مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

التوسل بأهل البيت (ع)

التوسل بأهل البيت عليهم السلام

 

 

من الامور التي يصرّ عليها من يدعون بالسلفية هو حرمة التوسل باولياء الله تعالى للوصول الى الحاجات بل ربما يعتبر ذلك عندهم نوعا من الشرك وقد كثر حوله الكلام وردّ هذه الدعوى جمع كثير من علماء المسلمين سنة وشيعة قديما وحديثا ولكن القوم يكررون الدعوى .

ومن الواضح لدى عامة المسلمين أن التوسل مشروع وقد دلّ على ذلك الروايات والآثار المروية وسيرة المسلمين من العصر الاول الى يومنا هذا.

ومن ذلك ما ورد في التاريخ من توسل عبد المطلب جد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم به في الاستسقاء وشعر ابي طالب عليه السلام في ذلك معروف حيث قال في لاميته المشهورة في مدح الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم (وابيض يستسقى الغمام بوجهه ــ ثمال اليتامى عصمة للارامل).

ومنها ما روي في كتب الحديث حول الاستسقاء فروى البخاري في صحيحه ج2 ص16 (ابواب الاستسقاء) أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا فاسقنا قال فيسقون.

ومجمل القول في ذلك أنّ التوسل بالأنبياء والأئمة عليهم السلام وأولياء الله وعباده الصالحين يتمثل في ثلاث وجوه :

الوجه الأوّل : الحضور عندهم لطلب الحاجة ، سواء في ذلك الحضور عندهم أحياء ، أوعند قبورهم ، وهذا ممّا ورد في الكتاب العزيز ؛ قال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}(النساء/64). فنفس الحضور عند الرسول يؤثر في استجابة الدعاء ؛ والسر في ذلك أنّ الإنسان يقرب من الله تعالى في مواضع وحالات.

فالمواضع منها : المساجد ، وكل موضع يصلي فيه المؤمنون ، وإن لم يكن مسجداً ، كالمصلى في دائرة أو فندق ، فالإنسان هناك أقرب الى الله منه في غيره ، فأولى به أن يكون أقرب إذا حضر عند الرسول أو الإمام أوعالم متعبد يذكّرالإنسان بالله تعالى ، فإنّ القرب والبعد إنّما هو من جانب الإنسان ، والله تعالى أقرب إلى كل إنسان من نفسه ؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}(ق/16).  ونسب الأشياء إليه تعالى واحدة ، وإنّما البعد يحصل للإنسان من جهة معاصيه وتوجهه إلى الدنيا وملاهيها ، فكل موضع يشعر فيه بالقرب ويذكّره بالله تعالى يؤمّل فيه استجابة الدعاء ، قال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ...}(النور/36 ـ 37).

بل هناك مواضع يشعر الإنسان فيها بالقرب من الله ، وإن لم تكن لها قدسية ، ككونه تحت السماء ، ولذلك أمر في بعض الصلوات والأدعية أن يخرج الإنسان بها من تحت السقوف إلى ما تحت السماء  والصحراء ، فإنّ الإنسان يشعر فيها بقربه من الله ؛ ولذلك أمر في صلاة العيد والاستسقاء أن يصحروا بهما.

وهناك حالات للإنسان تؤثر فيه بشعور القرب ، كالبعد عن زخارف الدنيا ، ولذلك أمر الحاج بلبس ثوبي الاحرام والتنعل وكشف الرأس ، كل ذلك للتأثير في الإنسان ليشعر بالقرب ، وإلا فلا شيء يؤثر في الله تعالى .

بل الدعاء والصلاة أيضاً للتأثير في الإنسان ، فان الله تعالى لا يتأثر من شيء ، وانما الدعاء والتوسل يؤثر في الانسان ويجعله مستعدا لنزول رحمته تعالى، فان رحمته واسعة شاملة ، وعلى الإنسان أن يصقل مرآة نفسه ليمكنه الاستضاءة من هذا النور الغامر، والصلاة والدعاء وغيرهما من العبادات تحقّق الأرضية الصالحة لاستقبال أنوار الرحمة الإلهية.

فكذلك التوسل والحضور لدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام وكل من يذكّر الإنسان بالله تعالى يؤثر في ذلك.

ولا فرق في ذلك بين ميتهم وحيّهم ؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ المراد تأثر الإنسان بقدسية المكان ، وهو حأصل في كلا الموردين ، مع أنّهم لا يقصرون مقاماً عند الله تعالى من الشهداء في سبيله ، وقد قال تعالى:{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(آل عمران/169) بل حياة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام أقوى وأعظم.

بل يظهر من بعض النصوص أنّ للإنسان بوجه عام بعض مظاهر الحياة بعد موته حتى الكفار ؛ ومنها ما ورد في قصة قليب بدر ومن القي فيه من المشركين المقتولين ومخاطبة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم اياهم. والقصة معروفة في التاريخ وكتب الحديث لدى الفريقين.

فقد روى الصدوق في الفقيه ج1 ص180 باب كيفية السلام على اهل القبور قال (وقف رسول الله صلى الله عليه وآله على القتلى ببدر وقد جمعهم في قليب فقال : يا أهل القليب إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ ! فقال المنافقون : إن رسول الله يكلم الموتى ، فنظر إليهم فقال : لو أذن لهم في الكلام لقالوا : نعم وإن خير الزاد التقوى ) .

وفي البخاري ج2 ص110 باب ما جاء في عذاب القبر (اطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقيل له أتدعو أمواتا فقال ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون).

قال بعضهم إنّ هذا الحديث لا يدلّ على أنّ الميّت يسمع بعد موته فإنّ ما ورد انّما هو من إعجاز الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وليس أمرا طبيعيا.

وهذا غير صحيح لأنّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يقل إنّهم يسمعون كلامي ليكون خاصّا به صلى اللّه عليه وآله وسلّم ويكون من الاعجاز بل قال ما أنتم بأسمع منهم فهذا ميزة الانسان أنه يسمع بعد موته ايضا كما كان يسمع قبله.

ويلحق بهذ الأمر ــ اي الحضور عند النبي والولي ــ التوسل بأسمائهم وأرواحهم وإن لم يحضر عندهم ؛ وذلك بأن يدعو الله تعالى ، ويطلب منه حاجته مع الاستشفاع  بذكر الرسول أو الإمام ، وهذا أيضاً يؤثر في الإنسان من جهة أنّه يرى نفسه تابعاً لهؤلاء ، مهتدياً بهداهم ، سالكاً سبيلهم محباً لهم ، وليس هذا الحب والولاء إلا المتابعة ؛ لأنّهم أولياء الله واصفياؤه ، وبذلك يوجب القرب من الله تعالى ويدخل في قوله سبحانه :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}(المائدة/35).

والإمام هو من جعله الله تعالى مثلاً للناس يقتدون به ؛ فإنّه للطفه بعباده لم يكتف بإرسال الشريعة والكتب بل جعل للناس من أنفسهم مُثُلا يستنّون بسنّتهم ويحتذون بسيرتهم ؛ قال تعالى : {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }(الأنبياء/73). ويوم القيامة تحاسب أعمال الناس بالقياس ألى أئمتهم ، قال تعالى : {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ...}(الإسراء/71). وعلى ذلك فلا استغراب أن يكون في ذكر الإمام والتوسل به تقرباً إلى الله تعالى ، فهو كما يذكّر الإنسان بربه عملاً وقولاً وشمائلاً ، كذلك يذكّره بربه إذا تذكّره ، وتذكّر أفعاله وتعبده لله تعالى.

 

الوجه الثاني : أن يطلب من النبي أو الولي أن يدعو الله تعالى ليقضي حاجته ، وهذا أيضاً ممّا ورد في الآية السابقة ؛ إذ قال تعالى : {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ...}(النساء/64). بل هذا ممّا لا شك ولا خلاف في جوازه وتاثيره حتى بالنسبة لغير النبي والإمام من عامة المؤمنين ، وقد وردت بذلك أحاديث كثيرة في كتب العامة والخاصة.

وممّا يلفت النظر في هذا الأمرأنّ الله تعالى خلق ملائكة يدعونه تعالى ويستغفرون للمؤمنين ؛ قال سبحانه:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ...}(غافر/7). وغير ذلك من الآيات والروايات.

 

الوجه الثالث : أن يطلب الحاجة من نفس النبي أوالإمام ، وهذا هو الذي يقال أنّه شرك بالله العظيم ، ولا شك أنّه لو اعتقد الإنسان أنّ النبي أوالإمام أوأي أحد أو شيء في العالم يستقل في التأثير فيؤثر شيئاً من دون أن يأذن الله تعالى ، فهو نحو من الشرك ، وإن كان خفياً ، والموحّد يعتقد بأنّ الله هو المؤثر في العالم ، وأنّ كل شيء يحدث فإنّما هو بإذنه وأمره وإرادته تعالى إلا أنّ هذا لا يختلف بالنسبة إلى العلل والأسباب الغيبية والعلل والأسباب الطبيعية ، فلو اعتقد أحد أنّ الطبيب يستقل في المعالجة والشفاء فقد أشرك ، بل الشفاء من الله تعالى ، بل الصحيح أنّ العمل الطبيعي الذي يقوم به الطبيب أو من يباشر العلاج ، أو أي عمل آخر ، فإنّما هو بإذن الله تعالى ، مع أنّ مراجعة الطبيب وغيره لا يعد شركاً ولا فسقاً.

وربما يقال ــ كما في تفسير المنار لمحمّد رشيد رضا وغيره ــ بأنّ هناك فرقاً بين التوسل بالعلل الطبيعية والتوسل بالعلل الغيبية ، والثاني يعدّ شركاً دون الأوّل ، ويستدل على ذلك بأنّ الله تعالى اعتبر المتوسلين بالملائكة وغيرهم مشركين ، والمشركون ما كانوا يعتقدون أنّهم يؤثرون بالاستقلال ، فليس ذلك إلا للاعتقاد بتأثيرهم الغيبي.

والجواب : أنّ هذا الفرق تحكّم واضح ؛ اذ لا شك في أنّ الاعتقاد بالتأثير المستقل لغير الله تعالى شرك ، وإن كان طبيعياً. فالصحيح أنّ المشركين كانوا يعتقدون بنوع من الاستقلال للملائكة وغيرهم من العوامل الغيبية ، كما أنّه ربما يحصل هذا الاعتقاد لبعض المسلمين بالنسبة لبعض الأنبياء أوالأئمة أو الأولياء ، ولا شك أنّ هذا نوع من الشرك يجب تطهير القلب منه.

ونحن نعتقد أنّ الله تعالى أذِن لبعض عباده الصالحين أن يعملوا أعمالاً لا يقدر عليها البشر العادي ، ولكن كل تاثيرهم بإذن الله تعالى ، ولا فرق بين هذا التأثير الغيبي وتأثير الصدقة ، مثلاً في دفع البلاء فهو أيضاًتأثير غيبي ، فقد جعل الله فيها هذا التأثير، ولكنه لا يحدث إلا بإذنه تعالى ، كسائر العلل والأسباب الطبيعية وغير الطبيعية.

وقد أخبر الله سبحانه في كتابه العزيز أنّ عيسى عليها السلام كان يحيى الموتى ويبرئ الأكْمَه والأبرص كل ذلك بإذنه تعالى ، ومن اللطيف أنّ الآية الكريمة تصرّح بأنّ كل عمله بإذنه تعالى حتى ما كان طبيعياً ، حيث قال تعالى:{ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ...}(المائدة/110).ولا شك أنّ صنع الطين كهيئة الطير عمل عادي طبيعي ، والنفخ فيه ، وجعله طيراً حياً عمل غير طبيعي ، وكل ذلك بإذنه تعالى .

فإذا توسل أحد بعيسى عليه السلام حال حياته ، وطلب منه شفاء مريضه لم يكن ذلك شركاً بالله سبحانه كما هو واضح ، وإذا كان كذلك فسيّد الأنبياء والمرسلين وعترته الطاهرين أولى بذلك ، ولا فرق بين حيهم وميتهم كما مر ذكره.

نعم إنّما يصح التوسّل إذا صحّ الاعتقاد بأنّ الله تعالى فوّض إليهم بعض الأمر ، وهذا ما نعتقده للروايات القطعية المتواترة أو للتجربة ، ولو فرضنا جدلاً عدم صحة هذا الاعتقاد فهذا لا يبرّر تهمة الشرك ، وإنّما يكون كمراجعة طبيب لا علم له ، ونحن على ثقة وبصيرة من أنّهم عليهم السلام أبواب رحمته تعالى ، وقد قال في كتابه العزيز : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء/107). وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلّم أحاديث كثيرة في التمسك بأهل البيت عليهم السلام بل هذا المضمون متواتر عنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

منها ما رواه جماعة منهم الحاكم في المستدرك ج2 ص343 عن حنش الكناني قال (سمعت أبا ذر يقول وهو آخذ بباب الكعبة أيها الناس من عرفني فانا من عرفتم ومن أنكرني فانا أبو ذر سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق) ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .

ومنها الحديث المتواتر عنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم المشهور بحديث الثقلين ففي مسند احمد ج3 ص17 عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إني أوشك ان أدعى فأجيب واني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وان اللطيف الخبير أخبرني انهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروني بم تخلفوني فيهما ).

وقد الف في جمع اسانيد هذا الحديث كتب خاصة . والاحاديث في هذا الباب اكثر من أن تحصى.

والحمد لله رب العالمين.