعتزلة والمحكمة وطائفة من المرجئة وهو خلاف لما عليه متفقهة العامة وأصحاب الرأي» (أوائل المقالات: ص 153)

والمراد بقوله: «على البيان» أي بنحو التبين والوضوح. ويشهد له عبارته في تعريف التواتر فراجعها في ص 109.

  • المورد الثاني:

ما نقله عنه المحقق في المعارج قال فيه: « (قال شيخنا المفيد: خبر الواحد القاطع للعذر هو الذي يقترن اليه دليل يفضي فيه إلى العلم وربما يكون ذلك اجماعاً أو شاهداً من عقل أو حاكماً من قياس».

وسيأتي ان مراده من القياس معناه اللغوي أي المقايسة مع اُصول الشريعة وأهدافها العليا الثابتة بالأدلة القطعية وهو ما عبّر عنه في كلمات من سبقه من المحدثين كالبرقي والكليني قدس سرهما بالأخذ بشواهد الكتاب والسنة.

  • المورد الثالث:

ما ذكره في كتابه «التذكرة بأُصول الفقه» على ما في مختصره لتلميذه الجليل الشيخ الكراجكي قدس سره حيث قال:

«والحجة في الأخبار ما أوجبه العلم من جهة النظر فيها بصحة مخبرها ونفي الشك فيه والارتياب وكل خبر لا يوصل بالاعتبار إلى صحة مخبره فليس بحجة في الدين ولا يلزم به عمل على حال. والاخبار التي يجب العلم بالنظر فيها على ضربين: أحدهما التواتر المستحيل وروده بالكذب من غير تواطؤ على ذلك أو ما يقوم مقامه في الاتفاق. والثاني خبر واحد يقترن اليه ما يقوم مقام التواتر في البرهان على صحة مخبره وارتفاع الباطل منه والفساد. والتواتر الذي وصفناه هو ما جاءت به الجماعات البالغة في الكثرة والانتشار إلى حد قد منعت العادة من اجتماعهم على الكذب بالاتفاق كما يتفق الاثنان أن يتواردا بالارجاف وهذا حد يعرفه كل من عرف العادات وقد يجوز أن ترد جماعة دون من ذكرناه في العدد بخبر يعرف من شاهدهم بروايتهم ومخارج كلامهم وما يبدو في ظاهر وجوههم ويبين من قصورهم ( قصودهم / ظ ) انهم لم يتواطئوا لتعذر التعارف بينهم والتشاور فيكون العلم بما ذكرناه من حالهم دليلاً على صدقهم ورافعاً للإشكال في خبرهم وان لم يكونوا في الكثرة على ما قدمناه فأما خبر الواحد القاطع للعذر فهو الذي يقترن اليه دليل يفضي بالناظر فيه إلى العلم بصحة مخبره وربما كان الدليل حجة من عقل وربما كان شاهداً من عرف وربما كان اجماعاً بغير خلف فمتى فلا خبر واحد من دلالة يقطع بها على صحة مخبره فإنه كما قدمنا ليس بحجة ولا موجب علماً ولا عملاً على كل وجه» (كنز الفوائد: ص 193).

وهنا سؤال لابد من ملاحظته وهو ان النسبة بين الصحيح والمعمول به في نظر المفيد وغيره من القدماء هل هو عموم مطلق بلحاظ اعتبار وصف الصحة في الحديث كشرط أساسي للعمل به فكل معمول به صحيح دون العكس أم أنها عموم من وجه فيجوز العمل بالحديث بلحاظ توافق مضمونه للأصول الشرعية وان لم يكن ثابت الاستناد إلى المعصوم؟

الظاهر ان النسبة في نظرهم عموم من وجه وتوضيحه في مبحث حجية خبر الواحد.

  1. الملاحظة الثانية:

ما ذكره بشأن الأقسام الأربعة لاختلاف الخبرين الصحيحين على ما استنتجناه من عبارة الصدوق.

قال قدس سره: «وقد جاء عنهم عليهم السلام الفاظ مختلفة في معان مخصوصة فمنها ما يتلازم معانيه وان اختلفت الفاظه لدخول الخصوص فيه والعموم والندب والايجاب ولكون بعضه على أسباب لا يتعداها الحكم إلى غيرها. والتعريض في بعضها بمجاز الكلام لموضع التقية والمداراة وكل من ذلك مقترن بدليله غير خال من برهانه والمنة لله سبحانه».

وقد أشار إلى القسم الأول بقوله: «لدخول الخصوص فيه والعموم والندب والايجاب» و تفترق عبارته عن عبارة الصدوق في بيان هذا القسم في نقطتين:

النقطة الأولى: انه لم يعبر عن الحديث المحكوم بالمجمل كما صنعه الصدوق وذلك لأنه لا يخلو من تسامح إذ المعبر عنه هو الظاهر الذي دلت قرينة خارجية على عدم تطابقه مع المراد الجدي إما في بعض مدلوله كما في العام الذي أريد به الخاص وإما في نوع مدلوله كما في الأمر الظاهر في الإيجاب مع دلالة الدليل على إرادة الاستحباب بناء على بعض المسالك في حقيقة الوجوب ودلالة الأمر عليه. وعلى أي تقدير فاللفظ ظاهر في معنى ولا يناسب التعبير عنه بالمجمل.

النقطة الثانية: ان الصدوق اخرج هذا القسم عن الخبرين المختلفين وجعل له عنواناً خاصاً وعلى هذا الأساس فلا يشمله مباحث علل اختلاف الأحاديث. والشيخ المفيد عدّه من أقسام اختلاف الخبرين وهو الصحيح كما سنبينه في المقصد الأول إن شاء الله تعالى.

و أشار إلى القسمين الثاني والثالث بقوله «ولكون بعضه على أسباب لا يتعداها الحكم إلى غيرها».

ولا بد من تحليل هذه العبارة فنقول:

الضمير في «بعضه» يرجع إلى الحديث. والجملة في مقام بيان قسم من الحديث المختلف اللفظ والمتحد المعنى. وتوجيه الاختلاف بأن الحديث قد يبتني على أسباب غير مذكورة لا يتعداها الحكم إلى غيرها. والمراد بالأسباب الإطار الخاص للواقعة والشؤون الخاصة بالمستفتي وهي التي تستوجب صدور الحكم بنحو خاص لا يتعداها إلى غيرها.

و جملة القول: ان الروايات الصادرة في مقام الفتيا وهي تشكل القسم الأكبر من روايات الأئمة عليهم السلام إنما وردت بملاحظة الأسباب والشؤون الخاصة فلا يتعداها الحكم ولكن الذي يحاول استكشاف الحكم العام بملاحظة الفتاوى الخاصة يتوهم وحدة الموضوع وعدم دخالة تلك الشؤون في اختصاص الحكم تعويلاً على قاعدة الاشتراك وبذلك يتوهم الاختلاف في الأحاديث.

و الأسباب المختلفة المجهولة الموجبة للاختلاف الشكلي في هذا القسم من الروايات على قسمين:

القسم الأول: السبب بمعنى الموضوع للحكم الواقعي في مرحلة الانشاء الذي يطبقه المفتي على المكلف أو الواقعة من دون تصريح به فيوجب توهم اختلاف الحكم مع وحدة الموضوع مع أنه غير متحد واقعاً وهذا هو القسم الثاني من اختلاف الخبرين.

القسم الثاني: السبب لانتخاب أحد الأفراد الطولية أو العرضية في الموسعات بملاحظة ظروف المستفتي وإمكانياته وارشاد المكلف اليه. وهذا مما يوجب التضييق لتوهم وحدة الموضوع فيحكم باختلاف الأحاديث مع أن الموجب لتعيين أحد الأفراد خصوصية في المستفتي. وهذا هو القسم الثالث من اختلاف الخبرين.

وعلى أي تقدير فالشيخ المفيد قدس سره أشار إلى سرّ الاختلاف المزعوم في القسمين ولم يتعرض له الصدوق رحمه الله ولا يختلفان في النتيجة.

وأما القسم الرابع فقد أشار اليه بقوله «والتعريض في بعضها بمجاز الكلام لموضع التقية والمداراة» وهو في الجملة مما لا إشكال فيه. وسيجيء توضيحه لهذا القسم.

  1. الملاحظة الثالثة:

عدم تحديده للمورد الذي يجوز فيه الحمل على التقية. والذي يستفاد من مجموع تعليقه بهذا الشأن اُمور:

  1. الامر الأول:

تحديد مورد جواز الحمل على التقية اثباتاً بما إذا كان هناك ما يبررها ثبوتاً.

فإذا ورد الينا خبر منسوب إلى الأئمة عليهم السلام وكان ظاهره مخالفاً لحكم العقل أو الكتاب أو السنة الثابتة مخالفة هدمية، ولم يكن هناك ما يبرر التقية في مرحلة صدور الخبر – على ما سنشير اليه – وجب طرح الرواية والحكم بأنه باطل أضيف إليهم ولا يجوز الحكم بصحته وانه اُريد به خلاف ظاهره تقية أو مداراة بل هو زخرف وباطل كما في الروايات الآمرة بالطرح.

وإلى هذا المعنى اشار بقوله: «ومتى وجدنا حديثاً بما يخالفه الكتاب ولا يصح وفاقه له على حال اطرحناه لقضاء الكتاب بذلك واجماع الأئمة عليهم السلام. وكذلك ان وجدنا حديثاً يخالف احكام العقول طرحناه لقضية العقول (العقل) بفساده ثم الحكم بذلك على أنه صحيح أخرج مخرج التقية أو باطل اُضيف إليهم موقوف على لفظه وما تجوز الشريعة فيه القول بالتقية وتحظره وتقضي العادات بذلك أو تنكره».

والحاصل انه لا يكفي في الحمل على التقية مجرد فساد ظاهر الخبر والظاهر ان مراده بمورد حظر الشريعة للتقية وانكار العادات لها عدم صدق الاضطرار الذي هو مناط جواز التقية.

توضيح ذلك: ان التقية في القول هي اظهار القائل ما يخالف معتقده المكتوم حذراً من إضرار الغير له أو لمن يجب عليه التحفظ عليه كالمستفتي. وهي انما تجوز في صورة الاضطرار. فلو كان الواقع الذي يعتقده الامام – فيما نحن فيه – مما يمكن الاستدلال له بظاهر الكتاب أو السنة القطعية لم يصدق الاضطرار عليه مع إمكان دفع ضرر المخالف به ولا يصدق أيضاً فيما إذا كانت المفسدة المترتبة على الكتمان أعظم من مفسدة الاظهار بحيث كانت المفسدة مما لا يجوزه الاضطرار كما إذا ترتب عليه فساد الدين وهدم اُصول الشريعة. وإظهار الخلاف في هذه الموارد لا تنطبق عليه التقية والمداراة بل تنطبق عليه المداهنة التي تجلّ عنها ساحة الأئمة الأطهار عليهم السلام. وللكلام تفصيل ليس هذ محله.

  1. الامر الثاني:

ان طريقة الأئمة عليهم السلام في موارد التقية هي التكلم بنحو التورية والتعريض المتداول في المحاورات الأدبية وخصوصاً الأدب العربي. وقد أشار إلى ذلك بقوله: «والتعريض في بعضها بمجاز الكلام في موضع التقية والمداراة». وقد ورد في الروايات الحث والترغيب على التدبر في كلماتهم ومعرفة لحنها ومعاريضها. والمخاطب إذا كان موهوباً ذا فهم وبصيرة كثيراً ما يتفطن من تغير الاُسلوب واللحن ان المتكلم بصدد الكتمان.

ومن هنا يصح ان نعتبر الكلام المخرّج مخرج اللحن والتورية مقترناً بقرينة دالة على إرادة التقية أو المداراة. ولذلك قال المفيد رحمه الله: «وكل ذلك مقترن بدليله غير خال من برهانه» أي ان كلاً من موارد الجمع الدلالي والفتيا والتقية مقترن بدليله وقرينته.

  1. الامر الثالث:

ان الخبر الذي تداوله العلماء وشيوخ الاصحاب بالرواية و الفتوى واشتهر بينهم لا مجال لحمله على التقية كما لا يمكن الحكم بكونه باطلاً اُضيف إلى الأئمة عليهم السلام مع كونه معارضاً بخبر غير مشهور وان كان الخبر المشهور موافقاً للعامة والشاذ مخالفاً لهم. وقد اهتم قدس سره بهذه الناحية وفصل فيه القول ونحن ننقل كلامه بطوله لاشتماله على فوائد هامة.

قال قدس سره:

«ان المكذوب منها (أي الأحاديث) لا ينتشر بكثرة الأسانيد انتشار الصحيح المصدوق على الأئمة عليهم السلام فيه وما خرج للتقية لا تكثر روايته عنهم كما تكثر رواية المعمول به بل لابد من الرجحان في أحد الطرفين على الآخرين من جهة الرواة حسب ما ذكرناه ولم تجمع العصابة على شيء كان الحكم فيه تقية ولا شيء دلس (دس) فيه ووضع مخروصاً (متخرصاً) عليهم وكذب في اضافته إليهم.

فإذا وجدنا أحد الحديثين متفقاً على العمل به دون الاخر علمنا ان الذي اتفق على العمل به هو الحق في ظاهره وباطنه وان الآخر غير معمول به إما للقول فيه على وجه التقية أو لوقوع الكذب فيه.

وإذا وجدنا حديثاً يرويه عشرة من أصحاب الأئمة عليهم السلام يخالفه حديث آخر في لفظه ومعناه ولا يصح الجمع بينهما على حال رواه اثنان أو ثلاثة قضينا بما رواه العشرة ونحوهم على الحديث الذي رواه الاثنان أو الثلاثة وحملنا ما رواه القليل على وجه التقية أو توهم ناقله.

وإذا وجدنا حديثاً قد تكرر العمل به من خاصة أصحاب الأئمة عليهم السلام في زمان بعد زمان وعصر إمام بعد إمام قضينا به على ما رواه غيرهم من خلافه ما لم تتكرر الرواية والعمل بمقتضاه حسب ما ذكرناه.  فإذا وجدنا حديثاً رواه شيوخ العصابة ولم يوردوا (يرووا) على أنفسهم خلافه علمنا أنه ثابت وان روى غيرهم ممن ليس في العداد وفي التخصيص بالأئمة عليهم السلام مثلهم إذا ذاك علامة الحق فيه وفرق ما بين الباطل وبين الحق في معناه وأنه لا يجوز أن يفتي الإمام عليه السلام على وجه التقية في حادثة فيسمع ذلك المختصون بعلم الدين من أصحابهم و لا يعلمون مخرجه على أي وجه كان القول فيه ولو ذهب عن واحد منهم لم يذهب عن الجماعة لا سيما وهم المعروفون بالفتيا والحلال والحرام ونقل الفرائض والسنن والأحكام.»

 

 

الى هنا تم ما أفاده سيدنا الاستاد دام ظله في هذه المقدمة ولم يكتمل البحث مع الاسف.