[H

مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

تعارض الأدلة 03 - المقصد الثاني

1المقصد الثاني: في علل اختلاف الحديث

وهذا البحث لم يذكر بهذه الصورة في كتب الأصول ولكنه بحث ضروري لابدّ منه في حلّ مشكلة الاختلاف. وقد اشتهر ان ذوات الأسباب لا تعرف الا بأسبابها. فما لم نستكشف الأسباب الموجبة لاختلاف الأحاديث لا يمكننا التفكير السليم لحلّ المشكلة. ولعلّ اكتشاف السبب يوجّهنا نحو الطريق الأفضل في البحث. كما ان هذا البحث يساهم بدرجة كبيرة في فهم معاني الروايات وفي عملية الجمع الدلالي بينها.

و تنقسم علل اختلاف الحديث إلى قسمين:

القسم الأول: الإختلاف الناشئ من أمور متعلقة بمرحلة صدور الرواية عن المعصوم ولهذا القسم مباحث خاصة.

القسم الثاني: الاختلاف الناشئ من أمور متعلقة بمرحلة النقل ومن شؤونه البحث عن علل الحديث (أي ما يعرضه من اسقام). وقد أفرده بالتصنيف جمع من علماء الفريقين.

وبسبب هذا التقسيم ينقسم مباحث هذا المقصد إلى فصلين كل منهما يتعلق بأحد القسمين.

 

 

1.1الفصل الأول:

ويقع البحث فيه في ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: فيما يرتبط بالأحكام التشريعية الدائمة العامة التي نعبّر عنها بالتشريع العام.

وفي هذا المبحث نتعرض لثلاث جهات:

الجهة الأولى: في تعيين المشرع العام.

الجهة الثانية: في النسخ وكيفية طروّه على الأحكام وموارده.

الجهة الثالثة: في النتائج المترتبة على الجهتين السابقتين وفي دور هذا المبحث في رفع اختلاف أحاديث العامة والخاصة.

والسرّ في الحاجة إلى هذا البحث انه قد ورد في بعض الروايات تعليل الاختلاف بتفويض أمر الدين إلى الأئمة عليهم السلام فربما يتوهم ان ذلك يتعلق بالأحكام التشريعية الدائمة، وسيأتي في الجهة الثالثة ان هذا المبحث قليل التأثير بالنسبة لأحاديث الشيعة.

المبحث الثاني: فيما يرتبط بالتشريع الخاص الذي ينشئه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاؤه عليهم السلام باعتبارهم ولاة الأمر. ولا اشكال في انّ لهم الولاية على الأمور العامة ولهم أيضاً الولاية العامة على الأموال والنفوس.

إنما البحث في انه هل يوجد في ما بأيدينا من آثارهم أحكام من هذا القبيل أم لا؟ وكيف نميّز بين تلك الأحكام والأحكام التشريعية الدائمة؟ وهل يؤثر ذلك في اختلاف الحديث؟ ومرادنا بالاختلاف كما ذكرنا سابقاً أعم من الاختلاف المزعوم الذي يتوهمه الناس. وسيأتي ان كثيراً من الاختلاف المتوهم ناشئ من عدم التمييز بين الأحكام التشريعية العامة والأحكام التنفيذية والقضائية. والتمييز بينهما من شؤون هذا المبحث. وهو كما يؤثر في رفع توهم الاختلاف يؤثر اثراً كبيراً في طريقة الاستنباط الفقهي أيضاً.

المبحث الثالث: فيما يرتبط بشؤون النشر والاعلام الذي فوّض إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الائمة الأطهار عليهم السلام كما أن لهم حق الكتمان. إلا ان النشر والكتمان لكل منهما موارد وضوابط، حيث تلاحظ المصالح والمفاسد المترتبة عليهما وقد ورد عنهم عليهم السلام (انا نجيب الناس على الزيادة والنقصان).

ويتعرض هذا المبحث لأسباب الكتمان وأنحائه وموارده من بين الأحكام وانه يناسب أي نوع منها.

 

 

 

 

1.1.1المبحث الأول: الاحكام التشريعية الدائمة

المبحث الأول فيما يرتبط بالتشريع الدائم. ويقع البحث عن جهات:

1.1.1.1الجهة الأولى: في تعيين المشرّع فيها.

لا ريب ان مصدر استنباط الأحكام التشريعية ينحصر في الكتاب و السنّة. والسنّة على قسمين:

القسم الأول: السنّة المفسّرة للكتاب، ودور النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام في هذا القسم ليس الاّ دور المبلّغ للمراد الواقعي من الآيات المباركات. ولا ريب في ان الأحكام الواردة في هذا القسم من السنة لا تحتوي على تشريع وإنما هي محدّدة ومبينة لما اراده الله تعالى في كتابه الكريم.

وقد صرّح القرآن بتفويض هذا المنصب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ثبت للأئمة عليهم السلام بلا اشكال.

قال تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. (آل عمران: 164)

ويتضمن هذا المعنى ثلاث آيات اخر. (البقرة: 151 – 129/ الجمعة: 2)

وقال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ..}. (النحل: 44)

ولا ريب ان المتشابهات والمجملات من القرآن لا يمكن للناس فهم المراد منها الا بتفسير ممن خوطب به. فالحكم الوارد في آية {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا..} مثلاً يتحدد بحسب الروايات من جهة نوع السرقة، ومن جهة الكمية المسروقة، ومن جهة موضع القطع. وهذه الروايات المحددة ليست إلا تفسيراً للمراد، لا ان الحكم المنشأ بالآية مطلق والروايات بصدد تشريع التحديد فان حق التشريع انما هو في منطقة الفراغ كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

القسم الثاني: السنة التي تشتمل على أحكام لم يتعرض لها الكتاب العزيز كالروايات الواردة في تحريم كل مسكر، مع ان الوارد في القرآن هو تحريم الخمر فقط.

وهذا القسم هو محور البحث في هذا المقام. والسؤال هنا هو أن دور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا القسم هل هو دور المبلّغ عن الله وأنّ المنشئ لهذه الأحكام أيضاً هو الله تعالى أم انه المشرع لتلك الأحكام؟

في هذه المسألة احتمالان:

الاحتمال الأول: ان المشرّع في جميع الأحكام الدائمة هو الله تعالى.

وقد يستدل على ذلك بظاهر الآيات المباركات كما سيأتي شطر منها. والقائل بهذا لا يعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن غيره الا مبلغاً عن الله تعالى أخذاً بظاهر الآية المباركة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وقد نسب المحقق الوحيد البهبهاني قدس سره في فوائده الرجالية هذا القول إلى أكثر العلماء.

وأما ما ورد في الكفاية من ان المشرع في جميع ذلك هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم و الائمة عليهم السلام وان الله تعالى يلقي في نفوسهم المصالح والمفاسد بالوحي أو الإلهام فلابد من طرحه او تأويله، فانه باطل قطعاً فان القرآن الكريم وحي بألفاظه وألفاظه مشتملة على الأوامر والنواهي. وقد صرّح في موارد عديدة بان الله هو المشرع للدين فلا اقل من ان يكون تعالى مشرعاً لبعض الأحكام.

قال تعالى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ...} (الشورى 13)

وقال تعالى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا...} (المائدة 48)

وقال تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا...} (الجاثية: 18)

ومن الآيات ما نسب التحريم والتحليل إلى الله تعالى وهي كثيرة: منها قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) ومنها قوله تعالى {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ...} (البقرة: 173) ومنها قوله تعالى {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا...} (الانعام: 151) وغيرها من الآيات المباركات.

الاحتمال الثاني: ان الأحكام التشريعية الدائمة على قسمين:

القسم الأول: الأحكام التشريعية الأساسية وفي الدرجة الأولى وهي أساس الشريعة. والمشرّع فيها هو الله تعالى.

القسم الثاني: الأحكام التشريعية في الدرجة الثانية وهي بمنزلة الفروع من الطائفة الأولى وتشرّع بهدي منها ولا تتجاوز الأهداف التي وضعت لأجل تحقيقها. والمشرّع فيها هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفويض من الله تعالى مع تنفيذ ما حكم به. مثال ذلك تشريع حرمة كل مسكر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبعاً لتشريع حرمة الخمر من الله تعالى.

وهذا الاحتمال قال به جماعة من علمائنا منهم شيخنا الكليني على ما يستفاد من الكافي. ومنهم العلامة المجلسي في مرآة العقول، في مبحث التفويض. ومنهم السيد عبد الله شبر في مصابيح الأنوار ج 1 ص370. ومنهم صاحب الحدائق في مقدمته ص 8 ومنهم المحدث الاسترابادي، وصاحب تفسير البرهان، والمولى محمد صالح المازندراني في شرح اصول الكافي.

وحكي عن المحقق النائيني على ما في اجود التقريرات ج 2 ص 304 انه قال: «ان قلت: بعد الفراغ عن ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى ما معنى كون الفرض منه في قبال فرض الله تبارك وتعالى (إلى ان قال) قلت: يمكن أن يكون ارادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجبة لوجوب فعل على المكلف بنفسها كما لا يبعد أن يكون ذلك مقتضى تفويض الدين إليه الثابت بالاجماع والضرورة».

ومن العامة قال صاحب تفسير المنار (ج 5 ص 396) (نقلاً عن أحد علمائهم): «ويتعلق بهذه المسألة التفويض وهو انه هل يجوز ان يفوض الله عز وجل إلى نبي حكم الأمة بان يقول: احكم بينهم باجتهادك وما حكمت فهو حق، أو انت لا تحكم الا بالحق؟ فيه قولان: أقربهما الجواز».

وقال ابن ابي الحديد في شرح النهج (ج 16 ص 159): «وقد ذهب كثير من الاصوليين إلى ان الله تعالى قال لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: احكم بما شئت في الشريعة، فإنك لا تحكم الا بالحق، وانه كان يحكم من غير مراجعته لجبرائيل وان الله تعالى قد قال في حقه (وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى)».

واستشهاده بالآية المباركة من جهة انه يفسّرها تفسيراً ادبياً مغايراً لما هو ظاهرها. والتفويض عنده عبارة عن تصديق كل ما يفعله المفوّض إليه. ولكن الوارد في رواياتنا والذي صرح به القائلون بالتفويض التشريعي من علمائنا هو أن الله تعالى بعد ان فوّض أمر التشريع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجاز كل ما حكم به.

وكيف كان فرواياتنا مستفيضة في تفويض التشريع بهذا النحو إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما ذكره المجلسي وغيره وهي على قسمين:

القسم الأول: ما ربما يستظهر منها تفويض التشريع العام في الجملة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

القسم الثاني: ما يستدل بها على بعض الأحكام الخاصة مما سنّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

أما القسم الأول فمنها رواية أبي إسحاق النحوي قال: «دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فسمعته يقول «ان الله عز وجل ادّب نبيّه على محبته فقال وانك لعلى خلق عظيم ثم فوّض إليه فقال عز وجل ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال عز وجل من يطع الرسول فقد أطاع الله قال: ثم قال: وان نبّي الله فوّض إلى عليّ عليه السلام وائتمنه فسلّمتم وجحد الناس فو الله لنحبّكم ان تقولوا إذا قلنا وان تصمتوا إذا صمتنا ونحن فيما بينكم وبين الله عز وجل ما جعل الله لاحد خيراً في خلاف أمرنا».

(جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 24 ص 167 – وافي ج 2 ص 142. كافي ج 1 ص 265 باب التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الائمة عليهم السلام في أمر الدين ح 1)

هذه الرواية قد رواها الكليني بسندين أحدهما صحيح. وفيه يروي عن أبي جعفر عليه السلام. وأبو إسحاق هو ثعلبة بن ميمون وهو ثقة جليل. إلا ان الكلام في دلالة الرواية، ولم يعلم من عباراتها ان المراد هو التشريع الدائم. ولعلّ قوله تعالى {ما آتاكم الرسول فخذوه..} يراد به الولاية العامة فهي واردة في تشريع الأحكام التنفيذية والقضائية. وأما ذيلها (ان تقولوا إذا قلنا وإن تصمتوا إذا صمتنا) فهو يتعلق بحق النشر والكتمان.

ومنها صحيحة زرارة التي يرويها عنه أبو اسحاق أيضاً قال سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام يقولان «ان الله عزّ وجل فوّض إلى نبيّه أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم، ثم تلا هذه الآية: ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا». (الكافي ج 1 ص 266 باب التفويض ح 3 و ص 267 ح 5)

ولعل هذه الرواية ادلّ على المقصود من السابقة حيث ان الخلق في قوله (فوّض إلى نبيه أمر خلقه) يشمل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعدهم، والأحكام التنفيذية لا تشمل غير الموجودين في زمان الحاكم فيكون ظاهراً في الأحكام التشريعية الدائمة. إلا أنّ هذه الرواية يحتمل أن تكون قطعة من الرواية السابقة بقرينة المضمون وبقرينة ان الراوي عن زرارة هو ثعلبة بن ميمون أيضاً وأنّ المروي عنهما هما الامامان الباقر والصادق عليهما السلام. وحيث ان هذه الكلمة غير موجودة هناك فلا وثوق لنا بصدورها.

ويمكن ان يناقش في اتحاد الروايتين بان ابا اسحاق يروى الأولى عن الامام بلا واسطة ويروى الثانية بواسطة زرارة.

والجواب عنه ان سقوط الواسطة مما لابد من الالتزام به في الرواية الأولى فانه يرويها في السند الصحيح عن ابي جعفر عليه السلام وهو من الطبقة الخامسة فلا يمكن ان يروي عن ابي جعفر بلا واسطة. وقد يغتر المراجع بتكرر نقله للرواية بلا واسطة في الكتب المتعددة ككتاب فضل الشيعة وكتاب بصائر الدرجات و كتاب الكافي وكتاب عاصم بن حميد بنقل المستدرك. ولكن لا أثر لهذا التكرر بعد ان مستند الجميع هو كتاب عاصم بن حميد والظاهر سقوط الواسطة في كتابه.

ويؤيد ذلك ما رواه المسعودي في تاريخه حيث قال: «روى جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إن الله عز وجل أدَّب محمداً صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه فقال {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} فلما كان كذلك قال الله تعالى {وإنك لعلى خلق عظيم} فلما قبل من الله فوض اليه فقال {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وكان يضمن على الله الجنة فأجيز له ذلك». (مروج الذهب ج 1: ص 283)

ومنها ما رواه الكليني عن بصائر الدرجات قال: «وجدت في نوادر محمد بن سنان عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام «لا والله ما فوض الله إلى أحد من خلقه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الائمة عليهم السلام قال عز وجل {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ..}  وهي جارية في الاوصياء». (الكافي ج 1 ص 267 ح 8) 

وفي سند الرواية تأمل لما في محمد بن سنان من الاختلاف بين رجال الجرح والتعديل والاشكال فيه من جهة الغلوّ وهو يناسب جعل مثل هذه الأحاديث مضافاً إلى ان الصفّار وجدها في كتابه فالرواية من باب الوجادة وفي الاعتماد عليه كلام والاستشهاد بالآية المباركة يقوّي احتمال الاختصاص بالحكم القضائي فانه الظاهر من الحكم بين الناس.

 ومنها صحيحة فضيل بن يسار قال: «سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر «ان الله عز وجل ادّب نبيه (إلى ان قال) ثم فوض اليه أمر الدين والامة ليسوس عباده فقال عز وجل {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وان رسول الله كان مسدداً (إلى ان قال) ثم ان الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات فأضاف رسول الله إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة» ... الحديث» (كافي ج 1 ص 266 باب التفويض ح 4)

والرواية مفصلة وهي إلى قوله «كان مسدداً» يحتمل الوجهين اذ يأتي فيها احتمال الاختصاص بسياسة العباد كما ورد التعبير به فيها ولكن ما بعدها داخل في القسم الثاني من الروايات ويدل على ان المراد تفويض مرحلة التشريع وسيأتي البحث عنها ان شاء الله تعالى.

ومنها ما رواه الصدوق في العيون عن أبيه وابن الوليد قالا حدثنا سعد بن عبد الله قال حدثني محمد بن عبد الله المسمعي قال حدثني أحمد بن الحسن الميثمي انه سأل الرضا عليه السلام يوماً وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشيء الواحد فقال:

«ان الله عز وجل حرم حراماً وأحل حلالاً وفرض فرائض فما جاء في تحليل ما حرم الله او تحريم ما أحل الله أو رفع فريضة في كتاب الله رسمها بيّن قائم بلا ناسخ نسخ ذلك فذلك مما لا يسع الاخذ به لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليحرم ما احل الله ولا ليحلل ما حرم الله (إلى ان قال) قد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء نهي حرام فوافق في ذلك نهيه نهي الله تعالى وأمر باشياء فصار ذلك الامر واجباً لازماً كعدل فرائض الله تعالى ووافق في ذلك أمره أمر الله تعالى فما جاء في النهي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهي حرام ثم جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك وكذلك فيما أمر به لانا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا نأمر بخلاف ما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا لعلة خوف ضرورة (إلى ان قال) فما كان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهي اعافة أو أمر فضل فذلك الذي يسع استعمال الرّخص فيه... (الحديث)». (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 64 ص 448)

وهذه الرواية ليس في سندها اشكال إلا من جهة المسمعي. قال الصدوق في آخر الحديث «قال مصنف هذا الكتاب وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه سيء الرأي في محمد بن عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث وإنما اخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنه كان في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي».

هذا وقد ذكر الصدوق في أول كتاب الفقيه انه اي كتاب الرحمة من الأصول والكتب التي عليها المعول وإليها المرجع.

ويعلم من ذلك ان شيخه حين قراءته كتاب الرحمة عليه كان يذكر الطعن في من كان فيه طعن من الرواة وتركه الطعن حين قراءة هذا الحديث اشعر باعتماده على هذه الرواية ولعلّ الصدوق كان ملتزماً بنقل الروايات المعتبرة عنده في كتاب العيون كما يشعر به اسم الكتاب فان العين من الحديث هو الصحيح. هذا والرواية يرويها عن أبيه أيضاً ولم ينقل عن أبيه طعناً منها. ولعل اعتماد ابن الوليد على الرواية مع طعنه في الراوي من جهة ان كتاب احمد بن الحسن الميثمي الذي قيل فيه بانه ثقة صحيح الحديث كان كثير الرواة فكان لابن الوليد إليه طرقاً اخرى غير طريق سعد بن عبد الله الذي فيه المسمعي.

وكيف كان فالظاهر ان الصدوق وابن الوليد يعتمدان على الرواية وذكر المحقق البهبهاني في تعليقته على رجال الميرزا بان المسمعي لم يستثن من روايات نوادر الحكمة.

وهذه الرواية تصرّح ان بعض الأحكام بلّغها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الله تعالى وكان فيها تابعاً مسلّماً وبعضها مما انشأه بتفويض من الله والأئمة عليهم السلام فيها تابعون مسلمون.

القسم الثاني من الروايات هي التي تصرّح بالأحكام الخاصة التي سنها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهي على أربعة أقسام:

القسم الأول: ما ورد في إنشاء الأحكام الاستقلالية كتحريم كل مسكر غير الخمر.

القسم الثاني: ما ورد من الأحكام المتممة لفرائض الله تعالى كتشريع الركعتين الاخيرتين.

القسم الثالث: ما كان من قبيل متمم الجعل التطبيقي نحو ما ورد في الزكاة من ان الله فرضها وجعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تسعة أشياء.

القسم الرابع: الروايات التي تدل على ان بعض متعلقات الأحكام مركبة من فرائض الهية وسنن نبوية.

أما روايات القسم الأول فهي واردة في موارد مختلفة:

المورد الأول: تحريم كل مسكر وهي كثيرة. منها صحيحة فضيل بن يسار التي تقدم شطر منها وفيها «وحرّم الله الخمر بعينها وحرّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسكر من كل شراب فاجاز الله له ذلك... الحديث». (الكافي ج 1 ص 266 باب التفويض ح 4)

والأحاديث التي صرحت بهذا المضمون كثيرة. (راجع الوسائل ج 17 ص 259 الى 265 الباب 15 من ابواب الاشربة المحرمة)

المورد الثاني: تحريم كل ذي ناب ومخلب وهي أيضاً كثيرة منها موثقة سماعة قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المأكول من الطير والوحش فقال «حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ذي مخلب من الطير وكل ذي ناب من الوحش...» (الحديث)». (راجع الوسائل ج 16 ص 320 الباب 3 من أبواب الأطعمة المحرمة)

المورد الثالث: اطعام الجد والجدة السدس في الميراث مع وجود الأب والأم. وفيه روايات كثيرة صرحت بان ذلك مما سنّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. (راجع الوسائل ج 17 ص 469 ب 20 من ميراث الابوين والأولاد)

المورد الرابع: النوافل ففي صحيحة فضيل السابقة: « ثم سنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النوافل أربعاً وثلاثين ركعة فأجاز الله عز وجل له ذلك). (الكافي ج 1 ص 266 باب التفويض ح 4)

وفي رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «قلت لأي علة أوجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الزوال ثمان قبل الظهر... الحديث». (جامع الأحاديث ج 2 ص 37 ح 274)

المورد الخامس: دية النفس والعين. ففي بعض الروايات انهما مما سنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

المورد السادس: تحريم المدينة. وقد ورد في ذلك روايات كثيرة (راجع الوسائل ج 10 ص 283 إلى ص 287 باب من أبواب المزار).

فمنها رواية زرارة عن ابي جعفر عليه السلام قال: «حرّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ما بين لابتيها.. (الحديث)».

ومنها رواية فضيل بن يسار (وفيها) «...ان الله أدب نبيه فأحسن تأديبه فلما ائتدب فوّض اليه فحرّم الله الخمر وحرّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل مسكر فأجاز الله له ذلك وحرّم الله مكّة وحرّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فأجاز الله ذلك كله له». 

المورد السابع: استحباب استشهاد شاهدين في النكاح كما في حديث داود بن الحصين عن ابي عبد الله عليه السلام (وفيه) «... قلت يقولون لا تجوز الا شهادة رجلين عدلين فقال «كذبوا لعنهم الله هوّنوا واستخفوا بعزائم الله وفرائضه وشددوا وعظّموا ما هوّن الله ان الله أمر في الطلاق بشهادة رجلين عدلين فأجازوا الطلاق بلا شاهد واحد والنكاح لم يجئ عن الله في تحريمه عزيمة فسنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الشاهدين تأديباً ونظراً لئلا ينكر الولد والميراث... (الحديث)» (الوسائل ج 18 ص 265 ب 24 من أبواب الشهادات ح 35) إلى غير ذلك من الموارد.

القسم الثاني: ما ورد من الاحكام المتممة لما فرضه الله كزيادة ركعتين في الصلوات الرباعية وركعة في المغرب. والروايات كثيرة.

فمنها صحيحة فضيل السابقة وفيها «... ثم ان الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات فأضاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهن الا في سفر وافرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر. فاجاز الله عز وجل له ذلك كله». (الكافي ج 1 ص 266)

ومنها صحيحة زرارة عن ابي جعفر عليه السلام قال «كان الذي فرض الله عز وجل على العباد من الصلاة عشر ركعات وفيهن القراءة وليس فيهن وهم يعني سهواً فزاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعاً وفيهن الوهم وليس فيهن القراءة» (جامع الأحاديث ج 2 ص 447 ح 4167)

ومنها صحيحته الأخرى عن ابي جعفر عليه السلام قال: «عشر ركعات، ركعتان من الظهر وركعتان من العصر وركعتان الصبح وركعتا المغرب وركعتا العشاء الآخرة، لا يجوز الوهم فيهن ومن وهم في شيء منهن استقبل الصلاة استقبالاً وهي الصلاة التي فرضها الله عز وجل على المؤمنين في القرآن وفوّض إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فزاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة سبع ركعات وهي سنة ليس فيهن قراءة... (الحديث)» (جامع الأحاديث ج 2 ص 447 ح 4166)

ويعلم من قوله عليه السلام (فرضها الله في القرآن) ان الفرائض لا يتوقف على ذكرها تفصيلاً في القرآن فان ذكر العشر لم يرد فيه.

وفي الوسائل عن محاسن البرقي بسند معتبر عن علي بن مهزيار قال «قال بعض أصحابنا لأبي عبد الله عليه السلام ما بال صلاة المغرب لم يقصر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر والحضر مع نافلتها؟ فقال «لأن الصلاة كانت ركعتين ركعتين فأضاف إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كل ركعتين ركعتين... (الحديث)». (الوسائل ج 3 ص 65 ب 24 من اعداد الفرائض ح 10)

والأحاديث كثيرة وردت في أبواب متفرقة.

القسم الثالث: ما يدل على تشريع أحكام بنحو متمم الجعل التطبيقي. وقبل التعرض لروايات هذا القسم لابد من ذكر مقدمة نشرح فيها باختصار تخريج الفكرة من وجهة النظر الأصولي:

لقد ذكرنا مفصلاً في مبحث الصحيح والأعم وفي مبحث الأحكام الوضعية أن من المحتمل قويا ان تكون الصلاة والزكاة ونظائرهما من الماهيات الاعتبارية. وهي تنشأ من تكرر استعمال لفظ في غير معناه الموضوع له بلحاظ ترتب آثار الموضوع له على المعنى الآخر بالجعل القانوني. فالميتة مثلاً يطلق عرفاً على كل حيوان مات حتف انفه ثم أطلق على كل حيوان مذبوح فاقد لشرائط الذبح وتكرر الاطلاق بهذه العناية حتى صار من الاعتبارات القانونية أي المتأصلة. وهكذا تخترع ماهية اعتبارية بلحاظ ترتب الآثار المترتبة على الحيوان الميت الطبيعي كعدم جواز الأكل مثلاً على كل حيوان فاقد لشرائط الذبح الا ان هذه الماهية تختلف الأديان والقوانين في تطبيقها ومنشأ الاختلاف، الاختلاف في شرائط الذبح.

وكذلك الدينار الموضوع ابتداءً لمقدار من الذهب المسكوك الا ان الاثر له حيث كان هو التوسط في المبادلات والمقياس في القيم وكان هذا الاثر مترتباً على الدينار الورقي الحديث أصبح الدينار ماهية اعتبارية تختلف مصاديقه في الدول التي اعتبرت الدينار نقداً لها.

وكذلك الصلاة والزكاة. فمعنى الصلاة لغة هو اللين واستعمل في اللين الاعتباري وهو الخشوع؛ وهي موجودة في جميع الشرائع كما صرّح به القرآن الكريم. إلا ان الأديان اختلفت في تطبيقها. وكذلك الزكاة.

وبعض الروايات يدل على ان فرض أصل الصلاة كان من الله تعالى وتطبيق هذه الماهية الاعتبارية على عشرة انحاء كان من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفرض أصل الزكاة كان من الله تعالى وطبقها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تسعة أشياء.

ففي صحيحة زرارة عن ابي جعفر عليه السلام قال «فرض الله الصلاة وسنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشرة أوجه: صلاة السفر وصلاة الحضر وصلاة الخوف على ثلاثة أوجه وصلاة كسوف الشمس والقمر وصلاة العيدين وصلاة الاستسقاء وصلاة الميت». (جامع الأحاديث ج 2 ص 13 ص 91)

وصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم وابي بصير وبريد بن معاوية العجلي وفضيل بن يسار كلهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا «فرض الله عز وجل الزكاة مع الصلاة في الأموال وسنّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تسعة أشياء وعفى عمّا سواهن... (الحديث)» (الوسائل ج 6 ص 34 ب 8 مما تجب فيه الزكاة ح 4)

وروايات الزكاة كثيرة (راجع الوسائل ب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة).

وقد ورد في رواية واحدة نسبة الفرض في الأصناف التسعة إلى الله تعالى (الباب السابق ح 1). ولعل ذلك من جهة ان اطاعة الرسول اطاعة الله تعالى أو من جهة ان أحكام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اجازها الله تعالى فلا منافاة بينها وبين سائر الروايات.

القسم الرابع: ما ورد في بعض متعلقات الأحكام من ان بعض أجزائها فرائض من الله تعالى وبعضها من سنن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا يحتاج إلى تفسير آخر.

فمن روايات هذا القسم صحيحة «لا تعاد» المعروفة، روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام انه قال: «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود ثم قال: القراءة سنة والتشهد سنة ولا تنقض السنة الفريضة». (من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 339)

ومنها صحيحته الأخرى قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن الفرض في الصلاة فقال: «الوقت والطهور والقبلة والتوجه والركوع والسجود والدعاء قلت ما سوى ذلك قال: سنة مفروضة». (الكافي ج 3 ص 272 باب فرض الصلاة ح 5) وفي رواية: «سنة في فريضة». (جامع ج 2 ص 255 ص 2360 وح 2361)

وروايات أخرى مثلها في باب المواقيت.

وسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا القسم ليس كسنته في القسم السابق. ولذا يعتبر الركوع في الركعتين الاخيرتين فريضة أيضاً مع انهما مما سنّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلابد من تفسير آخر للفريضة والسنة في هذا القسم.

والظاهر ان المراد بالفريضة في هذا القسم ما قدّره الله تعالى واعتبره مقوماً للماهية ولو لم يتعلق ببعض موارده أمر إلهي في قبال ما اعتبره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وبهذا البيان يصح ان يكون الركوع والسجود في الركعتين الاخيرتين مما فرضه الله مع ان الأمر بالركعتين الاخيرتين صادر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحو متمم الجعل المفيد فائدة الجزئية كما تقتضيه الروايات.

وغرضنا من التعرض لهذه الأقسام الأربعة ليس إلا الإشارة إلى الروايات التي تدل على ثبوت حق التشريع العام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفويض من الله تعالى. وأما تحقيق الكلام في كل قسم وما ينبغي ان يختار بلحاظ مجموع الأدلة فالأمر فيه موكول إلى محل آخر.

حق الائمة في التشريع العام:

ورد في بعض الروايات ان كل ما ثبت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو ثابت لهم عليهم السلام الا الرسالة. وورد في بعضها التصريح في بعض الأحكام التي تعتبر عندنا من الأحكام الدائمة أنها من تشريعهم عليهم السلام.

وفي قبال ذلك ورد عنهم أيضاً أننا لا نفتي إلا وفقاً للكتاب والسنة وأن ما نقوله فهو على وفق أصول علم نرثها كابر عن كابر أو ان حديثي حديث أبي وحديث ابي حديث جدي ونحو هذه التعبيرات.

ولكنها معارضة بطائفة اخرى ان بعض فتاواهم لا تستند إلى الكتاب والسنة وانهم مسددون فيها وموفقون.

والروايات موجودة في مقدمة جامع الأحاديث ولا يمكننا الورود في هذا البحث في هذه العجالة مع عدم توقف الغرض المسوغ للكلام عليه.

فتحصل من مجموع هذه الروايات ان حق التشريع الدائم ثابت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وانه استعمله أيضاً إلا أنه في رتبة متأخرة عن تشريع الله تعالى للأحكام التشريعية التي هي أساس الدين.

الى هنا ينتهي البحث عن الجهة الأولى في تعيين المشرع لأحكام الشريعة الاسلامية.

1.1.1.2الجهة الثانية في النسخ:

والحاجة إلى هذا البحث في هذا المقام إنما هي من جهة تعليل الاختلاف في بعض الروايات بالنسخ.

ففي معتبرة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال «قلت له ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال: ان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» (جامع ج 1 المقدمات ص 67 ص 464).

وفي معتبرة منصور بن حازم عن ابي عبد الله عليه السلام (وفيها) قال «قلت: فأخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدقوا على محمد أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا. قال قلت: فما بالهم اختلفوا؟ فقال: أما تعلم ان الرجل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب، ثم يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب فنسخت الأحاديث بعضها بعضاً» (جامع ج 1 المقدمات ص 465).

ويستفاد من بعض الروايات ان من لا يعرف الناسخ عن المنسوخ من الأحاديث ليس له حق الفتيا. وهذا تعريض بعلماء العامة.

ومن الواضح تأثير النسخ في اختلاف أحاديث العامة بعضها مع بعض وفي اختلاف أحاديثهم مع أحاديثنا. والمهم عندنا البحث عن تأثيره في اختلاف أحاديثنا بعضها مع بعض.

ونقدّم بهذا الصدد مقدمة نشرح فيها كيفية النسخ وحدوده:

«النسخ» لغة إزالة الشيء. و «نسخ الأحكام» هو ارتفاع الحكم الظاهر في الاستمرار الزمني اما بإنشاء حكم مضاد له واما بإعلام رفعه.

و النسخ على قسمين:

القسم الأول: ان ينشئ المشرّع حكماً استمرارياً بتخيل انه واجد لمقومات البقاء كما هو واجد لمقومات الحدوث وبتعبير اصولي واجد للملاك حدوثاً وبقاءاً ثم ينكشف لديه ان الحكم فاقد للملاك اما حدوثاً او بقاءاً فقط. ولذلك ينسخه بتشريع ضده أو بإعلام الغائه.

وهذا القسم يجلّ مقام الشارع المقدس عنه كما هو واضح.

القسم الثاني: ان المشرّع حين التشريع يعلم بان الحكم لا يملك مقومات البقاء وانّه مختص بزمان محدود إلا أنه يخفي ذلك عن المتشرعين لمصلحة من المصالح ففي مرحلة اعلام الحكم إليهم يبرزه بصيغة مطلقة بالإطلاق الازماني، ثم بعد انتهاء امده وفقدانه لصلاحية البقاء يشرّع حكماً مضاداً له أو يعلمهم بإلغائه. ويستكشف منه محدودية الحكم من بداية التشريع وهذا القسم هو الواقع في شريعة السماء.

ومن الواضح ان التشريع الإسلامي كسائر التشريعات التي تحاول إصلاح الفرد والمجتمع لابد له من تدرّج في الاعلام. وكذلك في كيفية الحكم شدة وخفة فالمسلمون الأوائل لا يتحملون التشريعات الشاقّة كما يتحملونه بعد تمكن الإسلام من نفوسهم وزوال الشكوك والشبهات عن قلوبهم. وقد ورد في الحديث النبوي «أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض» (الكافي ج 2 ص 117 باب مداراة الناس).

ولا ريب في وقوع النسخ في القوانين العرفية والشرائع السماوية. ولم ينكره أحد على ما يقال إلا اليهود فانهم زعموا ان الحكم الفاقد للملاك والمصلحة لا وجه لجعله، والواجد له لا وجه لنسخه. وكان هذا أحد وجوه اعتراضهم على الشريعة الإسلامية، حيث كانت الأحكام تتغير وتتبدل بما ان الإسلام كان في بدو تشريعاته وإصلاحاته.

وقد ورد في القرآن بعض اعتراضاتهم والجواب عنها، ومنها اعتراضهم على تغيير القبلة.

ولا مناص من الإلتزام بوقوع النسخ في عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم سواء كان الحكم المنسوخ ثابتاً بالكتاب أم بالسنة وسواء كان الحكم الناسخ ثابتاً بالكتاب أو السنة. حتى في العمومات المخصصة في عهده الشريف إذا كان التخصيص وارداً بعد الجري العملي من قبل المتشرعين على وفق الحكم العام سواء كان العام كتابيا والمخصص نبوياً أم بالعكس أم كانا كتابيين أو نبويين.

والسرّ في ذلك انه لا يمكن الالتزام بالتخصيص في هذا المورد فان معنى التخصيص ان الحكم السابق لا يشمل الافراد المستثناة من أول تشريعه ولو التزمنا به في هذا المورد لزم ان يكون الاجراء العملي للحكم العام عملاً خاطئاً فان الحكم العام ان كان الزامياً والمخصص ترخيصياً فقد اُلزم المتشرعون بما لا مصلحة فيه ان كان وجوبياً، وبما لا مفسدة في تركه ان كان تحريمياً، ولا مبرر لهذا الالزام وان كان الحكم العام ترخيصياً والمخصص إلزامياً فقد تسبب الشارع في تفويت المصلحة الملزمة عن المكلفين أو إلقائهم في مفسدة ملزمة على اختلاف حكمي الوجوب والحرمة. وعليه فلابد من الإلتزام بالنسخ.

و هناك ثلاثة موارد من احتمال النسخ وقع البحث فيهما:

المورد الأول: في نسخ الأحكام المذكورة في القرآن الكريم.

المورد الثاني: نسخ الكتاب بالسنة النبوية وقد أنكره جماعة.

المورد الثالث: في وقوع نسخ الأحكام مطلقا بالسّنة الصادرة من الأئمة المعصومين عليهم السلام.

ووجه التوقف في المورد الأول و الثاني واضح في الجملة.

أما وجه التوقف في المورد الثالث هو انه لا إشكال في ورود عدة من الأحكام العامة في عهد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ولا اشكال في ان المتشرعين كانوا يعملون بها على عمومها وعليه فلا يمكن حمل المخصصات الواردة عن الائمة الطاهرين عليهم السلام على النسخ اذ يلزم منه تأخير البيان عن وقت العمل.

وقد تصدّى بعضهم لحلّ المشكلة فذهب إلى انّ المخصصات صادرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنها كانت مودعة عند الائمة عليهم السلام ليحين زمان العمل بها حسب المصالح الملحوظة في تدرج الأحكام.

أما في المورد الأول فلم ينقل خلاف في جواز نسخ أحكام القرآن إلا عن أبي مسلم الإصفهاني من علماء العامة، حيث ذهب إلى عدم جواز نسخها بتاتاً. والموارد التي قيل فيها بالنسخ زعم في بعضها انها من التخصيص. وقد حمل الشاطبي في الموافقات مخالفته على البحث اللفظي، فانه موافق مع ارتفاع تلك الأحكام إلا أنه يتوحش من التعبير عنه بالنسخ فراقه ان يسميها تخصيصاً وإلا فبحسب المقياس الذي ذكرناه إجمالاً لا يصح عدّ مثل هذا الرفع للحكم تخصيصاً لوروده بعد وقت العمل.

هذا، ولم يوافقه في هذا القول إلا بعض الأعاظم فيما ألّفه أخيراً في تفسير القرآن حيث أنكر بعض موارد النسخ قال ما نصه:

«ولتوضيح ما هو الصحيح في هذا المقام نقول: ان نسخ الحكم الثابت في القرآن يمكن ان يكون على أقسام ثلاثة:

  1. ان الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بالسنة المتواترة أو بالإجماع القطعي الكاشف عن صدور النسخ عن المعصوم وهذا القسم من النسخ لا اشكال فيه عقلاً ونقلاً فان ثبت في مورد فهو المتبع وإلا فلا يلتزم بالنسخ. وقد عرفت ان النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
  2. ان الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى منه ناظرة إلى الحكم المنسوخ ومبينة لرفعه. وهذا القسم أيضاً لا إشكال فيه. وقد مثلوا لذلك بآية النجوى.
  3. ان الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى غير ناظرة إلى الحكم السابق ولا مبينة لرفعه وإنما يلتزم بالنسخ لمجرد التنافي بينهما فيلتزم بان الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة.

والتحقيق ان هذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن. كيف وقد قال الله عزّ وجلّ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء 82) ولكن كثيراً من المفسرين وغيرهم لم يتأملوا حق التأمل في معاني الآيات الكريمة، فتوهموا وقوع التنافي بين كثير من الآيات والتزموا لأجله بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة) (البيان ص 305).

ثم تعرض لموارد مما ادعي فيها النسخ وحاول توجيهها بحيث لا يلزم منه النسخ. وما كان من قبيل الخاص المتأخر الذي ذكرنا انه لابد من الإلتزام بالنسخ فيه، التزم فيه بالتخصيص. بدعوى ان الخاص يخصص العام سواء تقدم عليه أو تأخر عنه.

ومنشأ الإلتزام بعدم إمكان النسخ في القرآن في القسم الثالث، هو ان من أوضح انحاء الإختلاف بين الكلامين ان يتضمنا حكمين متضادين من دون ان يكون أحدهما ناظراً إلى الآخر ومبينا لرفعه. فيلتزم بكون الثاني ناسخاً للأول لمجرد التنافي بينهما. والآية الشريفة المتقدمة تنفي وقوع الاختلاف في القرآن.

ولكن الصحيح ان الآية المباركة لا ترتبط بنسخ الأحكام القرآنية فقط. وانما المراد بها هو الجواب عن شبهة كانت تعترض التشريع الإسلامي في بدو أمره من قبل المعاندين من اليهود وغيرهم. وقد ورد ذكر هذه الشبهة والإشارة إلى الجواب عنها في موارد من الكتاب العزيز.

قال تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}. (النحل 101 – 102)

وقال تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. (البقرة 106)

فكان المعترضون يجعلون تبدل الأحكام سواء كانت مذكورة في القرآن أو على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذريعة للتشكيك في أصل الدعوة الإسلامية نظراً إلى ما تقدم من ان الحق لا يتبدّل كما زعموا.

وجواب القرآن عن هذه الشبهة يكمن في معنى التدبر في قوله تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.

قال الزمخشري في الكشاف «تدبر الامر تأمله والنظر في أدباره وما يؤول اليه في عاقبته ومنتهاه» (الكشاف ج 1 ص 546). وقال الفخر الرازي «التدبر النظر في عواقب الأمور وادبارها» (التفسير الكبير ج 10 ص 196) وذكر الطبرسي مثله (مجمع البيان، ج 3 ص 81).

و المراد هنا الإشارة إلى ان وحدة الهدف هو الجامع بين هذه الأحكام المختلفة بحسب النظر البدوي. توضيحه:

ان الأحكام التي تختلف حسب الظاهر على قسمين:

القسم الأول: ما يكون منشأ الاختلاف فيها تغير الأهداف وعدم استقرار الحاكم على هدف معين.

القسم الثاني: ما يكون منشأ الاختلاف فيها التدرج في إنشاء الأحكام فهي تقود المتشرعين بها إلى هدف واحد، وتستتبع عاقبة واحدة إلا أن طرق الوصول إلى الهدف تختلف بحسب اختلاف الأزمنة.

والقسمان موجودان في الأحكام العرفية والقوانين المدنية التي يصنعها العقل البشري فنرى ان بعض الحكام حيث لا يتطلعون إلى هدف منشود وإنما غايتهم الزعامة والحياة المترفة يتقلبون في وضع الأحكام التي تختلف روحاً وهدفاً. ولكن البعض الآخر يستهدفون غاية عليا في وضع قوانينهم الا ان قسماً منهم يتسرّع في جعل القوانين المشدّدة التي ترمي إلى اهدافه وبذلك يواجه صعوبات في قبول المجتمع وقد يبوء بالفشل نهائياً.

ولكن القسم الآخر يلاحظ صلاحية المجتمع لتكليفه بالقوانين المستحدثة التي لم يتعود عليها فيبتدئ من الخفيف إلى الشديد وهكذا يتصاعد في تطبيق اجراءاته التي تستهدف جميعاً غاية واحدة وإنما الاختلاف في الشدة واللين ينشأ من عدم تكيّف المجتمع بما يناسب التشدد في الأحكام في بداية الأمر.

وقد لاحظ الشارع المقدس هذه النقطة المهمة في تشريع أحكامه. ومن هنا نجد أن الرادع عن شرب الخمر في بدء التشريع لم يكن الاّ ضرباً خفيفاً مهيناً بالنعال ثم تطوّر حتى وصل إلى الجلد بالسوط. وكذلك الزاني والزانية فان حدّهما في بدو التشريع كان ايذاءً فقط وتطوّر هذا حتى وصل إلى الجلد أو الرجم أو غيرهما. وكل تلك الأحكام يتكفل هدفاً واحداً وهو الردع عن المنكرات الاّ ان الرادع يختلف حسب اختلاف حالات المجتمع.

فالجواب الصحيح عن الاشكال ان المعترضين ينظرون إلى الاحكام نظرة سطحية، ولو تدبروها ونظروا إلى عواقبها وأهدافها لوجدوها متناسقة متناسبة لا تغير فيها ولا تبديل.

بل قد ذكرنا في مبحث استصحاب الشرائع السابقة ان شريعة السماء كانت واحدة في أصولها وأهدافها السامية الأساسية من عهد آدم عليه السلام إلى عهد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وان متطلبات الوضع الخاص، والزمان الخاص، والمكان الخاص، والرواسب النفسية للمجتمع هي التي جعلت الشرائع مختلفة في ظاهرها.

و النتيجة: ان المراد بالآية المباركة ليس دفع اشكال النسخ بوجه خاص وهو ان تكون آية ناسخة لآية وغير ناظرة إليها كما ورد في الدعوى. بل اشكال النسخ يشمل جميع الأحكام المتطورة سواء كانت في الكتاب أو السنة وسواء كان ناظراً إلى الحكم السابق أم لا. والجواب عن الجميع واحد وهو ما أوضحناه.

ويشهد لما ذكرناه الآيات الواردة في تغيير القبلة قال تعالى {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: 142) – الى ان يقول سبحانه – {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ..} (البقرة: 148) وقال تعالى بعد مجموعة من الآيات {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ...} (البقرة: 177).

وكل هذه الآيات ناظرة الى أن وحدة الهدف هو الجامع بين الاحكام كما يشير اليه قوله تعالى «فاستبقوا الخيرات» وقوله «ولكن البر من امن..».

وبهذه المناسبة لا بأس بأن نتعرض اجمالاً لبعض الآيات المباركات التي ادّعى فيها قوم بالنسخ وفي قبالهم ادعى بعض الاعاظم انها من باب التخصيص كما مرّت هذه الدعوى إجمالاً وقلنا بان التخصيص لا يمكن الإلتزام به فيما إذا كان الخاص متأخراً عن وقت العمل بالعام كما هو الحال في الأحكام العامة التي صدرت في بدو التشريع وجرى عليها المتشرعون ثم جاءت مخصصاتها.

وبهذا الصدد نذكر بعض هذه الآيات ونوضح اجمالاً انها ليست من باب النسخ ولا من باب التخصيص بل من باب تبدّل الموضوع.

توضيحه:

ان بعض الأحكام وردت على موضوعاتها الخاصة ولم يكن الحكم مختصاً بزمان في أصل التشريع وإنما تعيّن الحكم في ذلك الزمان باعتبار تحقق موضوعه آنذاك، ولما تبدّل الموضوع شرّع أحكام أخرى تابعة للموضوع الثاني؛ وليست هذه الأحكام ناسخة للأحكام الأولى، بحيث تكون هذه الأحكام ثابتة أبداً بل كل من القسمين ثابتة على فرض تحقق موضوعاتها. فلو تحقق موضوع الحكم الأول ثانية وجب تطبيقه وهكذا. ولكن حيث كان زمان تشريع الحكم الثاني متأخراً عن زمان الأول توهم ان ذلك من باب النسخ.

والآيات التي وقع البحث فيها هي قوله تعالى:

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. (البقرة: 109)

وقوله {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. (الانفال: 61)

وهاتان الآيتان مما ادّعي فيها انها منسوخة بآية السيف وهي قوله تعالى:

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. (التوبة: 29)

وقد نسب القول بالنسخ هنا إلى ابن عباس وقتادة والسُدّي وأبي جعفر النّحاس (البيان ص 307).

ومقتضى القول بالنسخ ان المسلمين لا يجوز لهم الاخذ بالقسم الأول من الآيات والمسالمة مع الكفار إلى الأبد وان الواجب النهائي عليهم هو المقاتلة واخذ الجزية.

وفي قبال ذلك، القول بالتخصيص كما ذهب إليه بعض الأعاظم قال ما هذا نصّه:

«الإلتزام بالنسخ هنا يتوقف على الإلتزام بأمرين فاسدين:

الأول: ان يكون ارتفاع الحكم الموقت بانتهاء وقته نسخاً وهذا واضح الفساد فان النسخ إنما يكون في الحكم الذي لم يصرّح فيه لا بالتوقيت ولا بالتأبيد فان الحكم إذا كان موقتاً وان كان توقيته على سبيل الاجمال كان الدليل الموضح لوقته والمبين لانتهائه من القرائن الموضحة للمراد عرفاً وليس هذا من النسخ في شيء. (إلى ان قال).

الثاني: ان يكون أهل الكتاب أيضاً ممن أُمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتالهم، وذلك باطل فان الآيات القرآنية الآمرة بالقتال إنما وردت في جهاد المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر، وأما أهل الكتاب فلا يجوز قتالهم إلا مع وجود سبب آخر من قتالهم للمسلمين. لقوله تعالى (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ( ) أو إلقائهم الفتنة بين المسلمين لقوله تعالى في الاية التالية (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أو امتناعهم عن إعطاء الجزية للآية المتقدمة. وأما مع عدم وجود سبب آخر فلا يجوز قتالهم لمجرد الكفر كما هو صريح الآية الكريمة (إلى ان قال): وحاصل معنى الآية الأمر بالعفو والصفح عن الكتابيين بودّهم هذا حتّى يفعل الله ما يشاء في خلقه، من عزّ الإسلام وتقوية شوكته ودخول كثير من الكفار في الإسلام وإهلاك كثير من غيرهم وعذابهم في الآخرة وغير ذلك مما يأتي الله به من قضائه وقدره» (البيان في تفسير القرآن ص 288).

ومقتضى هذا القول هو وجوب المقاتلة مع أهل الكتاب في هذا الزمان أيضاً إلى ان يعطوا الجزية كما ان مقتضاه هو وجوب مقاتلة أهل الكتاب من أول الأمر أيضاً ان لم يعطوا الجزية وان كان المسلمون في وضع خاص لا يتمكنون من الحرب لضعفهم.

هذا هو مقتضى التخصيص فان معناه تفيد الأمر بالمسالمة من أول الأمر بما ذكر. ولعلّ هذا المعنى كان معلوماً لدى القائلين بالنسخ ولذا التزموا به.

ولكن مقتضى القول بالنسخ هو مقاتلتهم في هذا الزمان أيضاً ان لم يعطوا الجزية مثلاً وذلك لعدم جواز المسالمة بعد نسخ الآية الأولى.

ومقتضى ما ذكرنا من أن الحكم بالمسالمة والحكم بالمقاتلة، كل منهما يتبع موضوعاً خاصاً هو وجوب متابعة كل منهما حين وجود موضوعه. وموضوع الحكم بالمسالمة كان موجوداً حين نزول آيتها. وذلك من جهة ضعف المسلمين في بدو الدعوة وموضوع الحكم بالمقاتلة كان موجوداً أيضاً حين نزول آيتها وهو قوتهم وشوكتهم.

وعليه فلو انقلب الوضع وضعف المسلمون وكان في قتالهم هلاك الأكثرين وتأخرهم من شتى الجهات وجبت المسالمة ثم لو زادت قوتهم وشوكتهم تارة اخرى وحببت المقاتلة. وهكذا.

والظاهر ان المراد بقوله تعالى في آية العفو والصفح (حتى يأتي الله بأمره) هو تأييده للمسلمين وتقويته اياهم بانتشار الدعوة الموجب لكثرتهم وتفوقهم العسكري فيتسنى لهم مقاتلة الكفار من أهل الكتاب أو إرغامهم على اعطاء الجزية.

والعبارة التي نقلناها عن بعض الأعاظم في تفسير هذه الجملة تفيد نفس المعنى الذي ذكرناه، لولا انه ذكر من جملة الأمر الذي وعد الله باتيانه عذاب الآخرة ولا ريب ان عذاب الآخرة لا يمكن ان يكون غاية لوجوب العفو والصفح في الدنيا.

وأما بالنسبة إلى الآية الثانية من آيات المسالمة (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) فقد ورد في آية اخرى {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} (محمد 35) ومفادها ان الدعوة إلى السلام في غير حالة التفوق والاستعلاء وأما إذا كنتم الاعلون فلا تدعو إلى السلام ولا تهنوا في مقاتلتهم.

والحاصل ان دعوى النسخ في هذه الآيات ونظائرها غير صحيحة كما ان الالتزام بالتخصيص في هذه الموارد غير مناسب ايضا.

وبذلك انتهينا من البحث في المورد الأول وتبين ان نسخ الأحكام الثابتة بالكتاب لا مانع منه بل لابد من الإلتزام به في بعض الموارد.

المورد الثاني مما وقع فيه الخلاف جواز نسخ الأحكام بما ورد عن الائمة عليهم السلام.

وهذا البحث مذكور في بعض كتب علمائنا المتأخرين. والمراد بالنسخ انتهاء امد الحكم في عهد الائمة عليهم السلام اذ لا مانع من ذلك. فكما كان بعض الأحكام موقتة واقعاً إلى زمان خاص في عهد النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم كذلك يمكن ان يكون بعضها موقتة إلى زمان في عهد أحد الأئمة عليهم السلام وحينئذ يمكن ان يكون الناسخ مودعاً عند الامام فيبينه عند انتهاء امد الحكم المنسوخ.

وقد التزم بذلك بعض متأخرين الأصوليين. ومنشأ الالتزام به ان هناك أحكاماً عامة أو مطلقة صدرت عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وجرى عليه المسلمون حتى في عهود الأئمة المتقدمين عليهم السلام ثم ورد مقيداتها أو مخصصاتها في روايات الائمة المتأخرين. ولا يمكن الإلتزام بالتخصيص والتقييد في ذلك فلابد من الالتزام بالنسخ.

نظير ما ورد من نجاسة الناصبي اذ لم يكن ذلك معهوداً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك في خمس أرباح المكاسب بناءً على ما زعم من انه لم يكن مشرّعاً في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما حكم به الائمة عليهم السلام.

ومن الواضح ان الائمة عليهم السلام لا يحكمون بما يخالف كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. وقد انقطع الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلابد من ان يكون ذلك من باب ايداع الناسخ عند الائمة عليهم السلام لإبرازه حينما ينتهي أمد الحكم الأول.

ويمكن ان يستشهد لذلك بعدة أمور:

الأمر الأول: الروايات الواردة في تفويض أحكام الدين إلى الائمة الطاهرين عليهم السلام اذ ليس المراد بالتفويض ايكال تشريع الأحكام إليهم بل المراد ايداع الأحكام عندهم ليبرزوا منها كلّ ما حان وقت اعلامها.

الأمر الثاني: الروايات الآمرة بالأخذ بالأحدث مما صدر عنهم بزعم ان ذلك يدل على ان الروايات ينسخ بعضها بعضاً.

الأمر الثالث: الروايات المصرحة بان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن.

ومنها معتبرة محمد بن مسلم عن ابي عبد الله عليه السلام قال «قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال: ان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن». (جامع ج 1 المقدمات ص 67 ح 464)

ويمكن ان يدعى ان المراد بذلك هو ان ناسخ الحديث مودع عندنا، كما أن ناسخ القرآن كان مودعاً عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

الأمر الرابع: ان الاصحاب كانوا يسمعون هذه الأحاديث المشتملة على أحكام مستحدثة كنجاسة الناصبي ولو كانوا يحملونها على غير النسخ لورد عنهم الشكوى إلى الائمة عليهم السلام عن تنجس ما يتعلق بهم من جهة مباشرة الناصبي قبل تشريع هذا الحكم. فالظاهر ان عدم شكواهم عن ذلك ليس إلا من جهة حملهم هذه الأحكام على النسخ.

وكذلك في تحديد الكّر الوارد عن الائمة عليهم السلام اذ لم ينقل عن أحد من أصحابهم التحيّر بالنسبة إلى ما قبل بيان هذا التحديد من حيث تطهيرهم المتنجسات بالماء القليل الذي لم يصل إلى الحد المذكور. وكذلك الأمر في تحديد الرضعات الموجبة للحرمة.

هذا. ولكن الظاهر ان هذا القول غير صحيح. والشواهد غير تامة فان ابراز الناسخ أيضاً من مخالفة الكتاب والسنة بحسب الظاهر. والروايات الواردة في انهم عليهم السلام لا يفتون بما يخالف الكتاب والسنة إنما وردت في ردّ بعض الملاحدة والغلاة كالخطابية الذين ادّعوا بان الامام يحلل ويحرّم فأراد الائمة عليهم السلام ردّ هذه الدعوى بإبراز المتابعة والتسليم لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الهدف كما يمنع من تشريع الأحكام المخالفة لهما واقعاً يمنع أيضاً من نسخ تلك الأحكام ولو بالظاهر اذ لا يختلف الامران في المخالفة الظاهرية التي كانوا يتجنبونها ويتبرؤون منها.

هذا، مضافاً إلى ان ذلك ينافي ما ورد من ان حلال محمد صلى الله عليه وآله وسلم حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

وقد ناقش الشيخ الانصاري وتبعه المحقق النائيني في دلالة هذه الرواية على عدم جواز نسخ أحكام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بان المراد بها هو عدم نسخ جميع أحكام الشريعة.

ولكن هذا خلاف ظاهرها فان ظاهرها ان كل حكم من أحكام الشريعة ابدية لا تنسخ والاّ فجميع الاحكام لا تنسخ حتى بالنسبة إلى الشرائع السابقة.

وأما الشاهد الأول فالجواب عنه: ان التفويض إنما يرتبط بالولاية العامة. والولاية في الأمور العامة كما سيأتي بعض اخبار التفويض يتعلق بشأن التبليغ والاعلام ولا ربط له بايداع النواسخ.

وأما رواية محمد بن مسلم فمفادها ان علماء العامة لا يعلمون الناسخ والمنسوخ من أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نعلم بها فاذا خالف حديثنا حديثهم فإنما هو من أجل انهم اخذوا بالمنسوخات وجهلوا بما نسخها ونحن نبين الأحاديث الناسخة. وقد اعترف بعض علمائهم بان أقسى المشكلات في الحديث هو تشخيص الناسخ عن المنسوخ.

وأما الروايات الآمرة بالأخذ بالأحدث فهي ضعيفة سنداً كما سيأتي. مضافاً إلى ان ظاهرها الأحكام التنفيذية الصادرة من الائمة عليهم السلام وهي تتغير بتغير المصالح والمفاسد.

وأما عدم تحير الأصحاب عند سماعهم الأحكام المستحدثة أو التي كانت بنظرهم مستحدثاً فلعل بعضها من جهة اطلاعهم على ان امتثال الأمر الظاهري يفيد الاجزاء. ومن الواضح انه لا يمكن الالتزام في جميع تلك الموارد بالنسخ.

1.1.1.3الجهة الثالثة تلخيص واستنتاج:

تلخص مما ذكرناه في الجهة الأولى أي في المبحث المختص بتعيين المشرّع ان الأحكام التشريعية الدائمة على قسمين: فريضة و سنة. و الفريضة هي ما فرضها الله تعالى في كتابه أو وحياً على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. و السنة هي ما سنّها الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم سنة مفروضة فأجازها الله له. وذكرنا بأن تشريعات الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على أربعة أقسام:

  • الأحكام المستقلة. كتحريم كل مسكر.
  • متممات الجعل. كزيادة ركعتين في الرباعيات وركعة في المغرب.
  • متممات الجعل التطبيقية كتطبيق فريضة الزكاة في تسعة اصناف.
  • تقدير اجزاء أخرى غير ما فرضه الله في المركبات الاعتبارية كالتشهد والقراءة في الصلاة.

وتلخص مما ذكرناه في الجهة الثانية ان النسخ مما لابد من الالتزام بوقوعه في الأحكام الشرعية وانّ الأحكام المذكورة في الكتاب العزيز كانت معرّضة للنسخ أيضاً، ووقع النسخ في قسم منها. وأما وقوع النسخ بعد عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي باخبار الائمة عليهم السلام فلم يثبت بل الظاهر عدم وقوعه. بل الظاهر إباؤهم عليهم السلام عن ابراز ما يخالف الكتاب والسنة ولو بحسب الظاهر.

كما ذكرنا أيضاً بهذه المناسبة كيفية تدرج الأحكام والسرّ الكامن فيه.

وأما النتائج المترتبة على هذه الأبحاث فهي كثيرة في مختلف أبواب الفقه. وذلك لأن التفكيك بين الفرائض والسنن يترتب عليه آثار منها تطبيق قاعدة «لا تنقض السنة الفريضة» التي صرّح بها الامام عليه السلام في ذيل صحيحة «لا تعاد». وقد أوضحنا مراراً ان الكبرى في تلك الصحيحة هي هذه الجملة وان قوله عليه السلام: «لا تعاد الصلاة الا من خمسة» تطبيق لهذه القاعدة وقد استنتجنا من ملاحظة الموارد المتفرقة في الفقه بان القاعدة لا تختص بالصلاة وأنها جارية في كل مركب اعتباري يكون بعض اجزائه فريضة وبعضها سنة. ومقتضى هذه القاعدة عدم البطلان إذا امتثل المكلف بالفرائض فقط وأخلّ بالسنن إذا كان الاخلال لعذر. ولتفصيله محل آخر.

ويترتب على تطبيق هذه القاعدة اجزاء امتثال الامر الظاهري في جميع الموارد، إذا كان الاخلال بالسنة نظراً إلى أن الجهل بالحكم الواقعي مع التقليد أو الاجتهاد الصحيح عذر.

ويترتب على التفكيك بين الفرائض والسنن حلّ المشكلة في المسائل الدورانية بناءً على انها من باب التزاحم لا التعارض، كما ذكره بعض الاعاظم وذلك بترجيح الفريضة على السنة لكونها أهم. إلى غير ذلك من الآثار المترتبة عليه في مختلف أبواب الفقه.

والمهم في هذا المقام ملاحظة النتائج المترتبة على هذه الأبحاث في خصوص مبحث التعارض وتصادم الظهورات.

ويقع البحث في مقامين:

المقام الأول: في انه هل يمكن ان يعتبر اشتباه الناسخ بالمنسوخ من أسباب توهم تصادم الظهورات في أحاديث العامة؟

وبالجواب على هذا السؤال يظهر أحد أسباب الاختلاف الواضح بين الفقه الجعفري وفقه سائر المذاهب. وكذلك اختلاف أحاديث الفريقين واختلاف المدارس المختلفة في فقه العامّة. وقد تقدم في المدخل كلام للزهري يرتبط بهذا المقام.

يظهر من بعض رواياتنا ان اشتباه الناسخ بالمنسوخ يعدّ عاملاً مهمّاً في اختلاف أحاديث أهل البيت عليهم السلام وأحاديث العامة.

منها معتبرة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال «قلت له: ما بال اقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال: ان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن). (جامع ج 1 المقدمات ص 67 ح 464)

ومنها معتبرة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام (في حديث) قال: «قلت فاخبرني عن أصحاب رسول الله صدقوا على محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا. قال: قلت فما بالهم اختلفوا؟ فقال: أما تعلم ان الرجل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب: ثم يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب فنسخت الأحاديث بعضها بعضاً». (جامع ج 1 المقدمات ص 67 ح 465)

ومنها رواية سليم بن قيس الهلالي وهي طويلة يسأل فيها أمير المؤمنين عليه السلام عن سرّ اختلاف حديثه وأحاديث سائر الصحابة فأجاب عليه السلام: «ان في أيدي الناس حقاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عهده حتى قام خطيباً...» الحديث (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 22 ح 162).

و لنذكر الآن بعض الشواهد من موارد اشتباه الناسخ بالمنسوخ.

و الشواهد على قسمين:

القسم الأول: الموارد التي عمل بالحديث المنسوخ جهلاً بوجود الناسخ.

القسم الثاني: الموارد التي توهم كون الحديث فيها منسوخاً مع انه غير منسوخ.

أما القسم الأول فمنشأ الاشتباه فيه أحد أمرين:

الأمر الأول: عدم وصول الناسخ إلى العامل بالمنسوخ.

وهذا كثير في فقه العامة وليس بمستنكر فان له جذوراً تاريخية.

وقد تعرضنا في المدخل لبعض العوامل التي تسببت في عدم وصول الناسخ إليهم. ونضيف هنا عاملاً آخر وهو الاختلاف العقائدي وتضعيفهم لرجال سائر المذاهب. وقد بحث عن ذلك أبو زهرة في «الامام زيد» راجع «تجديد الدعوة الإسلامية».

ومن الطريف ما نقله ابن حجر في مقدمة فتح الباري: «ان البخاري كان يقول: لم اكتب الا عمن يقول: الإيمان قول وعمل» (فتح الباري ص 479). مع ان هذا لا يرتبط بالوثاقة في النقل بوجه. وكذلك زعم أيضاً انه لا ينقل عن أهل البدع، مع انه يروي عن عمران بن حطان الخارجي. كما ان بعضهم كان محترزاً عن النقل عمن يقول بخلق القرآن.

وبهذه التضييقات ونظائرها فقدوا قسماً كبيراً من سنن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي يرويها الثقات وكان من بينها بالطبع الأحاديث الناسخة لما كانت تحت أيديهم من روايات الاحكام.

الأمر الثاني: توهم عدم نسخ الحكم.

كما حصل ذلك في مسألة مسح الخفين في السفر.  وقد ورد في أحاديثنا المهيمنة على أحاديث العامة والمبينة لأخطائها انّ آية الوضوء في سورة المائدة نزلت بعد العمل المنقول في رواياتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبذلك يحكم بنسخ الحكم السابق وهو مسح الخفين.

ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال «سمعته يقول: جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيهم علي عليه السلام فقال: ما تقولون في المسح على الخفين؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على الخفين. فقال علي عليه السلام: قبل المائدة أو بعدها؟ فقال: لا أدري. فقال علي: سبق الكتاب الخفين. إنما انزلت المائدة قبل ان يقبض بشهرين أو ثلاثة». (جامع ج 1 ص 117 الطهارة ب 26 من الوضوء ح 1007)

ومغيرة هذا هو أحد رواة مسح الخفين عند العامة. ورواياتنا في هذا الباب كثيرة تزيد على ثلاثين حديثاً وقد استفاض عن علي عليه السلام قوله: «سبق الكتاب الخفين».

ولكن العامة اخذت بالمنسوخ خلافاً لما نقلوه عن ابن عباس من ان هذا الحكم منسوخ بآية الوضوء. قال ابن رشد: «واحتج القائلون بجوازه بما رواه مسلم انه كان يعجبهم حديث جرير. وذلك انه روى انه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على الخفين فقيل له انما كان ذلك قبل نزول المائدة فقال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة». (البداية ج 1 ص 13)    

وهذا أيضاً مع فرض صحتها لا تدل على عدم النسخ لان اسلامه بعدها لا يلازم عدم مشاهدته قبلها.

وأما القسم الثاني (أي موارد توهم النسخ فيما لا نسخ فيه) فمنه ما مرّ الكلام فيه عند حديثنا حول النسخ حيث نقلنا عن بعضهم دعوى النسخ في آية العفو والصفح بآية السيف وقلنا ان الصحيح انه من باب تبدل الموضوع وليس من النسخ في شيء. ومنشأ توهم النسخ هنا هو الخلط بين مورد تبدل الحكم بتبدل موضوعه وتبدل الحكم مع بقاء موضوعه.

ومن أسباب توهم النسخ اشتباه الحكم الصادر بلحاظ المصالح المتغيرة من باب الولاية بالأحكام الصادرة تشريعاً عاماً دائمياً.

فمنها تحريم لحوم الحمر الاهلية الذي ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم انه حرمها يوم خيبر. فتوهم العامة انه حكم تشريعي. مع ان الوارد في رواياتنا ان التحريم كان خاصاً بذلك اليوم ونظراً إلى ان الناس كانوا بحاجة إلى ظهورها لنقل الجيش والعتاد، وحيث كانوا في نقص من ناحية المؤن بادروا إلى ذبح الحمر الأهلية، فاقتضت المصلحة المؤقتة العسكرية النهي عن ذبحها.

المقام الثاني: في امكان تأثير اشتباه الناسخ بالمنسوخ في توهم اختلاف أحاديث أهل البيت عليهم السلام المروية في كتبنا.

يستفاد من بعض الروايات ان من انحاء التقية في نشر الأحكام من قبل الائمة عليهم السلام هو نقلهم للحديث النبوي المنسوخ تارة ولحديثه الناسخ تارة أخرى. ومن الروايات الدالة على ذلك بعض ما أمر فيه بالأخذ بالأحدث.

وقد التزم بعض قدماء الأصحاب كيونس بن عبد الرحمن و الكليني ان ذلك أحد وجوه الجمع بين الحديثين المتعارضين فقد جمعوا بذلك بين الروايات المتعارضة في باب الزكاة بالنسبة إلى ما عدا الغلات الأربع من المحاصيل الزراعية حيث ورد التصريح في بعض الروايات ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عفى عما عدا الاصناف التسعة وصرّح في بعضها الآخر بثبوت الزكاة في كل مكيل وموزون. وقد عرضت الطائفتان على الامام الهادي عليه السلام كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى.

وفي وجه الجمع بينهما احتمالات منها حمل الروايات الآمرة على الاستحباب كما صنعه الفقهاء المتأخرون. وحملها يونس والكليني قدس سرهما على انها ناسخة للطائفة الأولى فكان الحكم في بدو الشريعة اختصاص الزكاة بالغلات الأربع في المحاصيل الزراعية ثم نسخ ووضعت الزكاة في كل مكيل وموزون. وشبه يونس هذا الحكم بزيادة ركعتين في الرباعية وركعة في المغرب بعد ان كانت الصلوات كلها ركعتين ركعتين.

والنتيجة ان الامام كان يروي تارة الحديث المنسوخ وتارة الحديث الناسخ.

وهذا الجمع في نفسه ليس بمستغرب والوجه فيه اهتمام الأئمة عليهم السلام بتعليم أصحابهم تدرّج تشريع الأحكام الا ان الإلتزام به في هذا المورد غير ظاهر. وذلك لإباء روايات العفو عما عدا الغلات الأربع من هذا الحمل فانها مصرّحة أو ظاهرة ظهوراً قوياً في ان الحكم في زمان صدور الرواية أيضاً هو العفو عنها. ومع ذلك لا يمكن الالتزام بكونه حكماً منسوخاً. وسيأتي ان شاء الله تعالى ان الوجه في هذا الاختلاف هو انه من الأحكام التنفيذية التابعة للمصالح المتغيرة.

1.1.2المبحث الثاني

من مباحث الفصل الأول البحث عن حصول الاختلاف من جهة اشتباه الاحكام التنفيذية والقضائية بالأحكام التشريعية العامة.

سيظهر من خلال هذه الأبحاث تأثير هذا الاشتباه في توهم الاختلاف كما يظهر وجه الحاجة إلى تشخيص هذه الأحكام في مختلف أبواب الفقه مع قطع النظر عن مبحث التعارض، ومن الاخطار التي يواجهها استنباط الأحكام الشرعية هو عدم التمييز بين الأحكام التشريعية العامة والأحكام التنفيذية أو القضائية الصادرة من باب الولاية العامة أو الولاية على الأمور العامة بلحاظ المصالح الوقتية المتغيرة اذ يستوجب ذلك اعتبار القسم الثاني من مصادر التشريع وحينئذ ينحرف الاستنباط عن مجراه الطبيعي.

ويظهر من بعض تعابير الفقهاء انهم كانوا معترفين بذلك ومحترزين عنه فنراهم يعبرون عن بعض الروايات انها قضية في واقعة. والظاهر ان مرادهم هو ما ذكرناه. إلا ان البحث عن ذلك وكيفية تشخيص هذه الأحكام بحاجة إلى توسّع أكثر.

وبهذا الصدد نبحث عن ثلاث جهات:

الجهة الأولى: في توضيح معنى الولاية الثابتة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة المعصومين عليهم السلام.

الجهة الثانية: ان احكامهم التي يشرّعونها من باب الولاية لا يمكن ان تجابه الأحكام التشريعية العامة. وبتعبير روائي لا يمكن ان يحللوا حراماً أو يحرموا حلالاً. فهذه الأحكام نظير المعاهدات الشخصية بين طرفين أو إلزام شخص على نفسه أمراً بنذر أو يمين. وسيأتي تفصيله ان شاء الله تعالى.

الجهة الثالثة: في تمييز الأحكام التشريعية العامّة عن الأحكام التنفيذية والقضائية في متون الأحاديث، وبيان موارد الاستنتاج من هذا التمييز لرفع مشكلة اختلاف الأحاديث.

1.1.2.1.1الكلام في الجهة الأولى

الأدلة التي تثبت السلطة التنفيذية والقضائية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة المعصومين عليهم السلام كثيرة جدا بل هي في الجملة من ضروريات المذهب إلا أن الكلام في توضيحها. و الولاية على قسمين:

القسم الأول: الولاية في الأمور العامة.

القسم الثاني: الولاية العامة على الأموال والنفوس.

ولا بأس هنا بان نتعرض اجمالاً إلى ما دل على ثبوت الولاية لهم في الجملة.

أولا: الآيات الآمرة بالإطاعة.

قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (النساء 59) والمراد بأولي الأمر هم أوصياؤه بالحق، وهم الأئمة المعصومون عليهم السلام، ويشمل من نصبوه للولاية خصوصاً أو عموماً ان ثبت النصب العام. والآيات الآمرة بإطاعة الرسول كثيرة جداً.

  1. {ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين انعم الله عليهم..} (النساء 69).
  2. {اطيعوا الله واطيعوا الرسول واحذروا} (المائدة 92).
  3. {قل اطيعوا الله والرسول فان تولوا فان الله لا يحب الكافرين} (آل عمران 32).
  4. {واطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} (آل عمران 132).
  5. {واطيعوا الله ورسوله ان كنتم مؤمنين} (الانفال 1).
  6. {يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون} (الانفال 20).   
  7. {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء 80).

إلى غير ذلك من الآيات التي تربو على عشرين آية.

ثانيا: الآيات المعبّرة بالولاية.

  1. {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه امهاتهم} (الاحزاب 6).
  2. {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} (المائدة 55).

وقد ثبت في التفاسير والروايات ان المراد بالذين آمنوا في هذه الآية هو خصوص مولانا أمير المؤمنين عليه السلام.

وأما الروايات فهي كثيرة جداً لا حاجة إلى احصائها.

ومنها حديث الغدير الثابت بالتواتر في كتب الفريقين حيث اغتنم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله تعالى فرصة اجتماع المسلمين في تلك الصحراء القاحلة وكان يعلم بانه آخر اجتماع منهم يمكنه ان يحدثهم فيه فصعد المنبر وقال فيما قال: ألست اولى بكم من انفسكم قالوا: بلى فقال: فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه. قاله صلى الله عليه وآله وسلم رافعاً بيده عليه السلام.

وفي رواية أيوب بن عطية: انا اولى من كل مؤمن بنفسه.

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة.

وهذه الآيات والروايات تشمل كلا قسمي الولاية أي الولاية العامة على الأموال والنفوس والولاية على الأمور العامة.

والمراد بالولاية على الأمور العامة السلطة التنفيذية و القضائية. وقد ورد في الروايات ان السلطة القضائية لا يجوز ان يليها إلا نبي أو وصي نبي. وعليه فالمتصدي لها من سائر الناس لابد من ان يكون بالوكالة عنهم. والنصب إما لخصوص القضاء أو لعموم الولاية بالنصب الخاص أو النصب العام كما ثبت نصب المجتهدين لخصوص منصب القضاء. وأما نصبهم لعموم الولاية ففيه كلام وتفصيله في مباحث الاجتهاد والتقليد.

ويستتبع النصب للسلطة القضائية حقوقاً أخرى من قبيل نصب القيم على القصّر والغيّب ومن قبيل حبس المديون الواجد المماطل. فان هذه الحقوق من شؤون السلطة القضائية في الإسلام.

وأما السلطة التنفيذية فهي تشمل إجراء الحدود الشرعية وتنفيذها وتشمل الولاية في تعيين حد التعزير. وهو الحكم الجزائي غير المحدد في الإسلام فيتولى أمر تحديده الوليّ الشرعي بما يراه كافياً في ردع الشخص والمجتمع عن ارتكاب تلك الجريمة، بحيث لا يتجاوز أقل الحدود المعينة الشرعية وهو ثمانين جلدة وتشمل أيضاً الدرجة الثالثة من درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بيان ذلك:

ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ثلاث مراتب: الاستنكار بالقلب، ثم باللسان ثم باليد.

والأولان يعمان جميع المسلمين وأما الأخير فقد قال جمع من الفقهاء بعموميته أيضاً ولكن أوضحنا في مباحث «قاعدة لا ضرر» ان ذلك من مختصات الامام المعصوم وتحديد هذا التأديب أيضاً بيد الإمام كما ان نوعية التأديب بيده. فيجوز ان يجعل في بعض المخالفات غرامات مالية مختلفة بحسب نوعية الجريمة، والوضع الخاص للجرم والمجتمع الذي يختلف باختلافه كيفية الردع. كما يحتمل ان يكون اختلاف روايات كفارة وطي الحائض من هذا القبيل وسيجيء البحث عنه ان شاء الله تعالى.

وقد ذكرنا في مباحث «لا ضرر» ان قلع شجرة سمرة بن جندب إنما كان من باب التأديب ولاية وليس من الأحكام التشريعية كما توهمه جمع من الاعلام، فاضطروا إلى توجيه ذلك بما لا ملزم له. فان الصحيح ان تأديبه كان واجباً على الولي الشرعي وبما ان تأديبه كان دائراً بين العقوبة الجسمية من الضرب والحبس، وبين الغرامة المالية فاختار صلى الله عليه وآله وسلم ما هو المناسب للوضع، وهو قلع الشجرة. وذلك لأنه تأديب للمعتدي وازالة لمادة الفساد وموضع التنازع.

و بذلك يظهر انه لو اختلفت الروايات في بيان الحكم الجزائي لإحدى المخالفات فأحد المحتملات فيها ان يكون سرّ الاختلاف في الرواية اختلاف نظر الحاكم الشرعي في التأديب سواء كانت العقوبة جسمية أو مالية، أو عملاً شاقاً فان لم يمكن رفع اختلافها بوجه آخر تعين المصير إليه. والحاصل ان الفقيه الذي يحاول رفع اختلاف الأحاديث ينبغي ان يجعل هذا الوجه محطّ نظره أيضاً.

ومن شؤون السلطة التنفيذية في الإسلام القيادة العسكرية العليا. لذا عدّ من مختصات الإمام البدأة بالجهاد فلا يجوز ذلك لاحد غيره وتجب اطاعته فيه.

ومن شؤونها أيضاً الاشراف والسيطرة على بيت مال المسلمين والتصرف في الأموال العامة كجمع الاخماس والزكوات والخراج والمقاسمة والتصرف في الانفال وتوزيعها على المستحقين ومنح حق احياء الموات.

وسيأتي ان شاء الله تعالى ان من أخطاء العامة توهم ان الإعلان النبوي صلى الله عليه وآله وسلم (من احيا ارضاً ميتاً فهي له) من الأحكام التشريعية الدائمة وليس كذلك بل هو إعلان حكومي. وقد تطابق على ذلك رواياتنا وقال به منهم أبو حنيفة. ولذا يعتبر في الإحياء الموجب لتعلق حق المحيي بالارض اذن الامام وللإمام ان يلاحظ المصلحة الموقتة في الاذن العام أو الخاص كما ان له الاذن لجماعة خاصة.

وأما القسم الثاني من الولاية فهي الولاية العامة على الأموال والنفوس وهي السلطة المطلقة التي خصّ الله بها نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام ومن نصبوه للولاية. وبموجب هذه السلطة تجب اطاعتهم في كل ما يأمرون به. ومن الواضح انهم لا يأمرون إلا بما يرونه من صالح المجتمع الإسلامي أو الفرد المأمور وهذه الأوامر تتغير بتغير الأفراد و الأزمنة والأمكنة.

ومن هنا ورد في بعض الروايات منع بعض الأصحاب من مزاولة المباحث الكلامية وأمروا بعضاً آخر بمزاولتها.

وبموجب هذه السلطة يحقّ للإمام وضع الضرائب في الأموال، كما يحق له وضع الزكاة في صنف غير الأصناف التسعة. وقد ورد ان أمير المؤمنين عليه السلام وضع في الخيل العتاق دينارين وفي البراذين ديناراً، وقد حمله الفقهاء على الاستحباب. ولكن الصحيح انه من الأوامر الحكومية الخاصة التي انشأها الإمام عليه السلام لمصلحة وقتية.

وبموجب هذه السلطة يحقّ للإمام ان يطلّق زوجة أحد من الرعية إذا رأى فيه مصلحة أو في بقاء الزوجية مفسدة. وله ان يمنع من هذا الطريق الزواج بأكثر من واحدة مثلاً إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك، ويطلّق كل زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة.

وللإمام أيضاً بمقتضى هذه الولاية ان يحدّد الملكية الخاصة. فيعين لكل مواطن تملك دار واحدة مثلا فلا يحق له شراء دار أخرى وغير ذلك. كما ان له أيضاً ان يحرّم بعض المعاملات تحريماً تكليفياً.

وهنا يقع سؤال هل يوجب منعه عن بعض المعاملات فسادها وضعياً أم لا؟

يمكن ان يقال بان عموم «اوفوا بالعقود» ان كان مشروطاً بعدم منع ولي الامر كان منعه موجباً للبطلان أيضاً. ويستنتج من هذه الكبرى بطلان بيع المحتكرين بعد منع الوالي.

وهل للمجتهد الفقيه الجامع لشرائط الفتوى أيضاً جميع هذه الحقوق أو بعضها دون بعض أو ليس له حق الولاية أصلاً؟ بحث طويل له موضع آخر.

1.1.2.1.2الكلام في الجهة الثانية

الجهة الثانية من جهات البحث في الولاية، في بيان ان الاحكام التنفيذية والجزائية التي اصدرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام أو المنصوبون من قبلهم. وكذلك الأحكام التشريعية التي أصدرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفويض من الله تعالى كل تلك الأحكام مختصة بمنطقة الفراغ.

والمراد بالتحديد بمنطقة الفراغ ان لا يكون الحكم التنفيذي أو القضائي منافياً للحكم التشريعي، وان لا يكون السنة النبوية صلى الله عليه وآله وسلم منافياً لفرائض الله تعالى. فلا يتوهم ان المراد بمنطقة الفراغ موارد عدم تشريع الحكم الشرعي فيه اصلاً حتى يعترض علينا بانه لا يمكن ذلك اذ ما من واقعة الا له حكم من الاحكام الخمسة. وقد دلت الروايات المتعددة انه ما من قضية الا وله حكم شرعي. ونحن لا نقول بما يقول به بعض العامة من أن الوقائع لا حكم لها في واقع الشريعة وان الحكم الواقعي هو ما يستنبطه المجتهدون.

بل المراد ان لا يكون الحكم الصادر من الوالي محللاً للحرام ولا محرماً للحلال. وقد صرّح بذلك في رواية الميثمي السابقة حيث قال الإمام الرضا عليه السلام «فما جاء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله... (الى ان يقول) فذلك مما لا يسع الاخذ به لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليحرم ما أحل الله ولا ليحلل ما حرم الله... (إلى ان يقول عليه السلام) لانا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا نأمر بخلاف ما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الا لعلة خوف ضرورة...) الحديث (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 64 ح 448).

وكذلك الولاة المنصوبون فلا يجوز لهم ان يحكموا أحكاماً من باب الولاية محللة للحرام أو محرمة للحلال.

ويشهد له أيضاً بعض تعابير الزيارات كقوله «اشهد أنك قد أحللت حلال الله وحرمت حرام الله».

وقد وردت هذه الجملة في عدة أبواب من الفقه. منها هذا المقام ومنها باب الصلح: «الصلح جايز بين المسلمين الاّ صلحاً احلّ حراماً أو حرّم حلالاً» (الوسائل ج 13 ص 164 ب 2 من الصلح ح 2). ومنها باب الشروط: «ان المسلمين عند شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو احلّ حراماً» (الوسائل ج 12 ص 254 ب 6 من أبواب الخيار ح 5) ومنها باب اليمين «لا تجوز يمين في تحريم حلال ولا تحليل حرام ولا قطيعة رحم». (الوسائل ج 15 ص 297 ب 18 من مقدمات الطلاق ح 2)

كما ان هذا التعبير ورد في كلمات الفقهاء أيضاً وقد وقع الكلام والبحث في المراد بهذه الجملة حتى ان بعضهم – كما في العناوين والعوائد – ذكر ان هذه الجملة مما لابد من رد علمها إلى أهلها ولا يعرف معناه. وقال صاحب مفتاح الكرامة ان هذه من المجملات. وقد حاول الشيخ الانصاري قدس سره ومن تأخر عنه في مبحث الشروط من المكاسب توجيه هذه الجملة ولم يظهر لنا نجاح محاولاتهم.

والذي أشكل على الاعلام في معناها هو انه إذا تقيد الشرط واليمين والصلح وأوامر الوالي بعدم تحليل الحرام وعدم تحريم الحلال فينحصر نفوذ كل منها في الامر بالواجب والنهي عن الحرام اذ يلزم مما عدا ذلك أحد الأمرين فانه لو امر بترك الواجب لزم منه تحليل الحرام لان ترك الواجب حرام بالحرمة التبعية ولو أمر بفعل الحرام فهو واضح.

ولو أمر بفعل مباح أو مستحب أو مكروه أو ترك أحد منها فقد حرم حلال الله وذلك لان الفعل والترك في كل منها حلال ليس فيهما منع أصلي ولا تبعي مع ان الأمر بالفعل يستلزم تحريم الترك والأمر بالترك يستلزم تحريم الفعل فلو اشترط البائع على المشتري خياطة ثوبه فمقتضى إلزامه به تحريم تركه مع انه حلال في الشريعة.

والذي ظهر لنا ان المراد بهذه الجملة هو ان الأحكام التي يشرعها الوالي وكذا كل حكم يلزم به الإنسان نفسه أو غيره في ضمن معاهدة يجب ان لا يكون معارضاً للأحكام الهدمية والبنائية التشريعية العامّة.

ولابد لنا حينئذ من توضيح هذه الدعوى أولاً ثم اثباتها بالشواهد.

أما توضيحها فهو ان الإسلام له أحكام هدمية وأحكام بنائية تأسيسية أو امضائية. والمراد بالأحكام البنائية تشريع الواجبات والمحرمات. والمراد بالأحكام الهدمية هدم ما أسسه السابقون سواء كان الحكم السابق من الشرائع السابقة أو من عادات الجاهلية فكل ما كان من حكم الزامي التزم به الناس قبل الإسلام وجاء الإسلام فحلّلها ورفع الزامه نعبّر عنه بالأحكام الهدمية نظير ما حدث بالنسبة إلى البحيرة والوصيلة والحام حيث كانت العرب تحرم على نفسها هذه الأنواع الخاصة من الإبل فنزلت الآية {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}.(المائدة 103)

وقد اختلف في معاني هذه الكلمات وهي على كل تقدير اسماء لأنواع من الأبل والغنم حرّمها المشركون على أنفسهم أو على نسائهم في الجاهلية فرفع الله المنع عنها وهدم هذا التشريع الباطل.

وقال تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (إلى ان قال تعالى) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إلى آخر الآيات. (الانعام 138 إلى 145)

وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ...} (المائدة 4) 

وكانت النصارى تحرم النكاح بأزيد من واحدة فاحلّه الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (النساء 3).

ومما أحل الله بعض ما كان محرماً على الأقوام السابقين ما ورد في قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}. (الانعام 146)

فلو اشترط المتعاملان في ضمن معاملة تحريم ما احله الله من الزامات متوهمة أو تحريمات في الشرائع السابقة أو ممنوعات في العادات الجاهلية كان ذلك الشرط مخالفاً للتشريع العام أي للحكم الهدمي الإسلامي فهو غير نافذ. وكذلك أحكام الوالي يجب ان لا يكون هدماً لما بناه الله ولا بناءً لما هدمه الله.

وبما ذكرنا ظهر ان هذا التحديد لا يشمل ما لو اشترط أحد المتعاملين أو الزم الانسان على نفسه باليمين او أمر الوالي بالالتزام بأحد المستحبات كصلاة الليل مثلاً فان ذلك إحياء لما بناه الشارع المقدس وليس هدماً له ولا بناءً لما هدمه الله. وجواز الترك لا يدخل في ضمن الأحكام الهدمية، فلا ينطبق عليه عنوان التحليل. وكذلك الكلام في الامر بترك المكروه أو المباح أو فعلهما فلو منع الحاكم الشرعي عن شرب التتن مثلاً وجبت اطاعته ولا يصدق عليه تحريم الحلال.

ولإثبات هذه الدعوى لابد من تفسير كلمتي الحرام و الحلال.

أما الحرام فلا خلاف في ان المراد به هنا هو الأعم من الحرام الأصلي والحرام التبعي فلو اشترط أحد المتعاملين على الآخر ترك الصلاة الواجبة كان تحليلاً للحرام أيضاً وعليه فالحرام هو كل ما تسبب الشارع إلى عدم وقوعه خارجاً بإحدى الوسائل التشريعية. وهذا ينقسم إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: الحرام التكليفي. وهو الحرام بالمعنى الأخص. وهو كل ما تعلق به النهي المشتمل لبّاً على الوعيد على الفعل. وكيفية استكشاف هذا المعنى من النهي مع أنه متحد من حيث الصيغة في جميع الأقسام هي ان يلاحظ الفعل الذي تعلق به النهي فان كان ممّا يرغب إليه الناس رغبة ذاتية بمعنى أن يكون المقصود في ارتكابه هو الحصول على الآثار التكوينية له كشرب الخمر الذي يراد به الانتعاش الخاص فالنهي المتعلق بهذا النوع من الأفعال يدل على جعل الحكم الجزائي بالنسبة لمن ارتكبه. وذلك لأن الدافع إلى الفعل حيث كان ذاتياً وجب ان يكون الرادع أيضاً ذاتياً فكما كان الانتعاش الخاص دافعاً إلى شرب الخمر يكون الخوف من النار أو الحدّ الشرعي رادعا عنه.

القسم الثاني: الحرام الوضعي وهو كل معاملة نهى عنه الشارع نهياً يراد به الإرشاد إلى فسادها. وكيفية استكشاف هذا المعنى من النهي ان يلاحظ الفعل أيضاً ويلاحظ ان هذه المعاملات ليست بأنفسها مرغوباً فيها ذاتاً وإنما المقصود بالبيع مثلاً هو السلطة الخارجية لا الملكية الاعتبارية، إلا ان السلطة الخارجية لا يفيد الفرد إلا بعد اعتراف الحكومة والشعب بها فيكون سلطة اعتبارية أيضاً. أما اعتراف الشعب فيحتاج إليه في إجراء معاملته معهم على مملوكاته. وأما اعتراف الحكومة فلكي تدافع عنه السلطة التنفيذية إذا ما اعتدى عليه أحد في مملوكاته وتنفذ السلطة القضائية معاملاته قانونياً.

وحيث ان المعاملات من هذا القبيل فيكفي في الردع عما يريد الشارع المقدس ان لا يتحقق في الخارج اعلان انه غير مؤثر الاثر الاعتباري المقصود بمعنى ان السلطة التنفيذية والقضائية في الإسلام لا تعترف بمعاملة من هذا القبيل، وهذا الاعلان يكفي في إيجاد الرادع الديني عن مباشرة تلك المعاملة ولا يحتاج إلى جعل الحكم الجزائي من عقوبة اخروية أو حدّ أو غرامة دنيوية.

و – بكلمة موجزة – الفرق بين هذا القسم والقسم الأول هو ان الاثر المطلوب للناس في الأول أثر تكويني لا يرتفع بالتشريع والمطلوب في هذا القسم أثر اعتباري. وحيث ان اعتبار المتعاملين لا يفيد لو لم يعاضده اعتبار السلطة فيكفي في الردع اعلان السلطة عدم اعتبارها لذلك الاثر. وهذا هو التفسير الصحيح للنهي الارشادي كما ان ما ذكرناه في القسم الأول هو التفسير الصحيح للنهي المولوي.

وبهذا البيان ظهر ان النهي عن المعاملة لا يدل بنفسه على التحريم التكليفي. نعم قد يستفاد ذلك في موارد خاصة صرّح الشارع بالحرمة التكليفية فيها كالمعاملة الربوية ولعلّ الوجه في تحريمها انها غالباً تقع في المنقولات والنقود مما يمكن للمرابي ان يكتفي بالسلطة الخارجية عليها وحيث ان أصحاب الجشع يفرطون في ممارسة الرّبا طلباً لزيادة المال بلا مقابل وحيث انه خطر كبير على اقتصاد الامة وظلم فاحش على الفقراء والمضطرين أضاف الشارع الحكيم إلى التحريم الوضعي تحريماً تكليفياً مشدداً للغاية، واهتم أصحاب الشريعة عليهم السلام في التأكيد البالغ على فظاعته وهكذا كل ما زاد الشيء مفسدة، وزاد الناس اليه رغبة، زاد الشارع في موجبات الردع عنه.

القسم الثالث: موانع متعلقات الأحكام كاستصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة. والحرمة في ذلك يستفاد أيضاً من النهي، إلا ان النهي هنا أيضاً لا يتضمن حكماً جزائياً. والسرّ فيه ان العمل الذي يأتي به المكلف من صلاة وصوم مثلاً إنما يأتي به طلباً لانطباق المأمور به عليه ليتحقق امتثال أوامر الشارع. ومن الواضح انه يكفي في الردع عن موانعه اعلان كونه مانعاً عن تحقق المأمور به اذ لا يبقى بعده دافع نفسي لإيجاد الفعل أي «متعلق الامر» مع ذلك المانع. ومن هنا نعتبر كل نهي من هذا القبيل نهياً ارشادياً أيضاً اي انه ارشاد إلى المانعية.

القسم الرابع: الحرام التبعي. والمراد به التروك الممنوعة شرعاً لتعلق الأمر بالأفعال فيستفاد من الأمر بالصلاة مثلا حرمة تركه. وهذه الحرمة ليست من الأحكام التكليفية ولا يترتب عليها عقاب غير عقاب ترك امتثال الامر. وإطلاق الحرام على هذا المعنى من جهة ان معنى الحرام لغة هو ما يكون الإنسان محروماً عنه فقد تكون المحرومية تشريعية وقد تكون تكوينية. والمحرومية التشريعية قد تكون بانشاء النهي فيتعلق بالفعل وقد تكون بانشاء الامر فتتعلق بالترك.

والحرام المذكور في هذه الجملة اي «الا ما أحل حراما او حرم حلالا» وكذا في قوله عليه السلام «ما من شيء حرّمه الله إلا وقد أحله لمن اضطر إليه» يراد به المعنى الشامل لجميع الأقسام الأربعة بمناسبة الحكم والموضوع.

وأما الحلال فهو كل ما حُلّ عنه عقدة الحظر فيتوقف التحليل على وجود حظر سابق. اما حظراً شرعياً في الشرائع السابقة واما حظراً قانونياً من الحكومات السابقة واما حظراً عرفياً من العادات السابقة. وهذا الحظر يعتبر عقدة مرتبطة بالعمل فاذا رفع الشارع المقدس المنع عنه فقد حلّ تلك العقدة. وبهذه المناسبة يقال لذلك العمل: «انه حلال».

والحلال بهذا المعنى لا يشمل كل المباحات. وهذا المعنى هو المستفاد من بعض كلمات اللغويين ففي أقرب الموارد «الحلال: ما أباحه الله وسمّي حلالاً لانحلال عقدة الحظر عنه ضد الحرام» وفي مفردات الراغب «أصل الحلّ حلّ العقدة (إلى ان يقول) وعن حلّ العقدة استعير قولهم حلّ الشيء حلالاً قال الله تعالى: فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً وقال تعالى هذا حلال وهذا حرام». وهنا شواهد كثيرة من كلمات اللغويين ومن الآيات القرآنية. ولكن الظاهر أننا في غنى عن تكثير الشواهد.

وبما ذكرنا اتضح معنى منطقة الفراغ التي هي موضع تشريع الولاة واشتراط المتعاملين ومصالحتهما وما يلزمه الإنسان على نفسه بيمين.

1.1.2.1.3 الكلام في الجهة الثالثة

الجهة الثالثة من مباحث الولاية في تمييز الاحكام التنفيذية والقضائية عن الاحكام التشريعية بذكر شواهد للقسم الأول والبحث عن موارد الاشتباه بين القسمين المؤثر في توهم الاختلاف.

وبهذا الصدد لابد من ذكر أمثلة حيّة للأحكام التي أصدرها ولاة الشريعة عليهم السلام بما انهم ولاة الامر طبقاً للمصالح المتغيرة. وقبل ذكر الأمثلة لابد ان ننوّه على أمرين:

الأمر الأول: اننا نستعرض هذه الأمثلة سواء علمنا انها من الأحكام التي صدرت من باب الولاية فيكون هذا المعنى سببا لرفع اختلاف تلك الأحاديث جزماً أو احتملنا ذلك فيكون هذا الاحتمال في قائمة الاحتمالات الموجبة لرفع الاختلاف من الحمل على التقية وعلى الاستحباب وغير ذلك من وجوه الجمع التي ذكرها الأصحاب فلا بد من ان يؤخذ هذا الاحتمال أيضاً بعين الاعتبار في مقام الجمع بين الأحاديث المختلفة.

وبما ذكرنا تبين انا لا نلتزم في جميع الأمثلة الآتية انها من هذا القبيل وان التزمنا في بعضها وإنما نذكر جميعها من باب إبداء الاحتمال. وبذلك نريد ان نمنع الاستغراب عن الالتزام بهذا الاحتمال في بعضها. وغرضنا من إبداء هذا الاحتمال إمداد المستنبط للأحكام باحتمال آخر، قد يفيده في موارد التحير بين مختلف وجوه الجمع بين الروايات، ولعله يرى هذا الاحتمال – بعد ما ذكرنا – اقوى من سائر الاحتمالات. ولا شك ان ذلك يؤثر في الاستنباط ولا أقل من منعه من الالتزام الجزمي ببعض الاحتمالات الاخر المؤثرة في استنباط الحكم.

الأمر الثاني: ان الأحكام التنفيذية التي يصدرها الامام لا تختص بزمانه، بل تبقى سارية المفعول سواء أمضاها الإمام المتأخر أم لا. ولابد من العمل بها حتى يرد عن الإمام المتأخر رفع ذلك التشريع. فلو التزمنا في بعض هذه الأمثلة الآتية أو غيرها بانه من الأحكام التنفيذية ولم يعلم من امام متأخر رفع ذلك الحكم وجب علينا الاخذ به. وهذا هو المراد بالأخذ بالأحدث الوارد في بعض الروايات.

ومن هنا يعلم ان الالتزام بان تعيين حد شارب الخمر بثمانين جلدة ممّا شرعه أمير المؤمنين عليه السلام – كما دلت عليه عدة روايات – لا يمنع من العمل بهذا الحكم فعلاً بل لابد من الاخذ به، اذ لم يرد أحدث منه. وقد ورد في روايات معتبرة ان شارب الخمر كان يضرب في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنعال، وفي عهد عمر أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام بجلده ثمانين جلدة وعمل به عمر. وعليه جرت سيرة المسلمين جميعاً عملاً وفتوىً.

وهذا المعنى لا يختص بأحكام الإسلام بل هو أمر متعارف في جميع الملل. فلو تبدلت الحكومة في أي مكان نرى ان الناس ملزمون وملتزمون بأوامر الحكومة السابقة وقوانينها ما لم تعلن الحكومة الجديدة خلافها.

و الأمثلة كما يلي:

المثال الأول: ما ورد في روايات العامة والخاصة من تحريم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر لحوم الحمر الاهلية. وقد التزم جمهور علماء العامة بتحريمها فعلا كما ذكره ابن رشد في البداية وخالف منهم قليل. ومنشأ هذه الفتوى توهم ان هذا التحريم من الاحكام التشريعية الدائمة. واما رواياتنا المهيمنة على روايات العامة والمصححة لأخطائها مصرحة بان هذا التحريم كان مختصاً بذلك اليوم للحاجة الى الحمير آنذاك لنقل الجيش والعتاد وهو نظير الحكم بمنع صيد نوع خاص من الحيوان في بعض الازمنة وفي اماكن خاصة خوفاً من انقطاع نسله فهذا من الاحكام التنفيذية فلو كان الحكم بكراهة لحوم الحمر الاهلية مستندا الى هذا النهي فهو من باب اشتباه الاحكام التنفيذية بالأحكام التشريعية.

المثال الثاني: وضع امير المؤمنين عليه السلام الزكاة في الخيل. ففي صحيحة محمد بن مسلم وزرارة عنهما عليهما السلام جميعاً قالا «وضع امير المؤمنين عليه السلام على الخيل العتاق الراعية في كل فرس في كل عام دينارين وجعل على البراذين ديناراً». (الوسائل ج 6 ص 51 ب 16، مما تجب فيه الزكاة ح 1)

وحملها بعض الفقهاء على الاستحباب وهذا خلاف الظاهر اذ ظاهرها الوجوب وانه حكم تنفيذي شرعه أمير المؤمنين عليه السلام. واما الاتفاق على عدم وجوبه فعلا فهو يدل على اختصاص الحكم بزمان خاص ولا يدل على الاستحباب.

فان قيل: لعل وجه القول بالاستحباب التمسك بصحيحة زرارة الأخرى «قال قلت لابي عبد الله عليه السلام هل في البغال شيء؟ فقال: لا. فقلت: فكيف صار على الخيل ولم يصر على البغال؟ فقال: لان البغال لا تلقح والخيل الاناث ينتجن وليس على الخيل الذكور شيء..» الحديث. (الوسائل، ج 6 ص 51 ب 16، مما تجب فيه الزكوة ح 3) 

قلنا: هذه الرواية لا تدل الاّ على سرّ تشريع الزكاة على الخيل الاناث دون البغال والخيل الذكور ولا تدل على نوعية التشريع فلا تنافي كون الحكم صادرا من باب الولاية.

نعم لا تخلو الرواية من اشعار ببقاء الحكم التنفيذي الى عهد الامام الصادق عليه السلام وقد ذكرنا في ما سبق ان الاحكام التنفيذية سارية المفعول حتى يرفعها امام آخر كما هو الحال في الاحكام والقوانين التي تصدرها الحكومات. ولكن هذا لا يدل على بقاء الحكم الى زماننا ولو كان باقيا لكان بنحو الوجوب وهو منفي باتفاق الآراء.

ويكفي الشك في بقاء الحكم واحتمال ان يكون أحد الائمة المتأخرين عليهم السلام قد رفعه. ولا يمكن اثباته بإجراء الاستصحاب وذلك لان بقاء الحكم في عهد الامام المتأخر انما يكون بملاحظة تجديده للاعتبار القانوني وفقا للاعتبار القانوني السابق فهو اعتبار وفق اعتبار لا استمرار للاعتبار. والتعبير ببقاء ذلك الاعتبار والجعل انما يصح بلحاظ الاعتبار الادبي دون الاعتبار القانوني.

المثال الثالث: وضع الزكاة فيما عدا الغلات الأربع من المحاصيل الزراعية مع ان الوارد في روايات كثيرة ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عفى عما عدا الاصناف التسعة. وقد مرّ ان يونس بن عبد الرحمن و الكليني حملا روايات وضع الزكاة في كل مكيل وموزون على انها ناسخة لما ورد من عفو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما عدا الاصناف التسعة وقلنا هناك بان هذا الحمل خلاف ظاهر الروايات فان ظاهرها بقاء العفو واستمراره. وقد حمل سائر الفقهاء روايات اثبات الزكاة على الاستحباب. ولسنا الآن بصدد البحث الفقهي في هذه الروايات وإنما نقصد ذكر المثال.

هذا. ومذهب جمهور العامة أيضاً هو ثبوت الزكاة فيما عدا الغلات الأربع مع انهم أيضاً يروون حديث العفو. وعلى هذا المذهب كان جري الخلفاء وخصوصاً بالنسبة إلى الرزّ لكثرته في العراق مركز الخلافة العباسية. ووجه قول العامة بثبوت الزكاة فيما عدا الغلات الأربع مع عفو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو القياس، نظراً إلى ان بعضها كالرز أكثر منتوجات العراق مثلاً و لابد من ان يكون محلاً لفرض الضريبة وان عفو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان منشأه عدم وجود غير هذه الغلات في الحجاز الا بمقادير قليلة.

كما ان بعض الكتاب العصريين يحاولون اثبات الزكاة في رواتب الموظفين قياساً على مال التجارة نظراً إلى انه الوارد المهم بعد التجارة، بل في بعض البلدان أهم من التجارة أو نظيرها. والشيعة مستغنية عن وضع الزكاة كضريبة إسلامية على هذه الأموال بعد وجوب الخمس عندهم وهو أكثر من الزكاة.

ولكي يتضح مذهب الائمة عليهم السلام في هذه المسألة لا بد من مراجعة رواياتهم في الموضوع بدقة وهي كثيرة.

منها صحيحة علي بن مهزيار قال: «قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى ابي الحسن (الهادي) عليه السلام «جعلت فداك روي عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة على تسعة أشياء: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذهب والفضة والغنم والبقر والإبل وعفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما سوى ذلك. فقال له القائل: عندنا شيء كثير يكون اضعاف ذلك فقال: وما هو؟ فقال له: الارز. فقال له ابو عبد الله عليه السلام اقول لك: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضع الزكاة على تسعة أشياء وعفى عما سوى ذلك وتقول: عندنا ارز وعندنا ذرّة وقد كانت الذّرة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوقّع عليه السلام: كذلك هو والزكاة على كل ما كيل بالصاع..» الحديث. (الوسائل ج 6 ص34 ب 8 مما تجب فيه الزكاة ح 6)

وقد حملها القوم على الاستحباب. ولكن الظاهر انه حكم تابع لمصلحة الوقت نظراً إلى انّ الخلفاء كانوا يجبون الزكاة من الارز وفقهاء العامة يفتون بوجوبها وكانت الذهنية العامة في ذلك الوقت هو وجوب الزكاة في الارز لانه أكثر محصولات العراق بعد التمر مضافاً إلى حاجة فقراء الاصحاب كما اشير إليه في بعض الروايات فرأى الامام عليه السلام ان من المصلحة الحكم بالوجوب مؤقتاً وليس ذلك من تحريم الحلال لانه منطقة فراغ والدليل عليه ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينه عن ذلك وإنما عفى عنه.

ولولا الاجماع والتسالم على عدم وجوبها لحكمنا باستمرار هذا الحكم إلى الآن. واما استحباب الزكاة في الارز وغيره فلا دليل عليه. نعم يستحب ذلك من باب مطلق الصدقة لا بعنوان الزكاة المفروضة.

المثال الرابع: ما ورد في بعض الروايات ان أمير المؤمنين عليه السلام كان يضمّن القصّار والصائغ ورفع الضمان عنهم أبو جعفر الباقر عليه السلام. والروايات في هذا الباب متعددة أيضاً.

منها معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال «كان أمير المؤمنين عليه السلام يضمّن القصّار والصّائغ احتياطاً للناس وكان أبي يتطول عليه إذا كان مأموناً». (الوسائل ج 13 ص 272 ب 29 من أحكام الاجارة ح 4)

وهذا الحكم من أمير المؤمنين عليه السلام تحذير حكومي، لعلّ وجهه عدم اهتمام القصّار والصائغ في ذلك الوقت. ولذا علّل في الرواية بالاحتياط للناس. ونفس هذا التعبير وارد في رواية السكوني وصحيحة ابي بصير (ح 6 و ح 12 من الباب السابق) فلا منافاة بين هذه الرواية وما دلّ على عدم ضمان المؤتمن.

المثال الخامس: تحريم ذبائح أهل الكتاب. فان الروايات فيه مختلفة جداً حتى قسّمها صاحب الجواهر قدس سره إلى اثني عشر نوعاً. والذي يظهر من بعضها ان الحكم بالتحريم كان حكماً سياسيّاً اريد به اجتناب مخالطة المسلمين بالكفار نظراً إلى كثرتهم في ذلك الوقت وكثرة مخالطة المسلمين اياهم. ولا ريب في أنّ لوليّ الامر التحديد من المخالطات مع الفرق المخالفة رعاية لمصالح المسلمين.

ونحن لسنا ملتزمين بصحة هذا الاحتمال كما ذكرنا في أول البحث إلا ان المقصود ان هذا الاحتمال أيضاً يجب ان يضاف إلى قائمة الاحتمالات الكثيرة في تلك المسألة.

المثال السادس: تسعير البضائع المحتكرة وتعميم المواد التي يحرم فيها الاحتكار وتوزيع البضائع بصورة عادلة. والاحتكار بنفسه محرّم بالحكم التشريعي الدائمي ولكن هناك مسائل فرعية فيها لم يتعرض لها الفقهاء فيما نعلم:

  • تعميم حرمة الاحتكار لكل ما هو ضروري للمجتمع.

ولا ريب في ان ذلك يختلف باختلاف الازمنة والأمكنة. ولم نجد من يعمّمها من الفقهاء إلا الاحتياط الذي ذكره السيد الاصفهاني قدس سره في الوسيلة.

  • تسعير البضائع بحيث لا يظلم المشتري ولا البائع.

ولم يذكره الفقهاء أيضاً وإنما ذكروا وجوب البيع.

  • توزيعها على المستهلكين بصورة عادلة.

وهذه نقطة أهملها الفقهاء أيضاً وإنما أوجبوا عرض البضائع. ولا شك ان ذلك قد يؤدي إلى إحتكار آخر لإمكان ان يشتري محتكر آخر قسماً كبيراً من البضاعة.

ولكن بعض النقاط الثلاث ورد في عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى مالك الأشتر رضوان الله عليه قال عليه السلام:

«واعلم مع ذلك ان في كثير منهم (اي التجار) ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكما في البياعات وذلك باب مضرة للعامة وعيبٌ على الولاة. فامنع من الاحتكار فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منع منه. وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل واسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف». (شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج 17 ص 82)

وقد عدّ السيد الخوئي أيده الله طريق الشيخ قدس سره إلى عهد مالك الأشتر معتبراً (مباني تكملة المنهاج ج 1 ص 5).

ويدل هذا العهد على ان أصل تحريم الاحتكار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ان للوالي المنصوب من قبل الامام عليه السلام التحكم في خصوصيات الاحتكار كما ان ذيل هذا القسم من العهد يدل على تفويض تعيين المقدار في الحكم الجزائي لمن قارف الحكرة بعد البيان الحكومي على المنع إلى مالك الاشتر، حيث قال عليه السلام: وعاقبه من غير اسراف.

المثال السابع: تحريم بيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها. فقد ورد في عدة روايات ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما منع عن ذلك من جهة المنازعات التي كانت تقع في هذه المعاملات، فالنهي كان حكومياً. واما استمرار الحكم إلى هذا الزمان وعدمه بحاجة إلى بحث روائي مفصل.

المثال الثامن: منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن رفع ما يصح السجود عليه إلى الجبهة إذا لم يتمكن من وضعها على الأرض على ما حكي. وقد التزم بهذا المنع بعض فقهاء العامة. ولكن رواياتنا تدل على ان هذا المنع لخصوصية في المسلمين الأوائل وهو قرب عهدهم بعبادة الاوثان بل كانوا هم عبدتها قبل الإسلام فخشي النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأثير تلك الذهنيات القديمة في نفوسهم فمنع عن ذلك.

ففي نصب الراية ج 2 ص 175 عن البزاز في مسنده والبيهقي في كتاب المعرفة عن جابر: «ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاد مريضاً فرآه يصلي على وسادة فأخذها فرمى بها فاخذ عوداً ليصلي عليه فأخذه فرمى به! وقال: صل على الارض ان استطعت والا فأوم ايماءاً واجعل سجودك اخفض من ركوعك».

وروى زرارة (والسند معتبر) عن أبي جعفر عليه السلام قال «سألته عن المريض فقال يسجد على الأرض أو على مروحة أو على سواك يرفعه وهو أفضل من الايماء. إنما كره من كره السجود على المروحة من أجل الاوثان التي كانت تعبد من دون الله وإنا لم نعبد غير الله قط فاسجد على المروحة او على سواك أو على عود». (جامع الأحاديث ج 2 ص 262 ح 2427)

والمراد بمن كره في هذه الرواية يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وان احتمل كون المراد به الصحابة القائلون بذلك. ويدل هذه الرواية على ان هذا الحكم كان موقتاً.

المثال التاسع: الروايات الواردة في كفارة وطي الحائض وهي كثيرة متخالفة من حيث تعيين المقدار ومن حيث أصل ثبوت الكفارة. وقد التزم بعضهم بالاستحباب وخصّه بأحد الحدود المذكورة في الروايات. وقد ورد في بعضها نفي الوجوب أصلاً.

ولتفصيل البحث عنها محلّ آخر وقد التزمنا هناك انه من الأحكام التنفيذية التي كان الائمة عليهم السلام يلاحظون فيها المصالح الخاصة المتغيرة من شخص إلى شخص. فالغرامة التي توجب ردع أحد قد لا توجب ردع آخر وقد يكون زائداً بالنسبة إلى آخر وقد يكفي في الرّدع الزجر والاستنكار وبذلك يظهر أنّ هذا الحكم بأصله وحدوده ليس من الأحكام التشريعية التي لا يمكن تصرف الولي الشرعي فيها.

 

 

 

 

1.1.3المبحث الثالث

فيما يترتبط بشؤون النشر والكتمان

من الشؤون المفوّضة إلى الائمة عليهم السلام نشر الأحكام الإلهية والسنن النبوية صلى الله عليه وآله وسلم وبيانها وبيان حدودها. كما ان لهم حق الكتمان بملاحظة المصالح والمفاسد المترتبة على النشر أو الكتمان.

ومن الواضح انهم عليهم السلام كانوا يبذلون قصارى جهدهم في تبليغ الاحكام وتعليم الناس الحلال والحرام تطبيقاً لما ورد من انه على العالم ان ينشر علمه وإنما الكلام في انهم كانوا يكتمون الأحكام أيضاً في بعض الموارد، وقد ورد في الاثر ان لهم حق الكتمان.

ومما دلّ على ان عليهم التبليغ رواية طلحة بن زيد عن ابي عبد الله عليه السلام قال «قرأت في كتاب علي عليه السلام ان الله تعالى لم يأخذ على الجهال عهداً بطلب العلم حتى اخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهال..» الحديث. (الوافي ج 1 ص 47)

وهذا بنفسه من الواضحات إلا انه لا ينبغي ان يتوهم ان على العالم ان يبيّن الحكم وان ترتب عليه ما ترتب من المفاسد وفات ما فات من المصالح!!

والذي يدلّ على جواز الكتمان طائفتان من الروايات:

  1. الروايات الدالة على تفويض أمر الدين إلى الائمة عليهم السلام والقدر المتيقن منها ايكال أمر الاعلام والكتمان إليهم.
  2. الروايات المستفيضة الواردة في وجوب السؤال على الأمة وعدم وجوب الجواب عليهم.

وهي كثيرة جداً نذكر بعضها. وعلى من يريد الاستقصاء ان يراجع الوافي (ج 2 ص 125. والوسائل ج 18 ص 41. والمستدرك ج 3 ص 178 ومقدمة جامع الأحاديث وغيرها).

منها رواية زرارة عن ابي جعفر عليه السلام «في قول الله تعالى (فاسألوا أهل الذكر).. الآية من هم؟ قال: نحن. قلت: فمن المأمورون بالمسئلة؟ قال: انتم. قلت: فانّا نسألك كما أمرنا – وقد ظننت انه لا يمنع مني إذا اتيته من هذا الوجه – قال فقال: انما امرتم ان تسألونا وليس لكم علينا الجواب انما ذلك الينا». (جامع ج 1 المقدمات ص 36 ح 254)

ومنها روايته الأخرى عن ابي جعفر عليه السلام «في قوله (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) من المعنون بذلك؟ فقال: نحن والله. فقلت: فأنتم المسؤولون؟ قال: نعم. قلت: ونحن السائلون؟ قال: نعم. قلت: فعلينا ان نسألكم؟ قال: نعم. قلت: وعليكم ان تجيبونا؟ قال ذلك إلينا ان شئنا فعلنا وان شئنا تركنا ثم قال: هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب». (جامع ج 1 المقدمات ص 25 ح 253)

والبحث هنا يقع في فصلين:

الفصل الأول: في مناشئ توهم الاختلاف الواقعي في موارد نشر الاحكام وإعلامها.

الفصل الثاني: في مناشئ توهم الاختلاف الواقعي في موارد كتمان الاحكام واخفائها.

1.1.3.1الفصل الأول:

أما في الفصل الأول فنتعرض لجهات ثلاثة من البحث:

الجهة الأولى: في بيان مناشئ توهم الاختلاف في الروايات الواردة في مرحلة التعليم والروايات الواردة في مرحلة الافتاء.

الجهة الثانية: في تعادل الاحكام في مرحلتي الثبوت والاثبات اي في مقام الملاك ومقام التبليغ.

الجهة الثالثة: في تأثير تقيد النصوص الشرعية باللغة العربية في حصول التشابه من جهة توسعها في التعبير المجازي والكنائي ومن جهة فقدانها للمصطلحات القانونية.

1.1.3.1.1الجهة الأولى:

أما من الجهة الأولى فلنبدأ بتمهيد نبين فيه وجه الفرق بين التعليم والفتيا:

ان تبليغ الاحكام المجعولة على نحو القضايا الحقيقية يكون على مستويين:

الأول: مستوى التعليم:

وبيان الاحكام في هذا المستوى يختص غالباً بطلاب الفقه الإسلامي ومن يحاول ان يتفقه في الدين ويتمكن من استنباط الاحكام الشرعية من الكتاب والسنة بتمييز عامها عن خاصها ومحكمها عن متشابهها وناسخها عن منسوخها ومعرفة أهدافها العليا وعلل التشريع والقواعد الكلية التي هي الأساس للفتاوى ونحو ذلك. ومن المعلوم ان جمعاً من الرواة كانوا يتلقون الاحكام بهذا المستوى عن الائمة الطاهرين عليهم السلام ولذلك يعدّون من فقهاء أصحابهم. وقد أصبحوا في عهد الائمة مراجع للناس في التعليم والافتاء و اقرهم الائمة على هذه المرجعية، بل ارجعوا الناس إليهم كما في غير واحد من اعاظم الاصحاب من قبيل ابان بن تغلب وزارة ومحمد بن مسلم ويونس بن عبد الرحمن وامثالهم وقد مرّ بيان ذلك في المدخل حتى إن كبار المحدثين كعلي بن مهزيار كانوا يرجعون إليهم في الفتيا.

والتبليغ على هذا المستوى منهج خاص له اصوله وضوابطه. وقد اشير إلى التبليغ بهذا النحو في بعض الروايات كقول الامام الرضا عليه السلام «علينا القاء الأصول وعليكم التفريع» (وسائل الشيعة ج 27 ص 62 باب وجوب الرجوع في جميع الاحكام الى المعصوم ح 52) ورواية اسحاق بن عمار المعدودة من أدلة الاستصحاب عن ابي الحسن الأول عليه السلام «إذا شككت فابن على اليقين. قال قلت: هذا أصل قال: نعم». (جامع الأحاديث ج 2 ص 450 ح 4196 ب 22 من أبواب الخلل) 

الثاني: مستوى الإفتاء:

وهو امداد المكلف وارشاده بحيث يعرف وظيفته الشخصية تجاه الواقعة الخاصة المبتلى بها وفقاً للموازين الشرعية. والمتعارف في التبليغ على هذا المستوى ان يكون العالم هو الذي يتكفل تطبيق الكبرى الشرعية على الواقعة التي يتعرض لبيان حكمها سواء كان ابتداءً منه أو بعد الاستفتاء. وعلى ضوء هذا التطبيق الذي يضمره في نفسه غالباً يعين وظيفة المستفتي ويختار له أنسب الوسائل القانونية التي يتمكن من انتهاجها في مقام امتثال الاحكام التكليفية أو في مقام التسبيب إلى الاعتبارات الوضعية الشرعية التي يريد تحقيقها سواء كان من الأمور الانشائية كالعقود والايقاعات او من الأمور التكوينية كتحصيل الطهارة عن الحدث والخبث ونحوها.

ولكي يتضح الفرق بين المستويين نقارن بين الاحكام الشرعية وسائر العلوم، ونذكر من باب المثال علم الطب:

اذ نرى ان القضايا الطبية تارة تلقى على مستوى التعليم بصورة قوانين عامة في بيان المرض وعلاماته وكيفية تشخيصه وطرق الوقاية منه وعلاجه وغير ذلك.

وأخرى تكون على مستوى الافتاء بصورة ارشادات خاصة أو عامة وهذا غالباً ما يكون بالنسبة إلى المرضى المراجعين. فالمريض يذكر لطبيبه ما يجده من الظواهر المرضية والعوارض والآلام التي يشكو منها وكل ما حصل له او صدر منه مما يحتمل تأثيره في حدوث المرض. ولكن الطبيب رغم انصاته يفحصه لكشف المرض الذي سبب تلك الآلام، ولعله لا يجد تأثيراً لشيء مما ذكره المريض. ثم يعين علاجه في الوصفة الخاصة ويوصيه بأمور في مأكله ومشربه واستراحته وغير ذلك. والمريض عادة لا يطلع على نوع المرض الذي شخصه الطبيب. كما انه لا يعلم ان العلاج منحصر فيما وصفه الطبيب أم غير منحصر، ولا يعلم ان ما يوصيه ضروري لاسترداد الصحة أم هو أمر مستحسن فقط؟ وإنما يعلم ان هذه الوصفة في نظر الطبيب هو أنسب طرق العلاج له بلحاظ البيئة التي يعيشها، وقواه الجسمية والنفسية وامكانياته المادية وغير ذلك. والافتاء في الأحكام الشرعية غالباً ما يكون على هذا المستوى.

ولأجل الترابط والتناسب بين المثال والممثل له يستحسن ان نعبّر بما ذكره بعض كتّاب العصر من ان الفتوى دواء للأسقام.

ومن هنا يظهر السرّ في عدم جواز رجوع العامي إلى الفتاوى الصادرة عن الائمة المعصومين عليهم السلام مباشرة وان وجد قضيته نظيرة لما هو المذكور في كلام المستفتي عن الامام. كما لا يصح لمريض آخر ان يعمل بوصفة غيره وان شاركه في الظاهرة المرضية.

نعم قد يستفيد من هذه الوصفة طبيب آخر بعد ملاحظة حال المريض فانه بمعونة معلوماته الطبية والعوارض التي وجدها في المريض يستكشف من وصفة ما شخصه الطبيب الأول والطريق الذي اتخذه لعلاجه. وكذلك الفقهاء يستفيدون من فتاوى الائمة الطاهرين عليهم السلام ويستكشفون منها الاحكام الشرعية ويهتمون بحفظها.

قال العلامة الحلي قدس سره في خطبة تذكرة الفقهاء ما هذا لفظه «ان الفقهاء عليهم السلام هم عمدة الدين ونقلة شرع رسول رب العالمين وحفظة فتاوى الائمة المهديين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».

وطريقة استخراج الكبريات من الفتاوى له ضابط خاص اذ لابد للفقيه في هذا المقام من اخذ جميع ما يقطع أو يحتمل دخله في الموضوع والغاء ما ذكره السائل من الخصوصيات التي يقطع بعدم دخالتها. والتمييز بين القسمين يحتاج إلى احاطة كاملة بمختلف آراء الفقهاء والكبريات الكلية. وتوضيحه في محله.

و بعد بيان الفرق الإجمالي بين التعليم والافتاء نتعرض لاختلاف البابين في اسباب توهم التخالف بين الروايات وهنا بحثان:

البحث الأول في التعليمات:

ان أساس التعليم التدرج في البيان والاعتماد على القرائن المنفصلة. فلا يجب عند إلقاء القاعدة الكلية ذكر جميع مقيداتها ومخصصاتها وما يؤثر في تبدل الحكم من العناوين الثانوية الطارئة بل ربما لا يستحسن ذلك للزوم تطويل الكلام بحد غير متعارف ولصعوبة ضبطه والاحاطة به على الطالب. فلابد من الاكتفاء في مقام التعليم بإلقاء القواعد والأصول بصورة عامة. ثم إذا وجد تصادم بين ظهورين يجب ان يعالج وفقاً للمقاييس المقررة في مقام الجمع الدلالي التي أشرنا اليها في اوائل هذا البحث وسيأتي تفاصيلها في المقصد الرابع ان شاء الله تعالى.

ولذلك لا يجوز الافتاء بالعام الا بعد الفحص عن الخاص، لاحتمال الاعتماد على القرينة المنفصلة. واما المستفتي فيجوز له العمل بالفتوى من غير حاجة إلى الفحص. اذ لا يحسن في الفتوى التدرج في البيان والاعتماد على القرينة المنفصلة الا لموانع طارئة تقتضي الكتمان. وذلك لان الفتوى ارشاد للمستفتي وبيان للوظيفة العملية. اما غير المستفتي فلا يستفيد من الفتوى الا إذا كان عارفاً بالضوابط التي تمكنه من استنتاج الحكم الكلي من الفتاوى الخاصة كما أشرنا اليه آنفاً.

البحث الثاني في بيان مناشئ توهم الاختلاف في الفتاوى:

والكلام في جهات:

الجهة الأولى: الاختلاف الموضوعي. مر الكلام في ان الفتاوى لا يذكر فيها الموضوع الواقعي للحكم وانما يطبق المفتي الموضوع الواقعي على مفروض الاستفتاء ويذكر حكمه. وباختلاف المستفتين في ما يؤثر واقعاً في الحكم واتحادهم في موضوع الاستفتاء يتوهم اختلاف الأحاديث. ولنذكر للاختلاف الموضوعي بين الروايات شطراً من الأمثلة:

المثال الأول: رواية سلمة بن محرز قال «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل وقع على أهله قبل ان يطوف طواف النساء؟ قال: ليس عليه شيء. فخرجت إلى أصحابنا فأخبرتهم فقالوا اتقاك! هذا ميسر قد سأله عن مثل ما سألت فقال له: عليك بدنة قال: فدخلت عليه – عليه السلام – فقلت جعلت فداك اني اخبرت أصحابنا بما اجبتني فقالوا اتقاك! هذا ميسر قد سأله عما سألت فقال له عليك بدنة فقال: ان ذلك كان بلغه فهل بلغك؟ قلت لا. قال: ليس عليك شيء». (الوسائل ج 9 ص 265 ب 10 من كفارات الاستمتاع ح 2)

وقد روي هذا الحديث بسند آخر وصورة أخرى أيضاً ولكنه يفيد نفس المعنى. (نفس الباب ح 5)

المثال الثاني: رواية خالد بياع القلانس قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل اتى أهله وعليه طواف النساء قال عليه بدنة ثم جاءه آخر فقال عليك بقرة ثم جاءه آخر فقال عليك شاة فقلت بعد ما قاموا: أصلحك الله كيف قلت عليه بدنه؟ فقال انت موسر وعليك بدنة وعلى الوسط بقرة وعلى الفقير شاة». (نفس الباب ح 1)

المثال الثالث: صحيحة معاوية بن عمار قال «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: اقضي صلاة النهار بالليل في السفر؟ فقال: نعم. فقال له اسماعيل بن جابر: أقضي صلاة النهار بالليل في السفر فقال: لا، فقال: انك قلت نعم. فقال ان ذلك يطيق وانت لا تطيق». (الوسائل ج 2 ص 61 ب 22 من اعداد الفرائض ح 1)

المثال الرابع: الروايات الواردة في تقبيل الصائم زوجته او جاريته ففي رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: «سألته عن الرجل هل يصلح له ان يقبّل أو يلمس وهو يقضي شهر رمضان؟ قال: لا». (الوسائل ج 7 ص 70 ب 33 من ما يمسك عنه الصائم ح 11)

ولا يخفى ان علي بن جعفر كان شاباً في عهد الامام الكاظم عليه السلام وهو السبب في النهي بقرينة معتبرة زرارة «لا تنقض القُبلة الصوم» (الوسائل الباب السابق ح 2). وروايات الباب كثيرة بعضها تنهى عن القبلة وبعضها صرّحت بالجواز وفي بعضها التعليل بخوف سبق المني والتصريح بالجواز مع الوثوق كصحيحة محمد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر عليه السلام «انه سئل هل يباشر الصائم أو يقبّل في شهر رمضان؟ فقال: إني اخاف عليه فليتنزه من ذلك الا ان يثق ان لا يسبقه منيّه». (الوسائل الباب السابق ح 13)

ومنها يعلم اختلاف الموضوع في روايات النهي وروايات التجويز. ومثل هذا الاختلاف وارد في روايات العامة أيضاً. وقد تنبه لهذا الجمع بعض مؤلفي العصر حيث قال: «فقد ورد انه نهى (اي النبي صلى الله عليه وآله وسلم) من سأله في ذلك ان يقبّل زوجه. وورد أيضاً انه اجاز لمن سأله عن ذلك ان يقبّل زوجه (إلى ان يقول) وقد كان السائل في الحادثة الاولى شاباً وكان في الثانية شيخاً». (اسباب اختلاف الفقهاء ص 83)

ولكن لنا في هذا المثال تأمل من جهة انه يحتمل ان يكون الاختلاف غير ناشئ عن اختلاف الموضوع بل يكون النهي في روايات النهي ارشاداً للتنزه عن الوقوع في المفطر وهو سبق المني كما ورد في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم.

هذا. وقد ورد التفصيل بين الشيخ والشاب في رواية منصور بن حازم قال «قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما تقول في الصائم يقبَّل الجارية والمرأة؟ فقال: اما الشيخ الكبير مثلي ومثلك فلا بأس وأما الشاب الشبق فلا لانه لا يؤمن والقبلة احدى الشهوتين..» الحديث. (الوسائل الباب 33 مما يمسك عنه الصائم ح 3)

الجهة الثانية: ان المفتي في مقام الافتاء لابد ان يلاحظ مصطلحات المستفتي. وبهذا يمكننا تفسير بعض اختلافات الفتاوى فانه قد يكون من جهة اختلاف المصطلحات في موضوعات الاستفتاء.

مثال ذلك:

الروايات الواردة في مسألة الوصية بالجزء من المال وهي مختلفة في تعيين مقدار الجزء فعيّن في بعضها بالعشر وفي بعضها بالسبع. وكذلك في الوصية بسهم من ماله. وقد صعب على الفقهاء توجيه هذا الاختلاف حيث اعتقدوا بانّ هذا التعيين تعبديّ. ولكن الصدوق في الفقيه حمل هذا الاختلاف على اختلاف العرف والعادة قال: «كان أصحاب الأموال فيما مضى يجزؤون أموالهم فمنهم من يجعل اجزاء ماله عشرة ومنهم من يجعلها سبعة فعلى حسب رسم الرجل في ماله تمضى وصيته». (الفقيه ج 4 ص 152)

وهذا الاختلاف إنما ينشأ من مراعاة مصطلح السائل في موضوع سؤاله وهذه المراعاة انما تصح في الفتاوى دون التعاليم.

ومن هذا القبيل اختلاف العقود والايقاعات في الشرائط الضمنية التي تستبطنها المعاملة بحسب اختلاف المجتمعات. فخيار الغبن مثلاً يبتني على استبطان المعاملة بحسب الارتكاز العقلائي لشرط، وهو اشتراط كل من المتعاملين في التزامه بالمعاملة بان لا يكون ما ينتقل اليه أقل مالية عما ينتقل عنه فلو فرضنا في مجتمع من المجتمعات عدم ارتكاز هذا الشرط في الاذهان كما إذا كانوا معتنقين المذهب الحنفي مدة طويلة بحيث رسخ في اذهانهم عدم اعتبار خيار الغبن فلا يتحقق الخيار بالنسبة إلى المعاملات التي يزاولونها.

ومن هنا تجب ملاحظة المستفتي عن تحقق الخيار فلا يصح جوابه بوجود الخيار ان كان ظرف تحقق المعاملة هو مثل هذا المجتمع.

الجهة الثالثة: ان الفتوى تلاحظ فيها نفسيات المستفتي ومعتقداته وذهنية الخاصة. فيمكن ان يؤمر السائل بفعل مباح، وذلك فيما إذا كان متوهماً للحرمة. ومن هنا قيل في الأصول بان الأمر عقيب توهم الحظر يفيد الاباحة ولا يدل على الوجوب.

وبعكس ذلك إذا كان المستفتي معتقداً وجوبه فينهى عنه. وهذا النهي لا يدل على الحرمة بل على نفي الوجوب.

وهذا الامر يوجب اختلاف الحديثين بحسب الظاهر مع انهما في الواقع متحدان مضموناً. ومنشأ الاختلاف اختلاف المستفتي من حيث الاعتقاد.

الجهة الرابعة: ان الفتوى تلاحظ فيها امكانيات المستفتي. فلو سأل المستفتي عن كفارة الصوم عمداً وكان ممن لا يطيق صوم الكفارة يجاب بوجوب الصدقة أو العتق مثلاً. ولو كان لا يتمكن من تحصيل العبيد او الاماء يجاب بوجوب الصدقة أو الصوم، ولا يقال له انت مخيّر بين العتق والصدقة والصوم. بل هذا التعبير لا يخلو من استهجان. كما ان هذه الملاحظة تراعى بالنسبة للمجتمع الذي يعيشه المستفتي. ففي مثل زماننا لا يقال للمستفتي اعتق رقبة أو اطعم ستين مسكيناً أو صم ستين يوماً، لعدم تناسب هذا التعبير مع مقتضى الحال في هذا المجتمع الفاقد للعبيد والاماء. مع ان هذا التعبير لابد منه في مورد تعليم القانون العام.

وهكذا يتوهم الاختلاف إذا اختلفت الأجوبة بملاحظة اختلاف السائلين في موارد الوجوب التخييري.

الجهة الخامسة: قد يكون متعلق الحكم واقعاً مقيداً بحصة خاصة من الطبيعي الا ان المستفتي لا يتمكن من تحصيل غيرها بحسب حاله الشخصي أو بملاحظة البيئة التي يعيشها وفي مثل ذلك يستهجن التقييد للزوم اللغوية.

فلو كان الدواء مما يجب ان يستعمل بماء غير معدني والمفروض ان الماء المعدني غير متوفر او غير موجود في بلد المريض المراجع فالطبيب إذا اراد توصيف الدواء له لا يقيّده بعدم الاستعمال مع الماء المعدني وإنما يذكر له اشتراط الاستعمال بالماء. بل لو قيّده بذلك كان مستهجنا عند العرف. مع انه في مورد التعليم لابد له من التقييد لانه لا يختص بمجتمع خاص أو بيئة خاصة.

وحينئذ قد يتوهم اختلاف الأحاديث إذا ورد التقييد في أحدها دون الآخر، مع ان السبب الواقعي هو اختلاف بيئات المستفتين.

الجهة السادسة: أنّ المستفتي قد يكون بحسب دواعيه النفسية أو امكانياته المادية بحيث يختار ابتداءً أحد أفراد الواجب التخييري ومع عدم التمكن يعمل بالواجب الآخر. وبهذا اللحاظ قد يجيبه المفتي بنحو الترتيب: اعتق رقبة وان لم تستطع فاطعم ستين مسكيناً، مع انهما في الواقع غير مترتبين. واما في مقام التعليم فلابد من ذكر الواقع وهو الوجوب التخييري غير المرتب.

ونظيره ما ورد في الصلاة على الثلج روى داود الصرمي قال «سألت أبا الحسن عليه السلام: اني اخرج في هذا الوجه وربما لم يكن موضع أصلي فيه من الثلج فكيف اصنع؟ فقال: ان امكنك ان لا تسجد على الثلج فلا تسجد عليه وان لم يمكنك فسوّه واسجد عليه». (جامع ج 2 ص 335 ح 3130)

والظاهر ان الترتيب بين السجود على الثلج وعلى الأرض ليس واقعياً وإنما ذكرهما الإمام عليه السلام مرتبا من جهة ان الثلج أبعد من امكان التسوية عن وجه الأرض.

وعلى هذا فلو ورد في أحد الدليلين الترتيب وفي آخر عدمه يتوهم منه الاختلاف مع انه يمكن ان يكون من هذا القبيل.

الجهة السابعة: ان الافراد النادرة للموضوع لا يجب التصريح بشمول الحكم لها أو عدم الشمول في الفتاوى بخلاف التعاليم. فلو كان وجوب غسل النفاس مثلاً مختصاً بما إذا ولدت المرأة انساناً فلا يجب في جواب الاستفتاء ذكر هذا القيد، بل قد يستهجن ذكره لندرة ولادة غير الانسان من الإنسان لو فرض وجوده كما قيل! ومن هنا نقول انه لا يمكن الاخذ بإطلاق الفتاوى بالنسبة إلى الافراد النادرة، لان استثناءها في الفتاوى أمر لا يناسب الحال وان كان موضوع الحكم واقعاً مضيقاً بحيث لا يشملها. ومتى كان التقييد مستهجنا لم يمكن الاخذ بالإطلاق، واستكشاف الاطلاق الثبوتي من الاطلاق في مقام الاثبات. وهذا بخلاف التعاليم فان التقييد فيها مقتضى القاعدة.

الجهة الثامنة: ان الفتاوى كثيراً ما يشتبه فيها تطبيق الاحكام الكلية مع الارشاد أو الولاية.

مثال الأول اي اشتباه تطبيق الأحكام الكلية بالإرشاد إلى ما يوجب التجنب عن الوقوع في مخالفة الحكم الشرعي ما ذكرناه سابقاً من اختلاف الروايات في تقبيل الصائم زوجته وجاريته. وذكرناه مثالاً لتطبيق المفتي موضوع الحكم في نفسه على المستفتي وافتائه بالوظيفة الشرعية. وذكرنا ان في كون هذا مثالاً تأملاً من جهة احتمال كونه مثالاً لما نحن فيه. وهو الارشاد إلى تجنب الوقوع في مخالفة الحكم الواقعي والمنهي عنه واقعاً هو اجناب الصائم نفسه، وحيث ان الشاب الشبق يخاف عليه الامناء بالتقبيل نهي عنه دون الشيخ الكبير والا فلا خصوصية للشيخوخة والشباب في ذلك. واما في مقام التعليم فلابد من الحكم بان التقبيل لا يضر بالصوم أصلاً.

وهناك فروق أخرى بين التعاليم والفتاوى وجهات اخرى في الفتاوى موجبة لتوهم اختلاف الأحاديث.

1.1.3.1.2الجهة الثانية:

الجهة الثانية من مباحث هذا الفصل: 

البحث في تعادل الاحكام في الملاك والغرض ومقام التبليغ. والقصد من هذا العنوان اختلاف الاحكام في مقام التبليغ من حيث اهتمام الشارع بها وعدم اهتمامه وبيان ان ذلك يرجع الى أهمية الغرض وعدمها.

وإلى ذلك اشار المحقق الخراساني قدس سره في مبحث دوران الأمر بين المتباينين من مباحث الاشتغال حيث قسّم التكليف إلى قسمين بلحاظ كونه فعلياً من جميع الجهات أو فعلياً من وجه (الكفاية حاشية المشكيني ص 208 ج 2) وأحسن تقرير لما افاده هو ما نقله بعض المحققين من تلامذته نقلاً عن مجلس بحثه وهذا لفظه:

«إنّ الغرض الباعث على التكليف ربما يكون بحدّ يبعث المولى إلى جعله فعلياً منجزاً بإيصاله ولو بنصب طريق موافق أو بجعل احتياط لازم ودفع موانع تنجزه بأي نحو كان ومثله يستحيل الترخيص في خلافه لأنه نقض للغرض وربما لا يكون الغرض بذلك الحدّ بل يدعوه إلى التكليف بحيث إذا وصل إلى المكلف من باب الاتفاق لتنجز عليه فهو فعلي من حيث نفسه لا من حيث ايصاله إلى المكلف فلا يجب حينئذ دفع موانع تنجزه ولا ينافيه ابداء المانع عن تنجزه. فان ابقاء المانع وابداء المانع في نظر العقل على حدّ سواء وليس الترخيص نقضاً للغرض لأن سد باب تنجزه لا ينافي تنجزه لو وصل من باب الاتفاق». (نهاية الدراية ج 1 ص 240)

وقد أشار إلى اختلاف أهمية الغرض وتأثيره في الاهتمام بتبليغ الحكم كل من المحققين، النائيني والاصفهاني قدس سرهما فراجع.

وقد ذكرنا في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي تفصيل الكلام في هذا الموضوع و يتلخّص ما ذكرناه هناك في ثلاثة امور:

الأمر الأول: ان وسائل النشر والاعلام لم تكن متوفرة في عهد الرسالة في الجزيرة العربية ولذلك كانت الأحكام تتزاحم في اخذ الحظ الكافي من وسائل النشر.

ومن الواضح ان ابسط وسائل النشر هو الكتابة وان الأميّة هي أقوى الموانع التي يواجهه النشر والاعلام سواء في الناشرين وفي المجتمع فان الامية المنتشرة كما تمنع من تكثير الكتبة الناشرين، كذلك تمنع من الانتشار بين المجتمع الذي لا يحسن القراءة، ولا يمكن الاعتماد على المشافهة والحفظ في تبليغ القوانين، وخصوصاً إذا كانت بهذه المثابة من السعة والشمول التي تتصف بها القوانين الإسلامية الحكيمة.

والكتابة مع انها ابسط الوسائل كانت محدودة في عهد الرسالة من جهتين:

أولاً: قلة الكتّاب. فالمجتمع المكيّ مع انه كان أرقى حضارة من المجتمع المدني، كان فقيراً من ناحية الكتّاب فكيف بالمجتمع المدني؟!

وثانياً: قلة وسائل التحرير. حتى انّ القرآن المجيد كان يكتب على اكتاف الحيوانات وجريد النخل.

وهذا الامر مضافاً إلى انه يحدّد وسائل التبليغ في عهد الرسالة يؤثر كثيراً في انتشار الأحكام والقوانين في العهود المتأخرة عنه. ومن هنا اهتم الرسول الحكيم صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم الناس ومحاربة الاميّة، ولكن مع ذلك لم تنجح المحاولة في رفع موانع النشر نهائياً. فكانت الحافظة اهم ما يعتمد عليه في حفظ القوانين، ومن الواضح انها لا تفي بجميعها.

وبذلك تتزاحم الأحكام في وسائل النشر. وبالطبع يكون النصيب الاوفر للأهم فالأهم. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهتم بكتابة جميع الأحكام. ولذلك أمر امير المؤمنين عليه السلام بكتابتها وظلت مودعة عند ائمة أهل البيت عليهم السلام لينشروها بالتدريج.

ثم ان الحوادث التي وقعت بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منعت أيضاً عن نشر الأحكام المدونة؛ بل صدر النهي الصريح عن كل نشر للسنة النبوية سواء منها ما كانت مفسرة للكتاب العزيز وما كانت مبينة للأحكام التي شرّعها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ووقع التزاحم بين الاحكام مرة ثانية في مقام التبليغ، حيث لم يتمكن الائمة عليهم السلام من تبليغ جميعها للاضطهاد الذي كان المجتمع الشيعي يعانيه من سطوة الخلفاء فاضطروا أيضاً إلى مراعاة الأهم فالأهم منها.

الأمر الثاني: ان الأحكام مختلفة من حيث أهمية الغرض المترتب عليها. ويتبين ذلك بوضوح من مراجعة الاخبار والآثار التي تعرضت لبيان دعائم الإسلام. وقد عقد في جامع الأحاديث، في قسم المقدمات باباً خاصاً لهذه الاخبار.

فمنها معتبرة زرارة عن ابي جعفر عليه السلام قال: «بني الإسلام على خمسة اشياء: الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية». (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 126 ح 1021)

ومن الاختلاف في الأحكام من حيث الملاك اختلاف المحرمات، فمنها الكبائر ومنها الصغائر.

وهذا الاختلاف في الأغراض والملاكات ينعكس بالطبع في مرحلة البيان والتبليغ. ولذلك نلاحظ ان الفرائض بالمعنى العام أي كل ما ذكره الله تعالى في الكتاب المجيد قد انتشرت بين المسلمين بالتواتر اللفظي وشمل التبليغ جميع المسلمين في جميع الأقطار. وان السنن النبوية صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت مهمة عنده فكان يمارسها شخصياً بنحو متكرر جداً انتشرت بالتواتر المعنوي. وهي إمّا من السنن التي اتفقت عليها كلمة المسلمين بجميع فرقهم وطوائفهم إلا من لا وزن له من الخوارج والغلاة وإمّا من السنن التي اهتم الائمة عليهم السلام بنشرها والتأكيد عليها بحيث اتفقت عليه طوائف الشيعة من الامامية والفطحية والواقفية وغيرهم.

ونلاحظ ان قسماً آخر من الاحكام لم تحظ بهذا النوع من الانتشار فأصبحت موضع الاختلاف بين طوائف المسلمين أو طوائف الشيعة او بين الفقهاء من طائفة واحدة. ومنشأ هذا الاختلاف هو قلة وسائل النشر وتزاحم الاحكام فيها.

وليس غرضنا من هذا الامر اعطاء قاعدة كلية لمعرفة الأهم والمهم بان نجعل الأغراض المهمة في الشريعة الإسلامية محصورة في ما نشر بالتواتر اللفظي بذكره في القرآن المجيد أو بالتواتر المعنوي كما هو الغالب في ضروريات الإسلام المستفادة من السنة المتواترة حتى يستكشف من عدم تبليغ الحكم بأحد النحوين عدم أهميته.

كما اننا لا نقصد بذلك العكس أيضاً بان يكون كل ما اهتم الشارع بتبليغه بأحد النحوين من الأحكام مشتملا على غرض مهم جداً. بل المقصود بيان ان قلة وسائل النشر وتزاحم الأحكام يستدعيان بالطبع تقديم الأهم فالأهم الا ان هناك دواعي اخرى أيضاً قد تستدعي التقديم كما ان هناك موانع عن تقديم الأهم.

وربما يكون من الأحكام ما هو في غاية الأهمية إلا ان مراعاة بعض المصالح والمفاسد منعت عن التصريح به في الكتاب المجيد على نحو لا يقبل الشك والترديد. ومن الواضح ان الولاية بحدودها وتعييناتها من اهم دعائم الإسلام، كما ورد في الروايات. ومع ذلك لم يصرّح بها على هذا الوجه في القرآن الكريم.

وربما اهتم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ببيان بعض الأحكام من جهة أهمية الغرض إلا ان بعض الموانع حالت دون نشره بحيث يصل إلى جميع الامة بنحو التواتر المعنوي.

الامر الثالث: ان أصول الأحكام مع قلة وسائل النشر بقيت محفوظة وهي التي وصلت الينا.

والسبب في ذلك اهتمام الشارع بهذه الأصول وهنا ملاحظة هامة يجب التنبه لها. وهو ان الأغراض والاهداف العليا قد تستوجب جعل أحكام احتياطية، مضافاً إلى الحكم الأول المحقق للهدف بصورة أكمل وذلك تأميناً لتحقق الغرض.

وعليه فقد يكون هدف ضروري واحد يستدعي جعل أحكام الزامية متعددة. والغرض منها ان لا يفوت الهدف الأسمى من عدم امتثال بعض هذه الأحكام.

وغرضنا من هذه الفرضية التي سندعمها بالدليل اثبات ان فوت شرط او جزء من الصلاة مثلاً لا يوجب فوت الصلاة رأساً إذا كان الاخلال لعذر كقصور وسائل النشر. بل للأحكام الهامة مكمّلات تشريعية تحقق الهدف الأصلي.

هذا مضافاً إلى ان المكفّرات التي توجب غفران الذنوب العظام كثيرة في الإسلام، فكيف بنقصان شرط او جزء قصوراً لا تقصيراً؟

روى الكليني بسندين معتبرين عن زرارة عن ابي جعفر عليه السلام قال «إذا ما أدىّ الرجل صلاة واحدة تامة قبلت جميع صلواته وان كنّ غير تامّات وان أفسدها كلها لم يقبل منه شيء منها، ولم تحسب له نافلة ولا فريضة وانما تقبل النافلة بعد قبول الفريضة، وإذا لم يؤدّ الرجل الفريضة لم تقبل منه النافلة وإنما جعلت النافلة ليتم بها ما أفسده من الفريضة». (الوسائل ج 2 ص 20 ب 8 من اعداد الفرائض ح 1)

دلت هذه الرواية على ان الغرض الاصلي وهو الارتباط الخاص بين العبد والرّبّ يحصل بإتيان الصلوات الناقصة أيضاً إذا اتمّ العبد صلاة واحدة منها. وهذا غاية في التفضل والعطاء من الله سبحانه.

وروى أيضاً بسند صحيح عن محمد بن مسلم عن ابي عبد الله عليه السلام – في حديث – «من صلى فاقبل على صلاته لم يحدث نفسه أو لم يسه فيها أقبل الله عليه ما أقبل عليها فربما رفع نصفها أو ربعها أو ثلثها أو خمسها، وإنما امرنا بالسنة ليكمل بها ما ذهب من المكتوبة». (الوسائل ج 2 ص 52 ب 17 من اعداد الفرائض ح 2)

وبهذا المعنى روايات اخر أيضاً. (راجع ح 3 و 4 و 8 و 10 و11 و 12 من الباب المذكور)

وأما التكفير فمنها اجتناب الكبائر قال تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ..} (النساء: 31) ومن المكفّرات الحج كما ورد في الحديث. ومنها الصلاة ومنها زيارة الامام الحسين عليه السلام ومنها الصدقة وغير ذلك ونذكر هنا احدى روايات تكفير الصلاة:

روى الشيخ بسند معتبر عن ابي بصير عن ابي جعفر عليه السلام قال «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو كان على باب دار احدكم نهر واغتسل في كل يوم منه خمس مرات أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟ قلت: لا. قال: فانّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري كلما صلّى صلاة كفّر ما بينهما من الذنوب». (الوسائل ج 2 ص 7 ب 2 من اعداد الفرائض ح 2)  

1.1.3.1.3الجهة الثالثة:

الجهة الثالثة من مباحث هذا الفصل:

ونبحث في هذه الجهة عن كيفية تكوّن المحكم والمتشابه في نصوص القانون الإسلامي كتاباً وسنةً.

المشرّع الإسلامي اختار في كيفية إلقاء الأحكام إلى النّاس نفس الطريقة التي يتفاهم بها العرب في مختلف شؤون الحياة. وكان لابد من ذلك في عهد الرسالة والتشريع. واتّباع هذه الطريقة يستوجب صعوبات في استنباط الأحكام من النصوص، و توهم اختلافها لأمرين:

الأمر الأول: ان اللغة العربية لها ميزة خاصة وهي امكان التعبير عن مضمون واحد بصيغ متعددة. وقد يكون ظاهر اللفظ في بعض تلك الصيغ غير مقصود أصلاً، بمعنى عدم التطابق بين المراد الاستعمالي فيها والمراد الجدي. كما هو الحال في المجازات والاستعارات. وقد يكون في بعضها عدم التطابق في الجملة كالتعبير بالعام مع ارادة المعنى الخاص، وكالتعبير بما يظهر منه استمرار الحكم مع انه محدود واقعاً إلى زمان صدور الناسخ.

وقد كان دأب العرب في محاوراتهم التوسل في إبراز المقاصد بالمجازات والكنايات، وكانوا لا يستحسنون التصريح بالمقصود ويعتبرون التصريح ناشئاً اما عن القصور في بيان المتكلم وقدرته في البلاغة او عن قصده اهانة السامع بالتعريض بعدم فهمه الكنايات.

وعلى هذا الأساس جرى كل فصحاء العرب. وحيث ان الكتاب العزيز في قمة الفصاحة والبلاغة لم يتجاوز هذه السنّة العربية وكذلك أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وروايات أهل البيت عليهم السلام وهذه الطريقة هي التي اوجبت التشابه في كثير من الأحكام الشرعية. ولا يختص ذلك في القرآن بآيات الأحكام بل الأمر كذلك حتى في الآيات الراجعة إلى أسس العقيدة الإسلامية. ومن هنا تمسك بعض فاسدي المذهب بظاهر بعض الآيات الكريمة كقوله تعالى {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) وقوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وقوله {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (الفجر: 22) ونحوها من الآيات على عقائدهم الفاسدة.

ولا يتوقف التجوز والكناية عند حدّ محدد وإلا لارتفع التشابه. بل كان العرب يعدّ من التفوق في البلاغة اختراع أنواع جديدة من المجاز والكناية. ولذا يعتبر أقوى الاشعار في الادب العربي ما احتوى على تشبيهات واستعارات وكنايات مستحدثة وهي موجودة في الكتاب والسنة أيضاً نجدها في ما الّف في مجازاتهما. فراجع كتاب تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي قدس سره وكتاب المجازات النبوية له أيضاً. وهذه المجازات منها ما ورد في بيان الأحكام ومنها ما في غير ذلك.

وقد صرّح في الآيات والروايات بوجود المتشابه في الكتاب والسنة.

قال تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. (آل عمران: 7)

وروي عن الامام الرضا عليه السلام انه قال «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم». ثم قال عليه السلام «ان في اخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها». (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 11 ح 72)

وقد اختلف في معنى المتشابه. فذهب بعضهم كالشيخ البهائي قدس سره إلى انه اعم من المجمل والمأول. والمراد بالمأول ما يراد خلاف ظاهره إما بالجملة او في الجملة. وخصه بعضهم بالمجمل وبعضهم بالمأول. وتفصيل البحث في ذلك قد تعرضنا له في مبحث حجية ظواهر الكتاب.

وعلى ايّ حال فكثرة المجازات والكنايات في نصوص الشريعة يستوجب تصادم الظهورات من جهة اختلاف كل مجاز وكناية بحسب اختلاف المجتمعات وحالة المخاطب ظهوراً وخفاءاً وكذا ذكر العام وارادة الخاص والعكس.

وقد تعرض له الشافعي في مقدمة كتابه في اختلاف الحديث حيث قال «ابان الله جل ثناؤه لخلقه انه انزل كتابه بلسان نبيه وهو لسان قومه العرب فخاطبهم بلسانهم على ما يعرفونه من معاني كلامهم انهم يتلفظون بالشيء عاماً ويريدون به العام وعاماً ويريدون به الخاص» (الام ج 8 ص 482). وقال أيضا «والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلام عربي ما كان منه عام المخرج عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما وصف في القرآن يخرج عاماً ويراد به العام ويخرج عاما ويراد به الخاص» (المصدر ص 487).

والمجازات وان كانت معلومة المعنى عند الادباء الا ان اصحاب الاهواء يتمكنون من تحريف معانيها فهي تشكل منفذاً خطيراً لمن يبتغي الفتنة والتأويل كما تشكل سبباً هاماً في توهم اختلاف الأحاديث.

فمن الموارد التي أوجب التجوز نوعاً من الاختلاف بين المسلمين في فهم المراد قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا..} (المائدة 6 النساء 43) فذهب جماعة إلى ان المراد باللمس المباشرة باليد او بغيرها من الأعضاء فاعتبروا اللمس من نواقض الوضوء (البداية لابن رشد ص 38).

وكان هذا الاستظهار مؤثراً في انكار دلالة الآية المباركة على بدلية التيمم عن الطهارة الكبرى. ومن هنا أنكر عمر مشروعيته للجنب بل افتى بعدم وجوب الصلاة على فاقد الماء وقد ورد في السنة الشريفة ما يدل على مشروعيته للجنب.

وقد روى ابن رشد عن البخاري ومسلم انّ رجلاً اتى عمر فقال: اجنبت فلم أجد الماء. فقال: لا تصل! فقال عمار: اما تذكر يا امير المؤمنين! إذ انا وانت في سرية فاجنبنا فلم نجد الماء، فأما انت فلم تصل، و اما انا فتمعكت في التراب وصليت. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم انما كان يكفيك ان تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك؟ فقال عمر اتق الله يا عمار! فقال: ان شئت لم أحدث به. وفي بعض الروايات ان عمر قال له نولّيك ما توليت.

وكيف كان فجعل اللمس كناية عن الجماع كان امراً واضحاً عند العرب وان خفي على بعض الموالي حتى وقع بين الفريقين خصومة حكم فيها ابن عباس لصالح العرب على ما نقله الطبري في تفسيره بطرق عديدة (جامع البيان ج 5 ص 65). وسبقه في ذلك الصنعاني (المصنف ج 1 ص 134) المتوفى سنة 210. ونقله ايضاً السيوطي في الدر المنثور (ج 2 ص 166)، واما ما في مجمع البيان وآيات الاحكام من نسبة ما قاله العرب الى الموالي وبالعكس فالظاهر انه من اشتباه الناسخ او تلاعبهم ولا عجب إذا خفي طرق الكناية والمجاز على الموالي وانما العجب ان يخفى ذلك على مثل الخليفة.

ولا ندري ان هذا الاستنباط منه هل كان ناشئاً من تشابه معنى الكتاب عليه ونسيان للسنة – كما قيل – أم قال فيه برأيه الشخصي؟! ولعلّه تأثر بأحد أمرين:

الأول: ما نسبوه إلى ابن مسعود من انه لو رخّص لهم في ذلك لأوشك إذا برد عليهم الماء ان يتيمموا بالصعيد.

الثاني: الحطّ من كرامة المرأة بجعل لمسها من نواقض الطهارة الذي يناسب رواسبهم الفكرية حتى افتى جمع منهم ورووه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بان مرور الكلب او خصوص الكلب الأسود والحمار والمرأة من قواطع الصلاة واستوجب ذلك غضب عائشة فقالت: جعلتمونا بمنزلة الكلب والحمار الخ (راجع المحلى ج 4 ص 11).

الامر الثاني: ان اللغة العربية لم تكن تشتمل الا على مقدار ضئيل من المصطلحات القانونية. والسرّ في ذلك ان المجتمع العربي آنذاك كان مجتمعاً بدائياً لا يسوده نظام وقانون ولم تكن بينهم ابحاث قانونية، واللغة ليست الا وسيلة للتفاهم، وحيث لم يكونوا بحاجة إلى تفاهم القوانين لم يجعلوا للمواد القانونية الفاظاً. ولذلك نرى اهتمامهم البالغ لوضع الالفاظ لكل ما يتعلق بالإبل ولكن لا نجد للمواد القانونية التي سنذكر شطراً منها لفظاً يفصح عن المعنى بحسب الوضع الأصلي.

وهذا الامر خلق مشكلة كبيرة في نشر القانون الإسلامي مع سعته وشموله الذي لا يجاريه فيها قانون فكان بحاجة إلى الفاظ كثيرة تفهم المقاصد القانونية. ولما لم تكن اللغة العربية وافية بالمقصود اضطر المشرّع الإسلامي الحكيم إلى استعمال كلمة واحدة في معان متعددة مع تفهيمها بالقرائن، كما اضطر إلى استعمال الألفاظ المجازية مصحوبة بالقرائن أيضاً و لنذكر بعض الأمثلة لذلك:

1 – الملكية: فهي تفيد نوعاً من حق الاختصاص. الاّ انّ لها انواعاً متعددة نستكشف من تغاير الآثار القانونية المترتبة عليها. فكان من الضروري وضع لفظ خاص لكل من تلك الأنواع. فالملكية المتعلقة بالكلي في المعين تختلف نوعية عن المتعلقة بالكسر المشاع، وتختلف عن الملكية بنحو الشركة في المالية كما يقال في الزكاة. والملكية المتعلقة بالذمة غير المتعلقة بالعين الخارجية، وغير المتعلقة بالأمور الاعتبارية. والملكية قد تكون طلقاً وقد تكون غير طلق كالأوقاف الخاصة.

2 – الحق: هذه الكلمة في اللغة لا تفيد الا معنى الثبوت. مع انها في القانون تعبّر عن امر اعتباري مشابه للملكية وهو أيضاً على أنواع كثيرة تحتاج كل منها إلى تعبير خاص فحق الرهانة مثلاً نوع خاص من الحقوق يمتاز بأحكام وآثار مغايرة تغايراً جذرياً عن سائر الحقوق المتغايرة أيضاً نفس التغاير كحق الغرماء المتعلق بمال الميت وحق الجناية المتعلق بالعبد الجاني.

3 – الحكم: الحكم التكليفي مغاير للحكم الوضعي ولكل منهما انواع كثيرة كل منها يحتاج إلى مصطلح خاص. فالأحكام التكليفية تختلف من حيث الجعل، فمنها ما يجعل بجعل مستقل، ومنها ما يجعل بمتمم الجعل المفيد لمعنى الجزئية والشرطية، ومنها ما يجعل بمتمم الجعل التطبيقي.

والاحكام التكليفية بالمعنى الاعم منها الحرمة والكراهة. وطريقة تفهيمها باللغة العربية هو النهي، فيشتبهان. ومنها الوجوب والاستحباب وطريقة تفهيمهما هو الامر فيشتبهان، بل قد تشتبه الاباحة بغيرها. فالأمر في مورد توهم الحظر يفيد الاباحة وفي غيره يفيد الوجوب او الندب. والنهي في مورد توهم الوجوب يفيد الاباحة وفي غيره يفيد الحرمة أو الكراهة، بل قد يشتبه حكم تكليفي وحكم وضعي فالأمر بالشيء قد يدل على وجوب استقلالي، وقد يدل على وجوب شرطي. والنهي قد يدل على حرمة استقلالية وقد يدل على المانعية وهكذا.. وليس كل هذا الاشتباه – وما أكثر الاشتباه – الاّ ناشئاً من فقر اللغة في المصطلحات.

ومن موارد الاشتباه ما ذكره فقهاء العامة في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ..} فقالوا بانها لا تدل على بطلان الطلاق في الحيض وانما تدل على حرمة الطلاق في الحيض تكليفاً، ولم ينتبهوا إلى ان الامر إذا تعلق بحصة خاصة في المعاملات ترشد إلى بطلان ما عداها من حصص المعاملة. ولو كان الحكم مذكوراً بمصطلح خاص يدل على البطلان لم ينشأ هذا الاشتباه. واما الاحكام الوضعية فقد لقيت حظا قليلاً من المصطلحات.

4 – النجس: هذه الكلمة مصطلح جديد نوعاً ما. اذ لم نجد في القرآن ان يعبّر عن معنى النجاسة بهذا اللفظ مع كثرة اهتمام الشارع بتجنب النجاسات. كما انه لم يرد في الروايات أيضاً إلا في الكلب. ونرى ان الروايات الواردة بشأن النجاسات لا تفهم هذا المعنى الاّ بالأمر بالغسل. فكل ما ورد الامر بغسله اكتشفنا منه جعل الحكم الوضعي وهو النجاسة.

والسرّ فيه ان المجتمع البدوي لا يفهم المعاني الوضعية الا بصورة محدودة فكان الطريق الوحيد لإفهامها هو الامر والنهي. فقولهم اغسل يفيد النجاسة ولا تغسل يفيد الطهارة. وقولهم اغسل بالماء يفيد مطهرية الماء. وقولهم آتوا الزكاة يفيد تعلق الحق. ومن الواضح ان ذلك لا يفيد كيفية تعلق حق الزكاة ولذا وقع هذا الاختلاف الشديد بين العلماء اذ لا ينص عليها القانون لفقر اللغة، فنحتاج في اكتشافها إلى تتبع الآثار والأحكام المترتبة عليه.

هذا. ولم يكن بوسع المشرّع الإسلامي انشاء مدرسة لوضع المصطلحات وتفهيمها للناس لعدم تحمل ذلك المجتمع البدوي أكثر من وضع القوانين.

وهذا الامر استوجب خلوّ الفقه الإسلامي في مراحل تشريعه عن المصطلحات المحدّدة للمعاني المقصودة وكانت النتيجة كثرة التشابه والاجمال.

ومن الواضح حاجة الفقه كسائر العلوم إلى المصطلحات المحددة المفهوم. وكان وضع المصطلحات فيما بعد عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بحاجة إلى معهد ودراسة. وقد ذكر في التاريخ ان أصل كتابة الحديث وتدوينه كان ممنوعاً مدة طويلة. وكان اهتمام زعماء المسلمين – بزعمهم – بتشكيل القوى العسكرية وتجنيد الجزيرة العربية بكاملها. وكانت دراسة القانون عملا مستصغراً يأبى العرب الاكابر المتضلعون في اللغة مزاولتها، فتركوها للموالي. كما في مقدمة ابن خلدون وضحى الإسلام وغيرهما.

ثم تطور علم الفقه ووجدت المصطلحات فكانت مؤثرة في تسهيل التفاهم الفقهي الا ان اختلاف العصور في المصطلحات وعدم تقيّدهم بضبطها أوجب اختلافاً في فهم المعنى أيضاً. ومن ذلك كلمة الحرام فكانت تستعمل سابقاً في خصوص ما ورد النهي عنه في الكتاب العزيز واصبحت الآن تستعمل في كل محظور شرعي. والانس بهذا الاستعمال يوجب عدم فهم المراد من كلمات القدماء وأحاديث اهل البيت عليهم السلام.

كما ان الكراهة كانت تستعمل في المصطلح القديم في الحرمة ولكن في موارد خاصة لا يصلح التصريح فيها بالحرمة. ولكن الكراهة في المصطلح المتأخر عبارة عن ما يطلب تركه من غير إلزام.

 

 

 

1.1.3.2الفصل الثاني:

في مناشئ توهم الاختلاف في موارد كتمان الاحكام. وفي هذا الفصل ثلاثة أبحاث:

البحث الأول في أسباب الكتمان.

البحث الثاني في انواع الكتمان.

البحث الثالث في بيان الاحكام المكتومة وارتباط كل سبب بنوع من الاحكام.

1.1.3.2.1البحث الأول: أسباب الكتمان

في أسباب الكتمان:

1.1.3.2.1.1السبب الأول: المداراة مع السائل.

كانت عادة الائمة المعصومين عليهم السلام في تبليغ الاحكام مبنية على أسس حكيمة في غاية الحكمة والمتانة. ومن ذلك مداراتهم للسائلين عن الاحكام حتى لو كانوا من الشيعة. والسرّ في ذلك ان جمعاً من أصحاب الائمة عليهم السلام كانوا متأثرين بالثقافة العاميّة في ذلك الوقت لأسباب سيأتي ذكرها ان شاء الله تعالى.

ومن هنا كانوا يستغربون الحكم الصادر عن الائمة إذا خالف المشهور بين المسلمين بحيث كان يخاف عليهم من التزلزل والاضطراب في العقيدة.

روى عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «امرني ربي بمداراة الناس كما امرني بأداء الفرائض»». (الوافي ج 3 ص 86)

وروى القراطيسي قال «قال لي ابو عبد الله عليه السلام «إذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه اليك برفق ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره فان من كسر مؤمناً فعليه جبره»». (الوافي ج 3 ص 29)

و روايات النهي عن اذاعة السرّ كثيرة.

وكان للكتمان من اجل المداراة مبرر في كثير من العهود خصوصاً في عهد الامام الصادق عليه السلام لكثرة نشاط التيار المعارض الذي كان يسيطر على افكار المسلمين مدعماً بتأييد السلطة التي كانت تضطهد الامام عليه السلام وأصحابه.

روى ابو بصير قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن القنوت فقال: «فيما تجهر فيه بالقراءة قال فقلت له: إني سألت اباك عن ذلك فقال: في الخمس كلها. فقال: رحم الله ابي ان اصحاب ابي أتوه فسألوه فأخبرهم بالحق ثم أتوني شكاكاً فأفتيتهم بالتقية». (جامع الأحاديث ج 2 ص 343 ح 3220)

وروى عثمان بن زياد انه دخل على ابي عبد الله عليه السلام فقال له رجل: «إني سألت اباك عن الوضوء فقال مرة مرة فما تقول انت؟ فقال «إنك لن تسألني عن هذه المسألة الا وانت ترى اني اخالف ابي توضأ ثلاثاً وخلّل اصابعك»». (جامع الأحاديث ج 1 ص 108 ح 922)

وروى أبو بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام «متى أصلي ركعتي الفجر؟ قال فقال لي: بعد طلوع الفجر. قلت له ان ابا جعفر عليه السلام أمرني ان اصليهما قبل طلوع الفجر فقال: يا ابا محمد ان الشيعة اتوا أبي مسترشدين فأفتاهم بمرّ الحق واتوني شُكّاكا فأفتيتهم بالتقية». (جامع الأحاديث ج 2 ص 81 ح 661)

وروى الكليني بسندين معتبرين عن عمر بن اذينة عن زرارة قال «سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجدّ فقال: ما أجد احداً قال فيه الا برأيه الا امير المؤمنين عليه السلام قلت: اصلحك الله فما قال فيه امير المؤمنين عليه السلام؟ قال: إذا كان غداً فالقني حتى أقرئك في كتاب! قلت: اصلحك الله حدثني فان حديثك احبّ إلي من ان تقرأنيه في كتاب. فقال لي الثانية، اسمع ما اقول لك! إذا كان غداً فالقني حتى اُقْرِأكَهُ في كتاب. فاتيته من الغد بعد الظهر وكانت ساعتي التي كنت اخلو به فيها بين الظهر والعصر وكنت أكره ان أسأله الا خاليا خشية ان يفتيني من اجل من يحضره بالتقية فلما دخلت عليه اقبل على ابنه جعفر عليه السلام فقال له: أقرئ زرارة صحيفة الفرائض ثم قام لينام فبقيت انا وجعفر عليه السلام في البيت، فقام فاخرج اليّ صحيفة مثل فخذ البعير فقال: لست أقرؤكها حتى تجعل لي عليك الله ان لا تحدّث بما تقرأ فيها احداً ابداً حتى آذن لك ولم يقل: حتى يأذن لك ابي. فقلت: اصلحك الله ولِمَ تضيّق عليّ ولم يأمرك ابوك بذلك. فقال لي ما انت بناظر فيها الاّ على ما قلت لك. فقلت فذاك لك وكنت رجلاً عالماً بالفرائض والوصايا بصيراً بها حاسباً لها البث الزمان اطلب شيئاً يلقى عليّ من الفرائض والوصايا لا اعلمه فلا أقدر عليه. فلما القى اليّ طرف الصحيفة إذا كتاب غليظ يعرف انه من كتب الاولين فنظرت فيها فاذا فيها خلاف ما بأيدي الناس من الصلة، والامر بالمعروف الذي ليس فيه اختلاف واذا عامته كذلك فقرأته حتى اتيت على آخره بخبث نفس وقلة تحفظ وسقام رأي وقلت – وانا اقرأه – باطل حتى اتيت على آخره ثم ادرجته ودفعتها اليه. فلما اصبحت لقيت ابا جعفر عليه السلام فقال لي: أقرأت صحيفة الفرائض؟ فقلت: نعم فقال: كيف رأيت ما قرأت؟ قال قلت: باطل ليس بشيء، هو خلاف ما الناس عليه. قال: فان الذي رأيت والله يا زرارة هو الحقّ. الذي رأيت املاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخطّ عليّ عليه السلام بيده. فأتاني الشيطان فوسوس في صدري فقال: وما يدريه انه املاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي عليه السلام بيده فقال لي قبل ان انطق: يا زرارة لا تشكّن ودّ الشيطان والله انك شككت وكيف لا أدري انه املاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي عليه السلام بيده وقد حدثني ابي عن جدّي ان أمير المؤمنين عليه السلام حدثه ذلك. قال: قلت: لا! كيف؟! جعلني الله فداك. وندمت على ما فاتني من الكتاب ولو كنت قرأته وانا اعرفه لرجوت ان لا يفوتني منه حرف..» الحديث. (الكافي ج 7 ص 94 ط طهران) 

وهذه النقطة قد تورث العجب حيث ان الشيعة المتفانين في حب أهل البيت عليهم السلام والمعتقدين امامتهم وولايتهم على الخلق وانهم مستودع علم الله وخزائن حكمته وورثة الانبياء عليهم السلام، كيف يخفى عليهم الامر ويلتبس حتى يتوقعوا ان يوافق اخبار الائمة عليهم السلام وآثارهم التي هي ودائع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلام حكم بن عيينة او ابي حنيفة او مالك بن انس او غيرهم من المعارضين لفقه اهل البيت عليهم السلام ولكي ينجلي الشك عن اليقين نشير إلى بعض العوامل التي يمكن ان تكون السبب في هذا الانحراف المؤدي إلى اضطرار الائمة إلى كتمان الحق بصورة من صور الكتمان:

الامر الأول:  سبق التلمذ على فقهاء العامة.

كان بعض الاصحاب قبل ان يتعرفوا على مدرسة اهل البيت عليهم السلام منتمين الى احدى المدارس المعارضة وكان بعضهم قد اشرب بذلك الفقه وبتلك الأسس حتى صار جزءاً من ذهنياته الأساسية التي يصعب عليه التشكيك فيها، وهذا الامر يؤثر بالطبع في نفسه أعمق التأثير، بحيث لو سمع ما يخالفه تمام المخالفة ويناقضه في الأسس الفكرية لا يتمكن من التسليم والقبول. وذلك لما يكنّه التلميذ من اجلال واكبار لأستاذه ولما تلقاه تعاليم الأستاذ الأول للتلميذ من نفس خالية عن الشوائب والمعارضات فتتمكن من نفسه وترسخ في ذهنه وتشكل اصولا ثابتة لثقافته.

ومن هنا ورد في الروايات النهي عن تعليم الأطفال ثقافة قبل ثقافة اهل البيت عليهم السلام لئلا ترسخ في اذهانهم الكلمات الباطلة الرنّانة سواء في العقيدة او في الفقه فيصعب عليهم التمييز بين الحق والباطل.

وقد لاحظ المستعمرون الاسبان هذه النقطة الحسّاسة في التربية وتأثيره في مستقبل المجتمع، فاشترطوا على المسلمين في الاندلس حين المصالحة التي تمت بغلبتهم على شؤون المسلمين هناك اشترطوا ان يكون المعلمون في مدارسهم من المسيحيين.

وهذا الامر هو سبب التزلزل في كثير من أصحاب الائمة عليهم السلام منهم زرارة وحمران والطيار حيث كانوا تلاميذ للحكم بن عيينة (1) قبل تشرفهم للحضور لدى الامام الباقر عليه السلام بل تدل بعض الشواهد ان زرارة لم يقطع صلاته الثقافية بالحكم حتى بعد انتمائه لمدرسة اهل البيت عليهم السلام وهو السبب في ما أبداه زرارة من ردّ فعل خاطئ مشين حينما راجع صحيفة الفرائض. ولكنه بمرور الزمان وطول تلّمذه على الامامين الباقر والصادق عليهما السلام اطمأنت نفسه وزال عنه زيغ الشك. وقد حكي عنه انه قال: «اسمع والله بالحرف من جعفر بن محمد عليه السلام من الفتيا فازداد به ايماناً». (رجال الكشي ح 209)

(1): حكي عن علي بن الحسن بن فضال انه قال: كان الحكم من فقهاء العامة وكان استاذ زرارة وحمران والطيار قبل ان يروا هذا الامر. وقيل انه كان مرجئاً (رجال الكشي ذيل الحديث 270).

ومثل التلمذ في المدارس المعارضة معاشرة الفقهاء المعارضين فانها أيضاً تؤثر نفس الاثر في نفوس المعاشرين نوعاً ما فلابد من مداراتهم أيضاً.

الأمر الثاني: ان بعض أصحاب الائمة عليهم السلام كان لهم حسن ظن ببعض رواة العامة وكانوا يتأثرون بشهرة الرواية مع ان المشهور قد يكون مما لا اصل له. فكان الائمة عليهم السلام يحتشمون من التصريح بما يناقض رواياتهم عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لئلا يثير الشك في قلوبهم فانهم ربما يرون ذلك مناقضاً لكلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لوثوقهم بأولئك الرواة مع ان الائمة عليهم السلام هم خزائن علم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في الحديث:

«انّا لوكنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين ولكنها آثار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اصل علم نتوارثها كابر عن كابر عن كابر نكنزها كما يكنز الناس ذهبهم وفضتهم» (جامع الاحاديث ج 1 المقدمات ص 18 ح 115)

ولكن العقيدة الشيعية لم تكن قد تمكنت من نفوس الاصحاب في أوائل الامر.

ويشهد لما ذكرنا رواية محمد بن مسلم المعتبرة عن ابي عبد الله عليه السلام قال قلت له: «ما بال اقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال ان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 67 ح 464)

ومعتبرة منصور بن حازم عن ابي عبد الله عليه السلام (في حديث) قال «قلت: فأخبرني عن اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدقوا على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ام كذبوا؟ قال: بل صدقوا. قال قلت: فما بالهم اختلفوا؟ فقال: اما تعلم ان الرجل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب ثم يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب؟ فنسخت الأحاديث بعضها بعضاً» (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 67 ح 465)

ويعلم من هذين الحديثين نفسية اعاظم الرواة و اكابر الاصحاب مثل محمد بن مسلم الذي قيل فيه انه أفقه الاولين من أصحاب الائمة عليهم السلام ويتبين من خلال هذه الكلمات حالة الشك والتردد في نفوسهم من هذه الجهة التي أشرنا اليها ويتبين الموقف الحرج الذي كان للائمة عليهم السلام تجاه هذه الشكوك والشبهات التي كانت ربما تعتري اكابر أصحابهم.

والجواب الذي ذكره الامام عليه السلام في الحديثين اشارة إلى ان العامة حيث تركوا المرجع الذي نصبه الله للمسلمين لم يتمكنوا من التمييز بين الأحاديث الناسخة والمنسوخة. ومن هنا نشأ الاختلاف وان كان رواتهم صادقين ثقاة.

والحاصل ان شدة وثوق بعض الاصحاب ببعض رواة العامة كانت احدى الموانع التي تحول دون التصريح بخلاف رواياتهم مداراة للسائل إلى ان يتمكن تعاليم اهل البيت عليهم السلام من نفسه ويزول عنه الشك وتطمئن نفسه إلى اقوالهم.

الامر الثالث: ان الغلاة كانوا ينسبون انفسهم إلى الائمة عليهم السلام وكان هذا يشكل خطراً عظيماً على حياة الائمة عليهم السلام والشيعة بأجمعهم وعلى قدسية الرسالة التي كانوا يؤدونها.

وذلك لان بعض الغلاة كانوا يدّعون ان الائمة انبياء وانهم ينسخون احكام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتلقى هذا الادعاء هجوماً شديداً من جانب الائمة عليهم السلام لدفع التهمة عن أنفسهم ولذا عقد صاحب الوافي باباً في ان الائمة عليهم السلام ليسوا بأنبياء بل كان بعض الغلاة يزعمون للائمة مقام الربوبية حتى نادى مناديهم في مسجد الكوفة: لبيك يا جعفر. وكانت لهم في ذلك اغراض سياسية وفكرية، حيث انهم وان اظهروا الإسلام الا ان غرضهم كان هو المعاداة للإسلام وهدم اركانه. ولذا تبرأ الائمة عليهم السلام منهم في المحافل والمجالس. وربما كانت للسلطة المعادية لهم يد في ذلك بغية تشويش اذهان العامة واساءة الظن بالأئمة عليهم السلام.

وكان هذا الامر يستدعي اخفاء الائمة عليهم السلام في ذلك العصر بالخصوص الاحكام التي تخالف المشهور بين المسلمين لئلا تكون ذريعة لهؤلاء وحجة بأيديهم يستشهدون بها على انهم ينسخون احكام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

ونذكر من باب المثال حكم الائمة بالتخيير في الأماكن الأربعة بين القصر والاتمام أي الحرمين الشريفين، والحائر الحسيني المقدس، ومسجد الكوفة أو الكوفة نفسها في احتمال. وهذا الحكم مما لم يكن الائمة عليهم السلام يصرّحون به لكل الاصحاب. وذلك لانه يحتوي على خصوصية حادثة بعد عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكان يتوهم منه انه حكم ناسخ لأحكام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حيث انه لم يأمر بذلك قطعاً اذ لم يكن الموضوع موجوداً في عهده. حتى انّ بعض فقهاء الاصحاب واعاظمهم كانوا يقصرون كصفوان بن يحيى وابن ابي عمير وايوب بن نوح.

روى ابن قولويه في المزار عن ابيه عن سعد بن عبد الله قال «سألت ايوب بن نوح عن تقصير الصلاة في هذه المشاهد: "مكة والمدينة والكوفة وقبر الحسين عليه السلام" الاربعة والذي روي فيها فقال: انا اقصر وكان صفوان يقصر وابن ابي عمير وجميع اصحابنا يقصرون». (كامل الزيارات ص 248 راجع ايضا الوسائل ج 5 ص 551)

ولا شك ان الالتزام بالتقصير انما كان للشبهة في نفوسهم والترديد في صحة الاتمام. وقد ورد في بعض الأحاديث ان هذا الحكم من مخزون علم الله تعالى ففي رواية حماد بن عيسى عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال: «من مخزون علم الله الاتمام في اربعة مواطن، حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وحرم امير المؤمنين عليه السلام وحرم الحسين بن علي عليهما السلام» (الوسائل ج 5 ص 542 الباب 25 من صلاة المسافر ح 1) وبمعناها أحاديث أخر عبّر في بعضها ان الاتمام في هذه المواطن من الامر المذخور. (راجع ح 2 وح 20 وح 26 و ح 29)

ولهذه المسألة شرح طويل لا يسع المجال ذكره وحاصل ذلك ان فقهاء العامة مختلفون في مسألة القصر والتمام في السفر. فقال ابو حنيفة والكوفيون بوجوب القصر كما نقوله في غير الأماكن الأربعة وقال الحجازيون كمالك والشافعي بالتخيير. وفصّل ائمة أهل البيت عليهم السلام – على ما تقتضيه طائفة من الروايات – فقالوا بالقصر في ما عدا الأماكن الأربعة وبالتخيير فيها. ولو خصوا التخيير بالحرمين الشريفين لكان الحكم قابلاً للتوجيه في اذهان الرواة. واما تعميم الحكم للحائر الحسيني المقدس ومسجد الكوفة مما تأباه نفوسهم، ولذا افتى بعض فقهاء الاصحاب بخلافه كما مر.

فالحكم مع غرابته في عقولهم يبتني على أسس معتمدة لا يمكن بيانها لكل أحد ويمكن ان يقال على سبيل الفرضية المجردة ومن باب ابداء الاحتمال ان ايجاب القصر تعيينا فيما عدا الأماكن الأربعة حكم تنفيذي مما شرّعه الائمة عليهم السلام بولايتهم العامة لمصلحة اجتماعية.

ولعل الحكم الواقعي في جميع الأماكن هو التخيير كما يساعده تعبير الآية المباركة حيث عبّر عن الحكم بنفي الجناح الا أنّ الائمة عليهم السلام أمروا بالقصر في غير الأماكن الأربعة اخذاً برخص الله تعالى وخلافاً للعثمانية، حيث اتخذوا الالتزام بالتمام شعاراً لهم؛ حتى ان عائشة بعد ان كانت هي الراوية لأخبار القصر التي استندت اليها مدرسة الكوفيين حكمت بالتمام، فأصبح كل من جانبي الحكم بعد اختلاف الفرق شعاراً لكل منها. فالتزام الائمة عليهم السلام بالقصر مع انه أحد شقي التخيير حكم الزامي الا انه من باب الولاية في منطقة الفراغ. ثم استوجبت مصلحة أخرى ابقاء حكم التخيير في الأماكن الأربعة.

ولكن خفاء هذه المقدمات على الاصحاب أوجب نوعاً من المداراة حتى انهم في بعض الروايات اعتذروا عن الحكم بجواز الاتمام في الأماكن الأربعة بان المراد به خصوص صورة قصد البقاء عشرة أيام. مع ان الوارد في بعضها الحكم بالتخيير حتى لو صلى صلاة واحدة. وتحقيق البحث الفقهي في هذه المسألة موكول إلى محله من كتاب الصلاة.

وبالطبع كان مثل هذا الحكم في معرض وقوعه وسيلة اعلامية للغلاة لو كانوا يعلمون به، حيث انه يناسب توصيفه بالنسخ لما ذكرناه من شموله للحائر الحسيني ومسجد الكوفة.

ومثل هذا الحكم في هذه الميزة الحكم بنجاسة الناصبي فانه لم يعهد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

الامر الرابع: ان بعض الشيعة كانوا يفرّطون في معرفة الامام فكانوا يزعمون ان الامام لا يعدو ان يكون فقيهاً متضلعاً عالماً بالكتاب والسنة. ولم يكونوا يعترفون بان لهم الولاية في تشريع الاحكام التنفيذية وانهم مسدّدون من عند الله تعالى. فاذا كان الائمة عليهم السلام يصرحون لهم بالأحكام المستحدثة التي لم تكن في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قطعاً كان ذلك موجباً لتشكيكهم في مقام الائمة عليهم السلام حتى بذلك الحدّ الذي اعترفوا به.

ومن الواضح اختلاف الشيعة في ذلك الزمان في عقائدهم وانهم لم يكونوا جميعاً على نهج واحد. قال الشيخ المفيد قدس سره «وقد وجدنا جماعة وردوا الينا من قم يقصرون تقصيراً ظاهراً في الدين وينزلون الائمة عليهم السلام عن مراتبهم ويزعمون انهم كانوا لا يعرفون كثيراً من الاحكام الدينية حتى ينكت في قلوبهم ويقولون انهم ملتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون ويدعون انهم من العلماء». (تصحيح اعتقادات الامامية ص 135)  

ويستفاد من بعض الروايات ان هذه المزاعم كانت موجودة في عهد الائمة عليهم السلام ايضا ولا مجال هنا لنقلها.

وتلخص من جميع ما ذكرنا ان الائمة عليهم السلام كانوا في موقف حرج حتى مع الشيعة، حيث كانوا تحت تأثير العوامل المختلفة. فمنهم المفرطون ومنهم المفرّطون وكان الامام القائد يداريهم ويراعي ضعف نفوسهم. ومن ذلك ينشأ كتمان كثير من الاحكام الواقعية الا ان نوعية تلك الاحكام تحتاج إلى توضيح سيأتي ان شاء الله تعالى.

1.1.3.2.1.2السبب الثاني: القاء الاختلاف بين الشيعة.

كان الائمة عليهم السلام قد يفتون في مسألة واحدة بالاختلاف، وبذلك كان يقع الاختلاف بين الاصحاب كل منهم يروي خلاف ما يرويه صاحبه. وكان الموجب لذلك أمر هام جداً يدل على عمق الحكمة والتدبر في قيادة الائمة عليهم السلام لشيعتهم. وهو ان الشيعة في ذلك العهد كانوا تحت مراقبة شديدة من السلطات ومن التجمعات المعارضة فاقتضت مصلحة القيادة الحكيمة إلقاء بعض الخلافات الشكلية الظاهرية في بعض الاحكام الموسعة حتى لا تعرف الشيعة باتباعهم منهجاً واحداً، وبذلك يلتبس الامر على المراقبين. فان سلوك المنهج الواحد يدل على وحدة التنظيم ووحدة المنظّم واما الاختلاف في المنهج يدلّ على اختلاف أساس التفكير، فكان الائمة عليهم السلام باتباع هذه الطريقة يحفظون شيعتهم من الوقوع في الفخَّ المنصوب لهم من قبل السلطات والجمعيات المعارضة. وفي نفس الوقت كانت أسس الاحكام ودعائم المذهب واحدة في الجميع، وانما كان الاختلاف في الموسعات والاحكام التي لها مظاهر في المجتمع، ولكنها ليست من مهمات الشريعة كالمستحبات.

روى ابو خديجة عن ابي عبد الله عليه السلام قال «سأله انسان وانا حاضر فقال: ربما دخلت المسجد وبعض اصحابنا يصلون العصر وبعضهم يصلي الظهر فقال: انا أمرتهم بهذا لو صلوا على وقت واحد لعرفوا فاخذ برقابهم». (جامع الأحاديث ج 2 ص 70 ح 550)

ويلاحظ ان هذا الاختلاف انما هو في مواقيت الصلاة، وهي مع انها امر ظاهر ولكنها من الموسعات في الشريعة كما صرح في الروايات وسيأتي الكلام في ذلك ان شاء الله تعالى.

وروى زرارة (والسند معتبر) عن ابي جعفر عليه السلام قال «سألته عن مسألة فأجابني قال: ثم جاءه رجل يسأله عنها فأجابه بخلاف ما اجابني ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما اجابني واجاب صاحبي: فلما خرج الرجلان قلت يابن رسول الله رجلان من اهل العراق من شيعتك قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما اجبت به الآخر؟ قال، فقال: يا زرارة ان هذا خير لنا وابقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على امر واحد لقصدكم الناس ولكان اقل لبقائنا وبقائكم. قال فقلت لابي عبد الله عليه السلام: شيعتكم لو حملتموهم على الاسنة او على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين؟ قال فسكت فأعدت عليه ثلاث مرات فأجابني بمثل جواب ابيه». (الوافي ج 1 ص 64)

ونقل في الحدائق عن العدة مرسلاً عن الامام الصادق عليه السلام «انه سئل عن اختلاف اصحابنا في المواقيت؟ فقال: انا خالفت بينهم» وروى عن الاحتجاج عن حريز عن ابي عبد الله عليه السلام قال «قلت له انه ليس شيء اشد عليّ من اختلاف أصحابنا؟ قال: ذلك من قبلي». وروى أيضاً عن معاني الاخبار (وفي التعليقة ان الرواية في العلل لا في المعاني) عن الخراز عمن حدثه عن ابي الحسن عليه السلام قال: «اختلاف اصحابي لكم رحمة! وقال: إذا كان ذلك جمعتكم على امر واحد وسئل عن اختلاف أصحابنا فقال انا فعلت ذلك بكم ولو اجتمعتم على أمر واحد لأخذ برقابكم» (الحدائق ط النجف ج 1 ص 7)

والمراد بقوله عليه السلام إذا كان ذلك أي إذا قامت حكومة اهل البيت واصبحت السلطة لمن له حق السلطة. وكان هذا الاختلاف الذي يصنعه أحد الائمة المتقدمين يبقى بين الشيعة ولا يرفعه غالباً الائمة المتأخرون نظراً إلى ان هذا الشرط لم يكن حاصلاً بعد، فلم يأت دور رفع الاختلافات.

وروى الكشي في رجاله بسند معتبر عن عبد الله بن زرارة قال: «قال لي ابو عبد الله عليه السلام «اقرأ مني على والدك السلام وقل له اني انما اعيبك دفاعاً مني عنك فان الناس والعدو يسارعون إلى كل من قربناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في من نحبّه ونقربه ويرمونه لمحبتنا له وقربه ودنّوه منا ويرون ادخال الأذى عليه وقتله ويحمدون كل من عبناه نحن وان نحمد امره فإنما اعيبك لأنك رجل اشتهرت بنا ولميلك الينا وانت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الاثر لمودتك لنا وبميلك الينا فأحببت ان اعيبك ليحمدوا امرك في الدين بعيبك ونقصك ويكون بذلك منا دافع شرهم عنك (إلى ان قال عليه السلام) فلا يضيقن صدرك من الذي أمرك ابي عليه السلام وامرتك به واتاك ابو بصير بخلاف الذي أمرناك به. فلا والله ما امرناك ولا أمرناه الا بأمر وسعنا ووسعكم الاخذ به، ولكل ذلك عندنا تصاريف ومعان توافق الحق ولو أذن لنا لعلمتم ان الحق في الذي امرناكم به فردوا الينا الامر وسلموا لنا واصبروا لأحكامنا وارضوا بها. والذي فرق بينكم فهو راعيكم الذي استرعاه الله خلقه وهو اعرف بمصلحة غنمه في فساد امرها، فان شاء فرق بينها لتسلم ثم يجمع بينها لتأمن من فسادها وخوف عدوّها في آثار ما يأذن الله ويأتيها بالأمن من مأمنه والفرج من عنده عليكم بالتسليم والرد الينا وانتظار أمرنا وأمركم وفرجنا وفرجكم. ولو قد قام قائمنا وتكلم متكلمنا ثم استأنف بكم تعليم القرآن وشرايع الدين والاحكام والفرائض كما انزله الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم لانكر اهل البصائر فيكم ذلك اليوم انكاراً شديداً ثم لم تستقيموا على دين الله وطريقه الا من تحت حدّ السيف فوق رقابكم. ان الناس بعد نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ركب الله به سنّة من كان قبلكم فغيّروا وبدّلوا وحرّفوا وزادوا في دين الله ونقصوا منه. فما من شيء عليه الناس اليوم الا وهو منحرف عما نزل به الوحي من عند الله، فاجب رحمك الله من حيث تدعى إلى  حيث تدعى حتى يأتي من يستأنف بكم دين الله استينافاً، وعليك بالصلاة الستة والاربعين وعليك بالحج ان تهلّ بالافراد وتنوي الفسخ إذا قدمت مكة وطفت وسعيت فسخت ما اهللت به وقلّبت الحجّ عمرة احللت إلى يوم التروية ثم استأنف الاهلال بالحج مفرداً إلى منى وتشهد المنافع بعرفات والمزدلفة؛ فكذلك حجّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا امر اصحابه ان يفعلوا ان يفسخوا ما اهلوا به ويقلبوا الحج عمرة. وانما اقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على احرامه للسوق الذي ساق معه، فان السائق قارن والقارن لا يحلّ حتى يبلغ هديه محله ومحله المنحر بمنى. فاذا بلغ احلّ. فهذا الذي امرناك به حجّ التمتع فالزم ذلك ولا يضيقن صدرك. والذي اتاك به ابو بصير من صلاة احدى وخمسين والاحلال بالتمتع بالعمرة إلى الحج وما امرنا به من ان يهلّ بالتمتع فلذلك عندنا معان وتصاريف كذلك ما يسعنا ويسعكم ولا يخالف شيء منه الحق ولا يضاده والحمد لله رب العالمين»». (رجال الکشی ح 221)

والذي ضيّق صدر زرارة هو ان أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام امراه بان يصلي ستاً وأربعين ركعة في مجموع أوقات الليل والنهار، وبان يقصد بحجه حينما يريد الاحرام حج الافراد، ثم يعدل في مكة إلى عمرة التمتع ويتم حجّه؛ وامرا سائر أصحابهما بخلاف ذلك! وهو ان صلاة الليل والنهار احدى وخمسين ركعة وان حج التمتع يجب ان يبتدأ بعمرة التمتع وهكذا حدث في الكوفة انشقاق عظيم بين كبار اصحاب الائمة عليهم السلام فكان أحد جانبي الاختلاف زرارة واتباعه وكانوا يمتازون بشخصية زرارة من حيث العلم والقرب لدى الامام، والجانب الآخر سائر الأصحاب وكانوا يمتازون بالكثرة عددا، وأصبح زرارة بل آل اعين اجمعون مورد الإهانة والتكذيب وهاجمته الاقاويل من كل صوب من الشيعة بأنفسهم واضطر إلى رفع الشكوى إلى الإمام الصادق عليه السلام فأجابه بهذا الجواب.

والذي يظهر لنا من الجواب ان مصلحة الشيعة كانت تقتضي هذا الاختلاف وانه لابد من استمراره. والمصلحة العامة اهم من مشقة تحمل هذه الهجمات التي كان يواجهها زرارة وآل اعين بأجمعهم. ويظهر أيضاً ان الموضوع من الموسعات وسيجيء توضيح هذه النقطة في محله ان شاء الله تعالى.

ولكي يتضح سر الاختلاف في المسألتين نتعرض لكل منهما اجمالاً:

روى يحيى بن حبيب قال «سألت الرضا عليه السلام عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله عز وجل من الصلاة قال: ستة واربعون ركعة فرائضه ونوافله. قلت: هذه رواية زرارة قال أَو ترى احداً كان اصدع بالحّق منه؟!».  

ومن هذه الرواية يظهر ان الائمة عليهم السلام كانوا مصرين على إبقاء هذا الاختلاف بين الشيعة. ومن الروايات ما ايّدت قول معارضي زرارة.

روى البزنطي قال قلت لأبي الحسن عليه السلام «ان أصحابنا يختلفون في صلاة التطوع بعضهم يصلي أربعاً وأربعين وبعضهم يصلي خمسين، فأخبرني بالذي تعمل به انت، كيف هو حتى اعمل بمثله؟ فقال: أصلي واحدة وخمسين ركعة...» الحديث. (جامع الأحاديث ج 2 ص 35 ح 257)

وقد يتوهم ان كلمة خمسين سهو في كلام الراوي وانّ كلمة احدى ساقطة. ولكن الظاهر انه من باب تدوير العدد اي ذكر العدد التقريبي. نعم لا يبعد ان يكون ذكر الاربع والاربعين سهواً فان الصحيح ست وأربعون. وهذه الرواية تدل أيضاً على بقاء الاختلاف إلى زمان الامام الرضا عليه السلام ويلاحظ انه عليه السلام أمر يحيى بن حبيب – بناءً على نقله – بصلاة ست وأربعين وأخبر البزنطي – على هذا النقل – بانه يصلي احدى وخمسين ركعة وهذا مما يؤيد أيضاً اصرارهم على بقاء الاختلاف.

والسرّ في ان كلا الطرفين على حقّ ان مورد الاختلاف من الموسعات وهو صلاة النافلة. فكل من العددين مستحب الا انّ العدد الاقلّ آكد استحباباً.

ولا يمكن حمل احدى الطائفتين من الروايات على التقية لعدم موافقتهما شيئاً من مذاهب العامة وهم أيضاً مختلفون في ذلك فالمستفاد من التذكرة انها عند أبي حنيفة اثنتان وعشرين ركعة ويجوز الاقتصار على ثمانية عشرة منها وعند احمد عشر ركعات وللشافعي ثلاثة اقوال عدّها في احدها ثماني ركعات وفي الآخر عشر ركعات وفي الثالث ثماني عشرة ركعة (التذكرة ج 1 ص 71). وذكر الشيخ قدس سره في الخلاف اقوالاً اخر لهم (الخلاف ص 76 الطبعة القديمة مسألة 266).  وقال السيد في الانتصار: «ومما انفردت به الامامية ترتيب صلاة الاحدى والخمسين في اليوم والليلة على الوجه الذي رتبوه وبينوه لان باقي الفقهاء لا يعرف ذلك الترتيب» (الانتصار ص 50 ط النجف).

وأما مسألة الحج فلابد ان نلاحظ الروايات لنرى مدى تأثير هذا الاختلاف في المجتمع آنذاك.

روى الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن جميل بن دراج وابن ابی نجران عن محمد بن حمران جميعاً عن اسماعيل الجعفي قال «خرجت انا وميسر وأناس من أصحابنا فقال لنا زرارة: لبّوا بالحج! فدخلنا على ابي جعفر عليه السلام فقلنا له: اصلحك الله انا نريد الحج ونحن قوم صرورة او كلنا صرورة فكيف نصنع؟ فقال: لبّوا بالعمرة. فلما خرجنا قدم عبد الملك بن اعين فقلت له: ألا تعجب من زرارة قال لنا: لبّوا بالحج وان ابا جعفر عليه السلام قال لنا: لبّوا بالعمرة فدخل عليه عبد الملك بن اعين فقال له: انّ اناساً من مواليك أمرهم زرارة ان يلبّوا بالحجّ عنك وانّهم دخلوا عليك فامرتهم ان يلبّوا بالعمرة؟ فقال ابو جعفر عليه السلام: يريد كل انسان منهم ان يسمع على حدة اعدهم عليّ فدخلنا فقال: لبّوا بالحج فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبّى بالحج». (الوسائل ج 9 ص 29 ب 21 من الاحرام ح 3)

وروى حمران بن اعين قال «سألت أبا جعفر عليه السلام عن التلبية فقال لي: لبّ بالحج فاذا دخلت مكة طفت بالبيت وصلّيت واحللت». (الوسائل ج 9 ص 31 ب 22 من الاحرام ح 2) 

ومنه يعلم ان الامر الذي صدر لزرارة صدر لأخيه حمران ايضاً، وهكذا اجتمع آل اعين على طريقة واحدة.

ورواية اسماعيل منقولة عن عبد الملك بنحو آخر وفيها يقول «فلما خرجوا من عنده دخلت عليه فقلت جعلت فداك: لئن لم تخبرهم بما اخبرت به زرارة لنأتين الكوفة ولنصبحّن بها كذّاباً. فقال: ردّهم عليّ فدخلوا عليه فقال صدق زرارة اما والله لا يسمع هذا بعد هذا اليوم احد منّي». (الوسائل ج 8 ص 176 ب 3 من أقسام الحج ح 19)

وبقي هذا الاختلاف بين الأصحاب بعد زرارة أيضاً. ففي رواية اسحاق بن عمار قال: «قلت لابي ابراهيم عليه السلام «ان أصحابنا يختلفون في وجهين من الحج يقول بعض: احرم بالحج مفرداً فاذا طفت بالبيت وسعيت بين الصفا والمروة فاحلّ واجعلها عمرة، وبعضهم يقول: احرم وانو المتعة بالعمرة إلى الحج ايّ هذين احبّ اليك؟ قال: انو المتعة»». (الوسائل ج 9 ص 28 ب 21 من الاحرام ح 1)

وفي صحيحة حمران بن اعين قال «دخلت على ابي جعفر عليه السلام فقال لي بما اهللت؟ فقلت بالعمرة. فقال لي أفلا اهللت بالحج ونويت المتعة، فصارت عمرتك كوفية وحجتك مكية، ولو كنت نويت المتعة واهللت بالحج كانت حجتك وعمرتك كوفيتين». (الوسائل ج 9 ص 28 ب 21 من الاحرام ح 5)

وفي هذه الرواية تأكيد لما أمر به زرارة وتعليل له وهو انّ الاهلال لو كان بالحج كانت العمرة والحج كوفيتين اي بلديين وهو أفضل من الحج والعمرة الميقاتيين.

ولكي نتمكن من دراسة هذه المسألة بصورة اجمالية لابد من مراجعة آراء العامة والفقهاء المعاصرين للائمة عليهم السلام والظاهرة الاجتماعية لهذه المسألة:

لا اشكال ولا خلاف بين العامة والخاصة في مشروعية حج التمتع بان يحرم الحاجّ للعمرة ويحلّ بعدها ثم يحرم للحج. وانما خالف في ذلك عمر ولعله لأجل تشدده في بعض أمور الدين كما قيل. او لأغراض سياسية ولعل السرّ فيه خشية ان يختلط الحجاج الأجانب على كثرتهم باهل مكة فيما بين العمرة والحج، وهم محلّون لا يتميزون عن اهل مكة، فيصعب مراقبتهم. ولا يبعد ان يكون بعض الطوائف في ذلك العهد تحت مراقبة السلطة لكثرة المعارضات السياسية هنا وهناك. فأراد عمر بمنع حج التمتع سدّ هذه الفرجة بان يكون الحجاج الأجانب متميزين عن اهل مكة بالإحرام فيتمكن المأمورون من مراقبتهم.

ولكن هذا المنع لم يوافقه الصحابة ابداً بعد عمر خلافاً لكثير مما اسسه فاجمع فقهاء الأمة على مشروعية حج التمتع الا ان محلّ النقاش بين العامة والخاصة هو جواز العدول عن حج الافراد إلى العمرة المتمتع بها إلى الحج.

قال ابن رشد «وَهُمَا نَوْعَانِ مِنَ التَّمَتُّعِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمَا: أَحَدُهُمَا: فَسْخُ الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ، وَهُوَ تَحْوِيلُ النِّيَّةِ مِنَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ: فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَفُقَهَاء الْأَمْصَارِ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُدُ. وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَمَرَ أَصْحَابَهُ عَامَ حَجَّ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ –: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً». وَأَمْرُهُ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَفْسَخَ إِهْلَالَهُ فِي الْعُمْرَةِ، وَبِهَذَا تَمَسَّكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَالْجُمْهُورُ رَأَوْا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَدَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَسْخٌ لَنَا خَاصَّةً؟ أَمْ لِمَنْ بَعْدَنَا؟ قَالَ: لَنَا خَاصَّةً». وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ صِحَّةً يُعَارَضُ بِهَا الْعَمَلُ الْمُتَقَدِّمُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا: مُتْعَةُ النِّسَاءِ، وَمُتْعَةُ الْحَجِّ» وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: مُتْعَةُ الْحَجِّ كَانَتْ لَنَا وَلَيْسَتْ لَكُمْ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: مَا كَانَ لِأَحَدٍ بَعْدَنَا أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ يَفْسَخُهُ فِي عُمْرَةٍ». (بداية المجتهد ج 2 ص 98 الموسوعة الشاملة)

ونستنتج من هذا الكلام ان البحث الفقهي في هذه المسألة كان تحت تأثير بعض العوامل الاجتماعية فكان المانعون هم الصدر الأول وفقهاء الامصار اي الائمة الثلاثة ما عدا احمد. وكان سبب المنع على ما يظهر من الكلمات المنقولة هو الاصرار على اعتبار عمل الاصحاب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الحج مزيّة خاصة لهم تضاف إلى قائمة فضائلهم ومناقبهم الموضوعة وغير الموضوعة.

ومن هنا يمكن ان يقال ان اصرار الامام عليه السلام على ان يعمل زرارة بهذا النحو لعلّه لمنع ثبوت هذه المزية للصحابة وبيان ان كلا الأمرين جائز، وانما خصوا زرارة بذلك وكلّفوه هذه المخالفة لمقامه العلمي الشامخ في الكوفة ولمركزه الاجتماعي المرموق بين الشيعة، فأرادوا بذلك تقوية هذه المخالفة بحسب الصورة والظاهر.

فتحصل من مجموع ما ذكرناه ان الائمة عليهم السلام كانوا يلقون الاختلاف بين الشيعة في بعض الاحكام التي لها ظاهر شكلي، وهي في الواقع من الموسّعات التي لا مانع من الاخذ بكل من طرفيها وكان لهم في ذلك مقاصد واغراض اجتماعية، منها التحفظ على الشيعة بان لا يعرفوا فيؤخذ برقابهم.

هذا وقد ذكر صاحب الحدائق ايضاً ان من اسباب اختلاف الحديث القاء الائمة الخلاف بينهم للتقية. وناقش في ذلك الشيخ الانصاري فقال فيما قال: «واستشهد (اي صاحب الحدائق) على ذلك بأخبار زعمها دالّة على ان التقية كما يحصل ببيان ما يوافق العامة كذلك يحصل بمجرد القاء الخلاف بين الشيعة كيلا يعرفوا فيؤخذ برقابهم. وهذا الكلام ضعيف لان الغالب اندفاع الخوف بإظهار الموافقة مع الاعداء، واما الاندفاع بمجرد رؤية الشيعة مختلفين مع اتفاقهم على مخالفتهم فهو وان أمكن حصوله احياناً لكنه نادر جداً..». إلى آخر كلامه. (الرسائل ط رحمت الله ص 466)

وقد تبين من خلال ما قدمناه أنّ الرّقابة الشديدة على الشيعة كانت تستدعي الحذر الشديد من الوقوع في الفخّ، وانّ من انحاء تضليل المراقبين هو تخالف الجماعة بعضها مع بعض، بحيث يعتقد الناس ان كلا منهم يعمل برأيه ولا يتبعون مركزاً توجيهياً واحداً. وبذلك تندفع التهمة عنهم أولاً باتباع ائمة اهل البيت اعداء البلاط العباسي وكل بلاط ظالم. وتندفع التهمة ثانياً عن ائمة أهل البيت عليهم السلام عند أصحاب الجرح والتعديل من العامة فان من الواضح لمن راجع كتبهم في الجرح والتعديل انهم يقدحون في من يخالف جمهورهم وخصوصاً في الآراء التي لها جوانب اجتماعية يقدحون في من يخالفهم قيد انملة، فكيف بهذه التعاليم الوسيعة العريضة التي القاها الامامان الصادقان عليهما السلام ونشراها بين الشيعة فكان المخرج الوحيد لهما هو تخالف اصحابهما فيظن أصحاب الجرح والتعديل انّ هؤلاء انما يكذبون على ائمتهم ويعملون بآرائهم. ومن هنا بقيت قدسية الامام الصادق عليه السلام عند هؤلاء لا يمسّها شيء.

هذا. مضافاً إلى ان اظهار الموافقة مع الأعداء وكتمان الواقع عنهم لا يكفي في صدّ هجماتهم. وذلك من جهتين:

الجهة الأولى: ان ذلك انما يفيد في الجمعيات المنظمة والملتزمة بإرشادات زعمائها بشرط ان يكون الأعضاء كلهم ذوي بصيرة واحتياط. واما في طائفة كبيرة كالشيعة خصوصاً في زمان الامام الصادق عليه السلام حيث انتشر التشيع فلا يمكن ضبطها والمحافظة عليها بإظهار الموافقة مع الأعداء فقط بل لابد من ان يكون الاحتياط جذرياً بان يؤمر كلّ فرقة منهم بأمر الزامي بحيث يعتبر وظيفته العملية طول الحياة.

الجهة الثانية: أن الذي يؤمر بالتقية قد يغفل عن وظيفته الوقتية الصادرة عن التقية حتى لو كان من كبار رجال السياسة وكثيراً ما ألقي القبض على المعارضين بفلتات لسانهم واشتباههم في الاعمال الجزئية. ولذلك كان اللازم لحفظ الشيعة جعل الوظيفة الاساسية في بعض الموارد مبنية على التقية وسيأتي قريباً ان شاء الله تعالى قضية داود الزربي ووضوئه الذي نجّاه مع غفلته عن المراقبة العباسية.

1.1.3.2.1.3السبب الثالث: التقية

السبب الثالث من اسباب الكتمان: التقيّة، والمراد بها اظهار خلاف المعتقد خوفاً من ضرر العدوّ. والكلام يقع في امرين:

الأمر الأول: في بيان صدور بعض الأوامر من الائمة عليهم السلام من باب التقية وبيان دواعي التقية فيها.

الأمر الثاني: في ان ذلك هل اثّر في اختلاف الأحاديث التي بأيدينا أم لا؟

اما في الامر الأول فلا اشكال في وقوع التقية في فتاوى اهل البيت عليهم السلام في الجملة بل أمروا بعض أصحابهم أيضاً برواية تلك الفتاوى. كما ورد في رواية ابي العباس البقباق قال «دخلت على ابي عبد الله عليه السلام فقال لي ارو عنّي ان من طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد فقد بانت منه». (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 1 ح 327)

فيتبين منها ان مصلحة وقتية كانت تقتضي الافتاء بذلك بل نشره اجمالاً مع انه لا اشكال عند الشيعة عدم حصول البينونة بهذا الطلاق.

وروى الكليني عن محمد بن يحيى، عن احمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن ابي عمرو الكناني قال: قال ابو عبد الله عليه السلام «يا ابا عمرو أرأيت لو حدثتك بحديث او افتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت اخبرتك، او افتيتك بخلاف ذلك، بايّهما كنت تأخذ قلت بأحدثهما وادع الآخر فقال قد اصبت يا ابا عمرو ابى الله الا ان يعبد سرّاً أما والله لئن فعلتم ذلك انه لخير لي ولكم وابى الله عز وجل لنا ولكم في دينه الا التقية». (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 67 ح 462)

وابو عمرو الكناني لم يوثق الا ان صاحب الوسائل نقله عن محاسن البرقي عن ابيه عن ابن ابي عمير عن هشام بن سالم عن ابي عبد الله عليه السلام (راجع الوسائل ج 11 ص 462 ب 24 من الامر والنهي ح 10 وح 11 وذيلها والتعليقة)

ولكن المعلّق على الوسائل لم يجده في المحاسن. والظاهر ان لجنة جامع الأحاديث لم تجده أيضاً فيه. ولذا رووها عن البرقي بتوسط الوسائل، ولعل نسخ المحاسن مختلفة. وعلى تقدير وجود الرواية كذلك في المحاسن فلا يبعد سقوط الواسطة فيها.

وروى ابو عبيدة عن ابي جعفر عليه السلام قال: قال لي «يا زياد ما تقول لو افتينا رجلاً ممن يتولانا بشيء من التقية؟ قال قلت له: انت اعلم جعلت فداك. قال: ان اخذ به فهو خير له وأعظم اجراً. (وفي رواية اخرى) ان اخذ به أُجر وان تركه والله أثم». (الوسائل ج 18 ص 76 ب 9 من صفات القاضي ح 2)

دواعي التقية وأسبابها:

السبب الأول: التحفظ على حياة الراوي او عِرضه أو ماله. وذلك فيما إذا كان المستفتي في معرض مراقبة السلطات او الجمعيات المعارضة لأهل البيت عليهم السلام وكان غافلاً عن مراقبتهم أو لا يعلم بوجوب التقية في هذا المورد وكان امتثال الحكم الواقعي موجباً لهلاكه او وقوعه في حرج شديد. والحكم في هذا المورد حكم اضطراري موقت يرتفع بارتفاع موضوعه وهو التقية. والملاحظ ان الائمة عليهم السلام كانوا ينبهون المستفتين بعد ارتفاع التقية عنهم.

وهكذا التحفظ على حياة عموم الشيعة او جماعة خاصة منهم في مثل هذه الموارد.

روي ان ابا عبد الله عليه السلام كتب بهذه الرسالة إلى اصحابه «بسم الله الرحمن الرحيم. اما بعد فاسألوا ربكم العافية (إلى ان قال عليه السلام) دعوا رفع ايديكم في الصلاة الا مرة واحدة حين تفتتح الصلاة فان الناس قد شهروكم بذلك والله المستعان ولا حول ولا قوة الا بالله». (جامع الأحاديث ج 2 ص 273 ص 2509)

وروى داود بن زربي قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الوضوء. فقال لي توضأ ثلاثاً. قال ثم قال لي: الست تشهد بغداد وعساكرهم قلت بلى؟ قال فكنت يوماً اتوضأ في دار المهدي فرآني بعضهم وانا لا اعلم به فقال: كذب من زعم أنك فلانيّ (اي جعفريّ) قال: فقلت: لهذا والله أمرني». (الوسائل ج 1 ص 311 ب 32 من الوضوء ح 1)

وقد روي هذه القضية بصورة أخرى في داود بن زربي ورواها داود الرقي. كما ان نظيرها روي في علي بن يقطين. (الوسائل نفس الباب ح 2 و 3)

وروى سلمة بن محرز ولا يبعد وثاقته لانه من مشايخ ابن ابي عمير قال «قلت لابي عبد الله عليه السلام: ان رجلاً مات واوصى اليّ بتركته وترك ابنته قال فقال لي: اعطها النصف. قال فأخبرت زرارة بذلك فقال لي. اتقاك إنما المال لها. قال فدخلت عليه بعد فقلت: اصلحك الله ان أصحابنا زعموا أنك اتقيتني فقال: لا والله ما اتقتيك ولكني اتقيت عليك ان تضمن فهل علم بذلك أحد؟ قلت: لا قال: فأعطها ما بقي». (الوسائل ج 17 ص 442 ب 4 من ميراث الأبوين ح 3)

ومنشأ التقية ان العامة يزعمون ان النصف الآخر للعصبة فخشي الامام – عليه السلام – عليه من العصبة ان يرفعوا أمره إلى الحاكم فيلحق به اذىً كما يقتضيه ظاهر الحديث.

وروى عبد الله بن محرز بياع القلانس قال «اوصى الي رجل وترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم وترك ابنة وقال لي عصبة بالشام فسألت أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك فقال: اعط الابنة النصف والعصبة النصف الآخر فلما قدمت الكوفة اخبرت أصحابنا فقالوا اتقاك فأعطيت الابنة النصف الآخر ثم حججت فلقيت أبا عبد الله عليه السلام فأخبرته بما قال أصحابنا واخبرته أني دفعت النصف الآخر إلى الابنة فقال: أحسنت انما افتيتُك مخافة العصبة عليك» (الوسائل ج 17 ص 445 ب 5 ميراث الأبوين ح 4)

وروي هذه الواقعة بوجه آخر عنه (راجع نفس الباب ح 7).

وكل هذه الموارد ونظائرها حكم موقت صدر تقية ويرفع بارتفاع موضوعه كما لوحظ في الروايات.

السبب الثاني: اتقاء الإمام على نفسه وهو في ثلاث موارد:

المورد الأول: ان يكون السائل منتمياً إلى مدرسة معارضة أو إلى السلطة أو لا يعتقد بإمامة الامام كيف ما كان فسؤاله ليس لاستفهام الحكم الواقعي. وإنما يسأل لإحراج الامام أو للاطلاع على اسراره. وفي مثل ذلك يجيبه الامام برأي ائمته فيأمن شره. وكان هذا متداولاً عند الائمة بل عند أصحابهم أيضاً فكانوا يأمرونهم بالإفتاء بالتقية.

المورد الثاني: ان يضم مجلس السؤال أحداً من هذا النمط فيلاحظه الامام ويجيب بالتقية وان كان السائل من مواليه.

المورد الثالث: ان يكون السائل غير قادر على التحفظ ويكون الاعلام في مورد الاستفتاء لا يخلو من محذور اجتماعي. وقد عقد في الوسائل والوافي باباً يشتمل على روايات كثيرة في المنع عن اذاعة السّر.

روى أبو بصير قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن حديث فقال: «هل كتمت عليّ شيئاً قطّ فبقيت اتذكر فلما رأى ما بي قال: أما ما حدثت به أصحابك فلا بأس إنما الاذاعة ان تحدث به غير أصحابك». (الوسائل ج 11 497 ب 34 من أبواب الامر والنهي ح 21)

والاحكام التي تعتبر من الاسرار هي التي ليس لها دليل واضح من الكتاب أو السنة التي يرويها العامة أيضا وأما ما يمكن الاستدلال عليه بأحدهما وإنما خالفت العامة ظاهرهما فلا يعتبر سراً.

روى زرارة قال: «قلت له: في مسح الخفين تقية؟ فقال: ثلاثة لا اتقي فيهن احداً، شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج. قال زرارة: ولم يقل الواجب عليكم ان لا تتقوا فيهن أحداً» (الوسائل ج 11 ص 469 ب 25 من أبواب الأمر والنهي ح 5)

ومما يدل على هذا النوع من التقية روايات كثيرة وفي بعضها أمرهم الأصحاب بالإفتاء تقية أيضاً. 

روى معاذ بن مسلم النحوي عن ابي عبد الله عليه السلام قال «بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت نعم واردت ان اسألك عن ذلك قبل ان اخرج اني اقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء فاذا عرفته بالخلاف لكم اخبرته بما يفعلون، ويجيء الرجل اعرفه بمودتكم فاخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا اعرفه ولا أدري من هو فأقول جاء عن فلان كذا و جاء عن فلان كذا، فادخل قولكم فيما بين ذلك: قال فقال لي: اصنع كذا فاني كذا اصنع». (الوسائل ج 11 ص 482 ب 30 من أبواب الامر والنهي ح 2 ورواه الكشي ايضا في رجاله ص 470) 

وروى ابان بن تغلب قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام «إني اقعد في المسجد فيجيء الناس فيسألوني فان لم اجبهم لم يقبلوا مني وأكره ان اجيبهم بقولكم وما جاء عنكم. فقال لي: انظر ما علمت انه من قولهم فأخبرهم بذلك» (نفس الباب ح 1).

وفي رواية زرارة حول صحيفة الفرائض التي مر ذكرها «وكانت ساعتي التي كنت اخلو به بين الظهر والعصر وكنت اكره ان اسأله الا خاليا خشية ان يفتيني من أجل من يحضره بالتقية». (الكافي ج 7 ص 94 ط طهران)

ثم ان الروايات التي تصدر تقية عن نفس السائل لا يؤثر في اختلاف أحاديثنا. اذ لا يرويها رواتنا ولعلّ ما نقل في كتب العامة مما اسند إلى الائمة عليهم السلام بخلاف ما نرويه عنهم من هذا القبيل.

السبب الثالث: اتقاء الامام عن الأحكام التي تعارض رأي السلطة في ايام قدرتها. وفي مثل ذلك كان الامام يبين الحكم الواقعي بعد ان تفقد السلطة قدرتها اما بالانتقال إلى سلطة اخرى أو لاشتغالها بمشاكلها.

روى الحلبي (والسند معتبر) قال قال أبو عبد الله عليه السلام «كان ابي عليه السلام يفتي وكان يتقي – ونحن نخاف – في صيد البزاة والصقورة وأما الآن فانا لا نخاف ولا يحل صيدها إلا ان تدرك ذكاته فانه في كتاب علي عليه السلام ان الله عز وجل قال «وما علمتم من الجوارح مكلبين» في الكلاب» (الوسائل ج 16 ص 220 ب 9 من الصيد والذبائح ح 3).

وروى ابان بن تغلب قال «سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان أبي يفتي في زمن بني امية ان ما قتل البازي والصقر فهو حلال وكان يتقيهم وانا لا اتقيهم وهو حرام ما قتل». (الوسائل ج 16 ص 220 ب 9 من الصيد والذبائح ح 12)

ويمكن ان يستشهد بمقبولة عمر بن حنظلة بلحاظ ذكر السلطان والقضاة بتقريب سيأتي في محله. وهذا النوع من التقية موقت ايضاً يزول بزوال موضوعه وهو قدرة السلطان وكان الامام يبين ذلك.

السبب الرابع: مخالفة الحكم لفتاوى العامة إذا كان الحكم الشرعي الواقعي حكماً ترخيصياً وكانت العامة تفتي بحكم الزامي فيها. فكان الائمة عليهم السلام في مثل ذلك يتقون الرأي العام مخافة اتهامهم بالاستخفاف في دين الله، كما ان العلماء ايضاً قد لا يفتون بالترخيص في بعض المسائل التي اصبحت الذهنية العامة موافقة للإلزام فيها.

وقد ذكرنا فيما سبق ابتلاء الائمة عليهم السلام بالغلاة حيث كانوا ينسبون أنفسهم إليهم وكانوا من الاباحية. فلو افتى الامام بحكم ترخيصي خلافاً لما عليه المشهور تشبث به اصحاب الاهواء و الأعداء الذين في قلوبهم مرض فأيدوا به انتساب الغلاة إليهم. ولعل من ذلك الحكم بنجاسة الخمر فانه لم يقل بطهارته أحد من العامة، الاّ ربيعة. فمن المحتمل ان يكون حكم الامام بنجاسته ناشئاً عن التقية.

وقد روي عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال في حديث لعن فيه مغيرة بن سعيد واتباعه من الغلاة «وها انا ذا بين اظهركم لحم رسول الله وجلد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابيت على فراشي خائفاً وجلاً مرعوباً يأمنون وأفزع وينامون على فرشهم وانا خائف ساهر وجل اتقلقل بين الجبال والبراري ابرأ إلى الله مما قال فيّ الاجدع البراد عبد بني اسد ابو الخطّاب لعنه الله...» الحديث (رجال الكشي ح 403).

و كان منشأ خوف الامام هو خشية اتهامه بالارتباط مع هؤلاء الغلاة حيث كانت السلطة الغاشمة والجماعات المعارضة للائمة عليهم السلام يتربصون بهم الدوائر ويتوسلون بكل ذريعة للوقيعة فيهم وإلصاق التّهم بهم.

وفي كشف القناع للمحقق التستري عن محمد بن مروان قال: «سألت ابا عبد الله عليه السلام فأبى ان يجيبني فقلت: رحم الله ابا جعفر عليه السلام فقال: رحمة الله على ابي جعفر اما والله كان ابي يقول: يا بني والله يمنعني النوم اهل العراق على فراشي ليحسبك يا محمد فيما بينك وبين الله» (كشف القناع ص 76).

وانما منعه النوم اهل العراق لإذاعتهم اسرار الائمة عليهم السلام بل لكثرة الكذب عليهم. وقد روى المفضل رواية مفصلة (المستدرك ج 3 ص 566) حول هذا الموضوع تدل على ان بعض الغلاة كانوا ينسبون إلى الائمة القول بان الدين انما هو معرفة الرجال ثم بعد ذلك إذا عرفتهم فاعمل ما شئت. وان الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحج والعمرة والمسجد الحرام والبيت الحرام والمشعر الحرام والشهر الحرام هو رجل وان كل فريضة افترضها الله على عباده هو رجل وان من عرف ذلك الرجل فقد اكتفى بعلمه من غير عمل وان الفواحش التي نهى الله عنها هو رجل ايضاً. إلى آخر ما ذكروه من الخرافات المضحكة ونسبوها إلى الائمة الطاهرين عليهم السلام ويقول الامام بناء على هذا الحديث ان من كان يدين بهذه الصفة فهو عندي مشرك بالله تعالى بيّن الشرك لا شك فيه. والحديث طويل جداً نقلنا بعض عباراته بالمعنى.

ولم يكن قصد الغلاة من جعل هذه الأكاذيب نشر الزندقة فحسب، وانما كانت لهم مقاصد واغراض سياسية ثورية، حيث كان من اغراضهم قلب نظام الحكم الإسلامي. ولأجل هذا الغرض كانوا يضعون هذه الأحاديث المحرضة على معرفة القائد ومتابعته وترك الشؤون الدينية الظاهرية. ومن هؤلاء تشعبت القرامطة الذين قتلوا الحجاج في المسجد الحرام وسفكوا دماء الأبرياء من النساء والاطفال و سرقوا الحجر الأسود إلى غير ذلك من مفاسدهم وشرورهم.

والحاصل ان هذه التهمة كانت تستوجب على الائمة عليهم السلام في ذلك العهد اجتناب كثرة الترخيص في الاحكام خشية ان يلصق بهم تهمة الموافقة لهؤلاء الاباحية.

الامر الثاني: في ان التقية هل اثرت في الاخبار الموجودة في جوامع الشيعة التي بأيدينا اثراً بارزاً بحيث يكون الحمل على التقية اقوى المحتملات في موارد تخالف الاحاديث ام ليس لها دور هام في رفع اختلاف الاحاديث؟

لقد أنكر بعض اعاظم الشيعة ان تكون التقية احتمالاً راجحاً في موارد اختلاف الأحاديث. وعلى هذا الأساس أنكروا كون الحديث مخالفاً للعامة أحد المرجحات في باب التعارض. ومنهم الشيخ المفيد والمحقق قدس سرهما.

قال في المعالم: «وحكى المحقق عن الشيخ انه قال: إذا تساوت الروايتان في العدالة والعدد، عمل بابعدهما من قول العامة. ثم قال المحقق: والظاهران احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه السلام وهو اثبات لمسألة علمية بخبر الواحد، ولا يخفى عليك ما فيه. مع انه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره. فان احتج بان الابعد لا يحتمل الا الفتوى والموافق للعامة يحتمل التقية فوجب الرجوع إلى ما لا يحتمل. قلنا: لا نسلم انه لا يحتمل الا الفتوى لانه كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الامام كذلك يجوز الفتوى بما يحتمل التأويل مراعاة لمصلحة يراها ويعلمها الامام وان كنا لا نعلمها فان قال: ذلك يسد باب العمل بالحديث. قلنا انما نصير إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع من العمل لا مطلقا. فلا يلزم سدّ باب العمل» (معالم الأصول ص 255).

ولعل الوجه فيما ذكره من منع اثبات مسألة علمية بخبر الواحد ان حجية خبر الثقة – بناءاً على حجيته – انما هو لبناء العقلاء عليها والظاهر ان بناءهم كما يتوقف على وثاقة الشخص يتوقف ايضاً على ملاحظة مضمون الخبر فان كان مضمونه على درجة كبيرة من الأهمية كما إذا كان يشكل تأسيس قاعدة كلية تتفرع عليها فروع كثيرة او يهدم أساساً عقلائياً هاماً لا يعتمدون على خبر الواحد وان كان ثقة.

وقوله «كذلك يحتمل الفتوى بما يحتمل التأويل مراعاة لمصلحة يراها ويعلمها الامام» كلام جيّد متين وذلك لان اسباب الكتمان لا تنحصر في التقية وقد ذكرنا بعضاً منها وسنذكر بعضاً آخر ان شاء الله تعالى.

وقال المفيد «ان الذي يروى منهم على سبيل التقية لا ينقله جمهور ثقاتهم ولا يعمل به أكثر علمائهم وانما ينقله الشكاك من الطوائف ويروونه خصماؤهم في المذاهب ويرد على الشذوذ دون التواتر» (جوابات اهل الموصل ص 48).

وتقريب مرامه ان العظماء والزعماء في الدين او السياسة كثيراً ما يتكلمون بخلاف مقاصدهم لإيهام المخاطب وتضليله عن مقاصده ويتوهم الاباعد الذين يسمعون هذا الخبر انه صادر عن عقيدة وجدّ. ولكن الجماعة المختصين به المطلعين على اسراره ومناهجه الخاصة يعلمون انه صادر لا على وجه الجد وبيان الواقع فلا يشتبه عليهم الامر ولا يروون الخبر في ضمن البيانات الصادرة للتطبيق العملي. وعليه فالأخبار الصادرة عن الائمة عليهم السلام تقية لا يتداولها ثقات الرواة وأكابرهم. ومن هنا نجد في بعض الروايات تنبه الرواة المختصين بالأئمة لهذا الموضوع.

ففي رواية سلمة بن محرز المتقدمة انه أخبر زرارة بما افتاه الامام في مسألة توريث البنت الواحدة بإعطائها النصف. فقال له زرارة: اتقاك، إنما المال لها. ومثله في رواية عبد الله بن محرز حيث أخبره الاصحاب بان الامام اتقاه. ومن الامثال المعروفة بينهم قولهم: «اعطاك من جراب النورة» كانوا يقولونه لمن اُفتي بالتقية.

نعم يخفى ذلك على معتنقي سائر المذاهب ولذلك نرى الاخبار المخالفة لمذهب الشيعة فروعاً أو اصولاً ينقل عن الائمة في كتب العامة نظير ما رووا عن الصادق عليه السلام انه قال «اولدني أبوبكر مرتين». وغير ذلك في العقيدة والفقه ما يوافق مذهبهم. ولا نجد هذه الاخبار مذكورة في كتبنا الاّ ما يتسرب أحياناً من كتبهم ويظهر ذلك غالباً بملاحظة المدارك.

ومن هنا نجد ان الروايات التي وردت تقية للتحفظ على الراوي لم يمض وقت طويل عليها الا وبُيّن له الحقّ بعد زوال موضوع التقية وهو الخوف على الراوي من اعتداء السلطات أو غيرها. واما ما يصدر تقية عن السائل فلا يرويه غالباً إلا نفسه وهو ليس من الثقات بالطبع وإلا لم يكن وجه للتقية فلا يختلط بالروايات المروية عن الثقات. ونجد أيضاً ان اكابر الرواة كانوا يحترزون عن السؤال في المجالس العامة خشية الافتاء بالتقية. وقد مرّ حكاية زرارة انه كان يدخل على الامام الباقر عليه السلام بين الظهر والعصر. وهذا امر متداول في المسائل المهمة مع مراقبة الاعداء.

واما ما يصدر تقية من السلطة الغاشمة فهي أحكام وقتية يعلن خلافها بعد ارتفاع الخوف وضعف السلطات او انقلاب نظام الحكم، كما حدث في افتاء الامام الباقر عليه السلام بجواز الاكل من صيد البزاة والصقور. وأعلن الامام الصادق عليه السلام بعد زوال الحكم الاموي انه حكم صادر تقية، وان صيدها محرم، مع ان هذا النوع من التقية تختص بأحكام معارضة لأعمال الحكام.

وكذلك الاحكام الصادرة تقية بملاحظة الاحتراز من الصاق تهمة الارتباط بالملاحدة والغلاة والاباحية فان هذه الاحكام أيضاً وقتية يعلن خلافها غالباً بارتفاع المشكلة.

والحاصل ان هذه الأسباب ليست مما تخفي وجه صدور هذه الاخبار عن اكابر الرواة وفقهاء الأصحاب الذين كرسوا حياتهم في فهم اخبار الائمة عليهم السلام ودراستها وتحليلها واستنباط الاحكام الواقعية منها وتدوينها في الجوامع المخصّصة لها كـ جوامع الآثار ليونس بن عبد الرحمن و نوادر ابن ابي عمير و كتب صفوان بن يحيى وغير ذلك من جوامع الشيعة واصولها الاصلية التي تفرعت منها الأصول الأربعة التي بأيدينا اي الكافي و التهذيب و الاستبصار و من لا يحضره الفقيه. وهذه الجوامع كانت تقابل وتدرس وتنقل بمرأى من الائمة وسمع. فمن المستغرب جداً ان يشتبه الامر على هؤلاء مع مراجعتهم للائمة عليهم السلام وعرض الروايات المشبوهة عليهم واحترازهم عن الروايات الصادرة تقية.

هذا ما يستفاد من كلام المفيد قدس سره. ويمكن ان نؤيد هذا الاستغراب بانه من البعيد ان تختص التقية بالأحكام الفرعية غير المهمة وغير المؤثرة في أسس الفقه الشيعي فضلا عن عقائدهم. فانا لا نجد للتقية اثراً في الاخبار الصادرة او المروية في عقائد الشيعة. وفي مطاعن أعداء أهل البيت و أصول الكافي مشحونة بالأخبار التي يستوحش من صراحتها بعض الشيعة أيضاً، فكيف بغيرهم من تصريح بمطاعن الأعداء أو فضائل أهل البيت وخصوصاً ما ورد في بدو الخليقة ومقاماتهم النورية في ما وراء الطبيعة وفضائل الشيعة وتقديس الأماكن الخاصة بأهل البيت وغير ذلك من خصائص الشيعة.

وكذلك في أصول المسائل الفقهية كالمتعة والمسح في الوضوء وبطلان العول والتعصب وغير ذلك من منفردات الامامية التي خصّص لها المؤلفات كـ انتصار السيد المرتضى و الإعلام للشيخ المفيد فنجدها واصلة الينا بلا تقية. وإنما تقلصت التقية واختصت ببعض المسائل الفرعية غير الأساسية.

هذا، ومما يبعّد احتمال التقية ان هناك من الاخبار المتعارضة ما عرضت على الائمة المتأخرين عليهم السلام ولم يرد في شيء منها التنبيه على ان أحد الخبرين صادر تقية، وإنما عُلّل الاختلاف بأمور اخر ما عدا التقية.

أضف إلى ذلك ان الاختلاف لم يكن مختصاً بما بين علماء العامة وائمة أهل البيت عليهم السلام اذ لم يكن علماء العامة متفقين على رأي واحد في المواضيع المختلفة بل كان بينهم الاختلاف الشديد حتى أدّى ذلك إلى طعن كل واحد في الآخر، ومخاصمة كل فرقة للأخرى، حتى كتب كل من أنصار احدى مدارسهم مطاعن أنصار المدرسة الأخرى بل مطاعن ائمتهم. وقد خصص الخطيب البغدادي جزءاً واحداً من تاريخه في مطاعن ابي حنيفة.

وتطورت هذه العصبية حتى أصبح لكل بلد من البلدان الثقافية الأربعة أي الكوفة والبصرة ومكة المكرمة والمدينة المنورة اذان خاص مع انه من المظاهر الإسلامية البارزة التي لا ينبغي ان يختلف فيها اثنان.

فكيف تستوجب مراعاة هؤلاء ان يخفي الامام الأحكام الواقعية عن بطانته وأصحابه؟!

مع ان بعض هؤلاء لم يتمتعوا بتأييد السلطة أيضاً بل كان بعضهم تحت الضغط الشديد كأبي حنيفة فانه كان من وجهة النظر السياسية مؤيداً لزيد بن علي عليه السلام ايام بني امية ولأبناء الامام الحسن عليه السلام ايام بني العباس. ولم تكن له عند الامام الصادق عليه السلام ايضاً منزلة او وجاهة ولم يكن يلقى أي ترحيب بل يلاحظ في روايات المنع عن العمل بالقياس ان الامام عليه السلام كان يخاطبه باحتقار وازدراء بل في بعضها انه لم يأذن له في الجلوس وهو يكرر الاستئذان (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 74 ح 514).

فمن البعيد جداً بعد هذا ان يتقي الامام ويخفي الحكم الواقعي خوفاً من الاوزاعي مفتي الشام مثلاً. وما تأثيره في المجتمع الذي كان يعيشه الامام عليه السلام؟!

ثم ان التقية إنما تكون في موارد الضرورة والخوف على النفس أو العرض أو غير ذلك من الشؤون الهامة ولا تجوز في كل شيء. وتدل على ذلك عدة روايات.

منها معتبرة زرارة عن ابي جعفر عليه السلام «التقية في كل ضرورة وصاحبها اعلم بها حين تنزل به». (الوسائل ج 11 ص 468 ب 25 من أبواب الامر والنهي ح 1) 

ومنها صحيحة الفضلاء اسماعيل الجعفي ومعمر بن يحيى ومحمد بن مسلم وزرارة قالوا سمعنا أبا جعفر عليه السلام يقول «التقية في كل شيء يضطر اليه ابن آدم فقد احلّه الله». (الوسائل ج 11 ص 468 ب 25 من أبواب الامر والنهي ح 2)

ومنها رواية مسعدة بن صدقة وفي ذيلها «فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فانه جائز». (الوسائل ج 11 ص 468 ب 25 من أبواب الامر والنهي ح 6)

اذن فالتقية مختصة بموارد الضرورة وبمقدار الضرورة لا يجوز ان تتعداها. فبالنسبة لصدور الروايات تقية انما يمكن الالتزام به في موافقة المظاهر البارزة للمذاهب المخالفة وللمشهور بين المسلمين، واما في كثير من موارد دعوى التقية في المتعارضين ليس احتمالها إلا احتمالاً موهوناً في قبال سائر المحتملات.

وربما يعد المحدث الكليني قدس سره أيضاً ممن أنكر الحمل على التقية فانه في مقدمة أصول الكافي بعد ان اشار إلى بعض المرجحات في الخبرين المتعارضين بحسب ما ورد في الاخبار العلاجية وهي موافقة الكتاب ومخالفة القوم وكون المضمون مما اجمع عليه قال: «ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا اقله ولا نجد شيئاً احوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم وقبول ما وسّع من الأمر فيه بقوله بايّما اخذتم من باب التسليم وسعكم».

فتحصل ان الاعتماد على هذا الوجه لتفسير تعارض الاخبار كما عليه دأب كثير من المتأخرين لا تساعده ملاحظة الواقع الخارجي والمجتمع الذي صدرت فيه الروايات.

نعم هناك من الروايات ما اعتبر فيها مخالفة العامة من المرجحات في الخبرين المتعارضين فلابد من ملاحظتها لعل فيها ما يدل على وجود الاخبار الصادرة تقية فيما بأيدينا من الاخبار. وقبل ذكرها نقدم مقدمة نذكر فيها انحاء الاحتمال في المراد من الامر بالمخالفة وفيها أربعة احتمالات:

الاحتمال الأول: ان يكون أمراً نفسياً بمعنى ان يكون في نفس العمل أي المخالفة المنهجية للمذاهب المعارضة لمدرسة أهل البيت عليهم السلام مصلحة واقعية تقتضي الأمر بها.

الاحتمال الثاني: ان يكون أمراً طريقياً لتحصيل ما هو أقرب إلى الواقع من بين الخبرين المتعارضين بموجب حساب الاحتمالات وذلك باعتبار ان كثيراً من آراء العامة مبتنية على أسس فاسدة كالقياس والاستحسان والاخبار غير المعتمدة ولو من جهة اشتباه الناسخ بالمنسوخ وعدم تمييز المحكم من المتشابه. وعليه فاحتمال مخالفة الواقع في الخبر الموافق لآرائهم اقوى من احتمالها في الخبر المخالف لهم فيؤخذ به من هذه الجهة.

الاحتمال الثالث: ان يكون امراً طريقياً لتحصيل الأقرب احتمالاً إلى الصدور من الائمة عليهم السلام نظراً إلى ان جمعاً من الرواة كانوا يروون عن الائمة عليهم السلام كما يروون عن غيرهم، وقد يختلط الأمر على بعضهم فيروي ما سمعه من غير الامام عن الامام. وهذا كثيراً ما يحدث في من يتعلم عند استاذين او يحضر مجلس خطيبين وهكذا. وعليه ففي الخبر الموافق للعامة احتمال ان يكون موضعاً لهذا الاشتباه بخلاف الخبر المخالف لهم.

ولهذا الاشتباه شواهد في نقل الحديث قد ذكر قسماً منها الاستاذ محمود ابو رية في كتابه «اضواء على السنة المحمدية» صلى الله عليه وآله وسلم. وله شواهد أيضاً في رواياتنا.

روى الكشي عن علي بن محمد القتيبي قال قال أبو محمد الفضل بن شاذان «سأل أبي رضي الله عنه محمد بن ابي عمير فقال له: انك قد لقيت مشايخ العامة فكيف لم تسمع منهم؟ فقال قد سمعت منهم غير انّي رأيت كثيراً من اصحابنا قد سمعوا علم العامة وعلم الخاصة فاختلط عليهم حتى كانوا يروون حديث العامة عن الخاصة وحديث الخاصة عن العامة فكرهت ان يختلط عليّ فتركت ذلك واقبلت على هذا». (رجال الكشي ح 1105)

الاحتمال الرابع: ان الحديث الموافق للعامة لا تجري فيه اصالة الجهة أي اصالة التطابق بين المراد الجدي والمراد الاستعمالي فلا يندفع احتمال صدوره تقية.

وأما الروايات فهي على أقسام أربعة:

  1. القسم الأول من الروايات:

ما ورد في الخبرين المتعارضين واشتمل على الأمر بما خالف العامة من دون التعليل بان الرشد في خلافهم. و روايات هذا القسم منقولة عن ثلاثة مصادر:

  1. كتاب عوالي اللئالي لابن ابي جمهور الاحسائي.

وسيأتي ان شاء الله تعالى في الفصل المختص بأخبار العلاج البحث عن هذا الكتاب ومجمل القول انه لا اعتماد عليه حتى ان صاحب الحدائق قدس سره مع انه من المحدثين لم يعتمد عليه وقال: انه خلط الغث بالسمين. وسيأتي ان شاء الله تعالى ان الكتب التي يسند اليها اخباره ويسندها إلى العلماء لم يثبت نسبتها إليهم. ويرويها عنه مرفوعاً إلى زرارة بن أعين.

«قال: سألت الباقر عليه السلام فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ (إلى ان قال) فقال: انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه وخذ بما خالفهم» (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 62 ح 428).

وهذه الرواية مضافاً إلى ما ذكرنا من ضعف المصدر ومضافاً إلى انها مرفوعة تشتمل على متن مستغرب. وذلك لان من البعيد ان يكون في عهد الامام الباقر عليه السلام روايات متعارضة بهذا النحو وخصوصاً بملاحظة ان يكون زرارة مع قربه من الامام قد سمع الخبرين من غيره وهما معاً مشهوران مرويان عن عدلين مرضيين موثقين كما في الرواية.

هذا. مع انها لا تدل إلا على وجوب المخالفة. وقد ذكرنا ان لها أربعة احتمالات وهي هنا تحتمل كل واحدة منها. وعلى بعض هذه الاحتمالات لا تدل الرواية على ان الخبر الموافق صادر تقية.

ولو سلّم ذلك فهي إنما تدل على وجود الاخبار الصادرة تقية في عهد زرارة ويمكن ان يدّعى كما ذكرناه ان الرواة كانوا يهتمون بعدم نقل مثل هذه الاخبار في جوامعهم المعتبرة. فلا يمكن الاستدلال بهذه الرواية وامثالها على وجود هذا القبيل من الاخبار في الجوامع التي بأيدينا.

وقد ذكرنا سابقاً ان الاصحاب كانوا يميزون الروايات الصادرة تقية، فلا يعتمدون عليها. ونقلنا حديث سلمة بن محرز وان زرارة قال له بعد سماعه من الامام فتوىً: «اتقاك». ومن المعلوم ان الائمة كثيراً ما كانوا يحدثون تقية عن مناقب بعض الصحابة ممن لا نعتقد لهم فضلاً ولم ينقل في جوامعنا من تلك الأحاديث شيئاً الا ما صرّح فيها بعد ارتفاع التقية بوجه التورية فيه او بانه صادر تقية.

  1. كتاب الاحتجاج للطبرسي.

«روي عن سماعة بن مهران قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام قلت: يرد علينا حديثان واحد يأمرنا الاخذ به والآخر ينهانا عنه قال: لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله عنه. قال قلت: لابد من ان نعمل بأحدهما، قال خذ بما فيه خلاف العامة»». (جامع ج 1 المقدمات ص 66 ح 458)

والرواية مرسلة كسائر مرويات الاحتجاج.

واما من حيث المتن ففي قوله: «واحد يأمرنا الاخذ به والآخر ينهانا عنه» نحو اجمال وابهام.

واما من حيث الدلالة فمفروض الرواية انه لابد من العمل بأحدهما إذا كان الامر دائراً بين محذورين فمقتضى الرواية عدم جواز الاخذ بأحدهما عملاً وتدويناً وتعليماً وفتوى الاّ إذا اضطر إلى العمل بأحدهما ولم يتمكن من التحقيق عنهما بمراجعة الامام. فلا يدل على ان سماعة كان يدوّن الروايات الصادرة تقية أو انه كان في عهده من يفعل ذلك من ثقاة الرواة، بل ربما يدل بالعكس.

ثم ان المخالفة تحتمل فيها الاحتمالات الأربعة. ولو سلم دلالتها على وجود اخبار صادرة تقية في ذلك الزمان فلا يلزم منه وجودها في جوامعنا مع كمال الاعتناء بتصفيتها عن مثل هذه الاخبار.

  1. رسالة القطب الراوندي، سعيد بن هبة الله.

وأكثر روايات هذا القسم مروية عن هذه الرسالة ولا اعتماد عليها. ولم نجد من وصلت اليه سوى صاحب الوسائل حتى العلامة المجلسي فانه ينقل رواياتها بتوسط بعض الثقات (راجع البحار ج 1 ص 142). والظاهر ان المراد به المحدث العاملي وقد كانا معاصرين ويروي كل منهما عن الآخر بإجازة. وليس لصاحب الوسائل سند إلى هذه الرسالة ولم يذكر دليلاً يعتمد عليه يثبت ان هذا الكتاب الذي وصل بيده للقطب الراوندي وبينهما مئات من السنين.

فان قلت: ان مقتضى حجية خبر الثقة الاعتماد على خبر صاحب الوسائل في اثبات نسبة الرسالة إلى القطب الراوندي.

قلت: التمسك بحجية خبر الثقة في هذا المقام يمكن ان يكون على أحد وجهين:

الوجه الأول: حجية خبر الثقة في الأمور الحسيّة.

وهي على تقدير الالتزام بها تتوقف على أحد أمرين:

  1. اثبات وجود السند ووثاقة الوسائط. والمفروض عدمه.
  2. احتمال وصولها إلى الثقة بالتواتر مع دعوى كفاية مجرد هذا الاحتمال استناداً إلى بناء العقلاء على اصالة الحسّ فيما إذا دار الامر بين كون الخبر حسيّاً أو حدسياً.

وعلى هذا البناء يكفي احتمال كون الخبر حسيّاً والمفروض ان وصول الرسالة إلى صاحب الوسائل بالتواتر غير محتمل مع ان الاصل العقلائي المذكور غير ثابت.

الوجه الثاني: حجية خبر الثقة في الأمور الحدسية.

وهي التي نعبر عنها بحجية قول أهل الخبرة. واجراؤها في المقام يتوقف على اثبات ان المحدث العاملي كان متضلعاً في معرفة كتب القدماء خبيراً بها، مطلعاً على القرائن المثبتة والنافية مع ذوق معتدل.

وهنا كلام للمحدث النوري قدس سره في المستدرك حول معلومات المحدث العاملي قدس سره في معرفة الكتب. قال في مقام الدفاع عن كتاب الجعفريات – حيث اعترض عليه بان المحدث العاملي لا ينقل عنه – كلاماً طويلاً من جملته:

«انه كغيره من الكتب المعتبرة لم يكن عنده ولو كان لنقل عنه قطعاً فانه ينقل من كتب هي دونه بمراتب من جهة المؤلف او لعدم ثبوت النسبة اليه او ضعف الطريق اليه كفضل الشيعة للصدوق وتحف العقول وتفسير فرات وارشاد الديلمي ونوادر احمد بن محمد بن عيسى والاختصاص للمفيد (الى ان قال) مع انه يتشبث في الاعتماد او النسبة بوجوه ضعيفة وقرائن خفية...». (المستدرك ج 3 ص 294) 

وهذا الكلام مؤيد ببعض الشواهد ومن هنا لا يحصل الوثوق بكونه من اهل الخبرة وان كان ثقة جليل القدر. وسيأتي ان شاء الله تعالى تفصيل البحث عن حجية روايات هذه الرسالة عند الكلام في الاخبار العلاجية.

و الروايات التي رويت في هذه الرسالة حول هذا الموضوع كالآتي:

الرواية الأولى: روى بسنده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال قال الصادق عليه السلام «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه فان لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على اخبار العامة فما وافق اخبارهم فذروه وما خالف اخبارهم فخذوه». (جامع ج 1 المقدمات ص 66 ح 452)

وتمتاز هذه الرواية بان المعروض عليه فيها ليس فتاوى العامة وإنما هو اخبارهم. ومن الواضح ان اخبارهم ليست مورداً للتقية اذ كثيراً ما يخالف علماؤهم تلك الاخبار في الفتوى. وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته: «ان ابا حنيفة بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثاً أو نحوها». (المقدمة ص 352 ط دار الفكر) 

وعليه فلابد من حمل هذه الرواية على فرض صدورها على ان المخالفة ليست لأجل احتمال التقية بل لأجل كثرة الاخبار المكذوبة في رواياتهم بحيث توجب ضعف احتمال الصدور فيما وافقها او ضعف احتمال الموافقة للواقع. ولذا نجد القائلين بحمل أكثر الاخبار المتخالفة على التقية لا يلاحظون اخبارهم بل يلاحظون فتاواهم، فالرواية ساقطة سنداً ودلالة.

الرواية الثانية: ما رواه بإسناده عن احمد بن محمد بن عيسى عن رجل عن يونس بن عبد الرحمن عن الحسين بن السّري قال قال ابو عبد الله عليه السلام «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم». (جامع ج 1 المقدمات ص 66 ح 453)

وهذه الرواية مضافاً إلى ضعف المصدر مرسلة، والحسين بن السري لم يذكر في كتب الرجال. ودلالتها أيضاً مخدوشة فان الاخذ بما خالف القوم قضية حقيقية ومقتضاها وجوب المخالفة وان اختلف القوم بلحاظ الأزمنة والأمكنة لاختلاف مجتمعاتهم في المذهب. ومن الواضح ان ذلك لا يمكن ان يكون من جهة صدور الرواية تقية فلا بد من ان يكون من جهة أحد المحتملات الثلاثة.

الرواية الثالثة: ما رواه بإسناده عن محمد بن عبد الله قال: «قلت للرضا عليه السلام كيف نصنع بالخبرين المختلفين فقال: إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه وانظروا إلى ما يوافق اخبارهم فدعوه». (جامع ج 1 المقدمات ص 66 ح 454)

وسند الرواية بعد ضعف المصدر لا يخلو من اشكال ودلالتها كسوابقها.

الرواية الرابعة: ما رواه بإسناده عن الحسن بن الجهم قال: «قلت للعبد الصالح هل يسعنا فيما ورد علينا منكم الا التسليم لكم؟ فقال: لا والله لا يسعكم الا التسليم لنا. قلت فيروى عن ابي عبد الله عليه السلام شيء ويروى عنه خلافه فبأيهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتنبه». (جامع ج 1 المقدمات ص 51 ح 316)

وهي أيضاً كسوابقها في الضعف والدلالة. ولا يخفى ان اصرار هذا الكتاب على هذا الامر مما يدعو إلى الريبة فيه فتزيده ضعفاً.

  1. القسم الثاني من الروايات:

ما دل على وجوب الاخذ بمخالف العامة من المتعارضين مع التعليل بان الرشد في ذلك.

ومن هذا القسم رواية واحدة وهي مقبولة عمر بن حنظلة المروية عن الكافي و التهذيب و الفقيه، وهي معتبرة ظاهراً. فان من يناقش فيه من حيث السند داود بن الحصين وعمر بن حنظلة وهما ثقتان ظاهراً لرواية صفوان عنهما. والرواية مفصلة سيأتي البحث عنها في الأخبار العلاجية ونحن إنما نلاحظ هذه الروايات من زاوية دلالتها على وجود الاخبار الصادرة تقية في جوامع الحديث.

«قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا (إلى ان يقول) قلت فان كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم قال: ينظر فيما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به (ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة) (لا يوجد في الفقيه) قلت: جعلت فداك! أرأيت ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة (وفي التهذيب: ان المفتيين غبي عليهما معرفة حكمه من كتاب وسنة) (وفي الفقيه ليست هذه العبارة) ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد» (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 85 ح 592 و ص 62 ح 427). الحديث.

«غبي الشيء عليه» اي خفي عنه معرفته وجهله. والظاهر ان نسخة التهذيب المشتملة على هذه الكلمة هي الصحيحة دون نسخة الكافي. اذ لا وجه للسؤال بعد معرفة الحكم من الكتاب والسنة.

ولا يمكن الاستدلال بالرواية على وجود اخبار صادرة تقية في الجوامع اذ غاية ما في الرواية الاخذ بالمخالف في فرض كون الخبرين قد ثبت صدورهما عن المعصوم، كما هو معنى المشهور على ما سيأتي ان شاء الله تعالى ولا تدل على وجود خبرين بهذا الوصف أحدهما موافق للعامة والآخر مخالف؛ وإنما هو فرض فرضه الراوي. بل من البعيد وجود خبرين بهذا الوصف مع تعارضهما في ذلك العهد، مع امكان الرجوع إلى الائمة عليهم السلام ومعرفة ما هو الحق منهما.

واما الجملة الأخيرة (ما خالف العامة ففيه الرشاد) ففيه احتمالان:

الاحتمال الأول: ان يكون المراد به الصلاح كما في قوله تعالى {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} (سورة الجن 10) وعليه ففي مخالفتهم مصلحة نفسية.

الاحتمال الثاني: الرشاد بمعنى الهداية والوصول إلى الواقع. فالمراد انّ مخالفهم هو المطابق للواقع وحيث ان الصدور ثابت باعتبار كونهما مشهورين قد رواهما الثقات فينحصر في الاحتمال الرابع وهو كونه صادراً عن تقية.

ولعلّ هذا الاحتمال أولى بقرينة ما تقدم على هذه الجملة من تثليث الأمور، ومنها امر بين رشده، بتوضيح سنذكره في محله ان شاء الله تعالى. وسيأتي ان المراد بالعامة الذين في مخالفتهم الرشاد هو خصوص الحكام والقضاة دون الفقهاء.

وكيف كان فالرواية لا تدل على وجود الاخبار الصادرة تقية في الجوامع التي بأيدينا.

  1. القسم الثالث من الروايات:

ما أمر فيه بالأخذ بمخالف العامة، وان لم يكن وارداً في الخبرين المتعارضين.

الرواية الأولى: روى الصدوق في العلل عن ابيه قال حدثنا أحمد بن ادريس عن ابي اسحاق الارجاني رفعه قال قال ابو عبد الله عليه السلام «أتدري لِمَ امرتم بالاخذ بخلاف ما تقول العامة؟ فقلت: لا ندري. فقال: ان علياً عليه السلام لم يكن يدين الله بدين الا خالف عليه الامة إلى غيره ارادة لابطال امره وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السلام عن الشيء الذي لا يعلمونه فاذا افتاهم جعلوا له ضداً من عندهم ليلبسوا على الناس». (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 66 ح 455)

الرواية ضعيفة لجهالة ابي اسحاق، ومرفوعة كما صرّح فيها، وغريبة المتن. فانّ المعروف في التاريخ ان الخلفاء كانوا يراجعون أمير المؤمنين عليه السلام ويأخذون بآرائه في الفقه والقضاء والسياسية حتى اشتهر عن عمر انه قال في عدة موارد: «لولا علي لهلك عمر». مضافاً إلى ان الامر بالمخالفة لا يدل على وجود التقية في الاخبار كما مرّ.

الرواية الثانية: موثقة عبيد بن زرارة قال «ما سمعت مني يشبه قول الناس فيه التقية وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه». (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 66 ح 457)

وحيث ان الأحكام ليس فيها ما يشبه هذا او ذاك فالمراد الاخبار الصادرة في العقائد. ومن هنا قال الشيخ المفيد قدس سره «وإنما المعنّي في قولهم عليهم السلام خذوا بابعدهما من قول العامة يختص بما روي عنهم في مدائح أعداء الله والترحم على خصماء الدين ومخالفي الايمان، فقالوا إذا اتاكم عنا حديثان مختلفان، احدهما في تولي المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام والآخر في التبري منهم، فخذوا بابعدهما من قول العامة لان التقية تدعوهم بالضرورة إلى مظاهرة العامة بما يذهبون اليه من ائمتهم...». (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 62 ح 430. راجع ايضا رسالة جوابات اهل الموصل ص 48)

هذا، مضافاً إلى ان مقتضى هذه الرواية ونظائرها امتناع الرواة من الشيعة عن تسجيل هذه الروايات وتدوينها في كتبهم. فالنتيجة هو عدم وجود التقية في اخبارنا.

  1. القسم الرابع من الروايات: ما دل على حُسن مخالفتهم.

الرواية الأولى: ما رواه صاحب الوسائل عن رسالة الراوندي المذكورة بسنده عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن ابي عبد الله عليه السلام قال «ما أنتم والله على شيء مما هم فيه ولا هم على شيء مما انتم فيه، فخالفوهم فما هم من الحنفية على شيء» (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 82ح 576)

الرواية ضعيفة مصدراً وسنداً بعلي بن أبي حمزة البطائني، وغريبة متناً فانها تدل على التباين الكلي بين المذهبين وهو مضافاً إلى انه مخالف للضرورة معارض لما ورد من اشتراكنا معهم في كثير من الأصول. والحنفية من الحنف وهو الميل عن الضلال الى الاستقامة والجنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال (المفردات للراغب ص 133).

وكيف كان فلا تدل الا على حسن المخالفة وهو لا يستلزم وجود الروايات الصادرة تقية بين اخبارنا.

الرواية الثانية: روى صاحب الوسائل عن كتاب صفات الشيعة، عن علي بن معبد عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه السلام قال: «شيعتنا المسلمون لامرنا الآخذون بقولنا المخالفون لاعدائنا فمن لم يكن كذلك فليس منّا» (الوسائل ج 11 ص 83 باب 9 من صفات القاضي ح 25).

والرواية ضعيفة المصدر لعدم ثبوت كتاب صفات الشيعة للصدوق كما نسب اليه وضعيفة السند بعلي بن معبد الذي لم يوثق. ولا دلالة فيها على المراد فان مخالفة أعدائهم لا علاقة لها بمخالفة العامة ولم يعلم المراد بالمخالفة والظاهر انه عدم الموالاة لهم.

الرواية الثانية: رواية السياري عن علي بن اسباط قال قلت له يحدث الامر من امري لا أجد بداً من معرفته وليس في البلد الذي انا فيه أحد استفتيه قال فقال: «ائت فقيه البلد إذا كان ذلك فاستفته في أمرك فاذا افتاك بشيء فخذ بخلافه فان الحقّ فيه» (جامع ج 1 المقدمات ص66 ح 456).

 والرواية ضعيفة سنداً لأن السيارى ضعيف ملعون، وهو مؤلف كتاب التنزيل والتحريف الذي اليه ينتهي أكثر روايات تحريف القرآن. والظاهر انه كان ينتمي إلى جماعة من اعداء الدين، الذين كانوا يحاولون اثبات تحريف القرآن ويستهدفون بذلك طعن الإسلام في صميمه. ولعل هذا من الروايات التي جعلها ودسّها في أحاديثنا للحط من كرامة أهل البيت عليهم السلام الذين هم عدل القرآن والثقل الثاني. مع ان دلالتها أيضاً كسوابقها.

1.1.3.2.1.4السبب الرابع من اسباب الكتمان: السوق إلى الكمال.

بيان ذلك: ان الائمة عليهم السلام بحكم مركزهم القيادي والتوجيهي كانوا يرون من مصلحة شيعتهم ومواليهم ان لا يتركوا بعض المستحبات ولا يرتكبوا بعض المكروهات. وذلك لما يترتب على تلك المستحبات من مصلحة وعلى تلك المكروهات من مفسدة، وهما وان لم تكونا ملزمتين بحيث تقتضيان جعل الحكم الإلزامي إلا ان لهما وجوداً وعدماً تأثيراً في بلوغ مرتبة عالية من مراتب الكمال البشري.

ومن هنا كانوا يخفون عنهم جهة الترخيص في الترك والفعل احياناً، فيأمرون بالمستحب بنحو مطلق مما يظهر منه الوجوب، وينهون عن المكروه بنحو مطلق مما تظهر منه الحرمة.

ويختص ذلك بالطبع بالمستحبات المؤكّدة والمكروهات المشددة وكثيراً ما يلاحظ ذلك في الروايات نظير ما ورد في صلاة الجماعة وغسل الجمعة من التعبيرات الموهمة للإيجاب. والظاهر ان هذا الامر مما لا يمكن ان ينكره من راجع للأخبار. ويظهر من بعض الروايات ان الأوامر الايجابية كانت كثيراً ما تشتبه بالأوامر الندبية وكذلك العكس. كما ان النواهي التحريمية كانت تشتبه بالنواهي التنزيهية.

ويدل على ذلك ما ورد في رواية الميثمي التي تقدم شطر منها في البحث عن تعيين المشرّع للأحكام التشريعية العامة. وفيها: «وان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أشياء ليس نهي حرام بل اعافة وكراهة، وأمر بأشياء ليس أمر فرض ولا واجب بل امر فضل ورجحان في الدين؛ ثم رخص في ذلك للمعلول وغير المعلول. فما كان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهي اعافة او امر فضل فذلك الذي يسع استعمال الرخص فيه» (جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 64 ح 448) الحديث.

ومما يشهد لكون الغرض في كتمان الترخيص في بعض الموارد هو السوق إلى الكمال وتحقق المصلحة وان لم تكن ملزمة، صحيحة زرارة. قال «كنت عند ابي جعفر عليه السلام وليس عنده غير ابنه جعفر عليه السلام فقال: يا زرارة ان ابا ذر وعثمان تنازعا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عثمان: كل مال من ذهب او فضة يدار به ويعمل به ويتجر به ففيه الزكاة إذا حال عليه الحول فقال ابو ذر اما ما يتجر به او دير وعمل به فليس فيه زكاة. انما الزكاة فيه إذا كان ركازاً او كنزاً موضوعاً فاذا حال عليه الحول ففيه الزكاة. فاختصما في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فقال صلى الله عليه وآله وسلم: القول ما قال ابو ذر، فقال ابو عبد الله عليه السلام لأبيه ما تريد الا ان يخرج مثل هذا، فيكف الناس ان يعطوا فقراءهم ومساكينهم؟ فقال ابوه: اليك عني لا أجد منها بداً».

ولكي يتضح الاستشهاد لابد من شرح موجز لمسألة وجوب الزكاة في مال التجارة فنقول:

مال التجارة قد يكون من العروض وقد يكون من النقدين. أما في النقدين فقد يكون مجمداً لا ينقله المالك في المعاملات وقد يكون معرضاً للتعامل والقبض والاقباض. ولا اشكال ولا خلاف في وجوب الزكاة في الصورة الأولى إذا حال عليه الحول بشرائط الوجوب. وأما في الصورة الثانية فكافة علماء العامة (ما عدا بعض الظاهرية) يقولون بوجوب الزكاة فيها. والمشهور بين علمائنا عدم الوجوب وان كان مستحبا بل مستحبا مؤكداً حتى بالنسبة إلى مال الطفل والمجنون، فيؤدي زكاتهما الولي استحباباً.

ولعل السّر في وجوب الزكاة على النقد المجمد ان وضع النقد انما هو من اجل تسهيل المعاملات فهو وسيلة التبادل التجاري ومقياس القيم المالية؛ فلا يجوز تجميدها بل اللازم هو كثرة التبادل بها حتى يشيع في المجتمع وينتشر، وعليه فإيجاب الزكاة في هذا الفرض من قبيل جعل الضريبة التأديبية لمنع هذا التجميد. ومن هنا كان الربا المحرم في البيع مختصاً بتبديل المتاع بالمتاع دون توسط النقد. فلعل السرّ فيه هو التحريض على توسيط النقد في المعاملات، مضافاً إلى انه قوام العدالة في المعاملات من جهة كونه مقياس القيم المالية.

وأما في العروض فالمتاجر بها على قسمين: تاجر محتكر وتاجر مدير. والمراد بالمحتكر من يحفظ المتاع كيفما كان طلباً للغلاء وارتفاع الأسعار والمراد بالمدير من يبيع متاعه ويشتري غيره باستمرار. وهذا التاجر يشكل العصب الاقتصادي للمجتمع. أما المحتكر فقد ذهب جماعة من علمائنا وفاقاً لجميع العامة إلى وجوب الزكاة عليه بعد حلول الحول وهو الصحيح عندنا. كما أوضحناه في مبحث الزكاة من الفقه.

وأما المدير فهو محل الكلام والنقاش بين ابي ذر وعثمان وما أبعد ما بين هذا النقاش في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين ذلك الشقاق ودواعيه في خلافة عثمان. والصحيح عدم وجوب الزكاة في مال التاجر المدير كما دلت عليه هذه الرواية وان كان مستحباً. والمهم في هذه الرواية التأمل في محادثة الامام الصادق مع ابيه عليهما السلام.

ولعلّ الوجه في اعتراض الامام الصادق بحسب الصورة هو تنبيه زرارة وجلّ مقام الصادق عليه السلام من الاعتراض على أبيه وامامه. فالظاهر انه اراد تنبيه زرارة على ان المقام مقام تعليم لا فتيا، وان هذا الترخيص لا ينبغي ان ينتشر في هذا العهد، حيث قد خيّم الفقر على المجتمع خصوصاً على شيعة أهل البيت عليهم السلام من جراء ظلم الحاكمين الطغاة وقد ورد في التاريخ ان سليمان بن عبد الملك كتب إلى أحد عماله يأمره ان يحلب الناس فان لم يدروا فليحلب الدم.

ولا شك ان الناس عامة كانوا يلتزمون بوجوب الزكاة في مال التاجر المدير ايضاً ولم يكن الفقه الشيعي منتشراً بعد في المجتمع حتى في الأوساط الشيعية فكانوا يشاركون سائر المسلمين في السيرة العملية.

والظاهر ان الوجه في جواب الامام الباقر عليه السلام هو بيان انه لابد من تعليم زرارة وارشاده إلى الخطأ الشايع من المدارس المعارضة التي كان متأثراً بثقافتها حيث كان في دور المقارنة بين الفقهين.

ولعل في ذلك سراً آخر أيضاً وهو تبرئة ابي ذر رضوان الله عليه من التهمة التي الصقت به قديماً وتطورت اخيراً في سرّ معارضته لحكومة عثمان.

والحاصل انه يظهر من الرواية ان الائمة عليهم السلام كانوا يكتمون احيانا جهة الترخيص في بعض الاحكام المستحبة والمكروهة سوقا لاتباعهم إلى الكمال وتحقيقاً للمصالح و الأهداف المترتبة عليها، وان لم تكن بحدّ يوجب الالزام. ولعل ما ورد في صلاة الجماعة مما ظاهره الوجوب انما اريد به ايجاد الاهتمام بالجماعة في نفوس أتباعهم لما يترتب عليها من مصالح مهمة، كتعظيم الشعائر والتجمع الموجب لشوكة الإسلام وغير ذلك.

هذا تمام الكلام في البحث الأول من هذا الفصل وقد تعرضنا فيه لأسباب الكتمان.

 

 

 

 

   

1.1.3.2.2البحث الثاني: في أنواع الكتمان

 

الكتمان يتحقق بأنحاء متعددة ونحن لسنا بصدد إحصائها وإنما المهم عندنا التعرض لاهمها وهو نوعان:

1.1.3.2.2.1النوع الأول: السكوت.

وهو قد يتحقق في قبال العمل الصادر من الناس بمرأى ومسمع من الامام وهو لا يردعهم تقريراً للعمل، كما إذا كان العمل مستحباً وهم يعتقدون وجوبه فلا يبين لهم الامام جهة الترخيص فيه. كما ذكرناه آنفاً.

وقد يتحقق في قبال استفهام الراوي. وقد مرت سابقاً في مقدمة مبحث النشر والكتمان عدة روايات تتضمن ان على الناس السؤال وليس على الائمة – عليهم السلام – الجواب وإنما الامر موكول اليهم ان شاءوا اجابوا وان شاءوا سكتوا. وقلنا هناك ان الذي يتكفل قيادة المجتمع كثيراً ما يضطر إلى السكوت وعدم اجابة المستفهمين. والمانع عن الجواب ان كان مستمراً بقي السؤال بلا جواب نهائياً وان كان موقتا مختصاً بمجلس الاستفهام، كان الامام يتدارك ذلك ويرسل الجواب او يذكره له في وقت آخر.

روى الكشي قال: «حدثني حمدويه، قال حدثني محمد بن عيسى عن القاسم بن عروة عن ابن بكير، قال دخل زرارة على ابي عبد الله عليه السلام قال: «انكم قلتم لنا في الظهر والعصر على ذراع وذراعين ثم قلتم ابردوا بها في الصيف فكيف الإبراد بها؟ وفتح ألواحه ليكتب ما يقول. فلم يجبه ابو عبد الله عليه السلام بشيء فأطبق الواحه فقال: انما علينا ان نسألكم وانتم اعلم بما عليكم وخرج ودخل ابو بصير على ابي عبد الله عليه السلام فقال: ان زرارة سألني عن شيء فلم اجبه وقد ضقت (من ذلك) فاذهب انت رسولي اليه...»» الحديث (الكشي ص 143 ح 226).

1.1.3.2.2.2النوع الثاني: التورية.

قال الشيخ الانصاري قدس سره: «ان الخبر الصادر تقية يحتمل ان يراد به ظاهره فيكون من الكذب المجوّز لمصلحة، ويحتمل ان يراد منه تأويل مختف على المخاطب فيكون من قبيل التورية، وهذا أليق بالإمام بل هو اللائق إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكن من التورية» (فرائد الاصول ج 4 ص 128) وقال بعد كلام طويل «ان عمدة الاختلاف انما هي كثرة ارادة خلاف الظواهر في الاخبار اما بقرائن (إلى ان قال) واما بغير القرينة لمصلحة يراها الامام من تقية على ما اخترناه من ان التقية على وجه التورية أو غير التقية من المصالح الاخر، وإلى ما ذكرنا ينظر ما فعله الشيخ في الاستبصار من اظهار امكان الجمع بين متعارضات الاخبار، باخراج احد المتعارضين او كليهما عن ظاهره إلى معنى بعيد، وربما يظهر من الاخبار محامل وتأويلات ابعد بمراتب مما ذكره الشيخ قدس سره» (فرائد الاصول ج 4 ص 130) وقال مثل ذلك في المكاسب (المكاسب المحرمة ص 52 حرمة الكذب).

والبحث في هذا المقام يقع في ثلاث جهات:

الجهة الأولى: في بيان كيفية التورية وخصوصياتها على مستوى الادب العربي بوجه عام.

الجهة الثانية: الاستدلال بالشواهد الملموسة من الروايات على ان الائمة عليهم السلام كانوا يركنون إلى التورية في بعض الموارد.

الجهة الثالثة: في طريقة استكشاف المراد الواقعي من الروايات التي صدرت على وجه التورية.

  1. الجهة الأولى: في بيان كيفية التورية واللحن على مستوى الادب العربي:

التورية في الادب العربي على قسمين:

القسم الأول: التورية البديعية. وهي الذي نعبر عنه في الأصول باستعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد. كقول الشاعر: «اي المكان تروم ثم من الذي تمضي اليه اجبته المعشوقا» حيث قصد بالمعشوق قصر المتوكل في سامراء والمحبوب ليكون جواباً عن السؤالين.

وقول الآخر في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

(المرتمي في دجى والمبتلى بعمى والمشتكي ظمأً والمبتغي دينا – يأتون سدّته من كل ناحية فيستفيدون من نعمائه عيناً). حيث استعمل العين في أربعة معان بحسب اختلاف مطالب الذين يأتون سدته صلى الله عليه وآله وسلم.

وتفصيل الكلام في هذا القسم في مباحث الالفاظ ولا يرتبط بما نحن فيه.

القسم الثاني: التورية العرفية ويعبر عنها بمعاريض الكلام.

قال الزبيدي في تاج العروس (ج 10 ص 91): «المعراض من الكلام فحواه. يقال عرفت ذلك من معراض كلامه اي فحواه والجمع المعاريض والمعارض وهو كلام يشبه بعضه بعضاً في المعاني كالرجل تسأله هل رأيت فلانا فيكره ان يكذب وقد رآه فيقول: ان فلانا ليُرى. وبهذا المعنى قال عبد الله بن عباس: ما احب بمعاريض الكلام حمر النعم. وفي الصحاح المعاريض في الكلام التورية بالشيء عن الشيء وفي المثل "قلت: هو حديث مخرج عن عمران بن حصين مرفوع" (1) ان في المعاريض لمندوحة عن الكذب. اي سعة».

(1): هذا من كلام الزبيدي في شرح عبارة القاموس وغرضه ان ما اعتبره مثلا وهو القول بان في المعاريض لمندوحة عن الكذب حديث وليس مثلا.

وقال ابن قتيبة (المتوفى سنة 276) في كتاب تأويل مختلف الحديث (ص 35): «وجاءت الرخصة في المعاريض وقيل: ان فيها عن الكذب مندوحة. فمن المعاريض قول ابراهيم عليه السلام في امرأته: انها اختي يريد أن المؤمنين اخوة. وقوله بل فعله كبيرهم هذا ان كانوا ينطقون. وقوله: اني سقيم يريد اني ساسقم، لان من يجب عليه الموت والفناء فلابد وان يسقم. قال تعالى لنبيه: (انك ميت وانهم ميتون) – الى ان قال – ومنها ان رجلاً من الخوارج لقي رجلاً من الروافض فقال لا والله لا افارقك حتى تتبرأ من عثمان وعلي والا لاقتلنك! فقال: انا والله من علي ومن عثمان بريء. فتخلص منه! وانما اراد من علي يريد انه مولاه، ومن عثمان بريء فكانت براءته من عثمان وحده» وقد ذكر جملة من الأمثلة للتورية قبل هذا الكلام. فراجع (ص 35).

وقال الطبرسي في مجمع البيان (ج 8: ص 450، ط طهران) في تفسير قوله تعالى حكاية عن ابراهيم عليه السلام {فقال اني سقيم} (الصافات 90)، بعد ذكر وجوه في معنى الجملة: «ويمكن ان يكون على وجه التعريض بمعنى ان كل من كتب عليه الموت فهو سقيم وان لم يكن به سقم في الحال وما روي ان ابراهيم كذب ثلاث كذبات: قوله اني سقيم، وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله في سارة انها اختي؛ فيمكن ان يحمل ايضاً على المعاريض اي ساسقم وفعله كبيرهم على ما ذكرناه في موضعه، وسارة اخته في الدين. وقد ورد في الخبر ان في المعاريض لمندوحة عن الكذب والمعاريض ان يقول الرجل شيئاً يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده ولا يكون ذلك كذبا فان الكذب قبيح بعينه ولا يجوز ذلك على الأنبياء ...».

وقال العلامة المجلسي قدس سره «ومثال المعاريض ما روي أن مطرفا دخل على زياد فاستبطأه فتعلل بمرض فقال: ما رفعت جنبي منذ فارقت الأمير إلا ما رفعني الله وقال إبراهيم: إذا بلغ الرجل عنك شيء فكرهت أن تكذب فقل: إن الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء، فيكون قوله: ما، حرف النفي عند المستمع وعنده للإبهام، وكان النخعي لا يقول لابنته: اشتري لك سكرا بل يقول أرأيت لو اشتريت لك سكرا فإنه ربما لا يتفق، وكان إبراهيم إذا طلبه في الدار من يكرهه قال للجارية: قولي له: اطلبه في المسجد، وكان لا يقول: ليس هيهنا لئلا يكون كاذبا، وكان الشعبي إذا طلب في البيت وهو يكرهه، فيخط دائرة ويقول للجارية: ضعي الإصبع فيها وقولي: ليس هيهنا. وهذا كله في موضع الحاجة فأما مع عدم الحاجة فلا...» (مرآة العقول ج 10 ص 350).

وحكى ابن ابي الحديد عن ابي حنيفة انه قال: «قال لي الربيع في دهليز المنصور: ان امير المؤمنين يأمرني بالشيء بعد الشيء من أمور ملكه فانفذه وانا خائف على ديني فما تقول في ذلك قال ولم يقل لي ذلك الا في ملأ من الناس. فقلت له أفيأمر أمير المؤمنين بغير الحق؟ قال لا قلت: فلا بأس عليك ان تفعل بالحق. قال ابو حنيفة فأراد ان يصطادني فاصطدته» (شرح النهج ج 16 ص 158).

والمستفاد من هذه الأمثلة ان التورية قد تكون مع ارادة ظاهر اللفظ، وقد تكون مع ارادة خلافه، وقد تكون مع لفظ مجمل، وقد تكون بغير ذلك.

وفي الحالة الأولى تارة تتحقق التورية بالعدول عن مقصود السائل إلى بيان معنى آخر فراراً من الجواب عن صريح السؤال بحيث يبقى السؤال بلا جواب حتى في نظر السائل، نظير جواب ابي حنيفة للربيع. وتارة تتحقق بالعدول أيضاً ولكن بنحو يتوهم السائل انه جواب عن سؤاله، نظير قول الجارية لمن طلب سيدها: ذهب صباحاً إلى المسجد. فهي لم تكذب ولم ترد خلاف الظاهر، ولم تجب السائل وانما هو يتوهم الجواب!

والحالة الثانية نظير قول القائل لمن سأل عنه هل رأيت زيداً؟ والله ما رأيته ولا كلمته. وهو يقصد بهما ضرب الرية والجرح.

والثالثة نظير قول القائل لمن سأل عنه هل قلت كذا؟ علم الله ما قلته. فان (ما) مجملة مرددة بين ما النافية وما الموصولة الا ان السائل يتوهم بقرينة السؤال انها نافية والقائل اراد بها الموصولة.

والحاصل ان التورية باب واسع في اللغة العربية ولها انحاء عديدة، ومنها إلقاء العام أو المطلق من دون تخصيص وتقييد مع انه يريد الخاص والمقيد. فهذا أيضاً من انحاء التورية والكتمان. وكذا ايضاً قصد المعنى المجازي مع اخفاء القرينة.

  1. الجهة الثانية: في الاستدلال على وقوع التورية في كلام الائمة عليهم السلام:

والبحث في هذا الاستدلال يقع في مقامين:

المقام الأول: في الروايات الدالة على وقوع التورية في كلامهم.

المقام الثاني: في مرحلة التطبيق والاستشهاد بالموارد الخاصة التي استعملت فيها التورية.

أما في المقام الأول: فمما يدل على وقوع التورية في كلماتهم عليهم السلام الروايات الكثيرة المصرّحة بأنهم يتكلمون على سبعين وجهاً لهم من كل منها المخرج.

روى الكشي بسند معتبر عن ابي بصير قال: قيل لابي عبد الله عليه السلام وانا عنده: «ان سالم بن ابي حفصة يروي عنك انك تكلّم على سبعين وجهاً لك من كلها المخرج. قال فقال: ما يريد سالم مني أيريد ان اجيء بالملائكة فو الله ما جاء بها النبيون. ولقد قال ابراهيم: اني سقيم. والله ما كان سقيماً ولا كذب ولقد قال ابراهيم: بل فعله كبيرهم هذا وما فعله وما كذب ولقد قال يوسف انكم لسارقون والله ما كانوا سارقين وما كذب» (رجال الكشي ص 234 ح 425).

وفي الكافي ان سالم بن ابي حفصة واصحابه يروون عنك (الكافي الروضة ص 100 ح 70) ...

وروى الصدوق في معاني الاخبار بسنده عن إبراهيم الكرخي، عن ابي عبد الله عليه السلام قال: «حديث تدريه خير من الف حديث ترويه، ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا. وان الكلمة من كلامنا تنصرف على سبعين وجهاً لنا من جميعها المخرج». (معاني الاخبار ص 2 الباب الاول ح 3) وروى فيه عن داود بن فرقد نظير ذلك (معاني الاخبار ص 1 ح 1).

وروى المجلسي في البحار (راجع بحار الانوار ج 2 ص 197 فما بعد) عن كتاب بصائر الدرجات خمسة عشر حديثاً تشتمل على هذه الجملة. منها رواية الاحول: «أنتم أفقه الناس ما عرفتم معاني كلامنا ان كلامنا، ينصرف على سبعين وجهاً».

ومثله عن حمران بن اعين، وعن ابي الصباح الكناني، وعن محمد بن مسلم وغيرهم. وروى أيضاً عدة روايات من كتاب الاختصاص المنسوب إلى المفيد قدس سره.

وروى المحدث النوري في المستدرك والمجلسي في البحار عن كتاب المحاسن للبرقي عن ابيه عن علي بن نعمان عن عبد الله بن مسكان عن عبد الاعلى قال «سأل علي بن حنظلة أبا عبد الله عليه السلام وانا حاضر فاجابه فيها فقال له علي فان كان كذا وكذا فأجابه بوجه حتى أجابه بأربعة وجوه قال علي بن حنظلة: يا ابا محمد هذا باب قد احكمناه فسمعه ابو عبد الله عليه السلام فقال له لا تقل هكذا يا أبا الحسن! فإنك رجل ورع ان من الاشياء اشياء مضيقة ليس يجري الا على وجه واحد، منها وقت صلاة الجمعة ليس لوقتها الا حدّ واحد حين تزول الشمس، ومن الاشياء اشياء موسعة تجري على وجوه كثيرة والله ان له عندي سبعين وجهاً». (قال المحدث النوري: ورواه الصفار في بصائر الدرجات بسند صحيح عن ابن مسكان مثله) (المستدرك ج 3 ص 826 المحاسن ص 242 ح 4 من كتاب العلل فيه عبد الاعلى بن اعين).

وروى العياشي في تفسيره عن حماد بن عثمان قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: «ان الأحاديث تختلف عنكم قال فقال: ان القرآن نزل على سبعة أحرف وأدنى ما للإمام ان يفتي على سبعة وجوه؟ ثم قال: هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب» (المستدرك ج 3 ص 186 جامع الأحاديث ج 1 المقدمات ص 67 ح 467).

والمهم في هذا المقام تفسير هذه الجملة. ولا اشكال بان المراد من السبع والسبعين ليس هو العدد الخاص بل هو تعبير عن الكثرة، حيث اعتادت العرب ان تعبّر عن الكثرة في الآحاد بالسبع، وفي العشرات بالسبعين. وفي تفسير هذه الجملة احتمالان:

الاحتمال الأول: ان المراد بالوجوه السبعين في كل مسألة الأجوبة المتعددة المختلفة لفظاً ومعنىً. والمراد بقولهم «لي من جميعها المخرج»: ان كلاً من هذه الوجوه لا يستوجب الكذب ولا الوقوع في خلاف المقصود من كتمان الحكم الواقعي نظير الأجوبة المختلفة للتخلص عمن يطلب احداً في الدار كما مرّ بعضها. وقد وقع مثل ذلك في الروايات كما سيأتي.

وقد نسب السيد الطباطبائي هذا الوجه إلى بعض معاصريه في رسالة التعادل والتراجيح. وان كان مقتضى ما نقله عنه ان هذه الأجوبة المختلفة ليست من باب التورية.

الاحتمال الثاني: ان الكثرة في الوجوه السبعين انما هي بلحاظ كثرة المعاني في اللفظ الواحد. و يبتني على هذا الاحتمال أربعة وجوه في تفسير المراد بالجملة:

الوجه الأول: ان الائمة عليهم السلام ما كانوا يصرحون في بعض الاحكام وانما كانوا يلقونها بعبارات قابلة للتأويل حتى إذا اعترض عليهم بأي وجه من وجوه الاعتراض أمكنهم التخلص منه بدعوى ارادة معنىً آخر من الكلام. وإنما ألجأتهم إلى اختيار هذا السلوك ضرورة الوضع السياسي والاجتماعي.

مثال ذلك: ما ورد من الامر بالتمام في بعض الأماكن الأربعة، ثم تأويله بان ذلك في صورة قصد العشرة. وسيأتي الكلام في هذا المثال ان شاء الله تعالى.

ولا يبعد ان يكون هذا الوجه هو مراد المحقق التستري من احدى عباراته في كشف القناع قال قدس سره في بيان اسباب الكتمان ما لفظه: «أحدها اشتداد التقية في كثير من الأزمنة و الأحوال عليهما (اي الصادقين عليهما السلام) وعلى سائر الائمة عليهم السلام وعلى أصحابهم بحيث يؤدي إلى تأخير الجواب وكتمان بعض الاحكام أو الحكم بمذاهب العامة أو ايقاع الاختلاف بين الشيعة أو التعبير بالألفاظ المشتبهة الحاملة لوجوه كثيرة من سبع الى سبعين...» (كشف القناع ص 69).

الوجه الثاني: ان الائمة عليهم السلام في مقام اخفاء الحكم الواقعي كانوا يذكرون الحكم بلفظ مجمل فما كان المخاطب يعلم المراد أصلاً لكون اللفظ منصرفاً إلى معان متعددة على السواء. ومن الطبيعي ان الامام لم يكن يفسح المجال لكل أحد بتكرار السؤال فكان السائل يعود خائباً بلا جواب.

ويحتمل أيضاً ان يكون هذا الوجه هو مراد المحقق التستري بل هو انسب بظاهر كلامه الذي تقدم نقله.

الوجه الثالث: انهم عليهم السلام في مقام الكتمان كانوا يذكرون الجواب بكلام يدل بظاهره على معنىً مخالف للواقع وموافق للمصلحة الموجبة للكتمان كالتقية. ولكنهم كانوا يريدون به معنىً آخر هو الحق، وان لم يكن الكلام ظاهراً فيه.

وهذا هو المستفاد من عبارة السيد الطباطبائي في رسالة التعادل والتراجيح (ص 245) كما هو ظاهر عبارة أوثق الوسائل أيضاً.

الوجه الرابع: ما نسب إلى بعض الناس من ان المراد: ان لكلامهم سبعين معنىً وله بطون تصل إلى سبعين بطناً والجميع مراد لهم ومطابق للواقع، وبذلك فتح باب التأويل في الروايات.

وهذا القول امتداد للفكر الكشفي والباطني الذي كان سائداً في بعض طوائف المسلمين وغيرهم كالاسماعيلية والصوفية والشيخية ونظائرهم، حيث كانوا يستهدفون بنشر هذه الافكار إلى فتح باب التأويل في كلام الائمة عليهم السلام بل في الكتاب والسنة أيضاً لتفسيرها إلى ما يوافق اهدافهم السياسية والاجتماعية.

والصحيح ان الروايات على قسمين، فبعضها ظاهرة في الوجه الأول وبعضها في الوجه الثاني بأحد الاقوال الأربعة.

فمن القسم الأول رواية عبد الاعلى التي نقلناها عن البحار والمستدرك نقلاً عن المحاسن، حيث قال الامام عليه السلام لعلي بن حنظلة: «ان من الأشياء اشياء مضيقة ليس يجري إلا على وجه واحد (إلى ان قال عليه السلام) ومن الأشياء اشياء موسعه تجري على وجوه كثيرة والله ان له عندي سبعين وجهاً»، فانها ظاهرة بل صريحة في ان المراد امكان الجواب بوجوه متعددة في الأشياء الموسعة، كما انه عليه السلام اجابه في نفس المجلس بوجوه عديدة.

والظاهر ان منه ايضاً رواية أبي بصير التي رويناها عن الكشي، حيث ورد فيها «إنك تتكلم على سبعين وجهاً لك من جميعها المخرج».

ومنه أيضاً بعض الروايات المروية في بصائر الدرجات كرواية حمران (وهي معتبرة) حيث قال عليه السلام: «اني لأتكلم على سبعين وجهاً لي من كلها المخرج». ورواية ابي الصباح: «اني لأحدث الناس على سبعين وجهاً». ورواية عبد الرحمن بن سيابة: «اني لأتكلم على سبعين وجهاً».

وسيأتي في المقام الثاني تطبيق هذا الوجه على عدة من الروايات.

ومن القسم الثاني ما رواه الصفار في بصائر الدرجات عن علي بن ابي حمزة قال «دخلنا انا وابو بصير على ابي عبد الله عليه السلام وبينا نحن اذ تكلم ابو عبد الله عليه السلام بحرف واحد فقلت في نفسي: هذا مما احمله إلى الشيعة، هذا والله حديث لم اسمعه قط. قال فنظر في وجهي ثم قال: «اني لأتكلم بالحرف الواحد لي فيه سبعون وجهاً ان شئت اخذت كذا وان شئت اخذت كذا»».

ومن الواضح ان المراد هنا من الوجوه السبعين معاني الكلام الواحد؛ وهذه الرواية شاهدة للقول الاول في الوجه الثاني. فان ظاهرها ان الامام وان كان يقصد احدى معاني الكلام الا انه يترك مجالاً للتأويل في كلامه حتى لا يؤاخذ به.

ومن هذا القسم أيضاً رواية ابراهيم الكرخي في معاني الاخبار ورواية الاحول واخواتها فراجع.

فتحصل ان الصحيح هو ان من الروايات ما لابد من حملها على الوجه الأول، ومنها ما لابد من حملها على الوجه الثاني ويتعين حينئذ القول الاول. وقد يصدر منهم الكلام المجمل كما في القول الثاني واما القولان الآخران فلا شاهد لهما في الروايات.

قال السيد الطباطبائي قده بعد ان نقل بعض روايات الباب «فانظر الى صراحة هذه الاخبار في ان الكلام الواحد الصادر منهم له محمل تبلغ السبعين لا ان لهم ان يعدلوا عن الجواب الى مطلب آخر وأن لهم ان يتكلموا بسبعين كلاماً فهذا مما لا يحتاج الى البيان». (رسالة التعادل و التراجيح ص 245)

وظهور بعض الروايات التي استشهد بها محل تأمل مع انّ ذلك إنّما يختص بهذه الروايات دون سائر روايات الباب.

المقام الثاني: في الاستشهاد بالروايات على وقوع التورية في كلامهم و الروايات التي يمكن ان تكون شاهدة على قسمين:

القسم الأول: ما صرّح فيها بإرادة خلاف الظاهر.

القسم الثاني: ما يظهر ذلك فيها بملاحظة سائر الروايات.

وقد ذكر الشيخ الانصاري قدس سره امثلة للقسم الأول:

منها: ما روي عن بعضهم صلوات الله عليهم لما سأله بعض اهل العراق وقال كم آية تقرأ في صلاة الزوال فقال عليه السلام: ثمانون. ولم يعد السائل فقال عليه السلام: هذا يظن انه من اهل الادراك فقيل له ما اردت بذلك؟ وما هذه الآيات؟ فقال: اردت منها ان يقرأ في نافلة الزوال فان الحمد والتوحيد لا يزيد على عشر آيات ونافلة الزوال ثمان ركعات.

ومنها: ما روي من ان الوتر واجب فلما فزع السائل واستقر قال: انما عنيت وجوبها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ومنها تفسير قولهم: «لا يعيد الصلاة فقيه» بخصوص الشك بين الثلاث و الأربع. ومثله تفسير وقت الفريضة بزمان قول المؤذن «قد قامت الصلاة» الى غير ذلك (الرسائل ط رحمت الله ص 467).

ولكنا لم نعثر على الرواية الأولى وكذلك الرواية الثانية الا انا وجدنا ما يشابهها وهي رواية عمار الساباطي قال: «كنا جلوساً عند ابي عبد الله عليه السلام بمنى فقال له رجل: ما تقول في النوافل؟ فقال: فريضة. قال ففزعنا وفزع الرجل فقال ابو عبد الله عليه السلام: انما اعني صلاة الليل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان الله يقول {ومن الليل فتهجد به نافلة لك}». (جامع الأحاديث ج 7 ص 121 ص 575)

ولعل هذه الرواية هي مراد الشيخ فان الفزع انما يحصل من ايجاب النوافل عامة واما وجوب الوتر فليس مما يوجب الفزع لوجوبه عند جماعة من العامة (راجع بداية ابن رشد ج 1 ص 64 في أول كتاب الصلاة حيث نقل القول بوجوب الوتر عن ابن حنيفة واصحابه).  

والروايات من هذا القبيل كثيرة الا ان اكثرها ضعيفة سنداً.

فمنها مرفوعة النهيكي عن ابي عبد الله عليه السلام قال «من مثل مثالاً او اقتنى كلباً فقد خرج عن الاسلام فقيل له: هلك اذاً كثير من الناس فقال: ليس حيث ذهبتم انما عنيت بقولي من مثل مثالاً من نصب ديناً غير دين الله ودعا الناس اليه وبقولي من اقتفى كلباً عنيت مبغضاً لنا اهل البيت اقتناه فأطعمه وسقاه من فعل ذلك فقد خرج من الإسلام» (معاني الاخبار ص 175 ط النجف).

ومنها مرفوعة مرسلة رواها الكليني قدس سره «ذكر الحائك عند ابي عبد الله عليه السلام انه ملعون فقال: انما ذاك الذي يحوك الكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» (أصول الكافي ج 2 ص 340  باب الكذب ح 10)

وقد علق العلامة المجلسي قدس سره في مرآة العقول على هذه الرواية بما لفظه على ما في حاشية الكافي المطبوع «يحتمل ان يكون الحديث عنده موضوعاً ولم يمكنه اظهار ذلك تقية فذكر تأويلاً يوافق الحق ومثل ذلك في الاخبار كثير يعرف من اطلع على اسرار اخبارهم عليهم السلام».       

وفي معاني الاخبار ثلاث روايات تدل على ان جماعة الامة اهل الحق وان قلوا وفي بعضها وان كانوا عشرة ومن الواضح انه خلاف الظاهر (معاني الاخبار ص 151 ط النجف).

وفيه ايضاً عن ابي عبد الله عليه السلام قال «لعن الله الذهب والفضة لا يحبهما الا من كان من جنسهما قلت جعلت فداك الذهب والفضة؟! قال عليه السلام: ليس حيث تذهب اليه انما الذهب الذي ذهب بالدين والفضة الذي افاض الكفر». (معاني الاخبار ص 298 ط النجف)        

وفيه رواية مفصلة في تفسير ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «ان اختلاف امتي رحمة ومضمونها ان المراد الاختلاف الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للتعلم قال عليه السلام: انما اراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين الله انما الدين واحد» (معاني الاخبار ص 154 ط النجف).

ونظائر ذلك في معاني الاخبار كثيرة.

وروى الشيخ في التهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن ابن بكير عن زرارة عن حمران قال «قال لي ابو عبد الله عليه السلام ان في كتاب علي عليه السلام: اذا صلوا الجمعة في وقت فصلوا معهم قال زرارة: قلت له: هذا ما لا يكون اتقاك!! عدو الله اقتدي به؟! قال حمران: كيف اتقاني وانا لم أسأله هو الذي ابتدأني وقال في كتاب علي عليه السلام اذا صلوا الجمعة في وقت فصلوا معهم كيف يكون هذا منه تقية قال: قلت: قد اتقاك هذا ما لا يجوز حتى قضي انا اجتمعنا عند ابي عبد الله عليه السلام فقال له حمران: اصلحك الله حدثت هذا الحديث الذي حدثتني به ان في كتاب علي عليه السلام: اذا صلوا الجمعة في وقت فصلوا معهم فقال: هذا ما لا يكون عدو الله فاسق لا ينبغي لنا ان نقتدي به ولا نصلي معه فقال ابو عبد الله عليه السلام: اذا صلوا الجمعة في وقت فصلوا معهم ولا تقومنّ من مقعدك حتى تصلي ركعتين آخرتين قلت: فأكون قد صليت اربعاً لنفسي لم اقتد به فقال نعم قال: فسكتّ وسكت صاحبي ورضينا» (جامع الاحاديث ج 6 ص 77 ح 4542).

ويظهر من هذه الرواية ان الامام عليه السلام لم يذكر ذيل الحديث الوارد في كتاب علي عليه السلام لحمران في بداية الامر لمصلحة من المصالح. 

واما القسم الثاني اي الروايات التي لابد من حملها على خلاف الظاهر بمقتضى ملاحظة سائر الروايات فهي كثيرة ايضاً:       

منها رواية محمد بن يحيى الخثعمي قال «سألت ابا عبد الله عليه السلام عن النفساء فقال كما كانت تكون مع ما مضى من اولادها وما جربت قلت فلم تلد فيما مضى قال بين الأربعين الى الخمسين» (جامع الأحاديث ج 1 ص 199 ح 1874).

وبملاحظة ان روايات النفاس مختلفة اختلافاً شديداً نعلم ان هناك ما يوجب اخفاء الحكم عن الخثعمي وهو عامي كما ذكره الشيخ في الاستبصار (ج 2 ص 305 من فاته الوقوف بالمشعر) وان كان ثقة ولذلك عدل الامام عن الجواب الواقعي واراد دفع السائل وحيث لم يقنع بالجواب الأول اجابه بما اوهم بظاهره ان النفاس متردد بين الأربعين والخمسين يوماً وحيث ان مقتضى بعض الروايات المعتبرة المعمول بها ان النفاس عشرة ايام يحتمل ان يكون المراد – كما قيل – ما بين عدد الأربعين والخمسين وهو العشرة. هكذا حمله المحقق الهمداني قدس سره قائلاً: ان احتمال التورية في هذه الرواية قوي جداً (كتاب الطهارة من مصباح الفقيه ص 228).

ومنها معتبرة علي بن مهزيار قال قرأت في كتاب عبد الله بن محمد الى ابي الحسن عليه السلام «جعلت فداك روى زرارة عن ابي جعفر وابي عبد الله عليهما السلام في الخمر يصيب ثوب الرجل انهما قالا لا بأس بان يصلي فيه انما حرم شربها وروى غير زرارة عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال اذا اصاب ثوبك خمر او نبيذ يعني المسكر فاغسله ان عرفت موضعه وان لم تعرف موضعه فاغسله كله وان صليت فيه فأعد صلاتك فأعلمني ما آخذ به فوقع بخطه عليه السلام وقرأته: خذ بقول ابي عبد الله عليه السلام» (جامع الاحاديث ج 1 ص 33 ح 303).

والروايات في مسألة نجاسة الخمر مختلفة والعامة يقولون بنجاسته إلا الشاذ منهم والمشهور بين علمائنا النجاسة ايضاً الا ان جماعة من القدماء ذهبوا الى طهارته منهم الصدوق و والده والجعفي والعماني وبملاحظة الجو الفقهي والاجتماعي للمسألة يظهر ان الامام الهادي عليه السلام قصد بهذا الجواب الابهام والاجمال اما الجو الفقهي فلما ذكرناه من اتفاق العامة تقريباً على نجاسته واما الجوّ الاجتماعي فبملاحظة ان الحكم بطهارة الخمر والحال انه مشهور بالنجاسة قد يستشم منه رائحة اللامبالاة في الدين فيكون وسيلة لدعايات المغرضين الشانئين وقد يكون موجباً لجرأة الشاربين واستخفافهم بشرب الخمر.

ولعل الحكم الواقعي هو الطهارة الا ان الامام عليه السلام احترز عن التصريح به فأبهم الجواب والا فالروايتان مرويتان عن ابي عبد الله عليه السلام ومع ذلك فالإمام لم يأمر بالأخذ برواية ابي عبد الله عليه السلام وانما امر بالأخذ بقوله وهو متعين جزماً الا ان قوله الواقعي مجهول عند السائل وبذلك يعلم وجه التورية والعدول عن الجواب المطابق للسؤال الى جواب حق لا يطابق السؤال ويوهم المطابقة.

هذا هو الظاهر من الرواية ولكن بعض الفقهاء ذهبوا الى ان المراد التخيير بينهما وبعضهم استظهروا منها ان المراد برواية ابي عبد الله عليه السلام ما روي عنه خاصة دون ما روي عنهما فالمراد الرواية الثانية.

قال بعض الاعاظم بعد تقرير ما ذكرناه من ان المراد رواية الصادق عليه السلام خاصّة ان الرواية الدالة على طهارة الخمر ايضاً لو كانت مرادة من قول ابي عبد الله عليه السلام لكان هذا موجباً لتحير السائل في الجواب ولوجب عليه اعادة السؤال ثانياً لتوضيح مراده (التنقيح ج 2 ص 107 الطبعة الثانية).

وبما ذكرناه في مجموع هذا الباب وما تقدم في اسباب الكتمان يعلم ان كثيراً ما يوجب الجواب التحير كما ان الفقهاء ايضاً كثيراً ما يجيبون على الابهام او يخفون الفتاوى تحت ستار الاحتياط الوجوبي وهذا سنة الاعاظم في كل مجتمع مع عامة الناس وعدم اعادة السؤال لعله لاطلاع السائل على اغراض الائمة عليهم السلام وانهم قد يخفون الأجوبة لمصالح مهمة وحينئذ فلا ينبغي له اعادة السؤال ولعله ايضاً توهم ما توهمه غيره وهذا ليس قرينة على مراد الامام عليه السلام.

ومنها بعض الروايات الواردة في كيفية الصلاة في اماكن التخيير الأربعة وقد مر بعض الكلام في هذه المسألة وذكرنا سرّ الكتمان فيها اجمالاً ومجمل القول ان الائمة عليهم السلام ارادوا اعلام الشيعة بخصوصية في هذه الأماكن الا انهم كانوا يواجهون بعض المشاكل في التصريح بذلك من جهة شمول الحكم لمسجد الكوفة باعتبار كونه حرم امير المؤمنين ولحائر الحسين عليهما السلام فكان من الصعب عند عامة الناس قبول هذا الحكم لتأخر موضوعه عن عهد التشريع.

وذكرنا هناك فرضية يمكن بموجبها دفع هذا التوهم. ولعل ذلك هو الموجب لتكرر التصريح في الروايات بان هذا الحكم من مخزون علم الله. وذكرنا هناك ايضاً ان بعض اكابر الاصحاب لم يلتزموا علمياً بالتخيير بمعنى انهم كانوا ملتزمين بالقصر. وهذا العمل وان كان صحيحاً لانه أحد شقي التخيير الا ان الالتزام به يعبّر عن حزازة في نفوسهم من التخيير.

روى ابن قولويه عن ابيه عن سعد بن عبد الله قال سألت ايوب بن نوح عن تقصير الصلاة في هذه المشاهد مكة والمدينة والكوفة وقبر الحسين عليه السلام الأربعة والذي روي فيها فقال: انا أقصر وكان صفوان يقصر وابن ابي عمير يقصر وجميع اصحابنا يقصرون (كامل الزيارات ب 81 ص 248).

فمن الروايات التي وردت في هذه المسألة على وجه التورية رواية الحصيني قال «استأمرت ابا جعفر عليه السلام في الاتمام والتقصير قال: اذا دخلت الحرمين فانو عشرة ايام واتم الصلاة. فقلت له: اني اقدم مكة قبل التروية بيوم او يومين او ثلاثة قال: انو مقام عشرة ايام واتم الصلاة» (جامع الاحاديث ج 7 ص 91 ح 6187).

ومن الواضح ان الامر بإقامة عشرة ايام واتمام الصلاة ليس الا عدولاً عن الجواب الواقعي خصوصاً بعد فرض السائل عدم تمكنه من اقامة عشرة أيام.

وفي رواية معاوية بن وهب قال «سألت ابا عبد الله عليه السلام عن التقصير في الحرمين والتمام فقال: لا تتم حتّى تجمع على مقام عشرة أيام. فقلت ان اصحابنا رووا عنك انك امرتهم بالتمام. فقال: ان اصحابك كانوا يدخلون المسجد فيصلون ويأخذون نعالهم ويخرجون والناس يستقبلونهم يدخلون المسجد للصلاة فامرتهم بالتمام» (جامع الأحاديث ج 7 ص 89 ح 6182).

ومن الواضح ان هذا التعليل لا يوجب الحكم بالتمام لولا التخيير واقعاً الا ان الامام عليه السلام رغم انه اخفى الحكم بالتخيير في ذلك المجلس بيّنه ايضاً بوجه غير صريح وهذا من موارد قول الشاعر «ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا * واللحن يعرفه ذووا الالباب».

وفي روايته الأخرى قال: «قلت لابي عبد الله عليه السلام: مكة والمدينة كسائر البلدان؟ قال: نعم. قلت: قد روى عنك بعض اصحابنا أنك قلت لهم: اتموا بالمدينة بخمس. فقال: ان اصحابكم هؤلاء كانوا يقدمون فيخرجون من المسجد عند الصلاة فكرهت ذلك لهم فلذلك قلته» (جامع الأحاديث ج 7 ص 89 ح 6183).

وانما سأل الراوي عن مماثلة الحرمين لسائر البلدان في كيفية الصلاة في السفر و اراد الامام عليه السلام بقوله (نعم) المماثلة في بعض الجهات الطبيعية او غير التخيير من الاحكام المشتركة وباقي الحديث كالحديث السابق.     

  1. الجهة الثالثة: في نتائج البحث عن التورية وتأثيره في الاستنباط الفقهي وطريقة استكشاف المراد الواقعي من الروايات التي صدرت على هذا الوجه.

وقبل الورود في هذا البحث لابد ان نميزّ بين الكتمان الطبيعي و الكتمان غير الطبيعي حيث ان مدار البحث هو القسم الثاني.

والمراد بالكتمان الطبيعي، الكتمان في مرحلة النشر والاعلام وهو الذي تقتضيه طبيعة التدرج في بيان الاحكام والفرق بين مقامي التعليم والفتيا حيث ذكرنا ان الاعتماد في التعاليم على القرينة المنفصلة امر طبيعي بخلاف الفتاوى ومن الواضح ان هذا الاعتماد يستدعي نوعاً من الكتمان في مرحلة إلقاء الأصول الكلية ولكنه امر لابد منه كما هو الحال في جميع انحاء التعليم في مختلف الفنون والعلوم.

كما ذكرنا ان المفتي يطبق في مرحلة اصدار الفتوى وبيان الوظيفة الشخصية موضوع السؤال على القانون المختص به في ذهنه ويصدر القرار الخاص دون ابراز سرّ المسألة والموضوع الواقعي للحكم غالباً. وهذا ايضاً مما يوجب كتمان الموضوع الواقعي ويتسبب الى وقوع انحاء من الاختلاف في الأحاديث ولكن ذلك ايضاً امر طبيعي لابد منه في مقام الفتوى وارشاد الجاهل كما هو الحال في نظائره كالمريض المراجع للطبيب على ما مر تفصيله.

وكذلك ما يقتضيه الارشاد من انتخاب أسهل الطرق للمسترشد في افراد الوجوب التخيري، الامر الذي يوهم كونه واجباً تعيينيا. وكذلك ايضاً الكتمان في نوعية الحكم الصادر من الامام وانه هل هو للحكم التشريعي الدائم او انشاء للحكم التنفيذي.

ومن هذا القبيل أيضاً الحكم المترتب على موضوع لا يتحقق شرطه في عهد الصدور ومع ذلك يصدر الحكم بنحو مطلق ثم يبين ان هذا الحكم مختص بكذا نظير ما ورد في بعض الروايات وان كانت ضعيفة سنداً من ان ربح المؤمن على المؤمن ربا (راجع الوسائل ج 12 ص 293 ب 10 من آداب التجارة) و ورد في رواية ان ذلك إذا ظهر الحق وقام قائمنا اهل البيت (الباب المذكور ح 4) ومن الواضح ان مقتضى ذلك كتمان الشرط الواقعي للحكم في القسم الأول.  

واما الكتمان غير الطبيعي اي المختص بمقام اخفاء الواقع فهو الذي يختاره المتكلم في ظروف استثنائية وقد ذكرنا في ما مضى اسباب هذا الكتمان وهذا المعبرّ عنه بالتورية واللحن والمعاريض.

والبحث في هذا المقام يدور حول هذا القسم وان كان دخيلاً في توضيح بعض الجوانب من القسم الأول ايضاً. 

ويقع البحث في هذه الجهة في عدة أمور:

الامر الأول: في بيان غرض الائمة عليهم السلام من اعلام ان رواياتهم تشتمل على الكتمان والتورية وانهم يتكلمون على سبعين وجهاً او ما يترتب عليه من آثار.

وفيه ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول: ان يكون الغرض تبرئة ساحتهم المقدسة عن الكذب في موارد الكتمان للتقية وغيرها بناء على ان التورية يخرج الكلام عن عنوان الكذب.

ومن هنا ذكر الشيخ فيما نقلناه من عبارته ان حمل كلامهم على التورية اليق بمقامهم من الحمل على الكذب لمصلحة (الرسائل طـ رحمت الله ص 466).

وبناء على هذا الاحتمال فهذا الاعلام ليس الا لتنزيه مقام الائمة عليهم السلام ولا يساعدنا في طريقة استكشاف الحكم عن موارد التورية. وهذا الاحتمال يستفاد من بعض عبارات السيد الطباطبائي في رسالة التعادل و التراجيح ولكن لا يمكننا موافقته لسببين:

الأول: انهم عليهم السلام ذكروا انهم يتكلمون على سبعين وجهاً لهم في كل منها المخرج ومقتضى ذلك انهم يتمكنون من صرف الكلام عن الكذب والاضطرار انما هو الى أصل التكلم لا الى ذكر الامر المخالف للواقع.

الثاني: انه سيأتي انهم عليهم السلام حرضوا على التأمل في معارض كلامهم والتدبر فيها واستخراج الحكم الواقعي منها. وهذا بالطبع لا يوافق هذا الاحتمال.

الاحتمال الثاني: ما يظهر من عبارة الشيخ الانصاري قده التي نقلناها في اول البحث عن التورية وهو ان فائدة التورية واستكشافها فتح باب التأويل في الجمع بين الروايات كما صنعه الشيخ الطوسي قده من الجموع التبرعية. فمقتضى كثرة ارادة خلاف الظاهر في الروايات عدم استبعاد محامل الشيخ وتأويلاته وان كانت بعيدة ولم يكن لها شاهد في الروايات او الفهم العرفي في مقام الجمع بينها.

ومن الواضح ان هذا لا يمكن ان يكون داعياً لإعلام وجود التورية في الروايات بل لا يصح شيء من التأويلات البعيدة في موارد التورية حتى مع العلم بها وانما يجب استكشاف الحكم الواقعي منها بطرق خاصة سنذكرها ان شاء الله تعالى.

الاحتمال الثالث: ان الغرض من هذا الاعلام هو الارشاد الى وجوب التأمل في معاريض كلامهم والاشارة الى ان المقياس في الجمع بين كلماتهم ليس هو الفهم العرفي كما قيل بل المقياس هو الجمع الاستنباطي وسيأتي تفصيل البحث فيه في المقصد الرابع المخصص لكيفيات الجمع الدلالي. والمراد به كشف المراد الواقعي بلحاظ الطرق التي سنذكرها في الامر الثالث ان شاء الله تعالى لمعرفة المعاريض مع ملاحظة سائر الخصوصيات المكتنفة بالكلام.

وهناك غرضان آخران في هذا الاعلام ايضاً: 

الأول: رفع توهم ان الاختلاف في فتاوى الائمة عليهم السلام كاختلاف الفقهاء في فتاواهم حيث يستند الى اختلاف الرأي وتبدله كما كان يتوهمه العامة فكانوا ينظرون الى فتاوى ائمة اهل البيت عليهم السلام كما ينظرون الى فتاوى فقهائهم نظراً الى ما في كلتا الطائفتين من الاختلاف.

وقد تسرّب هذا التوهم الى بعض فقهاء الشيعة ايضاً نظير ما نسب الى ابن الجنيد قدس سره في فهرست مصنفاته ونسبه اليه الشيخ المفيد قدس سره ايضاً كما ذكر في ترجمته.

ونظير ما ذكره الشيخ المفيد في القوم الذين وردوا من قم و انهم كانوا يعتقدون بأن الائمة عليهم السلام يلتجئون في حكم الشريعة الى الرأي والظنون (المستدرك ج 3 ص 670). فأراد الائمة (ع) بيان ان الاختلاف ليس ناشئاً من اختلاف النظر والرأي وانه لابد من رفع الاختلاف بموجب المقاييس الأدبية والعلمية في فهم المعاريض.

ولا شك ان الذين يتسلمون زمام القيادة الاجتماعية لا يمكنهم التحدث بصراحة في جميع الموارد فالجاهل الذي لم يتفطن الى انه يمشي على خطة واحدة وهدف مرسوم يظن انه يتلون او يبدّل آرائه واهدافه الأساسية واما العالم المطلع على وحدة الهدف الخبير بمعاريض الكلام يتمكن من التوحيد بين كلماته وجمع شتاته ومن التمييز بين ما صرّح فيه بالمقصود وما اشير فيه اليه باللحن.   

والحاصل ان اختلافهم عليهم السلام ناشئ من اختلاف التعبير غالباً وان منها ما هو صريح ومنها ما هو على وجه التورية واللحن فلا يقاس ذلك باختلافات الفقهاء المستندة الى تبدل الرأي والمظنة او الى أسباب اخر نظيرها كما ينسب الى احمد بن حنبل في كتب القوم من انه كان يفتي مختلفاً بحيث يوافق كل فتوى من فتاويه رأي أحد الصحابة يقصد بذلك احترامهم.

والغرض الثاني تزكية الرواة وتنزيههم عن الكذب وذلك لان اختلاف الاخبار عند العارفين بمقام اهل البيت عليهم السلام وانهم لا تختلف آراؤهم يوجب اتهام الرواة بالكذب. و ينشأ من ذلك محذوران:

أولا: الارتياب في استناد فقه الشيعة الى اهل البيت عليهم السلام كما توهم بعض العامة زعماً بأنهم يكذبون على ائمتهم بل قد تسرب هذا التوهم الى بعض علماء الشيعة ايضاً كابن قبة حيث نقلنا عنه في أوائل مبحث التعارض ان الاختلاف ناشئ من الرواة المدلسين على ما حكاه عنه الصدوق في اكمال الدين من دون نقد.   

ثانيا: تكذيب الشيعة للرواة وعدم العمل برواياتهم كما مر في رواية عبد الملك بن اعين حيث قال للأمام عليه السلام: «لئن لم تُخبِرهم بما اخبرت به زرارة لنأتين الكوفة ولنصبحن بها كُذّابا» (راجع الوسائل ج 8 ص 176 ب 3 من اقسام الحج ح 19).

فتلخص مما ذكرنا ان الداعي لإعلام وجود التورية في كلماتهم ليس هو نفي الكذب عنهم فقط او فتح باب التأويل بل الداعي له الارشاد الى لزوم التأمل في معاريض كلامهم واستنباط الحكم الواقعي منها وتنزيه اخبارهم عن القول بالرأي وتزكية الرواة.

الامر الثاني في ان التورية او اللحن ليس لإخفاء المطلب بل المراد به افهام المخاطب بوجه خاص و الكلام حول ذلك في ثلاث جهات:

الجهة الأولى: في كون التورية للإفهام بحسب الادب العربي.

الجهة الثانية: في الروايات المحرضة على التفقه في موارد التورية.

الجهة الثالثة: في كلمات الفقهاء حول ذلك.   

اما الجهة الأولى فمن الواضح في الادب العربي ان فهم معاريض الكلام يعتبر من خصائص الموهوبين واصحاب الذوق الرفيع، وقد قال الشاعر:

ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا * واللحن يعرفه ذوو الالباب

وقد نقلنا في الجهة الأولى من مباحث التورية كلام السيد المرتضى قدس سره حيث أشار الى هذا المعنى. والحاصل ان عدم تفهم المعاريض واللحن يعد من معايب الرجل. ولذا عدّ المرحوم العلامة الاميني قدس سره في كتاب الغدير مما يعيّر به الخليفة الثاني جهله بمعاريض الكلم وقد خصص للشواهد المنقولة عنه في ذلك قسماً من الفصل الذي سماه «نوادر الاثر في علم عمر» (الغدير ج 6 ص 105).

ومن لطيف التورية ما نقل عن ابي حنيفة في كيفية مبايعته لابي العباس السفاح بعد ان عرض على الفقهاء بيعته فنظر القوم الى ابي حنيفة فقال: ان احببتم ان اتكلم عني وعنكم. فقالوا قد احببنا ذلك. فقال: الحمد لله الذي بلغ الحق من قرابة نبيه صلى الله عليه وسلم وأمات عنا دور الظلمة وبسط السنتنا بالحق، قد بايعناك على امر الله والوفاء لك بعهدك الى قيام الساعة. فلما خرجوا قالوا له ما اردت بقولك الى قيام الساعة؟ قال: ان احتلتم عليّ احتلت عليكم واسلمتكم للبلاء فسكت القوم (). 

ومنه يعلم ان القوم علموا بانه لم يبايع حقاً ويحتمل ان يكون مراده الى قيامي الساعة فيكون البيعة محدودة الى قيامه عن المجلس كما ان سائر فقراته ايضاً لا تخلو عن تورية فان قوله بلغ الحق من قرابة نبيه اراد به انه قربه إليهم. وذلك لانه كان يعتقد بان الحق للعلويين ويعلم ايضاً من جوابه للقوم انه اعترف بما في كلامه من التورية. ولكن ابى بعض كتاب العصر ذلك وقال: وعندي ان الخطبة للمبايعة حقاً. وما ذلك الا انكار التورية ومعاريض الكلام ولعله لتنزيه ابي حنيفة عن التقية التي يصرّ القوم على النكير عليها.

الجهة الثانية: في الروايات المحرضة على التأمل في معاريض كلامهم.

وهي كثيرة نذكر بعضها، ولا يهمنا في هذا المقام ان تكون الروايات معتبرة سنداً اذ لا نقصد بها الاستدلال حتى نهتم بحجيتها وانما نقصد الاستشهاد بها والتأييد لما ذكرناه في الجهة الأولى.

والروايات كما يلي: 

الأولى: معتبرة ابراهيم الكرخي عن ابي عبد الله عليه السلام قال: «حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا وان الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً لنا من جميعها المخرج» (معاني الاخبار ص 2 ط النجف الباب الأول).

والمراد بدراية الحديث معرفة ظواهرها العرفية اذ هي معلومة لدى الرواة العرب فالتحريض انما هو على دراية خاصة سيأتي تفصيلها ان شاء الله تعالى.

وحاصل الرواية التحريض على ان لا يقتنع الرواة بالرواية بل يتأملوا المعنى حتى يكونوا فقهاء ولا يكون ذلك الا ان يلاحظوا ان كلماتهم تنصرف على سبعين وجهاً، و قد مر شرح هذه الكلمة وقلنا بان الوجوه هي انحاء الجواب المختلفة لفظاً ومعنىً والمراد التنبيه على ان المقصود قد يذكر بلفظ صريح بل يذكر على وجه التورية.

الثانية: رواية داود بن فرقد قال «سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا. ان الكلمة لتنصرف على وجوه فلو شاء انسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب» (معاني الاخبار ص 1 ط النجف الباب الأول)

وهذا الذيل ايضاً اشارة الى انحاء التورية في ابراز المقصود الواحد.

الثالثة: ما رواه في تفسير نور الثقلين نقلاً عن كتاب التوحيد للصدوق قدس سره بسنده عن ابي عبيدة عن ابي جعفر عليه السلام قال «قال لي: يا ابا عبيدة خالقوا الناس بأخلاقهم وزايلوهم بأعمالهم. انا لا نعد الرجل فينا عاقلاً حتى يعرف لحن القول ثم قرأ هذه الآية ولتعرفنهم في لحن القول ...» (تفسير نور الثقلين ج 5 ص 44).

ورواه العلامة المجلسي قده في البحار عن كشف الحجة عن ابي عبيدة ايضاً الا ان فيها: «يا ابا عبيدة انا لا نعد الرجل فقيهاً عالماً حتى يعرف لحن القول وهو قول الله عز وجل ولتعرفنهم في لحن القول» (بحار الانوار ج 2 ص 138).

ولا يبعد ان يكون قوله «فينا عاقلاً» في النقل الأول تحريفاً عن كلمتي «فقيهاً عالماً» كما في هذا النقل لتشابههما.   

الرابعة: وروى المجلسي ايضاً عن كتاب الغيبة للنعماني عن المفضل قال «قال ابو عبد الله عليه السلام : خبر تدريه خير من عشرة ترويه. ان لكل حق حقيقة ولكل صواب نوراً اما والله انا لا نعد الرجل فقيهاً حتى يلحن له فيعرف اللحن» (البحار ص 134).

وجملة «ان لكل حق حقيقة الخ» ان اتي بها مقدمة لما بعدها فلعلها اشارة الى ان مما يعتبر في فهم معاريض الكلام مقايسته بالأصول المسلمة عند المتكلم. وسيأتي تفصيله في باب الاخذ بشواهد الكتاب والسنة ان شاء الله تعالى. ومجمل القول ان أحد اسباب الانتقال الى ان المعنى الظاهر غير مقصود للمتكلم هو مخالفة ظاهر الكلام للأصول المسلمة عنده.

الخامسة: مرفوعة الكشي: «قال الصادق عليه السلام: اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنا فانا لا نعد الفقيه منهم فقيهاً حتى يكون محدّثاً. فقيل له: او يكون المؤمن محدّثاً؟ قال يكون مفهّماً والمفهّم محدّث» (رجال الكشي ح 2).

الجهة الثالثة: في كلمات بعض الفقهاء:

قد تعرض الفقهاء في موارد من الفقه لهذا المعنى وخصوصاً صاحب الجواهر قدس سره فانه كثيراً ما ينبّه في معرفة مراد الائمة عليهم السلام الى ان ذلك انما يحصل لمن رزقه الله معرفة المعاريض ولحن الكلام.       

فمنها ما ذكره في مسألة ذبائح اهل الكتاب قال: «إن النصوص فيها مختلفة ومن المعلوم ان هذه النصوص بين الامامية كالنصوص الدالة على طهارة سؤرهم ونحوها مما هو معلوم خروجها مخرج التقية كما اومى اليه خبر بشير بن ابي غيلان الشيباني "سألتُ ابا عبد الله عليه السلام عن ذبائح اليهود والنصارى والنصاب قال فلوى شدقه وقال كلها الى يومٍ ما" بل لا يَخفى على من رزقه الله فهم اللحن في القول ان هذا الاختلاف في الجواب ليس الا لها» ثم عدّ طوائف من الروايات التي قسّمها الى اثني عشر طائفة. وسيأتي ان شاء الله انّ مما ينبّه على وجود التورية في الكلام اختلافه في الموارد المتعددة. 

هذا وما اشار اليه قدس سره من الفهم الذي يرزقه الله هو القدرة الطبيعية التي تحصل من عوامل البيئة والوراثة على فهم المعاريض والذي نحن بصدده في هذه المباحث تحديد وسائل فهم المعاريض في صيغة علمية وتحت اسس وقوانين عامة و نسأل الله التوفيق.

هذا كما ان المنطق العلمي ايضاً ليس الا سرداً للمنطق الطبيعي الذي يزاوله عامة الناس في صياغة فنية. وكذلك الأصول التي صنعها علماؤنا قدس الله اسرارهم وهذبوها حتى وصلت الى هذه المرتبة الراقية بعد تطورها هذه القرون المديدة ليست غالباً الا تعبيراً علمياً وقوانين منظمة للمرتكزات العقلائية في كيفية استنباطهم مقاصد الآخرين من اقوالهم.   

ومما وجدناه في كلمات الفقهاء من التعرض للتورية كلام المحقق الهمداني قدس سره الذي مرّ ذكره حول الرواية التي وردت في عدد ايام النفاس وانها بين الأربعين والخمسين حيث اعتبرها من التورية وان المراد انها عشرة أيام (مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 338).

الامر الثالث: في كيفية استكشاف التورية في الكلام.

وهنا طريقان:

الطريق الأول – و هو ما يستفاد من كلمات بعض الاعلام – ويتركب من مقدمات:

المقدمة الأولى: ان الائمة عليهم السلام لم يشذوا عن سائر افراد المجتمع في الميثاق الاجتماعي الذي يلتزم به الجميع من حجية ظواهر الكلام وإعلامهم بان كلامهم يشتمل على التورية او العلم الإجمالي بأنهم كثيراً ما يبرزون مقاصدهم بهذا النحو لا يوجب رفضهم للميثاق وخروجهم عن المعتاد في طريقة التكلم وابراز المقاصد حتى لا يمكن التمسك ببناء العقلاء في حجية ظواهر كلامهم.     

وبناء على هذا التوهم حكم السيد الصدر شارح الوافية بعد رفضه جواز العمل بظواهر الكتاب بان الاخبار ايضاً لو لا ان اصحاب الائمة عليهم السلام كانوا يعملون بها من غير فحص عن مخصص او معارض ناسخ ومقيد لكنا في العمل بها من المتوقفين (الرسائل ط حاشية الاشنياني ج 1 ص 65). حيث اعتبر دليل حجية ظواهر الاخبار الاجماع العملي دون بناء العقلاء وردّه الشيخ الانصاري قدس سره فراجع.

وعلى ما ذكرنا من حجية ظواهر كلماتهم فلابد من ان نوجّه اعلام التورية وكثرة وجودها في كلامهم بحيث لا ينافي حجية الظواهر والا لانسدّ باب الاستفادة من أحاديثهم عليهم السلام.     

المقدمة الثانية: ان التورية ليست من مخالفة الظاهر في شيء وانما ينشأ تشابه المعنى من توهم المخاطب ما ليس بظاهر ظاهراً وان كان المتكلم قد اراد ظاهر الكلام ومنشأ توهم المخاطب ذلك انه يتوهم حسب القاعدة ان جواب المتكلم مطابق لسؤاله مع انه عدل عن جوابه الى مقصد آخر لايهامه. فالسرّ في تشابه المعنى ليس الا هو العدول عن الجواب المطابق للسؤال الى موضوع آخر بحيث يتوهم المخاطب انه هو الجواب المطابق. وهذا العدول هو الذي حصل خلافاً للقاعدة المتبعة في المحادثات دون ارادة خلاف الظاهر.

ويظهر ذلك بملاحظة الأمثلة العرفية التي قدمناها في التورية نظير جواب الخادم عمن يطلب سيده في الدار (اطلبه في المسجد) فان المخاطب يتوهم انه قد اجابه وان سيده في المسجد وهو لم يقصد جوابه وانما امره بشيء عدولاً عن الجواب المطابق لسؤاله، فلو كان المخاطب رجلاً فطناً دقيق النظر لعلم من نفس العدول عن الجواب المختصر («لا» او «نعم») ان هناك امراً يستوجب اخفاء الواقع عنه.   

المقدمة الثالثة: ان حقيقة التورية ليس الا العدول عن مقتضى الحال الى غيره وهذا المعنى هو الجامع بين جميع انحاء التورية.

فاذا سألت الفقيه عن جواز شراء المذياع مثلاً وانت في مقام الاستفتاء فالجواب لابد ان يكون بالنفي او الاثبات الا انه لمصلحة لا تخفى يعدل عن مقام الافتاء الى مقام التعليم فيلقي عليك قاعدة كلية انت عاجز عن تطبيقها ولعلك كنت تعلمها وانما سألت عن انطباقها، فيقول مثلاً: «لا يجوز شراء الآلات المختصة باللهو». وان تنزل فأراد ان يقرب اليك الواقع يقول: «ان كان من الآلات المختصة باللهو لا يجوز شراؤه». وان تنزل فأراد ان يفهمك العنوان المنطبق عليه تحت ستار خفيف يقول: «ان كان من الآلات المشتركة يجوز شراؤه». وهو في جميع ذلك يتهرب من التطبيق الذي هو المقصود من الاستفتاء. فحقيقة التورية ليست الا العدول، واليه يشير ما في الروايات من ان الكلمة لتنصرف الى وجوه وأن الانسان لو شاء لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب. فان الصرف هو التحويل والعدول. 

ويمكن نقد المقدمة الأولى بان المراد بها هو ان اعلام وجود التورية في الروايات حيث انه لا يمكن ان يمنع من حجية ظواهر كلماتهم عليهم السلام والا لانسد باب الاستفادة منها فلابد من توجيه التورية بما ذكر في المقدمة الثانية. وهذا غير صحيح فان اعلام وجود مخالفة الظاهر في الكلام لا يقتضي سقوط الظواهر عن الحجية فلا مانع من كون التورية من مخالفة الظاهر.

بيان ذلك: ان الظاهر حجة ما لم تقم القرينة على ارادة خلافها فالمراد من اعلام التورية هو تنبيه الفقهاء بوجوب ملاحظة القرائن التي ستأتي مفصلة لاستكشاف وجود التورية وعدمها في الكلام فالإعلام بوجود التورية ليس الا منبّهاً يمنع الاغترار بحجية الظواهر وعدم الاعتناء باحتمال وجود التورية وخلاف الظاهر. واما بعد الفحص وعدم العثور على قرينة تمنع من ارادة الظاهر فلا اشكال في حجيته فهذا ليس الا كالإعلام بوجود المجازات والاستعارات وارادة الخاص ونظائرها مما تخالف فيها المراد الاستعمالي.

واما المقدمة الثانية فالجواب عنها ان التورية قد تكون من النوع المذكور وهو ان يكون منشأ توهم المخاطب هو توهم مطابقة الجواب للسؤال، الا انها لا تختص بهذا النوع بل هناك كثير من موارد التورية قد اريد فيها خلاف الظاهر قطعاً.

وقد مر بعض الأمثلة التي هي من هذا القبيل كقولك «ما رأيت زيداً ولا كلمته» في جواب من سألك عنه، وقد رأيته وانما تقصد ما ضربت رئته ولا جرحته، وقد عدّه الادباء من التورية مع انه استعمال في خلاف الظاهر. وكقول ابراهيم عليه السلام (اني سقيم) فان المعاني التي ذكرت له ليست ظاهرة منه. وكبعض الروايات السابقة كقوله عليه السلام «من مثل مثالاً او اقتفى كلباً خرج عن الإسلام» وقوله عليه السلام «لعن الله الذهب والفضة» حيث انه فسرهما بما ليس من ظاهرهما.

واما المقدمة الثالثة فالجواب عنها ان العدول عن مقتضى الحال ليس الا أحد منبهات وجود التورية في الكلام كما ان هناك منبهات أخرى له سيأتي ذكرها ان شاء الله تعالى. واما تفسير التورية بالعدول او توهم انه المنبه الوحيد فغير صحيح اذ قد تكون التورية في الكلام غير مقترنة بالعدول عن مقتضى الحال كالمثال السابق (ما رأيت زيداً ولا كلمته) اذ لا ينتظر المخاطب غير ذلك. كما انه قد يتحقق العدول في غير موارد التورية ايضاً.     

و طريق معرفة وجود التورية في الكلام واستكشافها ملاحظة أمور:

الأول: ان ما يبدو من الكلام هل هو موافق للأصول المتبعة عند المتكلم التي يلتزم بها قطعاً ام مخالف لها؟ فان كان مخالفاً لها دلّ ذلك على وجود التورية في الكلام، وعدم التنبه الى هذا الامر يوجب الوقوع في الخطأ وعدم التوجه الى وجود التورية.

نظير ما يحكى ان حذيفة بن اليمان لقي عمر بن الخطاب فقال له عمر: كيف اصبحت يا ابن اليمان فقال: كيف تريدني أصبح، اصبحت والله أكره الحق وأحب الفتنة واشهد بما لم اره واصلي على غير وضوء ولي في الأرض ما ليس لله في السماء. فغضب عمر لقوله وانصرف من فوره وقد اعجله امر وعزم على اذى حذيفة لقوله ذلك فبينما هو في الطريق اذ مر بعلي بن ابي طالب عليه السلام فرأى الغضب في وجهه فقال ما اغضبك يا عمر؟ فقال لقيت حذيفة بن اليمان فسألته كيف اصبحت فقال اصبحت اكره الحق. فقال صدق يكره الموت و هو حق. فقال يقول واحب الفتنة قال صدق يحب المال والولد وقد قال الله تعالى: انما اموالكم واولادكم فتنة. فقال يا علي يقول واشهد بما لا اره. فقال صدق يشهد لله بالوحدانية والموت والبعث والقيامة والجنة والنار والصراط ولم ير ذلك كله.... الى اخره (الغدير ج 6 ص 105 وقد حذفنا احدى الفقرات لسبب ذكره الاميني قدس سره في ذيل الحديث).

ولو تنبه عمر ولاحظ ان ما يبدو من كلام حذيفة لا يوافق الأصول المسلمة عنده قطعاً لعلم ان ذلك غير مقصود له وان هناك تورية في الكلام.

ونظير ذلك ما حكاه السيد المرتضى قده في الامالي في شرح خبر روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال «من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله تعالى وهو اجذم». فنقل من ابي عبيد القاسم بن سلام انه فسره بان المراد المقطوع اليد ونقل عن ابي قتيبة تخطئته وان قطع اليد لا يناسب نسيان القرآن فان العقوبات لا تكون الا وفقاً للذنوب، فالمراد بالأجذم المجذوم. ثم قال السيد رحمه الله: «قد أخطأ الرجلان جميعاً» ثم فسره بان المراد المبالغة في وصفه بالنقصان عن الكمال تشبيهاً له بالأجذم اي المقطوع اليد وذكر ان ذلك من ملاحن الكلام وان من لم يفهمها لا ينبغي له ان يفسر كلام العرب.. و كلامه مفصل فراجع (الامالي ج 1 ص 5).

ومحل الاستشهاد ان ابن سلام وابن قتيبة لم يفهما وجه اللحن في الكلام نظراً الى انهما لم يلاحظا الأصول المسلمة عند المتكلم وانه لا تناسب بين نسيان القرآن وقطع اليد كما انه لا يناسب الجذام وان حفظ القرآن ليس من الواجبات التي يعاقب الناس على تركها وعلى ضوء ذلك فسره السيد بان المراد فقدان الكمال.

ونظير ذلك ايضاً ما مرّ من قول الرجل الشيعي دفعاً للخارجي (انا من علي ومن عثمان بريء) حيث قصد البراءة من عثمان والولاية لعلي عليه السلام ولم يتنبه له الخارجي اذ لم يلاحظ الأصل المسلم عنده.

الثاني: الظروف الخاصة المحيطة بالكلام. ومما يوقع الاشتباه ايضاً عدم التنبه لذلك. نظير ما حُكي ان امرأة جاءت الى عمر فقالت يا امير المؤمنين ان زوجي يصوم النهار ويقوم فقال لها نعم الرجل زوجك وكان في مجلسه رجل يسمى كعباً فقال يا امير المؤمنين ان هذه المرأة تشكو زوجها في امر مباعدته اياها عن فراشه فقال كما فهمت كلامها احكم بينهما... (الغدير ج 6 ص 107) الخبر.

و من الواضح ان سرّ عدم تنبه الخليفة لكلامها انه لم يلاحظ الظروف الخاصة لكلامها حيث تجشمت حضور مجلس الخليفة ولا ريب انها لا تقصد بكلامها مدح زوجها لعدم مناسبة الحال وانما منعها حياءها عن التصريح.

وهذه القضية و اشباهها وهي كثيرة اوجبت فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية في الإسلام كما ان قضايا أخرى اوجبت فصل السلطة التشريعية والإفتاء عنها ايضاً، حيث كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يباشر السلطات الثلاث بنفسه ولكن لما تصدى السلطة التنفيذية من ليس اهلاً لها وجب الفصل بين السلطات بعد عدم تمكنهم من مباشرتها.

ونظير ذلك ايضاً قضية ابي حنيفة مع السفاح فان عدم ملاحظة الوضع الخاص وهو الخوف من السلطان منع بعض الكتاب من فهم التورية في كلامه مع ان القوم الذين كانوا معه تنبهوا له كما مر.

ومن هنا يعلم ان فهم موارد التورية في كلمات الائمة عليهم السلام يتوقف على ملاحظة الجو الاجتماعي الذي صدر الكلام فيه مع ملاحظة مقام الامام وزعامته الاجتماعية.

الثالث: الرواسب الذهنية للمخاطب فان وجود الذهنيات المعاكسة لمقصود المتكلم لدى المخاطب يستوجب التورية في الكلام كما يلاحظ ذلك في الروايات الصادرة تقية او مداراة للسائل الشيعي اذا كان جديد العهد بالتشيع.

الرابع: سائر الكلمات المنقولة او المسموعة من المتكلم. وهذه النقطة هامة جداً في معرفة التورية في الروايات فان فهم كل رواية ينبغي ان يكون على ضوء سائر الروايات في موضوعها وملاحظة تخالفها حتى يتبين مورد التورية فيها.     

الخامس: الامارات التي قد تدل على وجود التورية وامتناع المتكلم عن التصريح. نظير اضطراب الكلام وتغير ملامح الوجه وحركات المتكلم. كما مر في الجهة الثالثة ان صاحب الجواهر استظهر التقية في رواية الشيباني من قول الراوي (فلوى شدقه وقال كلها الى يوم ما). فهذا العمل الخارجي كانت امارة على الامتناع من التصريح وبيان الواقع (راجع ص34). وكما مرّ هناك ايضا من ان المحقق الهمداني استظهر من اضطراب الكلام وجود التورية في الرواية (راجع ص10).

 

1.1.3.2.3البحث الثالث من مباحث هذا الفصل

 

ونبحث فيه عن مناسبة كل سبب من أسباب الكتمان لنوع خاص من الحكم وقد تلخص مما ذكرناه في البحث الأول ان للكتمان أربعة اسباب:

1: مداراة السائل. 2: القاء الاختلاف بين الشيعة. 3: التقية. 4: السوق الى الكمال.

وقلنا بان التقية لها اسباب أربعة ايضاً:

أ: التحفظ على الراوي الشيعي. ب: اتقاء الامام على نفسه من السائل. ج: اتقاء الامام من السلطة. د: دفع توهم استناد الاباحية إليهم عليهم السلام.

و قبل البحث لابد من ذكر امرين:    

الامر الأول: ما فصلنا القول فيه سابقاً من ان الاحكام الالزامية تختلف بحسب الفرض والمصلحة الداعية الى انشائها فقد تكون من الأهمية بمكان بحيث يهتم الشارع بتبليغه اما في الكتاب العزيز او السنة المؤكدة مع تكراره حتى يتشكل التواتر المعنوي. وقد لا تكون بتلك المثابة من الأهمية فيتكفل اعلامه الوسائل المتعارفة. وقد تكون اقل أهمية من هذا الحد ايضا بحيث لا يجد الشارع محذوراً في سدّ باب الوصول بالنحو المتعارف اليه لمصلحة من المصالح كما سيأتي تفصيله ان شاء الله تعالى.

الامر الثاني: ان الاحكام على قسمين فمنهما مضيقة ومنها موسعة.

والمراد بالمضيقات الاحكام التي توجب ضيقاً على المكلف، سواء كانت تكليفية او وضعية كالنجاسة وحرمة الاكل والوجوب التعيني.  

والمراد بالموسعات الاحكام التي تشتمل على جانب من السعة وان كانت في نفسها تكليفاً وموجبة للضيق على المكلف فالمستحبات والمباحات والمكروهات باسرها من الموسّعات وقد يكون بعض الواجبات ايضاً من الموسعات بلحاظ شموله لجانب من السعة كما في الواجب التخييري او الواجب التعييني إذا كان مشتملاً على التخيير بين الافراد الطولية كسعة الوقت في الصلاة.   

بعد بيان هذين الامرين ننتقل الى البحث عن التناسب الملحوظ بين الحكم المكتوم والسبب الداعي للكتمان. و هناك طرق عديدة في بيان هذا التناسب:

الطريق الأول: وهذا الذي نختاره وهو التفصيل بين الاحكام الموسعة والمضيقة. فمن الأسباب ما يصحح الكتمان في خصوص الموسعات ومنها ما يصححه حتى في المضيقات ايضاً.

ولتوضيح ذلك لابد من عرض كل سبب من الأسباب وملاحظة تناسبه للحكم بلحاظ تقسيمه الى الموسع والمضيق:       

السبب الأول: مداراة السائل.

والظاهر انها كما تصحح كتمان الاحكام الموسعة كذلك تصحح كتمان المضيقات فان المدار في المداراة هو ملاحظة الرواسب الذهنية المعاكسة للسائل وفي ذلك لا يختلف كيفية الحكم من جهة التوسعة و التضييق.

نعم تختلف الاحكام في ذلك من جهة أخرى وهي كون الحكم مما اشتهر خلافه بين المسلمين ولم يمكن الاستدلال عليه حسب الأصول المسلمة عند الكل او عند المذاهب المعارضة. واما اذا امكن الاستدلال عليه بظاهر آية من القرآن او حديث متفق عليه او حديث مختص بالعامة فلا وجه لمداراة السائل وانما يباشر الامام توجيهه الى الدليل.

ومن هذا القسم ما ورد في بعض الروايات ان الامام لا يتقي في بعض الموارد.

روى الكليني بسند معتبر عن زرارة قال: «قلت له: في مسح الخفين تقية؟ فقال: ثلاثة لا اتقي فيهن احداً: شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج. قال زرارة: ولم يقل الواجب عليكم ان لا تتقوا فيهن احداً» (الوسائل ج 11 ص 469 ب 25 من الامر بالمعروف ح 5).

فلعل السرّ في عدم اتقائه عليه السلام فيها ان من روايات العامة ما تدل على نجاسة كل مسكر وان فتوى جماعة منهم حلية ما عدا الخمر. كما ان مسح الخفين ورد النهي عنه في بعض رواياتهم وان ما نقل من عمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل المائدة. واما متعة الحج فلم يحرمه الا عمر وخالفه في ذلك الصحابة فلا مانع من العمل به كما انه كذلك في فتوى جماعة من العامة.

وتبقى هذه المداراة الى ان يحصل للسائل الايمان بمبادئ الائمة عليهم السلام والأصول التي يعتمدون عليها في بيان الاحكام وهي فيما وراء الكتاب، صحف علي ومصحف فاطمة عليهما السلام مضافاً الى التأييد الإلهي.   

السبب الثاني: القاء الاختلاف بين الشيعة.

ويظهر مما مر في البحث عنه من الروايات التي تدل على انهم عليهم السلام كانوا يلقون الاختلاف بين اصحابهم تحفظاً على دمائهم وشؤونهم أن ذلك مختص بالموسعات.

كما يظهر ذلك بملاحظة رواية عبد الله بن زرارة المفصلة وسائر الروايات الواردة بشأن مواقيت الصلاة او عدد النوافل وأنها من الموسعات ولذلك القى الامام عليه السلام الاختلاف بين اصحابه فيه. وقد صرح في رواية عبد الله ان ما امرنا به اباك من كون الصلوات ستا وثلاثين ركعة حق وما امرنا به ابا بصير من انها احدى وخمسين ركعة حق ايضاً. وذلك واضح لان الاخذ بكلا الامرين جائز اذ لا يجب التقيد بالعدد الخاص في النوافل. كما انه كذلك في الواجبات التخييرية حيث يأمرون بعض السائلين بأحد الافراد وبعضا اخر بالفرد الآخر وكلاهما حق.

والحاصل ان الغرض وهو القاء الاختلاف في الظاهر لدفع شر المراقبين يحصل بالقائه في خصوص الموسعات.         

السبب الثالث: التقية.

وقد عرفت ان لها اسباباً اربعة ويختلف الامر بحسبها:

اما مورد التحفظ على الراوي، فالكتمان كما يكون في الموسعات كذلك في المضيقات كما ان مورد بعض الروايات التي ذكرناها في بيان ذلك كان من المضيقات، كالأمر بالوضوء بالكيفية التي لا تصح عندنا لداود بن زربي ولعلي بن يقطين. وكذلك في الامر بإعطاء نصف التركة للبنت الوحيدة خوفاً على الوصي من العصبة المطالبين بالنصف الآخر حسب مذهب العامة. والسر في ذلك ان التحفظ على المؤمن في نفسه وماله وعرضه بمكان من الأهمية يجوز فيه كتمان الحكم الالزامي.

وكذلك الحال في اتقاء الامام السائل العامي فانه لا يختص بالأحكام الموسعة لتحفظ الامام على نفسه او على شأن من شؤونه. وبطريق أولى في موارد اتقائه عن السلطان في الفتاوى المخالفة لأعمالهم، كما في اخفاء حرمة ما يصطاده غير الكلب من الجوارح في عهد بني امية ثم اظهاره بعد ضعفهم او زوالهم كما في رواية الحلبي وابان بن تغلب (راجع الوسائل ج 16 ص 220 ب 9 من الصيد والذبائح ح 3 و ح 12).

واما في موارد دفع اتهام موافقة الإباحية من الفرق الضالة التي تشكلت في عهد الامام كالخطابية والقرامطة وبعض الاسماعيلية والغلاة وغيرهم فالظاهر ان الكتمان يختص بالموسعات.

وذلك لان السبب الداعي اليه هو ان هذه الطوائف كانت تستبيح المحرمات وتدعي انتماءها الى الائمة عليهم السلام. والاحكام التي قد تتعرض للكتمان بهذا السبب ليست الا ما اشتهر بين المسلمين فيها التضييق والالزام خلافاً للواقع فلو اظهر الامام وجه التوسعة فيها توهم المغفلون او اوهم المضللون ان الانتماء حق وان الامام يؤيد الاباحية وهذا السبب لا يجري في الاحكام المضيقة. كما نلاحظ ذلك في الفقهاء ايضاً فانهم قد يخفون بعض الاباحات إذا اشتهر بين المسلمين او خصوص الشيعة حرمتها خوفاً من اتهامهم باللامبالاة او مداراة الفساق او التلون بمقتضيات العصر وغير ذلك. ومن الواضح ان شيئاً من ذلك لا يحصل في اظهار الحكم الالزامي.

السبب الرابع: السوق الى الكمال.

والكتمان هنا يختص ايضاً بالموسعات فان الموجب للسوق الى الكمال هو اخفاء الترخيص في الترك او الفعل ليلتزم الفرد او المجتمع بفعل المندوب او ترك المكروه لتحقيق الهدف وهو السوق الى الكمال. كما يلاحظ ذلك في اخفاء جواز الترك في زكاة مال التجارة مراعاة للفقر السائد في ذلك الزمان وقد فصلنا البحث فيه في محله. 

وعلى ضوء هذه الطريقة نلاحظ مثلاً في المقام لتطبيق هذا التفصيل:

اتفق العامة ما عدا ربيعة الرأي وبعض الظاهريين على نجاسة الخمر. وقد اختلفت رواياتنا فمنها ما دلت على النجاسة ومنها ما دلت على الطهارة. وقد حمل بعض الفقهاء روايات الطهارة على التقية. والذي يستكشف من هذه التفاصيل ان الكتمان لابد ان يكون في روايات النجاسة. وذلك لان شيئاً من اسباب الكتمان المتقدمة لا يجري في روايات الطهارة بان يكون الحكم المكتوم هو النجاسة.

اما مداراة السائل فلأن المفروض ان المشهور بين المسلمين هو النجاسة.

واما القاء الاختلاف فقد عرفت انه يختص بالموسعات فلا يجري في النجاسة.

واما التقية فلا موجب لها في المقام الا الخوف من السلطان نظراً الى ان الخلفاء او اتباعهم كانوا يشربونه وهذا لا يوجب التقية في مثل هذه المسألة لان فقهاء العامة أولى بمداراتهم فلا وجه للتقية بعد افتائهم بالنجاسة.

فالحكم المكتوم هو الطهارة اما لإخفاء جهة الترخيص سوقاً الى الكمال وابعاداً للشيعة عن ام الخبائث وايجاداً للاشمئزاز عنه في نفوسهم، واما بملاحظة السبب الرابع من التقية وهو خوف اتهامهم باللامبالاة او موافقة الاباحية بعد اتفاق سائر المذاهب على نجاسته.

هذا بلحاظ التمثيل للمقام واما تفصيل البحث الفقهي للمسألة فله محل آخر.  

الطريق الثاني: وهو ما ذكره صدر المتالهين في شرح أصول الكافي في ذيل الحديث التاسع من باب اختلاف الحديث (الكافي ج 1 ص 67 كتاب فضل العلم باب اختلاف الحديث ح 9).

والحديث هكذا:

روى الكليني عن علي بن ابراهيم عن ابيه عن اسماعيل بن مرار عن يونس عن داود بن فرقد عن المعلى بن خنيس قال: «قلت لابي عبد الله عليه السلام: إذا جاء حديث عن اولكم وحديث عن آخركم بايهما نأخذ؟ فقال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحيّ فان بلغكم عن الحي فخذوا بقوله. قال: ثم قال ابو عبد الله عليه السلام: انا والله لا ندخلكم الا فيما يسعكم». وفي حديث آخر خذوا بالاحدث. 

قال صدر المتالهين على ما في الأصول الاصلية للمحدث الفيض: «ان الاختلافات الواقعة في الأحاديث المروية عن اهل بيت العصمة عليهم السلام اكثرها في الأمور العملية الفرعية لا في الأصول الاعتقادية وما يجري مجراها من الأمور العظيمة المهمة. والاختلاف في القسم الأول ليس اختلافاً لا يسع الناس ان يأخذوا بايهما كان، بعد ان يكون كلاهما ثابتاً عن اهل بيت النبوة عليهم السلام او مستنداً إليهم. والناس لجمود قرائحهم وعدم تفقههم في المسائل العلمية الأصولية والعملية الفرعية صعب عليهم الامر في مثلها واستشكلوه حتى جزموا بالقدح في احدى الروايتين اما من جهة الراوي وجرحه واما من جهة المتن وحمله على التقيه» (الأصول الاصلية ص 8).

ويظهر من المحدث الفيض الالتزام بصحة ما ذكره.

ومرجع ما ذكره الى ان الاحكام الفرعية العملية اما مطلقاً او في خصوص موارد الاختلاف التي هي أكثر أبواب الفقه لم تنل ذلك الاهتمام من الائمة عليهم السلام حتى يلتزموا ببيانها على وجه واحد. وانما كان محط اهتمامهم تهذيب الانسان في الجانب العقائدي والجانب التربوي ولذلك اهتموا ببيان المعارف الإلهية في العقائد وبما يتم به تجريد الانسان عن اهوائه وشهواته في جانب التربية النفسية ومكارم الاخلاق. وبهذا الامر فسر صدر المتالهين اختلاف الأحاديث في الاحكام والتزم بجواز الاخذ بكل واحد من المتعارضين في المرحلة العملية. والظاهر انه استند الى الرواية السابقة بدعوى ان الضمير في قوله: «خذوا به حتى يبلغكم عن الحي» راجع الى أحد الحديثين فيدل على التخيير.

وهذا غير صحيح – مضافاً الى ان الرواية غير معتبرة سنداً – لان الضمير يرجع الى ما روي عن اخرهم بقرينة قوله «حتى يبلغكم عن الحي». ويلاحظ في ذلك ما ارسله الكليني قدس سره بعد نقل الحديث حيث قال «وفي حديث اخر خذوا بالأحدث» مما يدل على انه حمل الحديث على هذا المعنى لا على التخيير.    

ثم ان الاحكام الفرعية العملية التي فيها اختلفت الأحاديث والتي يظن صدر المتالهين انها ليست مهمة عند الائمة الطاهرين عليهم السلام هي التي عليها أساس الحياة الاجتماعية في هذه النشأة فانها تشمل احكام المعاملات والسياسات والحدود والديات والمواريث وموازين القضاء والقوانين الكفيلة باستقرار العدالة الاجتماعية المناهضة للاختلاف الطبقي وقواعد تنظيم الاسرة من النكاح والطلاق، وكل ما فيه خير الدنيا والآخرة كما صرح به في الروايات. كما انها تشمل ايضاً حدود العبادات وشرائطها وموانعها والكيفية المشروعة لمناجاة الله تعالى وارتباط الانسان بربّه.

والظاهر ان مراده من الأمور التي تجري مجرى الاعتقاديات والتي وصفها بانها عظيمة ومهمة خصوص الاخلاقيات الدخيلة في تجلية النفس البشرية وتزكيتها.

وقوله «او مستنداً إليهم» يدل على عدم تقيده بالأخبار المعتبرة وجواز الاخذ بالروايات المستندة إليهم وان كان الراوي فيها وضاعاً كذاباً او كانت محفوفة بالقرائن الدالة على ورودها مورد التقية او كانت مخالفة للكتاب والسنة. كما يدل عليه ايضاً بوضوح تهجمه على الفقهاء الذين عبر عنهم بالناس و وصفهم بجمود القريحة وعدم التفقه لأنهم لا يقبلون الروايات الضعيفة او ما علم ان ظاهرها غير مراد. والسرّ في التزامه بالأخذ بالجميع هو ما صرح به من عدم الاهتمام بالأحكام العملية الفرعّية.

وبما ذكرناه من توضيح مراده يظهر ضعف هذا المبنى وانه ناشئ من توهم ان الإسلام جاء لتصحيح العقائد وتزكية النفس البشرية فقط مع ان هذا واضح البطلان بل الإسلام يُنير الدرب للإنسان في جميع جوانب حياته الثقافية والاجتماعية والسياسية في هذه النشأة كما يسلك به الصراط المستقيم في ارتباطه بربّه. وكل ذلك احكام فرعية عملية وهي في غاية الأهمية في نظر المشرع الإسلامي الحكيم.

فظهر ان اختلاف الأحاديث لا يدل على عدم اهمية الموضوع. وما ذكرناه في ردّ صدر المتالهين يدفع هذا التوهم المنتشر بين بعض الأوساط الثقافية في هذا العصر من ان الفقه لا يستحق هذا التفصيل وهذا الاهتمام وتشكيل مدارس خاصة به وتفرّغ جماعة من اصحاب القرائح والاستعدادات التي يمكن صرفها في تنمية اقتصاد المجتمع مثلاً للبحث عن هذه المسائل التي لا يترتب عليها أثر في مواكبة ركب الحضارة الحديثة.

فهذا ايضاً ينشأ عن عدم الاطلاع على دور الإسلام في حياة البشر و دور الفقه في النظام الإسلامي وكيف يمكن ان يتسامح في بناء الأساس للنظام والاعتماد على روايات الوضاعين مثلاً في نقل النص القانوني عن المشرع الحكيم وكيف يمكن الحكم بالتخيير في الروايات المتعارضة في احكام الحدود والديات وغيرها من الاحكام المهمة الى غير ذلك من الابحاث التي يعالجها الفقه والأصول للتحقيق عن النظام الذي جعله الله تعالى متكفلا لإسعاد البشرية في الدنيا والاخرة.

الطريق الثالث: القول بان الاختلاف في الأحاديث مختص بالموسعات فيكون المقياس في تشخيص الموسعات هو تحقق الاختلاف في رواياتها.

ويبتني هذا القول على ان يكون سبب الاختلاف دائماً هو اخفاء جهة الترخيص في الحكم سوقاً للمجتمع او الفرد الى الكمال كما مر تفصيله كما ان الترخيص يبين للفرد او المجتمع الآخر نظراً الى ضعفهم وعدم تحملهم للتضييق.

وقد اختار هذا القول الشعراني من علماء العامة في مقدمة كتابه «كشف الغمة عن جميع الامة» في محاولة لإمكان توحيد المذاهب الأربعة نظراً الى ان اختلافهم ناشئ عن اختلاف الروايات ولم يتفطنوا ان سرّ اختلافها هو ان الاحكام منها ما هو أقرب الى التضييق ومنها ما هو أقرب الى الترخيص وان السبب في ذلك هو اختلاف المجتمعات وادّعى فيها ان الهاتف عليه السلام! أخبره أن هذا التحقيق لم يتفطن له أحد سواه حتى التابعين والفُقهاء السابقين.  

هذا وقد يلوح من كلمات بعض الاصحاب في موارد متفرقة ان الاختلاف دليل استحباب الحكم وسيأتي مثله في الاخبار العلاجية عن المحقق الخراساني.

و يمكن ان يستدل لهذا المسلك بعدة روايات:

الأولى: ما رواه البرقي في المحاسن عن ابيه عن علي بن النعمان عن عبد الله بن مسكان عن عبد الأعلى بن اعين قال «سأل علي بن حنظلة ابا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر فأجابه فيها فقال له علي: فان كان كذا وكذا فأجابه بوجه آخر حتى اجابه بأربعة أوجه. فقال علي بن حنظلة: يا ابا محمد هذا باب قد احكمناه. فسمعه ابو عبد الله عليه السلام فقال له: لا تقل هكذا يا ابا الحسن فإنك رجل ورع ان من الأشياء اشياء مضيقة ليس يجري الا على وجه واحد منها وقت الجمعة ليس لوقتها الا حد واحد حين تزول الشمس ومن الأشياء اشياء موسعة تجري على وجوه كثيرة وهذا منها والله ان له عندي لسبعين وجهاً» (المحاسن ص 242 ح 4 من كتاب العلل. المستدرك ج 3 ص 826. البحار ط ص 131).

قال المحدث النوري: «ورواه الصفار في البصائر في الصحيح عن ابن مسكان مثله ورواه المفيد في الاختصاص بإسناده عن احمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن اسماعيل بن بزيع عن علي بن النعمان مثله» وروى المحدث النوري في صلاة الجمعة شطراً منها عن الصفار في البصائر عن احمد بن محمد عن محمد بن اسماعيل عن علي بن النعمان الى آخر السند (المستدرك ج 1 ص 409).

وعليه فلا تختص الرواية مصدراً بالمحاسن حتى يقال انه مما قيل فيه (قد زيد فيه ونقص) والسند الى عبد الأعلى بن اعين لا اشكال فيه وقد عدّه الشيخ المفيد في رسالته العددية من فقهاء اصحاب الصادقين عليهما السلام والاعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والاحكام والذين لا يطعن عليهم ولا طريق الى ذم واحد منهم وهم اصحاب الأصول المدونة والمصنفات المشهورة (معجم رجال الحديث ج 9 ص 262). وقد وثقه بعض الاعاظم نظراً الى انه مضافاً الى ذلك من رواة تفسير علي بن ابراهيم. وقد ذكرنا مراراً عدم الاعتماد على هذا الوجه في التوثيق.

واما مفادها ففيه احتمالان:

الاحتمال الأول: ما ذكره العلامة المجلسي في ذيل الرواية في البحار قال «لعل ذكر وقت الجمعة على سبيل التمثيل والفرض بيان انه لا ينبغي مقايسة بعض الأمور ببعض في الحكم فكثيراً ما يختلف الحكم في الموارد الخاصة وقد يكون لشيء واحد سبعين حكماً بحسب الفروض المختلفة».  

والظاهر انه استنتج من قوله: «ان كان كذا وكذا» ان مورد السؤال كان موضوعاً مختلف الفروض فاراد الامام عليه السلام ان ينبه على ان هناك مواضيع يختلف فيها الحكم الالزامي بحسب اختلاف الفروض. وفي قبالها مواضيع أخرى مضيقة لا تختلف الحكم فيها بحسب اختلاف الفروض كوقت صلاة الجمعة. وعلى هذا الاحتمال لا تدل الرواية على المطلوب.

الاحتمال الثاني: ان يكون التردد بين الفروض في سؤال علي بن حنظلة غير مغيّر للحكم الالزامي وانما يغير درجات الفضل والاستحباب فبيّن الامام عليه السلام ان هذا الاختلاف في درجات الفضل يختص بالموسعات كمواقيت سائر الصلوات ولا يجري في صلاة الجمعة اذ ليس لوقتها الا حدّ واحد. وعلى هذا الاحتمال فالرواية تدل على ان الاختلاف يختص بالموسعات. وهذا الاحتمال مؤيد بسائر الروايات المشتملة على هذا التعبير. 

روى الشيخ في التهذيب باسناده عن الحسين بن سعيد عن ابن ابي عمير عن عمر بن اذينة عن زرارة قال «سمعت ابا جعفر عليه السلام يقول: ان من الأمور اموراً مضيقة واموراً موسعة وان الوقت وقتان الصلاة مما فيه السعة فربما عجل رسول الله صلى الله عليه وآله وربما أخر الا صلاة الجمعة فان صلاة الجمعة من الامر المضيق انما لها وقت واحد حين تزول و وقت العصر يوم الجمعة وقت الظهر في سائر الايام» (جامع ج 2 ص 69 ح 543).

ويتضح من هذه الرواية ان المراد بالمضيق ما ليس له افراد مختلفة بحسب الحكم من حيث الفضل والاستحباب بخلاف الموسع فصلاة الجمعة لها وقت واحد ولسائر الصلوات أوقات مختلفة بحسب الفضيلة والثواب لا انّ لها فروضاً مختلفة تختلف فيها الحكم الالزامي.

روى الكليني عن فضيل بن يسار عن ابي جعفر عليه السلام قال: «ان من الأشياء أشياء موسعة و أشياء مضيقة فالصلوات مما وسع فيه تقدم مرة وتؤخر أخرى والجمعة مما ضيق فيها فان وقتها يوم الجمعة ساعة تزول و وقت العصر فيها وقت الظهر في غيرها» (جامع ج 2 ص 69 ح 542).       

والرواية غير معتبرة سنداً لعدم توثيق محمد بن الحسن بن علان الا انها متفقة المتن مع صحيحة زرارة المتقدم.    

والجواب عن الاستدلال بهذه الرواية بعد تفسيرها بالاحتمال الثاني كما هو الصحيح انها لا تدل الا على ان الموسعات مما تختلف فيها الأجوبة للسوق الى الكمال او لإلقاء الاختلاف بين الشيعة كما في رواية عبيد بن زرارة المفصلة وسيأتي ذكرها ان شاء الله تعالى.

واما انحصار الاختلاف في ذلك وعدم تحققه في المضيقات مداراة للسائل او تقية فلا تدل عليه ولا يمكن الالتزام به نظراً الى انه لا يبقى حينئذ وجه لهذا التأكيد على التأمل في موارد الاختلاف لاستكشاف ما فيه التورية كما مر ذكره اذ تنحصر موارد الاختلاف والكتمان والتورية في الموسعات.

هذا مع انه من الواضح للمراجع كتمان الائمة عليهم السلام للأحكام الالزامية في موارد كثيرة كالأمر بالوضوء على مذهب المخالفين لحفظ نفس السائل او الامر بإعطاء نصف التركة للبنت الوحيدة وغير ذلك مما هو كثير في الروايات.

الرواية الثانية: رواية الميثمي المفصلة وقد مرّ شطر منها في البحث عن تعيين المشرع للأحكام التشريعية الدائمة. وفيها «ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن اشياء ليس نهي حرام بل اعافة وكراهة وامر بأشياء ليس امر فرض ولا واجب بل امر فضل ورجحان في الدين ثم رخص في ذلك للمعلول وغير المعلول فما كان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهي اعافة او امر فضل فذلك الذي يسع استعمال الرخص فيه إذا ورد عليكم عنا فيه الخبران باتفاق يرويه من يرويه في النهي ولا ينكره وكان الخبران صحيحين معروفين باتفاق الناقلة فيهما يجب الاخذ بأحدهما او بهما جميعاً او بايهما شئت واحببت موسع ذلك لك من باب التسليم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والرد اليه والينا...» الحديث (جامع الاحاديث ج 1 المقدمات ص 64 ح 448. عيون اخبار الرضا ج 2 ص 19 ط النجف).

وجه الاستدلال بها انها تصرح ان الذي يسع استعمال الرخص فيه هو خصوص ما كان نهي اعافة او امر فضل اي المكروهات والمستحبات دون الاحكام الالزامية وانه إذا ورد الخبر ان الصحيحان في خصوص الموسعات فيجوز الاخذ بهما او بأحدهما ولعل قوله «او بهما» بعد قوله «او بأحدهما» يراد به التخيير الاستمراري.  

قيل: ان صريح هذه الرواية كون صدور الامر والنهي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خصوص ما وسعه الله وكون صدور الخبرين المختلفين عنهم في خصوص ما وسع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما لم يأمر به امر فرض ولم ينه عنه نهي حرام.

و الجواب عنه: اولاً المناقشة في سند الراوية من جهة ان محمد بن عبد الله المسمعي الراوي عن الميثمي لم يوثق بل نقل الصدوق في آخر هذه الرواية ان شيخه ابن الوليد كان سيء الرأي فيه.

ولكن حاولنا سابقاً تصحيح الرواية من جهة اعتماد ابن الوليد عليها على ما استظهره الصدوق رغم انه سيء الرأي فيه بدعوى ان الميثمي كثير الرواة فلعل له اليه سنداً آخر ليس فيه المسمعي. هذا والرواية لا تشتمل على متن منكر او بلا شاهد حتى يهتم بسندها كثيراً.

و ثانياً انها لا تدل الا على جواز تبليغ الترخيص في الموسعات وجواز اخفائه واما اختصاص الاختلاف بالموسعات فلا دلالة فيها عليه بل تدل على العكس ففيها: «لانا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا نامر بخلاف ما امر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الا لعلة خوف ضرورة» والخوف اما ان يكون عليهم او على الراوي في نفسه او ماله او عرضه او تزلزل عقيدته او غير ذلك من اسباب الكتمان التي ذكرناها.

الرواية الثالث: رواية عبد الله بن زرارة المفصّلة ايضاً وقد ذكرناها في البحث عن القاء الاختلاف بين الشيعة. وفيها «فلا يضيقن صدرك من الذي امرك ابي وامرتك به واتاك ابو بصير بخلاف الذي امرناك به فلا والله ما امرناك ولا امرناه الا بأمر وسعنا و وسعكم الأخذ به ولكل ذلك عندنا تصاريف ومعان توافق الحق ولو اُذن لنا لعلمتم ان الحق في الذي امرناكم فردوا الينا الامر وسلموا لنا واصبروا لأحكامنا وارضوا بها... (الى ان يقول في آخر الحديث) فلذلك عندنا معان وتصاريف كذلك ما يسعنا ويسعكم ولا يخالف شيء منه الحق ولا يضاده والحمد لله رب العالمين» (رجال الكشي ح 221).

وقد مر الكلام في هذا الحديث وبيّنا انها تدل على ان الائمة عليهم السلام قد يلقون الاختلاف بين الشيعة لمصالح تترتب عليه وان ذلك يختص بالموسعات كعدد النوافل.

الرواية الرابعة: روايات التخيير بين المتعارضين بدعوى انها تدل على ان الحكم الواقعي هو التخيير والتوسعة وسيجيء البحث عنها ان شاء الله تعالى ونبين ان هذه الروايات كلها ضعيفة سنداً وان التخيير الظاهري لا يدل على التخيير الواقعي.

الى هنا ننتهي عن البحث في الفصل الأول من علل اختلاف الأحاديث وقد استقصينا البحث عن علله في مرحلة صدور الأحاديث عن المعصومين عليهم السلام.

 

 

 

1.2الفصل الثاني في علل اختلاف الأحاديث في مرحلة النقل

والبحث ينقسم في هذا الفصل الى مقامين وذلك لان اختلاف الحديث في مرحلة النقل قد يكون ناشئاً من الوضع والتزوير عن سوء نية وقد يكون ناشئاً من الاشتباه وعروض العوارض الموجبة لتبدل الحديث عن نصه الصادر من المعصوم.

1.2.1المقام الأول:

اما المقام الأول فالبحث فيه من جهات:

الجهة الأولى: اثبات تحقق الوضع والدسّ في الأحاديث. 

الجهة الثانية: التحقيق عن دواعي الوضع والدسّ ونوعيتها. وهذا لا يؤثر كثيراً في تشخيص الروايات الموضوعة بلحاظ مضمون الرواية وتناسبه مع انتماءات الراوي ومعالم شخصيته.   

الجهة الثالثة: في انحاء الوضع والجعل. كالكذب على الامام في رواية او في جعل كتاب ونسبته اليه او الى بعض الاصحاب او الدس في الكتب او تغيير الفاظ الرواية الى غير ذلك مما سنتعرض لها ان شاء الله تعالى.   

1.2.1.1الجهة الأولى: 

من الواضح ان إثبات وقوع التحريف والوضع في الروايات لا يحتاج الى تجشم استدلال واقامة شواهد بعد ما بلغ من الكثرة الى حدّ الّف في احصائها المؤلفات وخصوصاً في روايات العامة. وقد صرّح النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة عليهم السلام بكثرة القالة والكذابة عليهم. كما ان مراجعة كتب الحديث تكشف لنا بوضوح كثرة الاكاذيب والموضوعات. مضافاً الى ما صرح به اصحاب الجرح والتعديل في فهارس رجال الحديث من اسماء الكذابين والوضاعين.

هذا ولكن ينبغي ذكر بعض الروايات التي ورد فيها التصريح من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة عليهم السلام بوقوع الكذب عليهم في حياتهم لنكون على بصيرة في الشروع في المباحث الآتية.

والروايات كثيرة جداً نذكر قسماً منها:  

الرواية الأولى: روى الكليني قدس سره بسنده عن سليم بن قيس الهلالي رواية مفصلة في اختلاف الأحاديث وفيها «وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده حتى قام خطيباً فقال ايها الناس قد كثرت عليّ الكذابة فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. ثم كذب عليه من بعده» (جامع الأحاديث المقدمات ص 22 ح 62).

قال الشهيد الثاني: «نعم، حديث "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" يمكن ادعاء تواتره فقد نقله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصحابة الجم الغفير أي الجمع الكثير قيل: الرواة منهم له أربعون وقيل: نيف – بفتح النون وتشديد الياء مكسورة وقد تخفف: ما زاد على العقد إلى أن يبلغ العقد الاخر، والمراد هنا اثنان – وستون صحابيا. ولم يزل العدد الراوي لهذا الحديث في ازدياد وظاهر أن التواتر يتحقق بهذا العدد بل بما دونه» (الرعاية في علم الدراية ص 69).

الرواية الثانية: روى الكشي بسند معتبر عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن ان بعض اصحابنا سأله (اي سال يونس) وانا حاضر فقال له يا ابا محمد ما اشدك في الحديث وأكثر انكارك لما يرويه اصحابنا فما الذي يحملك على رد الأحاديث. فقال: حدثني هشام بن الحكم انه سمع ابا عبد الله عليه السلام يقول: «لا تقبلوا علينا حديثاً الا ما وافق القرآن والسنة او تجدون معه شاهداً من احاديثنا المتقدمة فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتاب اصحاب ابي احاديث لم يحدث بها ابي فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فانا اذا حدثنا قلنا قال الله عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم». قال يونس : وافيت العراق فوجدت بها قطعة من اصحاب ابي جعفر عليه السلام و وجدت اصحاب ابي عبد الله عليه السلام متوافرين فسمعت منهم واخذت كتبهم فعرضتها من بعد على ابي الحسن الرضا عليه السلام فانكر منها احاديث كثيرة ان يكون من احاديث ابي عبد الله عليه السلام وقال لي: «ان ابا الخطاب كذب على ابي عبد الله عليه السلام لعن الله ابا الخطاب وكذلك اصحاب ابي الخطاب يدسون هذه الاحاديث الى يومنا هذا في كتب اصحاب ابي عبد الله عليه السلام فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن فانا ان تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة والحديث» (رجال الكشي ح 401 جامع الاحاديث المقدمات ص 65 ح 361).

ويظهر من هذا الحديث ان الدسّ كان يمنع في مدرسة يونس من الاخذ حتى بالرواية المعتبرة من حيث السند بل الذي سمعه من اصحاب الائمة عليهم السلام لما نبّه عليه الامام الرضا عليه السلام من ان ابا الخطاب واصحابه يدسّون في كتب اصحاب ابي عبد الله عليه السلام فكان هذا يوجب اشتباه الامر حتى على نفس المؤلف وهذا يقتضي ان نكون على حذر شديد من الروايات الموضوعة حتى فيما كان السند بحسب الصورة معتبراً.

ومن العجيب بعد هذا ما نقلناه عن صدر المتالهين من ان انكار الروايات لضعف السند او غرابة المتن من جمود القريحة. وكذا ما يحكى عن المحقق النائيني من ان التشكيك في أحاديث الكافي من دأب العجزة.

وأعجب منه استدلال صاحب الحدائق بهذه الرواية على صحة كل ما بأيدينا من الروايات بتوهم ان هذا التشديد في قبول الرواية كان شأن جميع الاصحاب والمحدثين في تلك العهود فيحصل الوثوق بتطهير الروايات من الموضوعات.

وهذا غفلة عن ان هذا الحديث يدل على اختصاص مدرسة يونس بهذه الظاهرة ومخالفته في ذلك للمحدثين حتى وقع مورد الاعتراض والتهجم من جماعة منهم خصوصاً القميين. ونفس هذه الرواية تشتمل على اعتراض بعض الناس عليه في هذا التشديد مما يحكي عن استنكار واسع في هذا الشأن لدى المحدثين آنذاك.      

الرواية الثالثة: روى الكليني بإسناده عن حميد بن زياد عن الحسن بن محمد عن وهيب بن حفص عن ابي بصير قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول: «رحم الله عبداً حببنا الى الناس ولم يبغضنا إليهم اما والله لو يرون محاسن كلامنا لكانوا به اعز وما استطاع أحد ان يتعلق عليهم بشيء ولكن احدهم يسمع الكلمة فيحط اليها عشراً» (جامع الاحاديث المقدمات ص 56).

الرواية الرابعة: روى الكشي بسنده عن مفضل بن عمر قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام ودخل عليه الفيض بن المختار (الى ان يقول) فقال ابو عبد الله عليه السلام: «اجل هو كما ذكرت يا فيض ان الناس اولعوا بالكذب علينا كأنّ الله افترض عليهم لا يريد منهم غيره واني أحدث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتى يتأوله بغير تأويله وذلك انهم لا يطلبون بحديثنا وبحبنا ما عند الله وانما يطلبون الدنيا وكل يحب ان يدعى رأساً...» الحديث (جامع الأحاديث المقدمات ص 52 ح 330).

الى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا الباب في عموم الوضاعين او خصوص مغيرة بن سعيد وابي الخطاب وفارس بن حاتم وبزيع الحائك ويزيد الصائغ وامثالهم.

1.2.1.2الجهة الثانية: في بيان الأغراض والدواعي للوضع 

ولسنا بصدد استقصاء هذه الأغراض ولعلنا لا نتمكن منه بعد ان حكي عن بعضهم الوضع لدواع تافهة للغاية. ففي كتاب الأضواء على السنة المحمدية: «قد بلغ من أمرهم أنهم يضعون الحديث لأسباب تافهة، ومن أمثلة ذلك ما أسنده الحاكم عن سيف بن عمر التميمي قال: كنت عند سعد بن طريف فجاء ابنه من الكتاب يبكي فقال له مالك؟ قال: ضربني المعلم. قال: لأخزينهم اليوم! حدثنا عكرمة عن ابن عباس مرفوعا "معلمو صبيانكم شراركم أقلهم رحمة لليتيم وأغلظهم على المساكين" والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى» (الأضواء ص 139).

ولكننا نذكر بالمقدار الممكن أصول الاغراض الداعية الى الوضع في تلك العهود. وهي على انواع:

النوع الأول: الترغيب في الخير والترهيب عن الشر.

وهو من اغراض الوضع لدى الوضاع الصالحين على تعبير بعض الكتّاب حيث كانوا يتوهمون انه يجوز وضع الحديث لترغيب الناس الى الاعمال الصالحة وتخويفهم عن الشرور.

وقد حكى العلامة المامقاني في مقياس الهداية عن بداية الشهيد الثاني انه ذهب الكرامية – وهم طائفة منتسبون بمذهبهم الى محمد بن كرام السجستاني وبعض المبتدعة من الصوفية – الى جواز وضع الحديث للترغيب والترهيب ترغيباً للناس في الطاعة وزجراً لهم عن المعصية. واستدلوا بما روي في بعض طرق الحديث: من كذب علي متعمداً ليضل به الناس فليتبوأ مقعده من النار. وحمل بعضهم ذلك على من قال انه ساحر او مجنون وقال آخر انما قال: من كذب علي ونحن نكذب له ونقوي شرعه. ونقل عن بعض المنسوبين الى الخير وضع أحاديث في فضل كل سورة من سور القرآن معللاً بانا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم الى القرآن.

وقد عقد في الأضواء على السنة المحمدية باباً في الوضّاع الصالحين قال فيه نقلاً عن ابن حجر: «قد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث الترغيب والترهيب وقالوا نحن نكذب له لا عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته. وحكى عن يحيى بن سعيد القطان انه قال: لم نر الصالحين في شيء اكذب منهم في الحديث» (الأضواء ص 138).

ولعل بعض من ينسب الى الوضع والكذب من رواتنا ممن يروون الأحاديث في الحث على الأمور الصالحة والزجر عن الأفعال القبيحة من هذا القبيل فينبغي ان لا نغتر بلسان الحديث ومضمونه فنظنه صادراً وان كان الراوي وضاعاً بتوهم انهم لا يكذبون في مثل هذه المضامين.

فمنهم عبد الله بن عبد الرحمن الاصم قال فيه النجاشي بصري ضعيف غال ليس بشيء روى عن مسمع كردين وغيره له كتاب المزار سمعت ممن رآه فقال لي هو تخليط. وقال ابن الغضائري: ضعيف مرتفع القول وله كتاب في الزيارات ما يدل على خبث عظيم ومذهب متهافت وكان من كذابة اهل البصرة.(معجم رجال الحديث ج 10 ص 252)

ومن العجيب ان ابن قولويه يروي عنه في كتاب كامل الزيارات كثيراً مما يدل على ان أحد مصادره كتاب هذا الرجل. وكذلك يروي في عدة موارد عن محمد بن ارومة وقد رماه القميون بالغلو. ويروي ايضاً عن جعفر بن محمد بن مالك الفزاري وقد قال فيه النجاشي: «كان ضعيفاً في الحديث قال احمد بن الحسين: كان يضع الحديث وضعاً ويروي عن المجاهيل. وسمعت من قال كان ايضاً فاسد المذهب والرواية. ولا أدري كيف روى عنه شيخنا النبيل الثقة ابو علي بن همام و شيخنا الجليل الثقة ابو غالب الرازي رحمه الله. وقال فيه ابن الغضائري كذاب متروك الحديث جملة وكان في مذهبه ارتفاع ويروي عن الضعفاء والمجاهيل وكل عيوب الضعفاء مجتمعة فيه» (معجم رجال الحديث ج 4 ص 119).

الى غير ذلك من الضعفاء الذين يروي عنهم ابن قولويه. وقد ذكرنا مراراً ان هذا ما يمنع القول بتوثيقه لجميع رواته مع ان عبارته لا تدل عليه ايضاً.

والحاصل ان هؤلاء كلهم يروون روايات المزار و فضل الزيارة ونظائر ذلك من الأمور الخيرية ولعل الذي دعاهم الى جعل هذه الروايات التي يظهر منها معالم الكذب و الوضع هو هذه الأغراض الصالحة بزعمهم وقد تداولها العلماء بالرواية والعمل تسامحاً في ادلة السنن. وقد استقر الامر اخيراً على عدم ثبوت الاستحباب الشرعي بهذا التسامح والبحث في هذه الروايات من هذه الجهة خارج عن محل الكلام.

النوع الثاني: اغناء المكتبة الاسلامية او الشيعية بالأحاديث الحكمية و المعارف التي يعتقد الواضع انها صحيحة وان اسنادها الى دعاة الشرع او المشرع الحكيم خدمة يسديها الى الدين. وكذلك اسناد المواقف المشرفة في التاريخ الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والائمة عليهم السلام او كبار رجال الدين و زعماء المذاهب وهذا ايضاً من الأغراض التي تعد صالحة.

وفي الأضواء على السنة المحمدية «قال خالد بن يزيد سمعت محمد بن سعيد الدمشقي يقول: إذا كان كلام حسن لم أر بأسا من أن أجعل له إسنادا» (الأضواء ص 137).

واما التواريخ الموضوعة فحدث ولا حرج وكثير منها يستند الى الجماعة اليهودية التي اندست في صفوف المسلمين فوضعوا الروايات وهي التي يعبر عنها بالإسرائيليات. ومنهم كعب الاحبار و وهب بن منبه. وفي كتاب العلل للصدوق كثير من هذه الاخبار. وكذلك وضعوا روايات كثيرة في الكونيات وزعموها من المعاجز فنسبوها الى الائمة عليهم السلام او الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

النوع الثالث: تقوية زعماء المذهب بروايات المدح وجرح زعماء المعارضة بروايات الذم. ومن هذا القبيل الروايات الكثيرة في كتب اهل السنة في مدح الخلفاء وحاشيتهم وبعض الصحابة الذين عرفوا بعداوة اهل البيت. ولا شك في ان أكثر ذلك من وضع مرتزقي البيت الاموي. ولا نتعرض لها فقد كفانا مؤونته المؤلفون في هذا الباب وخصوصاً شيخنا الاميني قدس سره.

ولكن الطريف وضع الروايات مدحاً وذماً في ائمة المذاهب المستحدثة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما هو مذكور في كتب مناقبهم. ونحن لا ننكر امكان ذلك فقد ثبت اخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما يستقبل من الوقائع من طريق الاعجاز وهو مما لا شك فيه الا ان معالم الوضع في هذه الأحاديث أرغم المتأخرين منهم على الاعتراف بوضعها.

وقد نقل بعضها في الأضواء على السنة المحمدية فمما نقله في هذا الكتاب انّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يكون في امتي رجل يقال له محمد بن ادريس أضر على امتي من ابليس ويكون في امتي رجل يقال له ابو حنيفة هو سراج امتي» (الأضواء ص 121) وقال في موضع آخر: «اضطرت الشافعية ازاء ذلك ان يرووا في امامهم حديثاً يفضلونه على كل امام وهذا نصه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أكرموا قريشاً فان عالمها طباق الارض علماً» (الاضواء ص 122). ونقل في موضع آخر ما وصفه المالكية في امامهم وهو انه (ص) قال «يخرج الناس من المشرق الى المغرب فلا يجدون عالماً اعلم من اهل المدينة» (الأضواء ص 123) الى غير ذلك. 

وفي رواياتنا كثير مما وضع في ذم امثال زرارة ومحمد بن مسلم وهشام بن الحكم وهشام بن سالم وغيرهم ولعل ذلك ايضاً من جهة اختلاف الشيعة في مدارسها.

النوع الرابع: الاغراض القومية. وقد كثرت الروايات في مدح بعض الشعوب وذم البعض الآخر مع ان من الأسس الإسلامية الغاء القوميات وصهرها في بوتقة الإسلام وتوحيد المقياس في الفضل وهو التقوى. وقد ورد في كتاب اهل السنة روايات في ذم الترك وكان الداعي الى وضعها سيطرتهم على شؤون الدولة في ايام المعتصم ومن بعده من الخلفاء.

و ورد في بعض رواياتنا ذم الاكراد والمنع عن مخالطتهم والمعاملة معهم بتعليل انهم حي من احياء الجن كشف الله عنهم الغطاء. وهي مع ارسالها منتهية الى ابي الربيع الشامي المجهول الهوية والقومية. و ورد ايضاً النهي عن مناكحتهم بنفس المضمون في رواية يرويها ابو الربيع ايضاً مع نفس التعليل (الوسائل ج 14 ص 56 ب 32 ومن مقدمات النكاح).

ومن المؤسف ان التسامح في ادلة السنن اقتضى الإفتاء بكراهة ذلك في بعض الكتب الفقهية غفلة عن ان هذه الروايات مضافاً الى ضعفها مخالفة للأصول الإسلامية القطعية مما يوجب القطع بوضعها.

ولعل الواضع اراد بذلك الحطّ من كرامة الائمة المعصومين عليهم السلام أو منع نفوذ التشيع في الاكراد مع ان التشيع والحمد لله قد انتشر فيهم بالرغم من كل هذه المحاولات.

والروايات في هذا الباب كثيرة ايضاً في ذم العرب ومدحهم وفي سائر القوميات كالفرس والاحباش والسودان وغير ذلك.

ويلحق بهذا القسم ما كانت تجعل في مدح البلدان وذمّها ارضاءا لغريزة حبّ الوطن كما اثر ذلك في الفقه ايضاً وقد ذكرنا في الفقه اختلاف البلدان الأربعة مكة والمدينة والكوفة والبصرة في الاذان الذي هو من الشعائر الواضحة.

النوع الخامس: الأغراض الالحادية. وهي التي دعت الملاحدة والزنادقة لوضع الروايات يستهدفون بذلك هدم الاسلام وضربها في الصميم وهي على اقسام ايضاً:

الأول: الدس في المعارف والاعتقادات الإسلامية. ومن ذلك روايات الجبر والتفويض والتشبيه والتجسيم والغلّو كدعوى ربوبية الائمة عليهم السلام او نبوتهم.

الثاني: الحط من كرامة القرآن الكريم. ومن ذلك بعض روايات التحريف. وقد أشبعنا البحث عنها وعن واضعيها في مباحث حجية ظواهر الكتاب.

والظاهر ان السيد البروجردي قدس سره كان يقسم هذه الروايات من جهة دواعي الوضع الى اقسام فالملاحدة كانوا يضعونها لمنع حجية الكتاب والاستناد اليه وبعض العامة كانوا يضعونها ليتبين فضل الخلفاء في جمع القرآن وانه لولا ذلك لذهب كثير من القرآن كما ضاعت هذه الآيات. وبعض المنتحلين الى التشيع كانوا يضعونها قدحاً للخلفاء وانهم حرفوا القرآن فنقصوا من آياته.

ولم نجد في روايات التحريف ما لا يرجع الى امثال هذه الجماعة الذين في قلوبهم مرض. ولهذا الغرض حرفوا بعض نسخ الكافي فقد ورد فيه ان الآيات سبعة آلاف من باب التقريب وتدوير العدد فحرفوها في بعض النسخ وجعلوها سبعة عشر ألف ليدل على وقوع التحريف والنقص في القرآن.

الثالث: التنقيص من دعائم الإسلام كالصلاة والصوم. وقد ورد في رواية معتبرة ان ابا عبد الله عليه السلام سئل عما روي عن ابيه عليه السلام انه قال «إذا عرفت فاعمل ما شئت» وانهم يستحلون بعد ذلك كل محرم فقال: «ما لهم لعنهم الله انما قال ابي: إذا عرفت الحق فاعمل ما شئت من خير يقبل منك» (الوسائل ج 1 ص 88 ب 28 من مقدمة العبادات) والروايات في هذا الباب كثيرة ايضاً.

منها ما رواه الصدوق في العلل عن المفضل بن عمر ان ابا عبد الله عليه السلام كتب اليه كتاباً (الى ان قال) «ومن زعم ان ذلك انما هي المعرفة وانه اذا عرف اكتفى بغير طاعة فقد كذب واشرك وانما قيل اعرف واعمل ما شئت من الخير فانه لا يقبل منك ذلك بغير معرفة...» الحديث (جامع الاحاديث المقدمات ص 133 ح 1014)

وقد روي هذا الحديث بوجه آخر مفصل (المستدرك ج 3 ص 566). وفيه نقل القول عن بعض الملاحدة ان الصلاة والصوم وكل الفرائض ليس الا رجلاً يكفيك معرفته وان الزنا والفواحش كلها رجل ليس المطلوب الا بغضه.

النوع السادس: الأغراض الاقتصادية. فمن الروايات ما جعلها بعض الطوائف التي تدعو الى تحقيق العدالة الاجتماعية بزعمها فنسبوا ما يؤيد طريقتهم في ذلك الى الائمة المعصومين عليهم السلام وتفصيل القول في ذلك يتوقف على سير في تاريخ الجمعيات السرية في الإسلام كالقرامطة واتباع صاحب الزنج والخرّمية والمزدكيّة.

فمما جعلوه ما نقله في مجمع المقال في ترجمة محمد بن بشير وفيها: «والمواساة واجبة في كل ما ملكوه من مال واخراج» (مجمع المقال ج 5 ص 166). وروي عن فرات بن احنف عن ابي عبد الله عليه السلام: «ربح المؤمن على المؤمن ربا» (الوسائل ج 2 ص 293 ب 10 من آداب التجارة) الى غير ذلك من الروايات التي هي من هذا القبيل.

ولسنا بصدد الاستقصاء وليس غرضنا ان هذه الروايات موضوعة قطعاً ولعلها صادرة ولها محامل وتصاريف كما مر ذكره في الرواية الثانية ولكن غرضنا ذكر المثال وابداء الاحتمال وبيان نوعية الأغراض الداعية للوضع آنذاك بحسب الأوضاع الاجتماعية و السياسية.

النوع السابع: احياء الرسوم الجاهلية. ومن هذا النوع بعض الروايات الاسرائيلية التي وردت في تحريم لحم الإبل مع ان حليته من الواضحات في الإسلام. وقد امتنع بعض روات كتاب العلل لابراهيم بن هاشم عن رواية هذا الحديث وقال «لا استحل روايته والوجه فيه واضح» ولعله تفطن الى ان ذلك من دسّ اليهود القائلين بحرمة لحم الإبل. ولعل من ذلك ايضاً بعض الروايات الضعيفة الدالة على نجاسة عرق الجنب من الحرام وقد كان اليهود يقولون بنجاسة الجنب مطلقاً.

النوع الثامن: التقرب الى الملوك والخلفاء بتصحيح اعمالهم عن طريق الروايات.

قال الشهيد الثاني «الواضعون أصناف منهم من قصد التقرب به إلى الملوك وأبناء الدنيا مثل غياث بن إبراهيم دخل على المهدي ابن المنصور وكان يعجبه الحمام الطيارة الواردة من الأماكن البعيدة فروى حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل أو جناح» فأمر له بعشرة آلاف درهم فلما خرج قال المهدي: أشهد أن قفاه قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال رسول الله: جناح ولكن هذا أراد أن يتقرب إلينا وأمر بذبحها وقال: أنا حملته على ذلك» (الرعاية في علم الدراية ص 154).

وقد نسب في الأضواء على السنة المحمدية هذه الواقعة الى وهب بن وهب مع الرشيد (الأضواء ص 126).

النوع التاسع: الأغراض العلمية. ذكر في الأضواء على السنة المحمدية ان اهل الرأي كانوا إذا وجدوا رواية ضعيفة او مرسلة او موافقة للقياس جعلوا له الاسناد المعتبر لتقوية رأيهم العلمي (الأضواء ص 121).

النوع العاشر: الأغراض الشخصية ولا يمكن تحديدها لاختلاف الاهواء والنزعات الشخصية ولعل بعض الناس كانوا يضعون الحديث لكسب المكانة المرموقة في المجتمع.

1.2.1.3الجهة الثالثة: في انحاء الوضع والكذب

وهي على اقسام: 

القسم الأول: اسناد كتاب الى الامام المعصوم او الى أحد الرواة.

ولعل من هذا القبيل كتاب العلل لفضل بن شاذان الذي نسب الى الامام الرضا عليه السلام والبحث في هذا الكتاب مفصل قد تعرضنا له في بعض المباحث الفقهية. وقد اعتبر هذا الكتاب في فهارس الكتب والرجال من مؤلفات فضل ونقله بكامله الصدوق قدس سره في العيون والعلل ولم يبتدئه باسم الامام عليه السلام ولكنه بعد الانتهاء من نقله روى عنه بسندين ضعيفين انه سمع جميع ما فيه عن الامام الرضا عليه السلام المرة بعد المرة فجمعها والّفها (العيون ج 2 ص 119 ط النجف) فكان هذا هو السبب في اسناد الكتاب الى الامام عليه السلام.

هذا مع ان السند الى الفضل ضعيف ايضاً في أصل نقل الكتاب وقد أقمنا الشواهد القطعية على انه لو ثبت منه فهو من تآليفه والظاهر انه لم يدرك محضر الرضا عليه السلام مضافاً الى ما يشتمل عليه من العبارات والاصطلاحات الكلامية وكذلك طريقة البحث كقوله (ان قال قائل... قيل له...) وغير ذلك من الشواهد التي توجب القطع بعدم صدوره عن الامام عليه السلام او استبعاده.

ولعل من هذا القبيل ايضاً أصل زيد الزراد وزيد النرسي فقد ادعى الصدوق وشيخه ابن الوليد انهما موضوعان وضعهما محمد بن موسى الهمداني وان كان في الدعوى نظر (راجع معجم رجال الحديث ج 7 ص 267 و ص 371)

ولعل من هذا القبيل ايضاً كتاب سليم بن قيس الهلالي الذي قيل فيه انه من وضع ابان بن ابي عيّاش.  

القسم الثاني: دسّ بعض الروايات في كتب اصحاب الائمة عليهم السلام او رواتهم. وقد مرّ رواية يونس بن عبد الرحمن انه عرض ما سمعه من اصحاب ابي عبد الله على الامام الرضا عليهما السلام فانكر منها أحاديث وبين وجه الوضع فيها وهو الدسّ من قبل اصحاب ابي الخطاب ومغيرة بن سعيد في كتب اصحاب ابي عبد الله عليه السلام مما يظهر منه ان الدسّ كان بوجه يوجب اشتباه الامر على صاحب الكتاب بنفسه.

وقد ذكر في كتب الرجال ان النجاشي والشيخ قالا بعد ذكر كتاب المحاسن من مؤلفات احمد بن محمد بن خالد البرقي (وقد زيد في المحاسن ونقص).

كما ان الشيخ المفيد ذهب الى مثل ذلك في كتاب سليم بن قيس مع الاعتراف بصحة نسبة الكتاب اليه. 

القسم الثالث: وضع الرواية ونشرها وهذا كثير لاخفاء فيه .

القسم الرابع: الزيادة في الرواية الصادرة والنقص منها. وقد مر في رواية ابي بصير قوله عليه السلام: «ولكن أحدهم يسمع الكلمة فيحط اليها عشراً» (جامع الأحاديث المقدمات ص 56 ح 369). ومرّ ايضاً ان بعضهم نقص عن قوله عليه السلام: «إذا عرفت الحق فاعمل ما شئت يقبل منك». فرووها: «اذا عرفت فاعمل ما شئت».

1.2.2المقام الثاني:

في اشتباهات الرواة والعوارض الموجبة لتغير النّص.

وهي كثيرة ايضاً و لها اسباب عديدة نذكر بعضها:    

منها: اختلال الحواس والمشاعر بسبب الشيخوخة او المرض. وهذا باب واسع في رواة العامة والخاصة فكثيراً ما نجد التصريح به فهارس الرجال.  

ومنها: الاشتباه في فهم معنى الرواية عند النقل بالمعنى من جهة قصور الادراك او التأثر النفسي من حب وبغض ونحوهما المؤثر في فهم المعنى وانطباعه أو الرواسب الفكرية المؤثرة ايضاً في تلقي المعاني.

ومنها: كثرة الاشغال الخارجية والتوسع في التأليف والرواية الموجبين للاشتباه في النقل.

وينبغي ان نذكر بهذه المناسبة الاشتباه الذي حصل لصاحب الحدائق وتبعه بعض اعاظم العصر حيث نسب الى الشيخ الطوسي قدس سره كثرة الاشتباه في نقل الروايات لكثرة اشغاله.     

قال في الحدائق «لا يخفى على من راجع التهذيب وتدبر اخباره ما وقع للشيخ رحمه الله من التحريف والتصحيف سنداً ومتناً وقلما يخلو حديث من أحاديثه من علة في سند او في متن» (الحدائق ج 3 ص 156)

وقال في موضوع آخر: «والظاهر ان هذه الزيادة سقطت من قلم الشيخ كما لا يخفى على من له انس بطريقته سيما في التهذيب وما وقع له فيه من التحريف والتصحيف والزيادة والنقصان في الاسانيد والمتون بحيث قلما يخلو حديث من ذلك في متنه او سنده» (الحدائق ج 4 ص 209) الى غير ذلك من الموارد الكثيرة في الحدائق. 

وقال بعض الاعاظم: «وما ذكره قدس سره وان كان لا يخلو عن نوع من المبالغة الا انه صحيح في الجملة والخلل في روايات التهذيب كثير» (معجم رجال الحديث المقدمة ص 50).         

وقد فصلنا القول في تحقيق ذلك في المباحث الفقهية وذكرنا الوجه في الاختلاف في روايات التهذيبين.

ومجمل القول ان ذلك ناشئ من شدة اهتمام الشيخ قدس سره بصحة النقل وان الاختلاف انما جاء عن المصادر التي ينقل عنها الحديث. ولهذا الاجمال ذيل طويل يتوقف على التتبع والبحث العميقين. فالمسامحة في الواقع انما هي عمّن ينقل الأحاديث عن المصادر المختلفة في المتن ولا يشير الى اختلافها بل يذكر ان في كتاب فلان مثله وهذا هو دأب الحرّ العاملي في الوسائل. واما جامع الأحاديث فقد اقتصر في نقل اختلاف النسخ على الكتب الأربعة ولم يذكر اختلاف سائر الكتب كالمعاني والعلل وهذا ما يوجب خللاً في طريقة الاستنباط ويعوز الفقيه الى مراجعة المصادر.

والعجيب من صاحب الحدائق قدس سره الذي يعتقد بمقتضى كونه اخبارياً ان جميع ما في الكتب الأربعة قطعية الصدور فكيف يذكر ذلك مع انه جرح في وثاقة الشيخ وضبطه.

ويمكن تقسيم انحاء هذا الاشتباه الى انواع:

النوع الأول: ما يحصل في كيفية النقل بالمعنى وهو كثير في الروايات.

وقد ذكر في الأصول ان أصل النقل بالمعنى جائز. قال المحقق في المعارج في المسألة الرابعة «يجوز رواية الخبر بالمعنى بشرط ان لا يكون العبارة الثانية قاصرة عن معنى الاصل بجميع فوائدها».

وقال صاحب الفصول: يجوز للراوي نقل الحديث بالمعنى ولا يسقط به عن الحجية ولا نعرف في ذلك خلافاً بين اصحابنا وعليه أكثر مخالفينا.

وقد استدل على ذلك بروايات:

منها صحيحة محمد بن مسلم قال: «قلت لابي عبد الله عليه السلام اسمع الحديث منك فأزيد وانقص. قال: ان كنت تريد معانيه فلا بأس» (جامع الأحاديث المقدمات ص 60 ح 404).

ومنها رواية داود بن فرقد قال: «قلت لابي عبد الله عليه السلام اني اسمع الكلام فأريد ان ارويه كما سمعته منك فلا تجيء. قال فتتعمد ذلك؟ قلت لا. قال فتريد المعاني؟ قلت نعم قال فلا بأس» (نفس المصدر ح 405).

ومنها رواية ضعيفة مرفوعة قال «قلت لابي عبد الله عليه السلام اسمع الحديث منك فلعلي لا ارويه كما سمعته. فقال: إذا اصبت الصلب منه فلا بأس انما هو بمنزلة تعال وهلّم واقعد واجلس» (نفس المصدر ح 406).

وفيها مضافاً الى الضعف ان «تعال» و «هلم» غير مترادفين وكذلك «اقعد» و «اجلس» فـ «هلم» على ما في كتب اللغة دعوة الى الشيء واصله «ها لّم» من لممت الشيء اي اصلحته كما في المفردات وفي الصحاح (قال الخليل: أصله لُمَّ من قولهم لَمَّ اللَّه شَعَثه، أي جمعه، كأنَّه أراد: لُمَّ نفسك إلينا أي اقْرُبْ. وهَا للتنبيه وإنَّما حُذفت ألفُها لكثرة الاستعمال، و جعلا اسماً واحداً..)

والفرق بين «القعود» و «الجلوس» ان الأول من قيام والثاني من نوم. وقيل ان الجلوس اعم من القعود وهو نقيض القيام. وقيل ان القعود لما فيه لبث بخلاف الجلوس يقال قواعد البيت ولا يقال جوالسه ويقال جليس الملك ولا يقال قعيده (راجع أقرب الموارد جلس و قعد).

وكيف كان فالنقل بالمعنى وان كان جايزاً الا انه يختص بالفقهاء واهل الخبرة بخصوصيات الكلام ولعل وجه تجويز الامام عليه السلام لمحمد بن مسلم الاعتماد على فقهه وعلمه. الا ان هذه الطريقة تداولتها الرواة فسببت كثيراً من المشاكل في الاستنباط.

ومن تلك الموارد رواية عبد الله بن سنان في العصير العنبي المروية بوجهين نقلاً بالمعنى ويستفاد الحكم من أحدهما دون الآخر.

ومن هذا الباب ايضاً ما ذكرناه ان صاحب الوسائل ينقل الرواية الواحدة عن مصدرين مع اختلافهما في النسخة ولا يشير الى مواضع الاختلاف. وان جامع الاحاديث ايضاً لا يشير الى اختلاف نسخ الكتب الأربعة مع ان بعض الكتب الأخرى لا يقل اعتماداً عن بعض الكتب الأربعة وكذلك الوافي. ومن هنا التزم بعض الفقهاء بإرجاع الروايتين قريبتي المعنى الى رواية واحدة اختلف فيها النقل بالمعنى.

النوع الثاني: الادراج في الحديث.

ويسمى هذا الحديث في الاصطلاح بـ «المدرج». وهو خلط كلام الراوي او الفقيه بكلام المعصوم فيشتبه الناقل بينهما من جهة عدم الفصل بينهما بعلامة او بكلمة تنبئ عن انتهاء الرواية. وهذا ايضاً كثير في الروايات.     

قال المحقق الشيخ حسين العاملي والد شيخنا البهائي قدس سرهما «والادراج أن يذكر الراوي حديثا ثم يتبعه كلاما لنفسه أو لغيره فيرويه من بعده متصلا فيتوهم أنه من الحديث (الى ان قال) وإنما يتفطن له الحذاق وكثيرا ما يقع عن غير عمد كأن يلحق الراوي بالحديث تفسيرا أو نحوه لقصد التوضيح فيتوهمه من بعده منه ومثل هذا يتطرق في إجازات الكتب كثيرا وقد وقع لنا في كتاب التهذيب مواضع حكمنا فيها بالادراج ومواضع يغلب فيها ذلك على الظن ومواضع يشك فيها وسبب ذلك عدم فصل النساخ الحديث عن غيره بدائرة ونحوها» (وصول الاخيار الى أصول الاخبار ص 114).

وقال في موضع آخر: «كما وقع لنا في بعض أحاديث التهذيب الالتباس بكلام المقنعة وكلام الشيخ الطوسي فلم تميزه الا بعد عسر شديد وتفتيش تام (الى ان قال) وهذا في مثل التهذيب و الاستبصار واجب لاختلاط أحاديث التهذيب بكلام المقنعة وكلام الشيخ واختلاط أحاديث الاستبصار بأحاديث الشيخ وغيره من وجه الجمع وغيره. وقد ميّزت – بحمد الله – في كتابي بعضاً عن بعض بحيث لا يلتبس منه شيء» (وصول الاخيار ص 193).

ولا يخفى لمن راجع مقدمة الكتب الأربعة المطبوعة ان أحد النسخ المعتبرة المعتمدة هي نسخة الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي ولا شك ان تمييزه تابع لاجتهاده ولابد لكل فقيه من التمييز بنفسه.

ومن موارد الاشتباه ما عبّر عنه في المستمسك تبعاً للجواهر الذي تبع فيه المدارك بصحيحة الحلبي عن ابي عبد الله انه قال: «وان اوصى ان يحج عنه حجة الاسلام ولم يبلغ ما له ذلك فليحج عنه من بعض المواقيت» (المستمسك ج 10 ص 262 الطبعة الثالثة). مع ان هذه العبارة من الشيخ قدس سره وانما وردت بعد رواية له عن الحلبي فاشتبه الامر على صاحب المدارك وتبعه غيره.

وكثيراً ما يشتبه كلام الصدوق قده بالرواية في الفقيه. منها ما ذكره في صلاة الجمعة «وقال زرارة: قلت له: على من تجب صلاة الجمعة؟ قال يجب على سبعة نفر من المسلمين. ولا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين أحدهم الامام فاذا اجتمع سبعة ولم يخافوا امّهم بعضهم وخطبهم» (الفقيه ج 1 ص 267 ط النجف).

وقد توهم الاكثر ان هذه الجمل كلها رواية زرارة ولكن تنبه للادراج بعض الاعلام كالمحقق الوحيد البهبهاني وصاحب مفتاح الكرامة والسيد البروجردي في تقريراته في صلاة الجمعة وذكروا ان الذيل من كلام الصدوق فيحتمل ان يكون ابتداء كلامه «ولا جمعة» ويحتمل ان يكون من كلمة «فاذا اجتمع».

واما اختلاط كلام القدماء أصحاب الائمة عليهم السلام بالرواية فالتمييز بينهما أصعب. وقد تعرضنا لموارد منه في الفقه واكثر ذلك كتاب حريز والظاهر انه كتاب فقهي نقل فيه الروايات وآراء استاده زرارة فاختلط كلام زرارة بحديث المعصوم فمنها رواية مفصلة في جواز العدول الى السابقة في الصلوات تشتمل على مطالب لم يعمل بها القدماء فقال الاصحاب ان هذه الفقرات معرض عنها (جامع الاحاديث ج 2 ص 73 ح 584) والتأمل فيها بموجب بعض الشواهد يدلنا على ان صدر الرواية من الامام والباقي من كلام زرارة.

ومنها ما رواه ايضاً عن زرارة عن ابي جعفر عليه السلام رواية في صلوات الفرائض ثم عقبها بكلام طويل تدل الشواهد على انه من كلام حريز او زرارة (جامع الأحاديث ج 4 ص 34 الطبعة الجديدة). منها انه يستشهد فيه ببعض القراءات وهي: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر وقوموا لله قانتين» ومن الواضح ان ذلك ليس من شأن الامام مع انه يدل على التحريف.

ومن هذا القبيل رواية يونس في باب الحيض التي أشكل تأويلها على الاصحاب فقالوا انها مضطربة المتن وقد ذكرنا في محله ان صدرها حديث المعصوم وما بعده كلام يونس.

ويشهد لما ذكرنا من اشتباه كلام صاحب الكتاب بكلام المعصوم ما يشهد في الوافي والوسائل حيث ينقل أحدهما كلام الصدوق جزءاً من الحديث والآخر بعنوان انه كلام الصدوق.

النوع الثالث: تشابه الخطوط.

وذلك من جهة تشابه حروف الهجاء العربية واشتباه بعضها ببعض. وهذا يؤثر كثيراً في الاستنساخ. وله شواهد كثيرة في الروايات.

منها رواية عبيد بن زرارة في جواز العدول من سورة الى أخرى في الصلاة «قال: له ان يرجع ما بينه وبين ان يقرأ ثلثيها» (جامع ج 2 ص 301 ح 2806). ولم يفت بهذا المضمون أحد من القدماء ولعل اول من افتى به كاشف الغطاء قدس سره ومال اليه بعض من تأخر عنه. وقد ذكر السيد البروجردي قده ان هذا تصحيف عن كلمة ثلثها.

وذكرنا في محله انه لا يبعد ان يكون الكلمة الصحيحة هنا «نصفها». بقرينة فتاوى القدماء والسّر في الاشتباه هو التصحيح القياسي كما سيجيء البحث عنه ان شاء الله تعالى وذلك لان الراوي لها هو ابن ابي عمير وقد تعرضت كتبه للمطر وغيره مما اضطر بعد ذلك الى التصحيح القياسي فاشتبه الخط المشوش على الناسخ وكتبه ثلثيها.

ومنها الرواية المعروفة عن امير المؤمنين عليه السلام: «من جدد قبراً او مثل مثلاً فقد خرج عن الاسلام» (الوسائل ج 2 ص 868 ب 43 من الدفن) فقد نقل في الوسائل ان الصفار رواه جدّد بالجيم وعن سعد بن عبد الله انه رواه حدّد بالحاء غير المعجمة وعن البرقي رواه جدث وعن المفيد انه قرأه خدّد.

وليس هذا الاختلاف الا ناشئاً من تشابه الخط العربي. ومن المعلوم ان النقط مستحدثة في الخط العربي ولذا يعبر عن الحرف المنقوط بالمعجم ثم النقل من الخط الكوفي الى الرقع او النسخ او الخط الفارسي كثيراً ما يستوجب تخلل الاجتهاد في معرفة الخط الكوفي. والبحث عن كل من هذه الأمور له ذيل طويل لا مجال لذكره.

النوع الرابع: اشتباه الراوي فيمن روى عنه.

فقد يسمع كلاماً من غير الامام ويسنده الى أحد الائمة عليهم السلام بتوهم انه سمعه منه وهذا كثيراً ما يحصل بالنسبة الى من يطلب التوسع في نقل الرواية واخذ العلم حيث كان بعضهم يحضر مجالس رواة العامة ومحضر الامام.

وقد حكي عن الفضل بن شاذان انه قال: «سأل ابي محمد بن ابي عمير فقال له: انك قد لقيت مشايخ العامة فكيف لم تسمع منهم فقال اني قد سمعت منهم غير اني رأيت كثيراً من اصحابنا قد سمعوا علم العامة وعلم الخاصة فاختلط عليهم حتى كانوا يروون حديث العامة عن الخاصة وحديث الخاصة عن العامة فكرهت ان يختلط علي فتركت ذلك واقبلت على هذا» (رجال الكشي ح 1105 معجم رجال الحديث ج 14 ص 299)

ومن هذا القبيل ما روي عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال «قال امير المؤمنين عليه السلام: نعم البيت الحمّام يذكّر النار ويذهب بالدرن وقال عمر: بئس البيت الحمّام يبدي العورة ويهتك الستر. وقال فنسب الناس قول امير المؤمنين عليه السلام الى عمر وقول عمر الى امير المؤمنين عليه السلام» (الوسائل ج 1 ص 361 ب 1 من آداب الحمام ح 1)

النوع الخامس: التصحيح القياسي.

فكثيراً ما يكون اختلاف النسخ ناشئاً من تصحيح بعض العلماء – الذين ينتهي إليهم نسخ الكتب الموجودة عندنا – كتبهم ولكن لم يكن هذا التصحيح في كثير من الموارد معتمداً على النسخ القديمة الاصلية بل كان معتمداً على اجتهادهم واستنباطهم ويكثر هذه التصحيحات في الروايات المنقولة عن الكتب التي لم تكن مقروّة بسبب ضياع الخط أو تشوشه كما ان بعضها يعتمد على مراجعة كتب اللغة ومقايسة الحديث بسائر الأحاديث او بسائر كتب الحديث وهذا يوجب تخلل الاجتهاد في اسانيد الروايات ومتونها.

قال الشيخ حسين العاملي قدس سره في وصول الاخبار «وقد يقع من سهو الناسخ كثيراً كما وقع في كثير من التهذيب فتنبهنا له واصلحناه من فهرست الشيخ الطوسي ومن باقي كتب الاحاديث ومما يعين في ذلك معرفة اصحاب الائمة واحداً واحداً ومن لحق من الرواة الائمة ومن لم يلحقهم وقد صنف اصحابنا في اصحاب الائمة كتباً ذكروا اصحاب كل امام ومن لحق منهم امامين او اكثر وكتاب ابن داود رحمه الله في الرجال مغن لنا عن جميع ما صنف في هذا الفن وانما اعتمدنا الآن في ذلك عليه» (وصول الاخيار ص 104)

ويظهر من هذا الكلام انه قدس سره تصرف في اسانيد التهذيب ومتونه وصححه بظنه واجتهاده معتمداً على كتب الحديث الأخرى وكتب الرجال واعتمد في تصحيح الاسانيد على كتاب ابن داود الذي يشتمل على اشتباهات كثيرة.

قال المحدث النوري في المستدرك: «انهم (اي العلماء) في الاعتماد والمراجعة الى كتابه هذا ( رجال ابن داود ) بين غال ومفّرط ومقتصد فمن الاول العالم الصمداني الشيخ حسين والد شيخنا البهائي في درايته ( ونقل عبارته المذكورة ) ومن الثاني شيخنا الاجل المولى عبد الله التستري فقال في شرحه على التهذيب في شرح سند الحديث الاول منه في جملة كلام له (ولا يعتمد على ما ذكره ابن داود في باب محمد بن اورمة لان كتاب ابن داود مما لم اجده صالحاً للاعتماد لما ظفرنا عليه من الخلل الكثيرة في النقل عن المتقدمين وتنقيد الرجال والتمييز بينهم) ... (الى ان قال) ومن الثالث جل الاصحاب فتراهم يسلكون بكتابه سلوكهم بنظائره» (المستدرك ج 3 ص 442).

ومما ترتب على هذا التصحيح مضافاً الى ان نسخته في التهذيب من امهات النسخ الاصلية ان بعض الرجاليين المتأخرين يعتمدون على هذه الاسانيد المصححة من كتاب رجال ابن داود في تمييز طبقات الرواة وتمييز الأسماء المشتركة بقرينة الراوي والمروي عنه مع انهم لا يعتمدون في ذلك على نفس كتاب ابن داود غفلة عن هذه الاسانيد قد تعرضت بدورها لمثل هذه التصحيحات وكم لها من نظير وانما ذكرنا هذا التصحيح لوصول كتاب الشيخ العاملي قده الينا وهناك من سلك نفس هذه الطريقة ولم يصل الينا خبره.

وممن ثبت عنه التصرف في المتون صاحب الوسائل قدس سره. فمن ذلك انه عند نقله لكتاب العلل لفضل بن شاذان حذف ما يبتدئ به في ذكر كل علة حيث يقول: (فان قال قائل.. قيل له..) فجعلها صاحب الوسائل بصورة الروايات الواردة عنهم عليهم السلام اذ رأى ذلك غير مناسب لكونه رواية.

ومن ذلك ما ذكره ابن ادريس في مستطرفات السرائر ان نسخة كتاب قرب الاسناد التي كانت عنده كانت مغلوطة فصحّحها بالمقايسة الى سائر الكتب وبالمناسبات.

وقد كثر التصحيح القياسي في روايات ابن ابي عمير بعد ان تلفت كتبه وتشوشت خطوطه من جراء المطر وغيره كما هو مذكور في كتب الرجال فأبدل الاسانيد المجهولة بكلمة (بعض اصحابنا) او (رجل) ونحو ذلك لعدم امكان التصحيح القياسي فيه غالباً.

واما الكلمات الغير المقروءة في المتون فقد تعرضت أيضا للتصحيح القياسي. فمن ذلك موثقة ابن بكير في باب الصلاة في اجزاء ما لا يؤكل لحمه فقد استدل بها الاصحاب مع اعتراف بعضهم بانها مضطربة المتن. والاضطراب فيها واضح ومن موارد اضطرابها قوله: «ان الصلاة في وبر كل شيء حرام اكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله و روثه وكل شيء منها فاسد» (جامع الأحاديث ج 2 ص 101 ح 892).

النوع السادس: تقطيع الروايات

وهذا على اقسام:

القسم الأول: حذف بعض الخصوصيات المذكورة في السؤال بتوهم انها غير دخيلة في الحكم او بتوهم ان الجواب يغني عن معرفة السؤال لاشتماله على ما يبين كيفية السؤال او بتوهم ان الجو الفقهي للمسألة يبين حقيقة السؤال فلا حاجة الى ذكره.

فمن الأول اي باعتقاد عدم دخالة هذا الجزء من السؤال ما رواه الكليني في الكافي هكذا «في رجل اتى جبلاً فشق فيه قناة فذهبت قناة الآخر» ويظهر بملاحظة (من لا يحضره الفقيه) انه اسقط قطعة من السؤال وهو هكذا: «رجل اتى جبلاً فشق قناة جرى ماؤها سنة ثم ان رجلاً اتى ذلك الجبل فشق منه قناة أخرى فذهبت قناة الآخر» (الوافي ج 18 ص 1057).

و امثلة الثاني كثيرة جداً منها صحيحة هشام بن الحكم عن ابي عبد الله عليه السلام «انه قال فيمن صام تسعة وعشرين قال: ان كانت له بينة عادلة على اهل مصر انهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوماً» (الوسائل ج 7 ص 192 ب 4 من احكام رمضان).

فمن الواضح ان السؤال ناقص في الرواية وانما حذف خصوصيات السؤال لانه يعلم من الجواب ان السؤال كان عن الصائم تسعة وعشرين إذا احتمل ان يكون الشهر كاملاً ما هي وظيفته؟       

ومن الثالث وهي كثيرة ايضاً رواية معاوية بن عمار قال: «سألت ابا عبد الله عليه السلام عن الميت فقال: استقبل بباطن قدميه القبلة» (جامع الأحاديث ص 252 ج 1 ح 2442 ب 14 من الاحتضار).

ومن الواضح ان السؤال ناقص ولا يعلم جميع خصوصياته من الجواب اذ لم يعلم ان السؤال كان عن توجيه الميت حال الاحتضار او حال الغسل او حال الصلاة او حال الدفن. الا انه يعلم من الجو الفقهي وبملاحظة ان محل الخلاف بين العامة والخاصة هو توجيهه حال الاحتضار انه مورد السؤال.

القسم الثاني: حذف جملة من صلب الرواية بتوهم انها غير صادرة فلا بد من الغائها.

فمن ذلك ان الصدوق عند نقله لبعض جمل كتاب العلل لفضل بن شاذان في كتابه «علل الشرايع» يقول بعدها: «غلط فيها الفضل». ولكنه عند نقله للكتاب في عيون اخبار الرضا عليه السلام حذف هذه الجملة التي يعتقدها خطأ الفضل فيها. ومنشأ ذلك ان كتاب العيون انما وضعه لجمع الاخبار الصحيحة بنظره فان الخبر العين اي الصحيح فلا ينبغي ذكر الجمل غير الصادرة. 

قال المحدث النوري في المستدرك في كلام طويل حول الصدوق قدس سره «ويظهر من بعض المواضع ان الصدوق كان يختصر الخبر الطويل ويسقط منه ما ادى نظره الى اسقاطه» ثم نقل لذلك بعض الشواهد وحكى عن المحقق التستري انه قال في كشف القناع: «وبالجملة فامر الصدوق مضطرب جداً» (المستدرك ج 2 ص 278).

ويأتي هذا الاحتمال في بعض روايات الفقيه ايضاً فانه قال في مقدمته «ولم اقصد فيه قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووا بل قصدت ايراد ما افتي به واحكم بصحته واعتقد انه حجة فيما بيني وبين الله» فلا يبعد ان يكون قد حذف من بعض الروايات ما لم يوافق رأيه.

وليس غرضنا مما ذكرناه الا فتح باب الاحتمال وان الفقيه لابد وان يكون متيقظاً في جميع هذه الموارد ولا يكتفي بحسن الظن بالأعلام.

واما صحة جميع ما اعترض على الصدوق في المستدرك وغيره فغير مسلم اذ لعل ما وجد من الحذف بمقايسة ساير الكتب كان من زيادة المدارك في تلك الكتب لا من النقص في كتاب الصدوق رضوان الله عليه.

القسم الثالث: ان يقتصر في نقل الرواية على مورد الحاجة ثم يتوهم من ينقل عنه ان ما نقل هو تمام الرواية ولهذا امثلة كثيرة.

فمن ذلك ما ينقله الشيخ في الاستبصار فانه انما ألف هذا الكتاب للجمع بين الاخبار المتعارضة فيقتصر في كثير من الموارد على الجملة التي هي مورد التعارض ولا ينبه ان الرواية لها تتمة وانما يظهر ذلك بالقياس الى سائر الكتب كالتهذيب او سائر موارد الاستبصار.

ومن هذه الموارد ما رواه في باب الرجل يموت في السفر بسند صحيح عن ابي الصباح الكناني عن ابي عبد الله عليه السلام «قال في الرجل يموت في السفر في ارض ليس معه الا النساء قال: يدفن ولا يغسّل والمرأة تكون مع الرجل بتلك المنزلة تدفن ولا تغسل» (الاستبصار ج 1 ص 201) وروى تمام الحديث في باب جواز غسل الرجل امرأته والمرأة زوجها وفيه بعد قوله (ولا تغسل): «الا ان يكون زوجها معها...» الحديث (الاستبصار ج 1 ص 197)

القسم الرابع: حذف الجملة بتوهم انها لا ترتبط بسائر جمل الرواية ولا تؤثر في تغير المعنى فلا حاجة الى ذكرها غفلة عن ان فقيها آخر قد يختلف في نظره معنى الحديث بملاحظة وجود هذه الجملة.  

فمن ذلك ما رواه الشيخ في التهذيب عن زرارة قال قلت له عليه السلام: «أرأيت ما كان تحت الشعر قال كل ما احاط به الشعر فليس للعباد ان يغسلوه ولا يبحثوا عنه ولكن يجرى عليه الماء» (جامع الأحاديث ج 1 ص 110 ب 19 من الوضوء ج 2). وقد استدل بهذه الرواية بعضهم على ان الحكم كذلك في الغسل ايضاً اذ لا تقيد فيها بالوضوء ولكن بملاحظة نقل الصدوق لها في الفقيه يعلم اختصاصها بالوضوء (نفس المصدر ح 1) وان الشيخ قدس سره حذف منها ما رآه غير دخيل في تغير المعنى.

القسم الخامس: حذف مقدار من الرواية اعتماداً على انه معلوم بملاحظة عنوان الباب.

فمنها ما رواه الكليني تحت عنوان (عدة المتعة) عن زرارة عن ابي عبد الله عليه السلام «انه قال ان كانت تحيض فحيضة وان كانت لا تحيض فشهر ونصف» (الوسائل جـ14ص473 ب22 من ابواب المتعة ح 1 الكافي ج 5 ص 458 باب عدة المتعة ح 1) مع ان الرواية في التهذيب هكذا: «عدة المتعة ان كانت تحيض الخ» (الوسائل الحديث المذكور التعليقية) فحذف الكليني موضوع الرواية اعتماداً على عنوان الباب. وهذا يوجب الاشتباه إذا نقل الحديث بدون العنوان.       

ولعل منها ما رواه الكليني ايضاً عن عبد الله بن المغيرة عن سعيد الاعرج «قال سألت ابا عبد الله عليه السلام عن سؤر اليهودي والنصراني فقال: لا» رواها في باب الوضوء في سؤر اليهودي والنصراني. وبهذه الملاحظة لا يبعد ان يكون المحذوف في السؤال هو عنوان الوضوء. مع انه قد استدل بهذه الرواية على نجاسة اليهودي والنصراني بدعوى المنع عن شرب سؤرهما. ويشهد لما ذكرنا ما رواه السيد المرتضى قدس سره في الناصريات عن عبد الله بن المغيرة عن سعيد الاعرج قال «سألت ابا عبد الله عليه السلام عن الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني قال لا» (الناصريات ص 84).

الى هنا ننتهي عن علل اختلاف الأحاديث في مرحلة النقل.         

وفي هذا المقام بحث آخر نتركه مخافة التطويل وهو الاختلاف المتوهم بين الروايات نتيجة اختلاف الاصطلاح الفقهي في زماننا والاصطلاح الفقهي في زمان الائمة عليهم السلام.

ومن هذا القبيل كلمة «حرام» فانه في مصطلحنا يطلق على كل منهي عنه بالنهي الالزامي وهو في مصطلح تلك العهود يطلق على ما حرّمه الله في كتابه او حرّمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وثبت بالسنة القطعية وما عدا ذلك كان يعبر عنه بالكراهة او النهي وله شواهد كثيرة وكذلك الكراهة فان المراد بها في اصطلاحنا هو المنهي عنه بالنهي التنزيهي وقد ذكرنا ان المراد في مصطلح ذلك الزمان هو الحرمة كما يظهر بملاحظة الروايات و كلمات فقهاء العامة.

والذي يوقعنا في الاشتباه هو الاعتماد على اصالة عدم النقل والاستصحاب القهقرائي وقد ذكرنا في محله ان هذا الأصل لا أصل له ولا أثر له عند العقلاء وانما يجب التفحص عن المصطلح في ذلك الزمان مع ملاحظة ان الالفاظ والمصطلحات في تغيير وتبديل وتطور.

فتحصل من مجموع ما ذكرناه في المقصد الثاني ان حسن الظن بالرواة ونقلة الحديث اعتماداً على اصالة عدم الاشتباه خطر عظيم على الاستنباط الفقهي. ولابد من البحث والتنقيب وكسب الخبرة وملاحظة خصوصيات كل مؤلف وكل كتاب وطريقة نقل الاقدمين وما كانوا يجوزونه من التغيير والتبديل في متون الأحاديث واسانيدها وما تعرضت لها الاخبار من التصحيحات القياسية والنقل بالمعنى وغير ذلك من اسقام الحديث. واما اصالة عدم الاشتباه فليست من الأصول العقلائية ولا دليل على اعتبارها.

والحمد لله رب العالمين.