مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

دفع أباطيل الكاتب

بسم الله الرحمن الرحيم


 الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيّين الصادع بالحقِّ والرسول الاَمين وعلى آله الطاهرين والأئمّة المنتجبين.

وبعد ، فالذي دعاني لتسجيل هذه الاَسطر هو الدفاع عن الحقّ، وردّ محاولة مقيتة ممن يدّعي التشيّع لانكار أبسط الاصول، وأوضحها لدى الشيعة الاِمامية، وهو ما كتبه أحمد الكاتب تحت عنوان «تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه».

ومع انّ الكتاب مضى عليه زمان طويل وطبع أكثر من مرّة إلاّ انّه لم يدفعني لردّه إلاّ ما رأيت أخيراً ممن لا أظنّ به أن يستأجر أو يشترى حيث قام بالدفاع عنه بحجّة الدفاع عن حرية الرأي والتفكير، فأعلن سخطه على من منع الكاتب من الدخول في المجامع الاسلامية، فآسفني ذلك، ورأيت لزاماً عليّ ان ادافع عن الحق.

وبعد مراجعة المصادر التي استند الكاتب اليها في جمع ملاحظاته التي بنى على اساسها كل مزاعمه الباطلة، رأيت انه يكذب في النقل فتراه مثلاً ينقل حديثاً عن كتاب الشافي، ويستند اليه كانه رأي لصاحبه الشريف المرتضى رحمه الله، وبعد المراجعة تجد ان الشريف نقل الحديث عن خصمه المعتزلي، وردّ عليه اشد الرد، وانكره اشد الانكار.

او تراه ينقل جزءاً من حديث يدل على ما زعمه ولفّقه، وبعد المراجعة تجد أنّ في صدر الحديث وذيله تصريحاً بخلاف ذلك، وأنّ هذه القطعة انما ذكرت في فرض خاص. وغير ذلك من الموارد - التي سنأتي عليها جميعاً ان شاء الله تعالى - مما لا يبقي للباحث شكاً في أنّ الرجل يراوغ في دعوى التشيع، وليس من اصحاب الرأي الحر والتفكير القويم.

بل يظهر من ذلك انه لم يكن الامر ملتبساً عليه، ولم يكن طالباً للحق فأخطأه ولم تجرّه ملاحظة البحث عن جذور ولاية الفقيه الى انكار ولاية الائمة عليهم السلام كما يدعي، فضلاً عن ان يكون ممن وفقه الله للكشف عن الحقيقة كما يدعي ايضاً. بل يتتبع جملة عابرة يستشمّ منها رائحة الباطل، فيحذف سابقتها ولاحقتها مما يكون قرينة على الخلاف، ويسجّلها كنصّ يدلّ على المقصود.

وقد أتعب نفسه في ذلك، فلو كان بتعبه يحاول تأييد مذهبه ومذهب آبائه لهان الاَمر، وان كان العمل فجوراً كيفما اتفق إلاّ انّه لا يدلّ على مساومة وبيع ضمير، ولكنه بهذا التعب والتركاض والمراوغة والاحتيال يريد ضرب مذهبه الذي يعلن عنه وهو مذهب آبائه، (انّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة).

ومنهجنا في البحث هو ملاحقة الكاتب، وتزييف أقواله، وكشف مكائده، واحباط مؤامراته، فننقل عبارته أولاً، ثمّ نعقّب عليه بما يكشف عن وجه الحقّ، فنقذفه على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولله الحمد وحده أولاً وآخراً، والسلام على من اتبع الهدى. 

 

النيابة العامّة

يقول الكاتب في ص 10 :

«وفي رأيي أنّ الاَزمة بين المرجعية والديموقراطية ستستمرّ ما لم تتمّ معالجة جذر المشكلة، وهي نظرية النيابة العامّة عن الاِمام المهديّ التي تعطي للفقهاء تلك الهالة المقدّسة والمطلقة، حيث لا يمكن التخلّص من هذه النظرية إلاّ بدراسة قضيّة ولادة الاِمام الثاني عشر، (المهدي المنتظر) في القرن الثالث الهجري، واستمرار حياته إلى اليوم بشكل طبيعيّ إضافة إلى إعادة النظر في الفكر الاِماميّ، ومدى ارتباطه بأهل البيت عليهم السلام».

يوهم الكاتب انّه يرى نظرية ولاية الفقيه تستند إلى نيابة الامام المهدي عليه السلام، وبالتالي فسوف تنهار إذا انهارت فكرة وجود الامام المهدي عليه السلام، وهذا خطأ، بل هو عمد يحاول به اعطاء صبغة سياسية لهذا الهجوم الفكري على أساس التشيّع، فكأنّه يقصد بذلك اصلاحاً سياسياً، وكانّه يقدم به العون لنداءات دعاة الاصلاح الاجتماعي الحديث على الساحة الايرانية.

والواقع انّ التعبير بالنيابة العامة ليس تعبيراً فقهياً ولا مذكوراً في الاستدلالات الأساسية لنظرية ولاية الفقيه بتاتاً ، بل يأبى بعض العلماء التعبير به حتى في الشعارات بالرغم من أنّهم يقولون بولاية الفقيه.

وولاية الفقيه لا تستند إلى النيابة عن الامام المهدي عليه السلام، ولا يدّعي حماتها وجود أي دليل معتبر عندهم على نصب الفقهاء كأولياء للناس من قبل الاِمام المهدي عليه السلام، وانّما يذكرون التوقيع المنسوب إليه كمؤيد يدعم به سائر الأدلّة، وفيه الجملة المعروفة: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانّهم حجّتي عليكم...» .[1]

بل الأساس في هذه النظرية الروايات الواردة عن الأئمّة السابقين عليهم السلام، وليس في شيء منها التعبير بالنيابة، وانّما كانوا يرجعون شيعتهم في فصل الخصومات، والتصرف في أموال القاصرين والغائبين، ونحو ذلك ممّا يتطلب ولاية شرعية إلى الفقهاء.

ولم تكن هذه الولاية خاصة بعصر الغيبة، أي عصرنا هذا، بل كانت لهم الولاية حسب هذه الروايات في عصر الأئمّة عليهم السلام، وكان لا بدّ لهم من تعيين مرجع يركن إليه الشيعة في حاجاتهم هذه بعد أن كانوا يمنعونهم من الركون إلى الظلمة، كما منعه الله تعالى في كتابه الكريم (ولا تركنوا إلى الَّذين ظلموا فتمسّكم النار...) [2] خصوصاً بملاحظة أن القضاة والولاة ما كانوا يحكمون حسب فقه اهل البيت عليهم السلام الذي كان يرفض بشدة الاحكام التي تداولتها السلطة وتبعهم عامة الناس وسموها احكاماً شرعية اسلامية.

وعلى اساس تلك الروايات كان الفقهاء مراجع الشيعة في كل ما يتوقف على ولاية شرعية في عصر الائمة عليهم السلام وبعدهم. والذي حدث اخيراً انما هو القول باطلاقها، وتشييد بناء الحكومة على أساسها. وهذا امر آخر. وهو ايضاً لا يتوقف على دعوى النيابة عن الامام بل يستند كما ذكرنا الى نفس الروايات المذكورة بتوسّع في فهم مداليلها.

وليس كلامنا هنا حول تقييم نظرية ولاية الفقيه وتأييدها او عدمه وانما الكلام في تفنيد هذه المزعمة، وهي أنّ ملاحقة هذه النظرية أدّى بالكاتب الى انكار وجود الامام المهدي عليه السلام، كما زعمه في مقدمة الطبعة اللندنية. فهذه مسيرة لا تنتهي الى ذلك الافق، وما أظنّه قد انتهى به السير الى ذلك، بل هذه مزعمة اختلقها بعد محاولته لضرب أساس مذهب اهل البيت عليهم السلام أراد بها ــ كما ذكرت ــ ان يصبغ حديثه صبغة سياسية.

وقبل ذلك اراد ان يلبسه ثوباً زاهيا مصطنعاً، فكأنّه ما كان متعمداً وقاصداً في انكاره هذا، لئلا تحوم حوله الشكوك او الظنون، كما تحوم حول كل الاقلام المستأجرة، وانما هو نتيجة فرضتها طبيعة البحث والتعمق، بدءاً من ولاية الفقيه، ومروراً بفكرة الامام المهدي عليه السلام، وانتهاءً بالامامة ككلّ، وتبديلها بالشورى.

وهو غير صادق في ذلك، فمن الواضح أنّ المسير الطبيعي لمن يحاول تفنيد نظرية ولاية الفقيه أن يفنّد ادلّتها التي استند اليها دعاتها، دون ان يختلق له صبغة النيابة العامة التي تنادي بها عامة الناس، ويحاول على أساسه نفي المنوب عنه لتنتفي النيابة.

والذي يبدو أنه كان يلاحق من البدو نظرية الامامة، واستنادها الى النص. وهذا إنكار لاصل التشيع ومذهب اهل البيت عليهم السلام. ومن الغريب انه مع ذلك يعبر عنهم بـ(الامام المعصوم). وما هذه إلا مراوغة كفى الله شرها. وسترى من خلال البحوث الآتية انه غير صادق في كل تتبعاته التي آلت به الى إنكار اصل الامامة، وأنّ الشيعة كانوا يعتقدون بأنّ القيادة الاسلامية تتعين بالشورى.

ومهما كان فولاية الفقيه سواء سلّمنا اعتبار أدلتها سنداً ودلالة ام رفضناه، وسواء كانت مقيدة بقبول الاُمّة أم مطلقة، وسواء كانت خاصة بمجال أم عامّة تشمل القيادة السياسية، فإنّها مبحث فقهي، تتحكم فيه الاصول الفقهية، وقواعد الاستدلال في الفقه، وليست من اصول العقائد، ولا ترتبط بامامة الائمة عليهم السلام الثابتة بالنصّ، كما سيتبين ان شاء الله تعالى.

 

نظام الشورى

يقول الكاتب في ص 19 تحت عنوان الشورى نظرية أهل البيت :

« كانت الامة الاسلامية في عهد الرسول الاعظم وبعد وفاته وخلال العقود الاولى من تاريخنا تؤمن بنظام الشورى وحق الاُمة في اختيار ولاتها ، وكان اهل البيت في طليعة المدافعين عن هذا الايمان والعاملين به ، وعندما اُصيبت بتسلط الحكام الأمويين بالقوة ، وتداولهم للسلطة بالوراثة وإلغائهم لنظام الشورى ، تأثر بعض الشيعة الموالين لأهل البيت بما حدث ، فقالوا رداً على ذلك بأحقية أهل البيت بالخلافة من الأمويين ، وضرورة تداولها في أعقابهم ، ولكن هذه النظرية لم تكن نظرية أهل البيت أنفسهم ولا نظرية الشيعة في القرن الأوّل الهجري ».

 

الشورى في عهد الرسالة

الشورى والمشاورة وردت في الكتاب العزيز في موردين:1ـ قولـه تعالى: (فبما رحمـة من الله لنت لهم ولـو كنت فظـا غليـظ القلب لانفضــوا من قـولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل على الله ان الله يحب المتوكلين) [3].

كثيراً ما نجد الاستدلال بهذه الآية على مشروعية نظام الشورى في تعيين القيادة الاسلامية هنا وهناك في المقالات والكتب والصحف ولكنه خطأ واضح :

أولاً : لأنّ هذه الآية لا تأمر الرسول صلّى الله عليه وآله بالعمل برأي الناس وانما تأمره بالمشاورة معهم في الامور تلطّفا بهم كما يوحي به المقدمة المذكورة في الآية قبل الامر بها وهو لين الرسول ودماثة اخلاقه وعطفه على المؤمنين حيث فرّع على ذلك بحرف الفاء أي على اساس هذه الرحمة اعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر.

ويدل على ذلك بوضوح قوله تعالى فاذا عزمت فتوكل على الله. حيث يدل ذلك على ان المشاورة معهم لا تمنعه من العمل بما عزم عليه وان كان مخالفاً لرأيهم فلم يقل فاذا رأوا رأياً فاعمل به كما هو مقتضى وجوب العمل حسب المشورة.

والخلاصة ان الرسول صلّى الله عليه وآله مأمور حسب هذه الآية بالملاطفة بالناس وان يشاورهم في الشؤون الاجتماعية لئلا يشعروا بالاذلال والاستبداد.

وثانياً : ان مجال هذه المشاورة ليس هو تعيين القيادة فالناس لم يكونوا مختارين في الشريعة ان يقبلوا قيادة الرسول صلّى الله عليه وآله أو يرفضوها بل كان الواجب عليهم اطاعته في جميع الامور فقيادته قيادة الهية مفروضة على الناس وانما كان مجال هذه المشاورة الشؤون الاجتماعية الدخيلة في ادارة النظام.

والايمان بنظام الشورى وحق الامة في اختيار ولاتها امر آخر غير عمل الولي برأي من استشاره منهم في هذا المجال ، والاية لو اثبتت مشروعية الشورى فانما تثبتها في المجال الثاني دون المجال الاول اي تعيين ولي الامر حسب آراء الناس.

2 _ قوله تعالى : (والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وامرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)  [4]   

هذه الآية الكريمة وردت في عداد اوصاف حسنة ذكرها للمؤمنين حيث قال تعالى (وما عند الله خير وابقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا..) الى آخره. فتعتبر الآية من الصفات التي يتميز بها المؤمنون التشاور فيما بينهم. ومجال ذلك أيضاً هو المجال الثاني مما مرّ ذكره دون تعيين القيادة.

وقد ورد الامر بالاستشارة مع الآخرين في الشؤون الشخصية والاجتماعية في روايات كثيرة، منها ما ورد عن اميرالمؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: «من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها». وكثير مما ورد في هذا المعنى.

ولا يرتبط ذلك بتاتاً بموضوع تعيين ولي الامر، إذ لا شك في أنّ موضوعاً هاماً حيوياً كهذا لا يمكن ان يكتفى في بيانه وتشريعه واقامة المجتمع عليه بجملة مختصرة كهذه، بل المفروض ان يكون التركيز عليه اكثر واكثر وضوحاً، علماً بانه اسلوب جديد في كيفية تعيين الجهة الحاكمة، والقيادة السياسية، لم تعهده الجزيرة العربية ولا غيرها آنذاك.

هذا ولابد من بيان كيفية تعيين القائد بالمشاورة ايضاً، والتصريح بان تعيينه لابد ان يستند الى رأي الاكثرية مثلا، فالقرآن الذي يهتم، بمسائل المجتمع العادية كدخول الاطفال الى غرف نوم الآباء، والاكل من بيوت الاقرباء، كيف لا يهتم بمسألة اجتماعية وخطيرة حيوية كهذه، فيكتفي باشارة عابرة ضمن تسجيل خصائص المؤمنين؟!.

هذا مع أنّهم في عهد الرسالة كما اشرنا اليه لم يكونوا يعتمدون في تعيين القائد على مشاورة وانتخاب ورجوع الى آراء الامة، بل كانوا يرون وجوب طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فرضاً من الله تعالى لابد لهم من الالتزام به، كما فرضه الله عليهم شاؤوا أم أبوا.

وقد قال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليما ) [5] بل هذه سنته تعالى في جميع الرسل كما قال: (وما ارسلنا من رسول إلاَّ ليطاع باذن الله...) [6].

ولو كانت الشورى هي اساس تعيين القائد في عهد الرسالة المجيدة فلماذا لم نجد لها اثراً ولا خبراً، ولم نسمع بيوم اقيمت فيه الانتخابات العامة، ولا منازعاً لقيادة الرسول الاعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم يحاول كسب آراء الاكثرية؟!

فهذا دليل واضح، مع انه لا يحتاج الى دليل، لوضوح نفس الموضوع، وهو أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم تجب اطاعته كما تجب اطاعة الله تعالى. وقد امتلأ الكتاب العزيز بالامر باطاعته ( أطيعوا الله واطيعوا الرسول ) فهل يتوقف وجوب اطاعة الله ايضاً على رأي الناس؟! وهل يدّعي ذلك من اوتي نصيباً من العقل والادراك؟! فان لم يكن كذلك فكذلك اطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لانها امر من الله تعالى، فهي واجبة على كل من يؤمن بالله شاء أم أبى.

ولعلّ الذي اوقع بعض المتفلسفين في هذا الوهم وهذه الدعوى الفارغة قضية البيعة، وقد شوهد بعض الكتّاب المسلمين يحاولون تفسير البيعة بجمع الآراء، واشتراك الناس في تعيين مصيرهم وانتخاب قائدهم.

ولكن البيعة لا تعني ذلك، وانما هي ميثاق يأخذه الرسول أو الامام أو أي قائد شعبي من الناس كي لا يتركوه في حروبه ومجاهداته، ويطيعوه في الشؤون الاجتماعية، فهو امر لابد منه في جمع القوى المعارضة لنظام متسلط، لا أنّ مشروعية قيام الرسول او الامام تستمد منه. لقد اشتبه الامر على هؤلاء.

فالبيعة لابد منها في مجال العمل، وبدونها لا يمكن إقامة حرب او معارضة، وكلامنا هنا في مشروعية القيادة، وأنّها هل تستمد من البيعة أم من أمر الله تعالى؟ فلو كانت البيعة والشورى هي الاساس في تعيين القائد لما وجبت البيعة على الناس لا عقلاً ولا شرعاً، فلهم أن ينتخبوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كقائد لهم، ولهم أن ينتخبوا أبا جهل مثلاً. وهذا مخالف لصريح الآيات الكريمة ولضرورة الدين.

واما اذا قلنا بان قيادة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم امر من الله تعالى فالبيعة واجبة على كل مؤمن بالله. وانما سميت بيعة لان الناس يبيعون بذلك انفسهم واموالهم، فلا يرغبون بانفسهم عن نفسه، ويطيعونه في كل صغيرة وكبيرة. وهذا هو الميثاق الذي اخذه الرسول صلّى الله عليه وآله من اهل المدينة حين هاجر اليهم وعلى ذلك استمر الناس بالبيعة.

وقد قال تعالى : ( ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب ان يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بانفسهم عن نفسه ) [7] .

وقال تعالى في مبايعة النساء : ( يا ايها النبي اذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ان لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن اولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين ايديهن وارجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إنّ الله غفور رحيم) [8].

فالبيعة ميثاق ياخذه الرسول صلّى الله عليه وآله من الناس، ولا بدّ لهم منه شرعاً، ولا يجوز لهم التخلف عنه. وليس معنى ذلك أنّهم رضوا بقيادة الرسول، وأدلوا بأصواتهم له، ولولا رضاهم لم يكن للرسول ولاية. فهذا امر لا يقول به مسلم.

وقد قال تعالى : ( النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم )  [9]. وهذه الآية تدل على انه ليس لاحد يؤمن بالله تعالى ان يخالف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولو في امر شخصي يعود الى نفسه، ولا يرتبط بالشؤون الاجتماعية.

فلو أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم احداً ان يطلق زوجته، او يزوج ابنته لاحد، او يهب امواله لاحد، او اي امر آخر يرتبط بنفسه، دون ان يترتب عليه اي اثر اجتماعي، فان الواجب عليه ان يطيعه حسب هذه الآية، وآيات اخرى ايضاً كقوله تعالى: (ما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امراً ان يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبيناً)[10]، وقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب اليم)[11].

ولولا أنّ بعض الاَفكار الملحدة نسبياً تحاول التشكيك في ضروريات الاسلام لم يكن وجه للاستدلال على هذا الامر الواضح. ومن هنا فاني اجد ان الكاتب في اول صفحة من كتابه لم يكتف بالمحاولة على نفي ولاية الائمة عليهم السلام فحسب، بل انه رفض احد اصول الدين الاسلامي الحنيف وهو اطلاق ولاية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي لا يرتاب فيه مسلم، ولكنه يراوغ فيحاول دسّ هذا السمّ الناقع في ضمن مسألة اخرى ربما يحلو لكثير من المسلمين قبولها، وبذلك يكون قد نجح في إضعاف ايمانهم باصل الرسالة وعمودها، وهو الطاعة المطلقة للرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم.

 

نظام الشورى بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

واما الامة الاسلامية بعد عهد الرسالة، فهل آمنت بنظام الشورى واتخذته وسيلة لتعيين القائد كما يدعيه الكاتب وغيره أم لا ؟

لابد من ملاحظة عمل الامة بعد رسولها لننظر هل آمنت بذلك عمليا كما هو المدّعى ؟. وقبل ذلك لابد من تفسير الشورى:

المراد بالشورى التي تعتبر نظاماً لتعيين قيادة الامة، والتي هي اساس الديموقراطية الحاضرة هو الاخذ برأي الاكثرية من جميع افراد الامة، ولنفرض اختصاص الحكم بالرجال حسب الطقوس الاجتماعية الحاكمة في تلك العهود والحضارات. فهل تحقق امر كهذا في تعيين احد الخلفاء بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟!

ربّما يدّعى ذلك بالنسبة لخلافة ابي بكر. ولكن التاريخ يقول لنا إن بيعته لم تكن باخذ الآراء وجمعها، والروايات على اختلافها وتكاذبها تكاد تتفق على أنّ الانصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ليؤمّروا عليهم سعد بن عبادة، بزعم انهم اهل يثرب الاصليين فلهم الامارة.

وعلم بذلك ابوبكر وعمر وابو عبيدة فحضروا هناك ونافسوهم الامر، وساعدهم الحظّ، وضغائن الاوس والخزرج العريقة، واختلافهم على سعد الخزرجي، فمد ابوبكر يده ليبايع احد الرجلين عمر وأبا عبيدة، فأبى عليه عمر وبايعه، ثم بايعه بعض الانصار، ثم من حضر أو اُحضر من المهاجرين، ولا يعد هذا أخذاً للآراء والشورى.

وقد بيّنا أنّ البيعة لا تعني اخذ الرأي، وانما هو امر لا بد منه عملياً لمن يريد مزاولة القيادة، او امارة الجيش، أو انشاء حركة معارضة.

وقد قال عمر كلمته المشهورة (إنّ بيعة ابي بكر فلتة وقى الله شرّها) [12]  بل قالها أبوبكر نفسه قبل ذلك وحذّر من تكراره على ما في بعض التواريخ [13] .

ولو فرض صحة تسمية هذه البيعة بالشورى فهي مختصة بذلك الجمع من المهاجرين والانصار، مع ان اكثرهم أيضاً اُخذ على غرّة، وكان لابد لكلِّ فرد ان يدخل فيما دخلت فيه الجماعة، والا لكان يعد عاصياً للجماعة، وخارجاً على الامام. ولا شك أنّ الاكثرية منهم بايعوا على هذا الوجه.

ولو صح ذلك فيهم فلا تصحّ في كل من حضر المدينة، بل كان كل فرد أو جماعة يواجه امراً حاضراً وبيعة مشهودة لا يقوى على مخالفتها، ولم تكن في قبالها بيعة اخرى، او منازع شاهر نفسه يدعو الى البيعة لتصدق المنافسة.

ولو صح ذلك فيمن حضر المدينة فلا يصحّ في سائر المسلمين المتواجدين في اطراف البلاد الاسلامية من جزيرة العرب الى البحرين. واختصاص الرأي بالمهاجرين والانصار واهل الحل والعقد ليس من الشورى في شيء.

ولو فرض ــ جدلاً ــ صدق الشورى على بيعة ابى بكر فلا وجه لتسمية بيعة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب شورى، اذ لم تكن خلافته الا بنصب من ابي بكر، وبايعه الناس طوعا وكرها.

واما الشورى التي صنعها عمر فلا تستحق ان تسمى شورى بالمعنى الذي يرومه أصحاب الديموقراطية، ولا تشبهها بوجه. فانّه عيّن بنفسه ستة اشخاص لم ينتخبهم احد من الناس، وهم عليّ عليه السلام وعثمان وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن ابي وقاص، وأمر أن يتشاوروا فيما بينهم، ويعينوا احدهم قائداً للمسلمين.

وأمر محمد بن مسلمة ان يكون بجيشه على الباب، فان مضت ثلاثة ايام ولم يصلوا الى رأي، يقتلهم بأسرهم. وحيث كانوا ستة وكان يخشى ان ينقسموا نصفين فلا تكون أكثرية في جانب أعلن أنّ الكفة التي تحتوي على عبدالرحمن بن عوف هي الراجحة.

وكان من الواضح لدى الساسة ذلك اليوم أنّ الشورى لا تتمخّض الا عن خلافة عثمان او عبدالرحمن بن عوف، ولذلك كانوا يشيرون على علي عليه السلام بترك الدخول فيه.

ولسنا الآن بصدد تقييم هذه الشورى، والسياسة التي دبّرها عمر لئلا يحظى علي عليه السلام بالخلافة، فهذا له موضع بحث آخر، ولكن المقصود التنويه على أنّ هذه الشورى لا تشبه بوجه من الوجوه حرية الرأي المعبّر عنها بالديموقراطية.

فليت شعري متى كانت الامة الاسلامية بعد الرسول صلّى الله عليه وآله تؤمن بنظام الشورى، وتتخذه وسيلة لتعيين قائدها؟! وفي أي خلافة كانت هي المستند؟! ومتى برزت فظهرت على ساحة التاريخ الاسلامي؟

 

الشورى عند اهل البيت عليهم السلام

واما اهل البيت ودفاعهم عن الشورى فلم نسمع به من باحث في التاريخ، وسنأتي على كل ما جاء به الكاتب من شواهد على ذلك مما اُثِرَ عنهم عليهم السلام.

وقبل ذلك ينبغي ان نذكر أنّ اهل البيت عليهم السلام لو كانوا مدافعين عن الشورى فما بال علي اميرالمؤمنين عليه السلام ــ وهو سيد اهل البيت ــ لم يبايع أبا بكر، وهو المدّعى تأسيس خلافته على اساس نظام الشورى. فمن الثابت تاريخياً أنّه لم يبايعه ما دامت فاطمة عليها السلام في الحياة. وقيل اكثر من ذلك.

وقبل ذلك لِمَ لم تبايع ولم تقبل بخلافته فاطمة سيدة نساء العالمين بنص الرسول الكريم، بل رفضته وهجرته، ولم تكلمه، ولم ترد عليه سلامه وسلام صاحبه.

ولم يسع احداً من كتّاب التاريخ ان ينكر ذلك. وقد صرّح به البخاري ومسلم واحمد وغيرهم من أصحاب السنن والمؤرخين.

وارتبك المأولون كيف يجمعون بين هذه القضية التاريخية الواضحة وتصاريح الرسول الاكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث صرّح اكثر من مرة (إن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها)، و(إنّ فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويغضبني ما اغضبها).

ولعمري ان اصرار الرسول العظيم صلّى الله عليه وآله وسلّم على هذا الاعلان الخطير، وتكراره على الملأمن أصحابه لممّا يثير العجب ويستوقف الباحث.

هل كانت فاطمة تزاحم الرجال في شؤونهم الاجتماعية؟ ولم يكن ذلك شأن المرأة في ذلك العهد، وخصوصاً سيدة النساء التي كانت قعيدة البيت شديدة الستر، حتى إنّها لمّا خرجت الى المسجد تناجز أبا بكر خرجت في ثلّة من نساء قومها، لئلاّ يراها الناس حتى من وراء الحجاب.

فلماذا هذا التأكيد من الرسول الكريم؟ وما الذى كان يخافه الرسول من بعده؟

وقد بلغ تكرار ذلك من الكثرة بحيث لم يستطع هواة التحريف والانكار حذفه من قائمة الاحاديث النبوية، بالرغم من ان السلطات الغاشمة ما كان يروقها انتشار مثل هذه الاحاديث.

فلو كان اهل البيت يدافعون عن نظام الشورى وقامت خلافة ابي بكر على اساسها لكانت الزهراء سلام الله عليها أوّل من يؤمن بخلافته، وما كان ينبغي لها أن لا تبايعه، ولا ترد عليه سلامه، وتهجره حتى وفاتها، مع أنّ اباها الرسول الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلّم أكّد على ما فى الحديث أنّ «من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية».

هذا وقد صرّحت الزهراء سلام الله عليها في خطبتها حين عادتها نساء المدينة بأنّ زمام الخلافة مما ألقاه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الى اميرالمؤمنين عليه السلام حيث قالت:

«ويحهم انّى زحزحوها (اي الخلافة) عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوّة، ومهبط الروح الامين، الطبن [14] بامور الدنيا والدين. الا ذلك هو الخسران المبين. وما الذي نقموا من ابي الحسن؟! نقموا والله منه نكير سيفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات الله، وتالله لو تكافأوا على زمام نبذه اليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لاعتقله، وسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشه...» الى آخر الخطبة الشريفة، وهي مشهورة في كتب الشيعة، ورويت في بعض مصادر العامة ايضا،  [15] وكان الطالبيون يستوصون بحفظها وتداولها. وكذلك خطبتها في المسجد حين احتجت على أبي بكر.

والشاهد في قولها عليها السلام: (لو تكافأوا على زمام نبذه اليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وهذه احدى النصوص التي تحكي عن أنّ امامة اميرالمؤمنين عليه السلام وقيادته كان بنصّ من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنّ من تقمصه كان غاصباً لحقه عليه السلام، بل لحقّ الامةجمعاء.

 

 

النص على خلافة اميرالمؤمنين عليه السلام

 

قال الكاتب في ص19 ايضاً :« وبالرغم ممّا يذكر الإماميون من نصوص حول تعيين النبي صلّى الله عليه وآله للإمام علي بن أبي طالب كخليفة من بعده ، إلاّ أنّ تراثهم يحفل بنصوص اُخرى تؤكد التزام الرسول الأعظم وأهل البيت بمبدأ الشورى وحق الاُمّة في انتخاب أئمّتها»..

اما النص على اميرالمؤمنين عليه السلام فقد حفلت بذلك كتب الشيعة، بل وكتب العامة ايضاً، وانما هم يأوّلون النصوص لانها تخالف اجتهاد الصحابة. ولعل هذا هو الذي دعا الامام السيد عبدالحسين شرف الدين رحمه الله ان يجمع الموارد الكثيرة التي خالف فيها الصحابة نصّ الرسول الاعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم مع وضوحه وصراحته ليردّ بذلك هذه المزعمة ان كل نص يخالف اجتهاد الصحابة فلابدّ من تأويله.

ونستعرض هنا نصوصاً ورد في كتب العامة :

1 ـ حديث الدار.

وهو حديث مشهور رواه كثير من الحفاظ واصحاب السنن ونحن نرويه بالنص الذي رواه الطبري في تاريخه، قال:

« حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب، قال:

لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأنذر عشيرتك الأقربين " ، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أنى متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتّ عليه حتى جاءني جبرئيل فقال: يا محمد، إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رحل شاة، واملأ لنا عساً من لبن؛ ثم اجمع لي بنى عبد المطلب حتى أكلمهم، وأبلغهم ما أمرت به.

ففعلت ما أمرني به. ثم دعوتهم له؛ وهم يومئذ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه؛ فيهم أعمامه:أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب؛ فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيةً من اللحم، فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصفحة.

ثم قال: خذوا بسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلا موضع أيديهم، وايم الله الذي نفس علي بيده؛ وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم. ثم قال: اسق القوم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لقد سحركم صاحبكم !

فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الغد يا علي؛ إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعدّ لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم إلي.

قال: ففعلت، ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى مالهم بشيء حاجة. ثم قال: اسقهم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:

يا بنى عبد المطلب؛ إنى والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به؛ إنى قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت: وإنى لأحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً؛ أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي، ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع).[16]

وقد صرح الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذا الحديث بانه خليفته فيهم. وما يقال من انه خليفته في عشيرته كلام غريب، اذ ليس للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم خليفتان خليفة في امته وخليفة في عشيرته، وما هو موضعه من عشيرته ؟ هل كان رئيس العشيرة آنذاك فيستخلف احداً رئيساً بعده ؟! انما كان رسولا مبعوثاً الى عشيرته وغيرهم.

ولو لم يكن هذا الحديث دالاً على الخلافة لم تحاول الايدي الاثيمة حذف هاتين الكلمتين (وصيي وخليفتي فيكم) من الحديث. فقد ورد هذا الحديث في تفسير الطبري في ذيل الآية (وأنْذِر عَشِيرَتَكَ الاَقرَبِينَ) من سورة الشعراء، وحذف منه هذه القطعة في الموردين، وجعل بدله كذا وكذا : ففي المورد الاول (على ان يكون اخي وكذا وكذا....) وفي المورد الثاني : «ان هذا اخي وكذا وكذا فاسمعوا له واطيعوا» مع انه ورد على ما ذكرناه في تاريخ الطبري وهو نفسه صاحب التفسير !

قطع الله يد الخيانة عن التراث الاسلامي.

ومثل ذلك وقع في البداية والنهاية لابن كثير على ما حكاه العلامة الاميني في الغدير 2 : 288 وقد نسب الاميني رحمه الله التحريف الى الطبري وابن كثير، الأول في تفسيره [17] والثاني في تاريخه وتفسيره، [18] ولكن لا يبعد ان يكون التحريف من صنع الطابعين والناسخين والمؤلف كان بامكانه ان لا يذكر الحديث من اصله فمن البعيد ان يكون تبعة التحريف عليه.

 

2 ــ  حديث المنزلة : «انت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ انّه لا نبي بعدي».

ولا تختص هذه الجملة بغزوة تبوك حيث استخلف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليا عليه السلام فى المدينة حتى يتوهم أنّ هذه الجملة تعني هذا الاستخلاف فحسب، ولا يشمل الخلافة على الامة بعده، بل قالها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في موارد متعددة كما في المراجعات « المراجعة 32 ».

والحديث من المتواترات القطعيات التي لا يمكن لمسلم انكارها، وقد رواه جميع ارباب المجامع والسنن بما فيها الصحيحان. راجع للاطلاع على مصادره الكثيرة وخصوصاً في غير غزوة تبوك التعليق 475 الى 484. على المراجعات... [19]

هذا مع ان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يستخلف على المدينة غير علي عليه السلام في كل غزوة ولم يقل لاحد منهم هذه الجملة.

مضافا الى ان استثناء النبوة يدل على ان كل نسبة بين هارون وموسى تخص الولاية هي موجودة بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واميرالمؤمنين عليه السلام الا النبوة، ولا شك ان من تلك المنازل ولاية هارون عليه السلام على الناس في غياب موسى عليه السلام، ولا فرق في ذلك بين حياته وموته، فان هذه ولاية مجعولة من الله تعالى، حيث إنّ موسى عليه السلام طلب من ربه ان يشركه في امره ومن امره الولاية على الناس وقال تعالى (قد اوتيت سؤلك يا موسى).

وقد ورد في عدة من طرق الحديث بعد قوله «أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي» قوله : « انه لا ينبغي ان اذهب الا وانت خليفتي» وهذه الجملة عامة تشمل ما بعد وفاته صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وللمزيد من التفصيل في البحث عن مفاد الحديث وقوة دلالته راجع الكتب الكثيرة الموضوعة في الامامة كالغدير والمراجعات وغيرهما فغرضنا هنا الاستعراض فحسب.

 

3ـ حديث الغدير : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » . [20]

وهو بهذا اللفظ من اوضح مصاديق الحديث المتواتر القطعي. وقد كثر الحديث حول هذا الحديث، واُلّف في جمع اسانيده الكتب قديماً وحديثاً. ولعل اوّل من ألّف فيه كما في موسوعة الغدير للعلامة الاميني رحمه الله هو ابو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 210 هجرية صاحب التفسير والتاريخ المعروفين، وهو من اكابر علماء العامة، حيث ألّف كتاب «الولاية في طرق حديث الغدير».

قال الذهبي: «لما بلغ محمد بن جرير ان ابن ابي داود تكلم في حديث غدير خم عمل كتاب الفضائل وتكلم في تصحيح الحديث». ثم قال: قلت: رأيت مجلداً من طرق الحديث لابن جرير فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق». [21]

وقال ابن كثير في تاريخه في ترجمة الطبري: «اني رأيت له كتاباً جمع فيه احاديث غدير خم في مجلدين ضخمين» [22]

ونسبه إليه ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة الامام عليه السلام. [23]

وقد اغنانا العلامة الاميني رحمه الله، وكفانا مؤونة البحث عن طرق هذا الحديث ومصادره فقد الف في ذلك موسوعته الضخمة ـ التي لم تتم ـ في احد عشر مجلداً جمع فيها طرقه وأسانيده ومن احتج به أو كلَّم فيه أو قال فيه شعراً.

ولكثرة النصوص المنقولة في هذا الحديث يحتار الانسان فيما يختاره من نصّ، فآثرنا أن ننقل النصّ الذي صدّره الاميني رحمه الله به كتابه، وهو نصّ جامع بين مختلف النصوص الا أنا اكملنا أبيات حسان بن ثابت في الأخير.

واليك النص :

« أجمع رسول الله صلّى الله عليه وآله الخروج إلى الحج في سنة عشرة من مهاجره ، وأذّن في الناس بذلك ، فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به في حجّته تلك التي يُقال عليها حجّة الوداع وحجّة الاسلام وحجة البلاغ وحجّة الكمال وحجّة التمام ، ولم يحجّ غيرها منذ هاجر إلى أن توفاه الله فخرج صلّى الله عليه وآله وسلّم من المدينة مغتسلاً متدهِّناً مُترجِّلاً متجرداً في ثوبين صحاريين إزار ورداء ، وذلك يوم السبت لخمس ليال أو ست بقين من ذي القعدة ، وأخرج معه نساءه كلهنّ في الهوادج ، وسار معه أهل بيته ، وعامّة المهاجرين والأنصار ، ومن شاء الله من قبائل العرب وأفناء الناس.

وعند خروجه صلّى الله عليه وآله وسلّم أصاب الناس بالمدينة جدري ( بضم الجيم وفتح الدال وبفتحهما ) أو حصبة منعت كثيراً من الناس من الحج معه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ومع ذلك كان معه جموعٌ لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، وقد يقال : خرج معه تسعون ألف ، ويقال : مائة ألف وأربعة عشر ألفاً ، وقيل : مائة ألف وعشرون ألفاً ، وقيل : مائة ألف واربعة وعشرون ألفاً ، ويقال أكثر من ذلك ، وهذه عدّة من خرج معه ، وأمّا الذين حجّوا معه فأكثر من ذلك كالمقيمين بمكة والذين أتوا من اليمن مع عليّ ( أمير المؤمنين ) وأبي موسى . [24]

أصبح صلّى الله عليه وآله يوم الأحد بيلملم ، ثمّ راح فتعشّى بشرف السيالة ، وصلّى هناك المغرب والعشاء ، ثمّ صلّى الصبح بعرق الظبية ، ثمّ نزل الروحاء ، ثمّ سار من الروحاء فصلّى العصر بالمنصرف ، وصلّى المغرب والعشاء بالمتعشّى وتعشّى به ، وصلّى الصبح بالأثابة ، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج واحتجم بلحى جمل « وهو عقبة الجحفة » ونزل السقياء يوم الأربعاء ، وأصبح بالأبواء ، وصلّى هناك ثمّ راح من الأبواء ونزل يوم الجمعة الجحفة ، ومنها إلى قديد وسبت فيه ، وكان يوم الأحد بعسفان ، ثمّ سار فلمّا كان بالغميم إعترض المشاة فصفّوا فشكوا إليه المشي ، فقال : استعينوا بالسلان « مشيٌ سريعٌ دون العدو » ففعلوا فوجدوا لذلك راحة ، وكان يوم الاثنين بمرّ الظهران فلم يبرح حتى أمسى وغربت له الشمس بسرف فلم يصلّ المغرب حتى دخل مكّة ، ولمّا انتهى إلى الثنيَّتين بات بينهما فدخل مكة نهار الثلاثاء » . [25]
فلما قضى مناسكه وانصرف راجعاً إلى المدينة ومعه من كان من الجموع المذكورات ووصل إلى غدير خمّ من الجحفة التي تتشعّب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ، وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة نزل إليه جبرئيل الأمين عن الله بقوله : ( يَا أيُّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) الآية ، وأمره أن يقيم علياً علماً للناس ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كلّ أحد.

وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة، فأمر رسول الله أن يردّ من تقدّم منهم ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان، ونهى عن سمرات خمس متقاربات دوحات عظام أن لا ينزل تحتهن أحد، حتى إذا أخذ القوم منازلهم فقمّ ما تحتهنّ، حتى إذا نودي بالصلاة صلاة الظهر عمد إليهنَّ فصلّى بالناس تحتهنّ.

وكان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض رداءه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الرمضاء ، وظلّل لرسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم بثوب على شجرة سمرة من الشمس ، فلمّا انصرف صلّى الله عليه وآله وسلّم من صلاته قام خطيباً وسط القوم على أقتاب الابل وأسمع الجميع ، رافعاً عقيرته فقال :

الحمد لله نستعينه ونؤمن به ، ونتوكل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيّئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضلَّ، ولا مضلَّ لمن هدى. وأشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ـ أمّا بعد ـ :

ايها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمر نبي إلاّ مثل نصف عمر الذي قبله ، واني اوشك أن اُدعى فأجيب ، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون ، فما أنتم قائلون ، قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً.

قال : ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأنّ جنته حقّ وناره حقّ وأنّ الموت حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور ، قالوا : بلى نشهد بذلك ، قال : اللهم اشهد.

ثمّ قال : ايها الناس ألا تسمعون ؟ قالوا : نعم ، قال : فاني فرَط على الحوض ، وأنتم واردون عليَّ الحوض ، وإنَّ عرضه ما بين صنعاء وبصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلّفوني في الثقلين.

فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول الله ؟ قال : الثقل الأكبر كتاب الله طرفٌ بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلّوا ، والآخر الأصغر عترتي ، وإن اللطيف الخبير نبّأني انهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض فسألت ذلك لهما ربي ، فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا.

ثمّ أخذ بيد علي فرفعها حتى رئي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون ، فقال :

ايها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، يقولها ثلاث مرّات.

وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة : أربع مرّات.

ثمّ قال : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبه ، وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمُ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) الآية.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، والولاية لعليّ من بعدي » .

ثمّ طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين صلوات الله عليه وممن هنّأه في مقدّم الصحابة : الشيخان أبو بكر وعمر كلّ يقول : « بخ بخ لك ، يا ابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة »  [26]

وقال ابن عبّاس : وجبت والله في أعناق القوم ، فقال حسّان : إئذن لي يا رسول الله أن أقول في عليّ أبياتاً تسمعهن ، فقال : قل على بركة الله ، فقام حسان فقال : يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادةٍ من رسول الله في الولاية ماضية ، ثمّ قال :

 

يناديهم يـوم الـغـدير نبـيـّهم

*

بخـمّ واسـمـع بالرسول مناديا

وقـال فـمـن مـولاكم ووليّكم

*

فقالوا ولم يبدوا هناك تـعـاديـا

إلهك مـولانـا وأنـت وليـّـنا

*

ولن تجدن منّا لك اليوم عاصـيا

فقال له قم يا عليّ فـإنـّـنـي

*

رضيتك من بعدي إمـاماً وهاديا

فخصّ بها دون الـبـريـّة كلّها

*

عليّاً وسـمّاه الغدير أخـائـيــا

فمن كنت مولاه فهذا ولـيـّــه

*

فكـونـوا لـه أتباع صدق مواليا

هناك دعـا اللـّـهـمّ وال وليّه

*

وكن للّـذي عـادى عليّا مـعـاديـا

     


واما دلالة الحديث على نصب علي عليه السلام للخلافة فواضحة، بملاحظة ما صدّر الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم كلامه هذا حيث قال : ألستم تعلمون ( او تشهدون ) أني اولى بالمؤمنين من انفسهم ؟! قالوا : بلى. فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه. فبين بذلك ان المراد بالمولى من هو اولى بالمؤمنين من انفسهم.

واما تأويل المولى بالمحبّ والناصر فلا يناسبه هذه المقدمة التي ذكرها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أنّ القرينة الحالية القطعية ايضاً تثبت ذلك فان توقّف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك المكان، وفي ذلك الحر الهجير، وجمع الناس، وانتظار المتخلف، واسترجاع المتقدم، لا يكون إلاّ لاعلام امر مهم جداً.

وكيف يحمل هذا الكلام وفي هذا المقام على بيان امر واضح؟! فان نصرة علي عليه السلام للاسلام والمسلمين لم يكن امراً خافياً على احد، حيث قام عليه السلام بهذا الامر من اول البعثة الشريفة. ومواقفه لا تكاد تخفى على الاجانب فكيف بالمسلمين انفسهم ؟!.

ولذلك فقد احتج هو عليه السلام بهذا الحديث يوم الرحبة ايام خلافته، وناشد اصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ــ وهم قلة يومئذ ــ فقام ثلاثون صحابياً فشهدوا بذلك.

وتعجب ابو الطفيل كيف كان ذلك وقد أجمع الناس على دفع الخلافة عنه؟! فراجع زيد بن ارقم قال زيد فما تنكر؟! قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقوله له.

قال ابو الطفيل قلت لزيد سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : « وانه ما كان في الدوحات احد إلاَّ رآه بعينيه وسمعه باذنيه ».

وقد روى هذه المناشدة جمع كثير من الحفاظ. [27]

فهل كان الامام عليه السلام يحتجّ على الناس بالحديث لاعلام انه ناصر المسلمين ومحبهم ؟! وهل كان احد منهم يرتاب في ذلك ؟! ولماذا تعجب ابو الطفيل فهل في هذا عجب ؟! ولكنه كما قال الكميت رحمه الله :

ويوم الدوح دوح غدير خم * ابان له الخلافة لو اطيعـا

ولـكـن الرجـال تبايعوها * فلم ار مثلها خطراً مبيعـاً

ولم ار مثل ذاك اليوم يوماً * ولم أر مثله حقـاً اضيعـا


راجع لملاحظة تفصيل الاستدلال بالحديث المذكور كتاب الغدير للعلامة الاميني رحمه الله والمراجعات للامام شرف الدين ففيهما الغنى والكفاية وغرضنا هنا الاختصار باستعراض النصوص فحسب.

 

4 ـ « انت ولي كل مؤمن بعدي ».

وقد ورد هذا النص بعبارات مختلفة، وفي مواطن مختلفة:

فمنها ما بهذا النص عن ابن عباس.

ومنها ما في رواية عمران بن حصين بعد ما اشتكى جمع من الصحابة علياً الى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث قال والغضب يبصر في وجهه : « ما تريدون من علي ان عليا مني وانا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي »

ومنها ما في قصة اخرى من حديث بريدة : « لا تقع في علي فانه مني وانا منه وهو وليكم بعدي وانه مني وانا منه وهو وليكم بعدي » ( هكذا مكرراً )

وفي لفظ آخر. « من كنت وليه فعلى وليه ».

وفي آخر عن بريدة « غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكرت عليا فتنقصته فرأيت وجه رسول الله يتغير فقال : يا بريدة ألست اولى بالمؤمنين من انفسهم قلت : بلى يا رسول الله قال : من كنت مولاه فعلي مولاه » الى غير ذلك. [28]

ولا شك ان المراد بالولي هو المتولي لامور الناس والحاكم عليهم، دون الناصر والمحب ونحو ذلك، فانّ قوله « بعدي » إمّا ان يريد به بعده زمانا و نعلم أن نصرة الامام وحبه للمسلمين لم يختص بما بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل كان ناصراً للمسلمين ومحباً لهم في عهد الرسالة المجيدة بكامله، بل يمكن ان يقال ان نصرته لهم كانت منحصرة في ذلك العهد، فقد اعتزل الامور بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم زهاء ثلاثين سنة.

وإمّا ان يريد به البعدية من حيث الرتبة فولايته متأخرة رتبة عن ولاية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذه قرينة واضحة على أنّ المراد بها ما هو من سنخ ولاية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهي كونه اولى بالمؤمنين من انفسهم، كما وقع التصريح بذلك في احد النصوص كما مر ذكره.

هذا مع ان الولاية بمعنى النصرة والمحبة لا يختص بها علي عليه السلام، بل المؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض كما في الكتاب العزيز، فالولاية الخاصة به التي امتدحه بها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجعله وجها لعدم جواز معارضته في هذه النصوص هي الولاية بمعنى الاولوية والحكومة.

وهناك كثير من النصوص المتفرقة التي تدل بتواترها الاجمالي على نص الرسول بخلافة علي عليه السلام مثبتة في المجامع الروائية، من اراد الوقوف عليها فليراجع المراجعات للامام شرف الدين، او الغدير للعلامة الاميني، او سائر الكتب المؤلفة لهذا الشأن.

وأمّا أخبار الامامية واحتجاج الائمة عليهم السلام فأوضح من الشمس. والنصّ على خلافته عليه السلام وأحد عشر اماماً من ولده من ضروريات المذهب وواضحاته. والكتب في ذلك كثيرة منها كتاب كفاية الأثر للخزّاز الرازي ، والالفين للعلامة الحلي ، وغاية المرام والإنصاف للسيد هاشم البحرانى ، وبحار الأنوار ( ج 36 ) ، واثبات الهداة بالنصوص والمعجزات للحر العاملي رحمه الله ، وجامع الأثر للسيد حسن آل طه ، و....

 

 

الشورى عند علماء الامامية

واما الشواهد التي تشبث بها الكاتب في ص 19 لاثبات « ان تراثهم ( الامامية ) يحفل بنصوص اخرى تؤكد التزام الرسول الاعظم واهل البيت بمبدأ الشورى وحق الامة في انتخاب ائمتها » فهي :

1ــ تقول رواية يذكرها الشريف المرتضى ــ وهو من أبرز علماء الشيعة في القرن الخامس الهجري ــ إنّ العباس بن عبد المطلب خاطب أمير المؤمنين في مرض النبي صلّى الله عليه وآله أن يسأله عن القائم بالأمر بعده « فإن كان لنا بيَّنه وإن كان لغيرنا وصّى بنا » ، وإن أمير المؤمنين قال : « دخلنا على رسول الله صلّى الله عليه وآله حين ثقل ، فقلنا : يا رسول الله... استخلف علينا ، فقال : لا ، إنّي أخاف أن تتفرقوا عنه كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون ، ولكن إن يعلم الله في قلوبكم خيراً اختار لكم ».

أقول : التمسك بهذه الرواية، واسنادها الى الشيعة، والى كتاب الشافي للشريف المرتضى يدل على سوء سريرة الرجل، وانه ليس كاتبا حراً، بل كاتب اجير، فهذه رواية يتمسك بها خصوم الشيعة، والشريف ذكرها في عداد ما تمسك به الخصم لردّ وجود نصّ على امير المؤمنين عليه السلام، وردّه الشريف المرتضى رحمه الله قال في ص151 من الجزء الثاني ط طهران : [29]

« قال صاحب الكتاب ( اي قاضي القضاة المعتزلي ) حكاية عن ابي هاشم : وكيف جاز ان يقول له العباس ورسول الله صلّى الله عليه وآله عليل : سله عن هذا الامر فان كان لنا بيّنه وان كان لغيرنا وصّى بنا.... ».

واجاب عنه في ص152 : « اما سؤال العباس رضي الله عنه عن بيان الامر من بعده فهو خبر واحد غير مقطوع عليه ومذهبنا في اخبار الآحاد التي لا تكون متضمنة لما يعترض على الأدلة والاَخبار المتواترة المقطوع عليها معروف فكيف بما يعترض ما ذكرناه من اخبار الآحاد ؟ فمن جعل هذا الخبر المروي عن العباس دافعاً لما تذهب إليه الشيعة من النصّ الذي قد دلّلنا على صحّته ، وبيّنا استفاضة الرواية به فقد أبعد. على أنّ الخبر إذا سلّمناه وصحّت الرواية به غير دافع للنصّ ، ولا منافٍ له لاَنّ سؤاله رحمه الله يحتمل أن يكون عن حصول الأمر لهم وثبوته في أيديهم ، لا عن استحقاقه ووجوبه ، يجري ذلك مجرى رجل نحل بعض أقاربه نحلاً وأفرده بعطية بعد وفاته ، ثمّ حضرته الوفاة فقد يجوز لصاحب النحلة أن يقول له أترى ما نحلتنيه وافردتني به يحصل لي من بعدك ، ويصير إلى يدي أم يحال بيني وبينه ويمنع من وصوله إليَّ ورثتك ، ولا يكون هذا السؤال دليلاً على شكّه في الاستحقاق ، بل يكون دالاً على شكّه في حصول الشيء الموهوب له إلى قبضته والذي يبيّن صحّة تأويلنا ، وبطلان ما توهّموه قول النبيّ صلّى الله عليه وآله في جواب العبّاس على ما وردت به الرواية : ( انكم المقهورون ) ، وفي رواية اُخرى : (انكم المظلومون ).

وقال في ص91 من الجزء الثالث في كلام طويل نقله عن كتاب المغني ( لقاضي القضاة ) يبدأ من ص90 وينتهي في 96 : « والمروي عن العباس انه خاطب اميرالمؤمنين عليه السلام في مرض النبي صلّى الله عليه وآله ان يسأله عن القائم بالامر بعده وانه امتنع من ذلك خوفاً ان يصرفه عن اهل بيته فلا يعود اليهم ابداً.... ».

واجاب عنه الشريف في ص101 بقوله : « فامّا الخبر الذي رواه عن العباس رضى الله عنه من انه قال اميرالمؤمنين عليه السلام : لوسألت النبي صلّى الله عليه وآله عن القائم بالامر بعده فقد تقدم في كتابنا الكلام عليه وبيّنا انه لو كان صحيحاً لم يدل على بطلان النص فلا وجه لا عادة ما قلناه فيه ».

وما ذكره الشريف رحمه الله جــواب للكاتب ايضاً وهو أنّ هذا الخبر لو فرض صـحة سنــده ــ ولا سند له ــ فلا يقاوم هذه الاخبار المتواترة القطعية المتضمنة لنصّ الرسول الاكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم على اميرالمؤمنين عليه السلام. هذا مع ان تشكيك العباس في النصّ لا يدل على عدم وجود النص كما جاء في التأويل الذي ذكره الشريف.

هذا بالنسبة الى صدر الرواية التي جاء بها الكاتب. وأمّا ما ذيّله به من أنّ اميرالمؤمنين عليه السلام قال دخلنا على رسول الله.... الى آخره، فهذا ايضاً خبر آخر نقله في كتاب الشافي قبل هذا الخبر عن الخصم، اي كتاب المغني.

وردّه الشريف ايضاً بقوله في ص101 : « وبعد فبازاء هذين الخبرين اللذين رواهما في ان اميرالمؤمنين عليه السلام لم يوص كما لم يوص رسول الله صلّى الله عليه وآله الاخبار التي ترويها الشيعة من جهات عدة وطرق مختلفة المتضمنة لانه عليه السلام وصّى الى الحسن ابنه واشار اليه واستخلفه وارشد الى طاعته من بعده وهي اكثر من ان نعدّها ونوردها »

ثم ذكر بعض ما روي في هذا الباب.

وهذه ايضاً من مراوغات الكاتب حيث ينسب ما يرويه الشريف عن خصمه ـ ليرد عليه بعد ذلك الى نفس الشريف وكأنه اعتمد على هذه الرواية واستند اليها!!!

2 ــ « ويقول الكليني في الكافي نقلاً عن الإمام جعفر بن محمد الصادق إنّه لما حضرت رسول الله صلّى الله عليه وآله الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين فقال للعباس : يا عم محمد... تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته ؟ فرد عليه فقال : يا رسول الله بأبي واُمّي إني شيخ كبير كثير العيال قليل المال من يطيقك وأنت تباري الريح ، قال : فأطرق هنيهة ثمّ قال : يا عباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه ؟ فقال كردّ كلامه... قال : أما إنّي سأعطيها من يأخذها بحقها ، ثمّ قال : يا علي ، يا أخا محمد ، أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه ؟ فقال : نعم بأبي واُمّي ذاك عليّ ولي. [30]

وهذه الوصية كما هو ملاحظ ، وصية عادية شخصية آنية ، لا علاقة لها بالسياسة والإمامة والخلافة الدينية وقد عرضها الرسول في البداية على العباس بن عبد المطلب فأشفق منها وتحمّلها الإمام أمير المؤمنين طواعية » . [31]

الرواية مع ضعفها سنداً بسهل بن زياد الآدمي لا تدل على شيء مما يرومه الكاتب، فهل اثبات وصية كهذه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ينفي نصبه للخلافة ؟! وهل في هذه الرواية جملة تدل على انحصار وصيته صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي عليه السلام في ذلك ؟!

كلا... ولكن الغريق يتشبث بكل حشيش، وكم اتعب الرجل نفسه ليؤيّد مزعمته هذه أن اهل البيت عليهم السلام لم يؤمنوا بالنص بل آمنوا بالشورى، فلم يجد الا رواية ضعيفة تدلّ على انّ هناك وصية اخرى للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فاراد بذكرها ان يوهم للقارئ أن ائمة الشيعة لا يدّعون ايصاء بالخلافة وانما يدعون ايصاءً بهذه الامور.

ولكن كيف يمكن الاستدلال بهذه الرواية على انحصار الوصاية في ذلك ؟! ولو فرض دلالتها فهل تقاوم هذه الرواية عشرات الروايات المتواترات القطعيات التي ملأت كتب الشيعة مما صرح فيها بخلافته عليه السلام بل تجاوزتها فملأت كتب العامة ايضاً ؟!

3 ــ « وهناك وصية اخرى ينقلها الشيخ المفيد في بعض كتبه عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ويقول إن رسول الله صلّى الله عليه وآله قد أوصى بها إليه قبل وفاته ، وهي أيضاً وصية أخلاقية روحية عامة وتتعلّق بالنظر في الوقوف والصدقات » . 28

وهذه ايضاً كسابقتها، وان لم اجدها في الامالي والارشاد، ولكنها مهما كانت فانها على فرض الصحة لا تنفي الاستخلاف، ولا تعارض الروايات الدالة على خلافته عليه السلام، ولو عارضت ايضاً لم يكن لها خطر كما هو واضح، ولكن الكاتب يرقص فرحاً فقد وجد في هذه الروايات الثلاث ضالّته، وهو يدعي ان تراث الشيعة يحفل بنصوص تؤكّد التزام اهل البيت بمبدأ الشورى !!! فتراه يقول :

« واذا القينا بنظرة على هذه الروايات التي يذكرها اقطاب الشيعة الامامية كالكليني والمفيد والمرتضى فاننا نرى انها تكشف عن عدم وصية رسول الله للامام علي بالخلافة والامامة وترك الامر شورى... » . [32]

وقد القينا النظرة بل تأملنا بجد فرأينا الاحاديث لا تدل على ذلك ولا يتوهم منها الدلالة أصلاً بل وجدناك كاذبا تنسب الحديث الى الشافي وهو لم يذكره الا نقلاً عن الخصم ليردّه.

 

 

احجام الامام عن اخذ البيعة لنفسه

ثم قال : « وهو ما يفسرّ احجام الامام علي عن المبادرة الى اخذ البيعة لنفسه بعد وفاة الرسول بالرغم من الحاح العباس بن عبدالمطلب عليه بذلك حيث قال له امدد يدك ابايعك وآتيك بهذا الشيخ من قريش ( يعنى ابا سفيان ) فيقال ان عم رسول الله بايع ابن عمه فلا يختلف عليك من قريش احد والناس تبع لقريش فرفض الامام علي ذلك » .

أقول : التاريخ يقول لنا ان الامام كان مشتغلا بتجهيز الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حينما اجتمعت الانصار في السقيفة، ثم حضر ابو بكر وعمر وابو عبيدة فمنعوهم من التبايع، وساعدهم على ذلك ضغائن الاوس والخزرج كما اسلفناه، وتمّ الامر لابي بكر فهذه البادرة التي اظهرها العباس ــ لو صحت الرواية ــ انما كان بعد مؤامرة السقيفة وتمامية الامر لابي بكر ومن الطبيعي ان يرفض الامام عليه السلام كل اقتراح من هذا القبيل بعد ان بقي منفردا لا يمكنه الصولة إلا بيد جذاء ونتيجته ان لا يبقى موحّد ابداً ولا يسمع صوت الشهادة على المآذن.

هذا مع انه عليه السلام لم يكن بحاجة الى اخذ البيعة لنفسه فقد بايعه المسلمون يوم الغدير بما فيهم ابوبكر وعمر ووجوه الصحابة وقال له عمر : بخ بخ لك يا ابا الحسن اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ــ أو كل مسلم ــ على اختلاف الروايات ، وقد رواه جمع كثير من الحفاظ واصحاب السنن جمعهم العلامة الاميني رحمه الله في كتاب الغدير حيث قال :

وخصوص حديث تهنئة الشيخين رواه من ائمة الحديث والتفسير والتاريخ من رجال السنة كثير لا يستهان بعدّتهم، بين راوٍ مرسلا له ارسال المسلّم، وبين راوٍ اياه بمسانيد صحاح برجال ثقات تنتهي الى غير واحد من الصحابة، كابن عباس وابي هريرة والبراء بن عازب وزيد بن ارقم....

ثم عد ستين حافظاً من اهل السنة رووه في مصنفاتهم منهم ابن ابي شيبة المتوفى 235 في المصنف، والامام احمد في مسنده، وابن جرير الطبري في تفسيره، والحافظ الشهير الدار قطني في سننه، والثعلبي في تفسيره، والخطيب البغدادي في تاريخه، والغزالي في سرّ العالمين، والشهرستاني في الملل والنحل، والخوارزمي في مناقبه، وابن الجوزى في مناقبه ايضاً، وفخر الدين الرازي في تفسيره الكبير، وابن الاثير في اسد الغابة، وسبط ابن الجوزي في تذكرته، وابن كثير في البداية والنهاية، وغيرهم الى تمام الستين. [33]

ومن الغريب جداً أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نصب خيمة في المكان، وأجلس فيها عليا عليه السلام ــ كما في بعض هذه المصادر ــ وأمر الناس ووجوه الصحابة رجالا ونساءً حتى اُمهات المؤمنين على ما في بعضها ايضاً ــ كما نقله في الغدير ــ ان يبايعوا عليا ثم يقال انه اراد بذلك اعلامهم انه ناصرهم وان عليهم ان يحبّوه ويوالوه !!!

 

شعور الامام بالاولوية والاحقية

وقال الكاتب : « وبالرغم من شعور الامام علي بالأحقّية والأولوية في الخلافة ، إلاّ أنّه عاد فبايع أبا بكر ، وذلك عندما حدثت الردّة ، حيث مشى إليه عثمان بن عفان فقال له : « يا ابن عم ، إنّه لا يخرج أحد إلى قتال هؤلاء وأنت لم تبايع »  فأرسل إلى أبي بكر أن يأتيه فأتاه أبو بكر فقال له : « والله ما نفسنا عليك ما ساق الله إليك من فضل وخير ، ولكنّا كنّا نظنّ أن لنا في هذا الأمر نصيباً استبدّ به علينا » ، وخاطب المسلمين قائلاً : « إنّه لم يحبسني عن بيعة أبي بكر ألاّ أكون عارفاً بحقّه ، ولكنّا نرى أنّ لنا في هذا الأمر نصيباً استبدّ به علينا » ثمّ بايع أبا بكر ، فقال المسلمون : اصبت واحسنت ». [34]

يروي الكاتب هاتين الروايتين عن المرتضى في الشافي وكأنه هو الراوي لها مع انه رواها ضمن مجموعة من الروايات في نفس القضية عن البلاذري وقد قال فيه : « وحاله في الثقة عند العامة والبعد عن مقاربة الشيعة والضبط لما يرويه معروف » . [35]

وغرض الشريف من نقل هذه الروايات اثبات أنّ بيعته عليه السلام لم تكن بطيب خاطر وتأييد لخلافة ابي بكر، ولذلك قال في ذيل الحديث المذكور : « ومن تأمل هذا الخبر وما جرى مجراه علم كيف وقعت الحال في البيعة وما الداعي اليها ولو كانت الحال سليمة والنيات صافية والتهمة مرتفعة لما منع عمر ابا بكر ان يصير الى اميرالمؤمنين عليه السلام وحده » وهذا امر ورد في الخبر المذكور ولم ينقله الكاتب لانه ينافي غرضه الذي يتوخاه من نقل الحديثين المذكورين. صدر الرواية هكذا : عن عائشة قالت : « لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة بعد ستة اشهر فلما ماتت ضرع (!) الى صلح ابي بكر فأرسل اليه ان يأتيه فقال عمر : لا تأته وحدك قال وماذا يصنعون بي.... ».

ثم يفسر الكاتب ما نفث به صدر الامام عليه السلام طيلة ايام خلافته من شكاوى عما صنع به القوم بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله فيقول :

« ولا شك ان تمنع الامام علي من المسارعة إلى بيعة أبي بكر كان بسبب أنّه كان يرى نفسه أولى وأحقّ بالخلافة وهو كذلك ، أو كان يرى ضرورة مشاركته في الشورى وعدم جواز الاستبداد بها دونه ، وقد سأله رجل من بني أسد : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحقّ به ؟ فقال : يا أخا بني أسد... أما الاستبداد بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً والأشدّ برسول الله صلّى الله عليه وآله نوطاً ، فإنّها كانت أثرة شحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ».

ينقل الكاتب هنا بعض الاخبار والخطب مما يوهم انه عليه السلام انما كان يرى نفسه احق بالخلافة من جهة الفضل والعلم والجهاد، ولا يدّعي نصاً على نفسه، وانما كان يؤمن بالشورى كمبدأ لتعيين الخليفة، ولذلك بايع ابابكر فلنلاحظ الاخبار والخطب :

1 ــ خطبة 162 من نهج البلاغة وهي التي نقلناها آنفاً عن الكاتب. وقد قال الامام بعد الجملة المذكورة « والحَكَم الله والمَعوَد اليه يوم القيامة... » ولنتأمل الخطبة هل معنى العبارة ان الامام يؤمن بالشورى كمبدأ لتعيين الخليفة ؟ فلو صح ذلك فلماذا يشكو الامام المتقمصين للخلافة ؟ وما ذنبهم اذا كان الناس اختاروهم للقيادة ؟ أليس الواجب عليهم القيام بأعبائها اذا اختارتهم الامة فلماذا يعبّر الامام عنها بالاثرة؟

والأثَرة : الشيء يؤخذ ممن هو حقّ له او نفس الأخذ من دون استحقاق ، وفي الفائق انه الاستئثار بالفيء وغيره. وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله للانصار : « انكم ستلقون بعدي أثَرة فاصبروا ».

واعتقاد الامام انه احق بالخلافة واصلح لها حسب نظرية الشورى لا يعني الا ان الاولى للناس ان يختاروه اماماً، فان لم يفعلوا فلا شيء عليهم ولا على الذي يختارونه، وليست هنا خلافة مغتصبة، او وضع في غير محله، فان محله هو الذي يختاره الناس، سواء اصابوا الاصلح ام اخطأوا، بل لا يجب عليهم ان يتحرّوا الاصلح فلماذا هذه الشكاوى؟ وممّن ؟ ولماذا التعبير بان نفوساً شحّت عليها وبخلت بها لو لم يكن له عليه السلام حقّ ثابت ؟ ولماذا يهدّدهم بانّ الحكم الله والمعود اليه يوم القيامة ؟

ثم يتابع الكاتب فيروي الخطبة الشقشقية متقطعة ونحن نرويها كاملة ليتضح الامر :

« أما والله لقد تقمّصها فلان (وفي نسخة: ابن ابي قحافة) وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا. ينحدر عنّي السّيل ، ولا يرقى إليّ الطّير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً. وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصّغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه! فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجاً ، أرى تراثي نهباً ، حتّى مضى الأوّل لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان ( وفي نسخة: ابن الخطاب ) بعده. (ثم تمثّل بقول الاعشى) :

                   شتّان ما يومي على كورها * ويوم حيّــان أخي جابــر

فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ــ لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ! ـ فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصّعبة إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم، فمُني النّاس ــ لعمر الله ــ بخبط وشماسٍ. وتلوّن واعتراض ، فصبرت على طول المدّة، وشدّة المحنة.

حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم. فيالله وللشورى ! متى اعترض الرّيب في مع الأول منهم حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر! لكنّى أسففت إذ أسفّوا، وطرت إذ طاروا ، فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هنٍ وهنٍ.

إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته !
 فما راعني إلاّ والناس كعرف الضّبع إلي ، ينثالون علي من كل جانبٍ ، حتى لقد وطىء الحسنان ، وشقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم. فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون : كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول : « تلك الدّار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فساداً ، والعاقبة للمتقين » بلى ! والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدّنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها !

أما والّذي فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود النّاصر ، وما أخذ الله على العلماء ألاّ يقاروا على كظّة ظالم. ولا سغب مظلومٍ ، لالقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنزٍ ! [36]

ونستعرض الآن العبارات التي وردت في هذه الخطبة وتدل على انه عليه السلام يرفض الشورى ولا يرى لغيره حقا بالخلافة لا بشورى ولا بغيرها ويعتقدانه حق غصب منه :

1 ــ تقمّصها... اي لبسها ولا يحقّ له ذلك... ولو كان الامر موكولاً الى الناس يختارون من يريدون حسب نظرية الشورى لكانت الخلافة بعد اختيارهم ــ كما يزعمه الزاعمون ــ حقّا له وليس قميصاً لغيره لبسه ابن ابي قحافة غصبا وظلماً.

2 ــ وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى...

يشبّه الامام عليه السلام الخلافة والامامة بالرحى، ونفسه الزكية بقطبها، والرحى لا تدور الاّ على قطبها، فهو يرى لنفسه منزلة لا يمكن للخلافة الا ان تدور عليه، وتكون بيده، سواء أراد الناس أم أبوا. ولو كان الامر موكولاً الى الناس لم يكن لاحد منزلة القطب في رحى الخلافة، وانما القطب لها من اختاره الناس، سواء كان صالحاً ام غير صالح، اذ لا حق لاحد خارج نطاق الشورى وانتخاب الناس.

والطريف أنّ الامام عليه السلام يعلن أنّ ابابكر يعلم ذلك، ( وإنه ليعلم أن محلي منها..)، ومن اين علمه ابوبكر مع أنّهم كانوا يزعمون أنّ عليّا شاب لا ترضى بزعامته مشايخ العرب؟! فلا معنى لهذه الجملة الا الاشارة الى النص الذي كان يعلم به ابوبكر كما يعلمه سائر الصحابة.
 3 ــ وطفقت ارتئي بين أن اصول بيد جذّاء...

هذه العبارة تدل بوضوح على انه عليه السلام لو كانت له يد قادرة على الحرب، واعوان على الصولة على القوم لحاربهم وقاتلهم، واخذ منهم الزعامة بالقوة، وانما منعه عن ذلك فقد أنصار اقوياء يبذلون النفس في سبيل الحق. وعلى ماذا يقاتل الامام لو لم يكن له حق مغصوب مسلوب ؟!

ولو كان الامر شورى وبانتخاب الناس فالحق هو ما اختاروه، ولم يكن هناك ما يبرر الصولة على القوم والاطاحة بهم. فهذه الجملة صريحة في أنّ له عليه السلام حقا ثابتا في زعامة المسلمين ليس لاحد ان يغتصبه، سواء تجمعت الامة على احد ام تفرقوا.

وقد تكرر من الامام عليه السلام القول بهذا المضمون فمنها قوله في الخطبة (5) من نهج البلاغة : « ايها الناس شقّوا أمواج الفتن بسُفن النجاة ، وعرِّجوا عن طريق المنافرة ، وضعوا تيجان المفاخرة ، أفلح من نهض بجناحٍ ، أو استسلم فأراح ، ماءٌ آجن ، ولقمة يغصّ بها آكلها ، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزَّارع بغير أرضه ، فإن أقُل يقولوا : حرص على الملك ، وإن أسكت يقولوا : جزع من الموت.

هيهات بعد اللتيا والتي! والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه ، بل اندمجت على مكنون علم لو بُحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة ».

قال ابن ابي الحديد في ذيل الخطبة : « لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله ، واشتغل عليّ عليه السلام بغسله ودفنه ، وبويع أبو بكر ، خلا الزبير وأبو سفيان وجماعة من المهاجرين بعبّاس وعلي عليه السلام لإجالة الرأي ، وتكلّموا بكلام يقتضي الاستنهاض والتهييج ، فقال العباس رضي الله عنه : قد سمعنا قولكم فلا لِقلّة نستعين بكم ، ولا لِظنّةٍ نترك آراءكم ، فأمهلونا نراجع الفكر ، فإن يكن لنا من الاثم مخرج يصرّ بنا وبهم الحقّ صرير الجُدجد ، ونبسط إلى المجد أكفّاً لا نقبضها أو نبلغ المدى ، وإن تكن الاُخرى ، فلا لِقلّة في العدد ولا لوَهنٍ في الأيد ، والله لولا أنّ الاسلام قيّد الفتك ، لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العليّ.

فحلّ علي عليه السلام حبوته ، وقال : الصبر حلم ، والتقوى دين ، والحجّة محمد ، والطريق الصراط ، ايها الناس شُقّوا أمواج الفتن... (الخطبة) فدخل الى منزله وافترق القوم» [37].

وفي تذكرة ابن الجوزي : « لما دفن رسول الله.... ونقل الخطبة باختلاف » . [38]

وقوله عليه السلام : افلح من نهض بجناح واستسلم فأراح كالصريح في أنه لو كان له جناح لنهض وقام بالسيف، ولكن حيث لا جناح له فهو يستسلم ليريح الناس، ولا يوجب ازعاجهم دون جدوى.

وفي الشطر الاخير من الخطبة بيّن عليه السلام ان استسلامه ليس خوفاً من الموت وقد أنس به مليّاً في خضمّ الحروب، فهو آنس به من الطفل بثدي امه، ولكنه انطوى على مكنون علم يمنعه من المطالبة بالقوة، وهو ــ كما بيّنه في مواضع كثيرة ــ خوف الفتنة وانقسام المسلمين ، والضغائن الجاهلية بعدُ كامنة في النفوس ، فان وجدت لها مخرجا فارت ، وعاد الامر جَذَعة ، وارتد الناس الى الجاهلية ، والمنافقون يكيدون للدين الحديث المكائد ، وفي المسلمين سمّاعون لهم. والخطر محدق بهم من الخارج ايضاً، حيث الامبراطوريات المهدّدة تحاول انتهاز الفرص للقضاء على كل خطر يهدد كيانها. ولذلك ردّ الامام عليه السلام اقتراح أبي سفيان بانه يملأ المدينة خيلاً ورجلاً.

وقوله عليه السلام في الخطبة (26) : « فنظرت فاذا ليس لي معين إلاَّ اهل بيتي فضننت بهم عن الموت واغضيت على القذى ، وشربت على الشجا ، وصبرت على اخذ الكظم وعلى أمرَّ من طعم العلقم » .

ومثله على اختلاف يسير الخطبة 217 ففيها : « فنظرت فاذا ليس لي رافد ولا ذابّ ولا ساعد الا اهل بيتي، فضننت بهم عن المنيّة فأغضيت على القذى، وجرعت ريقي على الشجا، وصبرت من كظم الغيظ على امرّ من العلقم، وآلم للقلب من وخز الشفار» .

4 ــ أرى تراثي نهباً...

وهذه الجملة ايضا صريحة في أنّ الامام عليه السلام كان يرى نفسه وارث الزعامة والولاية، فهو لم يتحدّث هنا عن ارث المال، ولم يكن هو وارث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شرعاً لو كان له مال موروث، بل كان المال لزوجاته وابنته، مع أن كلامه هنا يدور حول الخلافة وتقمّص ابي بكر لها، فهي التراث المنهوب.

وهذا صريح في أنّ خلافة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فى الولاية والإمرة على المسلمين ليست حقا للناس يختارون من شاؤوا، بل تراث يورثه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من شاء، وأنّه أورثها عليّا عليه السلام بالنصّ، وأنّهم غصبوها منه.

كما قال عليه السلام في خطبة اخرى : «فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى يومنا هذا» . [39]

5 ــ فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته اذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطّرا ضرعيها...

حيث إنّ الامام عليه السلام لم يتعجب منه كيف عقد الخلافة لآخر، ولم يترك الامر للشورى وانتخاب الناس. ولو كان الامام يؤمن بالشورى كمبدأ لتعيين الخليفة لكان هذا هو وجه العجب، حيث استند ابوبكر في شرعية خلافته الى الشورى ــ كما يزعمون ــ ثم عيّن الخليفة من بعده بالنصّ. ولكنه عليه السلام لم يبد عجبا من ذلك، وانما تعجب منه كيف عقدها لآخر وهو يستقيل منها في حياته. ويشير بذلك الى قول ابي بكر في خطبة له : « اقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم » .[40]

ويستشهد الكاتب بعد ذلك بهذه الرواية المروية عن زيد بن علي عن الامام اميرالمؤمنين عليه السلام يقول : « بايع الناس أبابكر وأنا أولى بهم مني بقميصي هذا فكظمت غيظي وانتظرت امري وألزقت كلكلي بالارض » يروي الكاتب هذه القطعة من الحديث عن الشافي للشريف المرتضى رحمه الله. [41]  

ونحن ننقله كاملاً : « ... ثم ان ابابكر هلك واستخلف عمر وقد والله علم أني اولى بالناس مني بقميصي هذا فكظمت غيظي وانتظرت امري ثم ان عمر هلك وجعلها شورى وجعلني فيها سادس ستة كسهم الجدّة فقال : اقتلوا الاقلّ فكظمت غيظي وانتظرت امري والزقت كلكلي بالارض حتى ما وجدت الا القتال او الكفر بالله ».

ويعقب الكاتب على نقل هذه الخطب والكلمات بقوله : « وفي هذه الخطب يشير الامام علي بن ابي طالب الى اولويته بالخلافة واحقيته بها وان اهل البيت هم الثمرة اذا كانت قريش شجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله ولا يشير الى مسألة النص عليه من رسول الله او تعيينه خليفة من بعده... ».

وقد تبيّن بما مرّ انه عليه السلام لا يقصد بهذه العبارات انه اولى بالخلافة، بل ان الخلافة حق له غصب منه.

وكذلك كلامه هذا فانه لا يقول : « وانا اولى بها منهم » كما يتوهمه او يوهمه الكاتب، بل يقول : « وانا اولى بهم مني بقميصي هذا » كما صرح بذلك في عبارته التالية « وقد والله علم (يعني ابابكر) أني أولى بالناس مني بقميصي هذا... » ومن المعلوم انه عليه السلام يملك قميصه، فمراده بهذا الكلام ليس اولويته بالخلافة، بل المراد انه اولى بالناس من الناس أنفسهم، وانه يملك امورهم اكثر مما يملك قميصه.

فهذه العبارة غاية في الدلالة والصراحة بانه عليه السلام ولي أمر الناس ولاية مطلقة عامة شاملة لجميع شؤونهم، ولاية تفوق ملكية الانسان لقميصه الذي يلبسه.

هل يمكن ان يحصل هذه الولاية لانسان على الناس الا بجعل من الله تعالى ؟! من الواضح ان ولاية كهذه لاتحصل بانتخاب الناس واختيارهم فضلا عن أنّهم لم يختاروه خليفة وقائداً. فانظر مدى الفرق بين مفاد كلام الامام وما يروم الكاتب ان يحمل عليه كلامه عليه السلام.

ثم قال الكاتب : « وينقل الكليني رواية عن الامام محمد الباقر يقول فيها ان الامام عليا لم يدع الى نفسه وانه اقرّ القوم على ما صنعوا وكتم امره »

ما وجدت هذا الحديث في الموضع الذي اشار اليه الكاتب اي الروضة من الكافي ص 246 ولا في مواضع اخرى تعدّ من مظانّه رغم البحث والفحص.[42]

ومهما كان فلا يزيد هذا الحديث شيئاً على ما ذكر فمن الواضح انه عليه السلام لم يدع الى نفسه علانية بحيث يوجب شق عصا المسلمين، وهو الذي يقول لما عزم القوم على بيعة عثمان : « لقد علمتم أنّي احقّ الناس بها من غيري ووالله لاسلمنّ ما سلمت امور المسلمين ولم يكن فيها جور الاّ عليّ خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه» [43] الخطبة 74. وغير ذلك مما قاله عليه السلام في هذا الخصوص.

يقول الكاتب : « واذا كان حديث الغدير يعتبر أوضح وأقوى نصّ من النبي بحقّ أمير المؤمنين ، فإنّ بعض علماء الشيعة الإمامية الأقدمين ، كالشريف المرتضى ، يعتبره نصّاً خفياً غير واضح بالخلافة ، حيث يقول في الشافي : « إنّا لا ندّعي علم الضرورة في النص ، لا لأنفسنا ولا على مخالفينا ، وما نعرف أحداً من أصحابنا صرّح بادعاء ذلك » . [44]

من الغريب والمخجل ان ينسب هذا الكلام الى الشريف، وفي هذا الموضع بالذات من كتابه، [45] وهو انما يحاول فيه اثبات النص على خلافة اميرالمؤمنين عليه السلام، ويرد على قاضي القضاة المعتزلي.

فلننظر ماذا يقول الشريف ليتبين مدى مراوغة الرجل :

قال الشريف قبل هذه العبارة بصفحات أي في الصفحة 65 : « الذي نذهب اليه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله نصّ على أمير المؤمنين عليه السلام بالامامة بعده ، ودلّ على وجوب فرض طاعته ولزومها لكلّ مكلّف ، وينقسم النصّ عندنا في الأصل إلى قسمين أحدهما يرجع إلى الفعل ويدخل فيه القول ، والآخر إلى القول دون الفعل . فأمّا النصّ بالفعل والقول ، فهو ما دلّت عليه أفعاله صلّى الله عليه وآله وأقواله المبينة لأمير المؤمنين عليه السلام من جميع الاُمّة ، الدالّة على استحقاقه من التعظيم والاجلال.

( الى ان قال في ص67 ) : « فأمّا النص بالقول دون الفعل ينقسم إلى قسمين :
أحدهما : ما علم سامعوه من الرسول صلّى الله عليه وآله مراده منه باضطرار ، وإن كنّا الآن نعلم ثبوته والمراد منه استدلالاً وهو النصّ الذي في ظاهره ولفظه الصريح بالإمامة والخلافة ، ويسمّيه أصحابنا النصّ الجلي كقوله عليه السلام « سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين » ، و « هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا » . [46]

والقسم الآخر : لا نقطع على أن سامعيه من الرسول صلّى الله عليه وآله علموا النصّ بالاِمامة منه اضطراراً ولا يمتنع عندنا أن يكونوا علموه استدلالاً من حيث اعتبار دلالة اللفظ ، وما يحسن أن يكون المراد أو لا يحسن. فأمّا نحن فلا نعلم ثبوته والمراد به إلاّ استدلالاً كقوله صلّى الله عليه وآله : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي » و « من كنت مولاه فعليّ مولاه » ، وهذا الضرب من النص هو الذي يسمّيه أصحابنا النصّ الخفيّ .

ثمّ النصّ بالقول ينقسم قسمة اُخرى إلى ضربين : فضرب منه تفرّد بنقله الشيعة الإمامية خاصة ، وإن كان بعض من لم يفطن بما عليه فيه منأصحاب الحديث قد روى شيئاً منه ، وهو النصّ الموسوم بالجليّ . والضرب الآخر رواه الشيعي والناصبي وتلقاه جميع الاُمّة بالقبول على اختلافها ، ولم يدفعه منهم أحد يحفل بدفعه يعد مثله خلافاً وان كانوا قد اختلفوا في تأويله وتباينوا في اعتقاد المراد به وهو النصّ الموسوم بالخفي الذي ذكرناه ثانياً » [47] .

لاحظ هذه العبارة فانه يقول ان النص بالقول على قسمين: قسم اوجب العلم الضروري للسامعين في ذلك الوقت، وان كان لا يوجب لنا في هذا الزمان علماً ضرورياً لعدم وجود القرائن الحالية الدخيلة في وضوح الدلالة، اولم يثبت وقوعه لنا بعلم ضروري، ولكنا نعلمه ونعلم دلالته ايضاً بعلم استدلالي. فالفرق بيننا وبينهم انهم يعلمون به وبدلالته ضرورة، بمعنى انه لا يحتاج ايجابه للعلم والقطع الى استدلال وترتيب مقدمات، لانهم كانوا شاهدين على ذلك، فلا حاجة الى اثبات تواتره، ولان القرائن الحالية توجب القطع بالمراد، واما نحن فيمكننا تحصيل العلم والقطع بذلك ولكن بعد استدلال وترتيب مقدمات يوجب اثبات تواتر النقل ووضوح الدلالة. فهذا هو الفرق بين النص الجلي والنص الخفي عنده وعند اصحابنا كما يقول.

ولنعد الآن الى عبارته التي نقلها الكاتب وننقل ما قبلها وما بعدها ليتضح المراد :

« قال صاحب الكتاب : (اي قاضي القضاة المعتزلي) : فان قيل انّا ندَّعي هذا الجنس من الاضطرار لمن فتّش عن الأخبار وأزال عن قلبه الشبهة ، ولم يسبق إلى اعتقاد فاسدٍ ، فأمّا من حصل فيه بعض هذه الوجوه لم يحصل له الضرورة ، ولذلك يحصل الاضطرار لطوائف الشيعة ولا يحصل للمخالفين .

قيل لهم : إذا كان ذلك هو الحجّة وقد أقررتم أنّه لا يحصل للمخالف فيجب أن يكونوا في أوسع العذر في مخالفتكم وأن لا يلحقهم الذم بذلك .

فان قالوا : إنّما نذمّهم من حيث اعتقدوا إمامة غير أمير المؤمنين عليه السلام لشبهة .

قيل لهم : فيجب أن لا يلحق من شكّ في ذلك وتوقّف الذم ويكون معذوراً في ذلك وذلك ينقض أصلهم في الإمامة لأنّهم يحعلونها من أعظم أركان الدين وأصلاً لسائر الشرائع ( فكيف يصحّ أن لا يعلمها من خالفهم مع علمه بفروع الدين التي هي الصلاة والصيام وغير ذلك ) .

يقال له : قد بيّنا أنا لا ندّعي علم الضرورة في النص لا لأنفسنا ولا على مخالفينا ، وما نعرف أحداً من أصحابنا صرّح بادّعاء ذلك ولكنّا نكلّمك على ما يلزمك دون ما نذهب إليه ونعتقده حقّاً .

أمّا ادّعاؤك أن يكون المخالف لنا في أوسع العذر إذا لم يعرف النص ضرورة ، فباطل لا يدخل في مثله شبهة على مثلك لأنّا إنّما ألزمناك أن يرتفع العلم الضرورة عنهم بالنصّ على وجهٍ كانوا فيه هم المانعين لأنفسهم منه ، وهم مع كونهم مانعين من وقوعه متمكنون من إزالة المانع ، والخروج عمّا ارتفع من أجله العلم بالنصّ من الشبهة أو السبق إلى الاعتقاد ، ولو شاءوا لفارقوا ذلك فوقع لهم العلم الضروري ، فكيف يجب على هذا أن يكونوا معذورين... » . [48]

وخلاصة القول أنّ قاضي القضاة يدّعي أنّ العلم الضروري بالنصّ من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على خلافة علي عليه السلام انما يحصل لمن فتّش الاخبار، وبحث عن النصّ، ولم يكن على شبهة وعقيدة مخالفة قبل ذلك. ولا يحصل العلم الضروري لمن لم يفتّش عنها، او فتش وكان على اعتقاد راسخ بعدم وجود النص، فانه يأوّل ما يراه، او يمنع حصول التواتر. وعلى ذلك فهو معذور في عدم حصول العلم له. واذا كان كذلك فيأتي الاشكال في أصل ثبوت النصّ بانه كيف لم يحصل الشك والشبهة للمسلمين جميعاً المعترفين بالنبوة في وجوب الصلاة والصوم، وحصل لهم الشك في ثبوت نصّ الخلافة، ولم يحصل العلم الضروري الا للشيعة، وبذلك يتبين انه لا يوجد نص يوجب العلم الضروري بذلك.

هذا خلاصة مدّعى القاضي.

ويرد عليه الشريف بأنّا لا ندعي العلم الضروري بالنصّ لا لنا ولا لمخالفينا، بل ندّعي أنّ هذه الاخبار الواردة من طرقكم ــ ولا نكلّمك على ما نعتقده حقاً ــ يوجب العلم الاستدلالي، اي يحصل العلم بعد ملاحظة الحجج والادلة المثبتة لصحة الاخبار وتواترها، ووضوح دلالتها.

واما قولك : « ان من لم يلاحظ هذه الادلة فهو معذور » غير صحيح لانهم هم المانعون عن تحقق هذا العلم لهم حيث لم يلاحظوا الادلة وكيفية دلالتها على وجه يوجب العلم الضروري لهم ولو من طريق الاستدلال وهذا لا يوجب عذراً.

وما ذكره الشريف صحيح وواضح جداً فان من سمع بالرسالات، واحتمل أن يكون هناك شريعة وحساب ومعاد لا يجوز له عقلا التغافل عنه، والاشتغال بملاهي الحياة الدنيا، ولا يكون معذوراً امام الله تعالى بانه لم يثبت له بالعلم الضروري صحّة ما جاء به الرسل، فكما أنّ رجلا كهذا ليس معذوراً قطعاً، كذلك لا يعذر المخالف الذي يتغاضى، ويتجاهل وجود هذه النصوص، ووجود كتب استدلالية علمية لعلماء الشيعة، فلا يراجعها لئلا يحصل له العلم بفساد مذهبه الذي بنى عليه شؤون حياته.

وهكذا يتبين انّ ما رامه الكاتب ان يستفيده من عبارة حذف اولها وآخرها في كتاب الشافي للشريف المرتضى هو عكس ما يقصده الشريف تماماً.

قال الكاتب : « ولذلك فإن الصحابة لم يفهموا من حديث الغدير أو غيره من الأحاديث معنى النصّ والتعيين بالخلافة ، ولذلك اختاروا طريق الشورى ، وبايعوا أبا بكر كخليفة من بعد الرسول ، ممّا يدلّ على عدم وضوح معنى الخلافة من النصوص الواردة بحقّ الاِمام علي ، أو عدم وجودها في ذلك الزمان » . [49]

تبين مما مرّ في فصل نظام الشورى بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ بيعة ابي بكر لم تقم على اساس الشورى، وانما كانت فلتة وقى الله شرها كما يعتقد الشيخان ابوبكر وعمر. ومهما كان فلقائل ان يقول : إنّ البيعة وان لم تتم على اساس الشورى يومذاك، الا أنّ المسلمين بايعوا تدريجياً فلم يختلف عليه اثنان وحصل الاجماع، ولله الحمد !

ولكنّ الواقع أنّ ما حدث في ذلك العهد كان أشبه شيء بانقلاب عسكري لم يترك مجالاً لاحد ان يبدي رأيه، او يخالف من دُعي باسم خليفة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فان ذلك كان يعدّ شقاً لعصا المسلمين ومبرراً لسفك دمه. ومع ذلك فان هناك من لم يبايع اصلاً كسعد بن عبادة، ومن بايع كرهاً وهم جماعة كثيرة أعلنوا كراهتهم، وعلى رأسهم اميرالمؤمنين عليه السلام.

ويكفيك دليلاً على ذلك مامرّ من خطبه اللاذعة التي صرح فيها بانه لم يكن مكرهاً فحسب، بل كان عازماً على ثورة دموية تقلب نظام الحكم، ولكنه لم يستطع لخذلان الناس اياه.

وقد ورد في الروايات انه كان يسير على نوادي الانصار ليلا ومعه سيدة النساء سلام الله عليها يستنصرهم على غاصبي حقه، فكانوا يعتذرون بسبق بيعتهم لابي بكر، وانهم لو سمعوا داعيته قبلها لا جابوا.

وقد ورد ذكر ذلك في كتاب معاوية الى اميرالمؤمنين عليه السلام حيث كتب : « وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ويداك في يدي ابنيك حسن وحسين يوم بويع أبو بكر ، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلاّ دعوتهم إلى نفسك ، ومشيت إليهم بامرأتك ، وأدليت إليهم بابنيك ، واستنصرتهم على صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فلم يجبك منهم إلاّ أربعة أو خمسة ، ولعمري لو كنت محقّاً لأجابوك ولكنك ادّعيت باطلاً ، وقلت ما لا يعرف ، ورمت ما لا يدرك ، ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حرّكك وهيّجك « لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم » فما يوم المسلمين منك بواحد » . [50]

ومع ذلك فهناك من الصحابة من انكر على ابي بكر جلوسه على منبر الخلافة، وان بايع بعد ذلك مكرهاً كما ورد من طرقنا، وهم جماعة من المهاجرين والانصار، منهم خالد بن سعيد بن العاص والمقداد بن الاسود وابي بن كعب وعمار بن ياسر وابوذر الغفاري وسلمان الفارسي وعبدالله بن مسعود وبريدة الاسلمي وخزيمة بن ثابت وسهل بن حنيف وابو ايوب الانصاري وابو الهيثم بن التيهان وغيرهم. [51]

 

 

الشورى عند امير المؤمنين عليه السلام

يحاول الكاتب ان يثبت ان اميرالمؤمنين عليه السلام كان يؤمن بالشورى كنظام لتعيين القائد. وقد تبين بما ذكرناه في فصل « الشورى عند اهل البيت عليهم السلام » وفصل « شعور الامام بالاولوية والاحقية » انّه عليه السلام كان يرى لنفسه حقا ثابتاً بالنص، وانه لو كان متمكناً من اخذ حقه بالقوة لحاربهم على ذلك. ولو كان يرى ان ذلك حق للناس لم يكن لذلك مبرر، وانما كان له الحق في ارشاد الناس وتوجيههم، وبيان فضائله لهم ليختاروه، ولم يكن له الحق في محاربة من اختاره الناس، كما يزعمه دعاة الشورى.

ولكن الكاتب يحتجّ بدخول الامام في الشورى الذي عيّنها عمر لاختيار احدهم خليفة، واحتجاجه عليه السلام بفضائله، ودوره في خدمة الاسلام، وعدم اشارته الى موضوع النص عليه، او تعيينه خليفة من بعد الرسول صلّى الله عليه وآله. ولو كان حديث الغدير يحمل هذا المعنى لا شار الامام الى ذلك، وحاججهم بما هواقوى من ذكر الفضائل. [52]

والجواب عن ذلك واضح ، فان الإمام ما كان يمكنه هذا الاحتجاج في شورى عيّنها عمر، إذ يستوجب ذلك القدح في خلافته وخلافة من سبقه، وهو وان صرّح في مواطن عديدة بانهما غصبا حقّه، إلاّ انّه لا يمكنه الاحتجاج في مثل هذه الشورى بذلك، فانه انّما دخلها بعد التنازل عن حقّه الأول، فلا يمكنه الاستناد إليه. وهو انما دخل الشورى لئلا يقال إنّ انتخاب عثمان انّما تم من جهة عدم اشتراك علي عليه السلام في الشورى، فلو كان لم يدخل في الشورى لاعترض عليه الناس بذلك، فأراد أن يقطع عذرهم ويبطل احتجاجهم، ليظهر للناس انّ انتخاب عثمان انّما كان حسب مكيدة لمبتكر الشورى.

اذن فدخوله في الشورى لا يدل على قبوله لها ، مع أنّ هذه الشورى ليست شورى واقعية فلم يشترك فيها المسلمون بأجمعهم ، ولا المهاجرون والأنصار ، بل ولا جميع أهل الحل والعقد، مع انّ كل ذلك تخصيص بلا مبرر.

ثمّ اختيار هذه المجموعة بما فيهم عبد الرحمن بن عوف مع تمايله إلى صهره عثمان ــ كما ذكره الإمام علي عليه السلام في الشقشقية ــ وترجيح المجموعة التي فيها عبد الرحمن بنصّ الخليفة من دون أي مبرر أو مرجح، يكشف لنا المكيدة التي دبّرها الخليفة لازاحة الحق عن أهله ، فهذه لم تكن شورى كيف ما تصورناها بل هي مكيدة سياسية ، ودخول الامام فيها لا يفيد دعاة هذا النظام.

واحتجاجه بفضائله دون النصّ أيضاً لا يدل على عدم النصّ، لما ذكرناه من انّه لا يمكن الاحتجاج به في تلك المجموعة. وانما يصحّ أن يسأل عن وجه عدم استناد الامام إلى النصّ يوم السقيفة واحتجاجاً على الشيخين ، دون يوم الشورى واحتجاجاً على مناوئيه ذلك اليوم.

والواقع انّ الإمام عليه السلام استند إلى النصّ يوم السقيفة، ولكنه خرج عن داره متأخراً ، وبعد انتهاز الشيخين واتباعهما فرصة اشتغال الامام عليه السلام بتجهيز النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ومع ذلك فقد كان يخرج الامام عليه السلام من داره ليلاً يأخذ أهل بيته ويمرّ على ابواب الصحابة، ويذكّرهم بالنصوص التي صرّح بها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولكنهم كانوا يعتذرون بسبق بيعتهم لأبي بكر.

كما انّ الصحيح الوارد عن طرقنا انّ الإمام عليه السلام واصحابه الذين مرّ ذكرهم احتجوا على ابي بكر وعمر وحزبهما بالنصوص المذكورة، ولكن لم يعيروا لذلك اهتماماً، واستمروا على نهجهم محتجّين بانّ العرب لا ترضى ان تكون النبوّة والخلافة في
بيت واحد.

والملاحظ المنصف يحصل له القطع بأنّ الشيخين لم يكتفيا بمنع علي عليه السلام حقّه، بل حاولا أن لا ينال علي ذلك بعد وفاتهما أيضاً ، فتجد انّهما احتجا عليه بانّه شاب، وان مشيخة الصحابة لا يرضون بتأمّر شاب عليهم.

ومع ذلك فلم يرض عمر أن يجعل الخلافة له من بعده ولم يكن الامام آنذاك شاباً ، بل حاول بالمكيدة التي ذكرنا شطراً منها في تعيين عناصر الشورى أن يمنعه من الوصول إليه ، ولو لم يقتل عثمان لما آل الأمر إليه عليه السلام بعده أيضاً .

هذا وهناك رأي آخر يسلّم أنّ الامام عليه السلام لم يواجه الحاكمين بنصوص الخلافة، ولكنّه يرى أنّ هناك مبررات لهذا السكوت ، ومع انّا لا نوافق على ذلك ، بل نعتقد أنّ الامام عليه السلام وأصحابه وأهل بيته ــ بما فيهم سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء سلام الله عليها ــ جابهوا الحاكمين، بل وسائر الصحابة بتلك النصوص كما مرّ ذكره، ولكنا نذكر هذه الفكرة لانها تستحق الدراسة والتأمّل، ومن لم يطمئنّ بتصريح الامام عليه السلام ، له أن يفسر ذلك بهذا الرأي.

« ونحن نتبين من الصورة المشوشة التي عرفناها عن تلك الظروف والاوضاع ان الاعتراض بتلك النصوص المقدسة والاحتجاج بها في ساعة ارتفع فيها المقياس الزئبقي للافكار المحمومة والأهواء الملتهبة التي سيطرت على الحزب الحاكم الى الدرجة العالية كان من التقدير المعقول افتراض النتائج السيئة له لأن اكثر النصوص التي صدرت من رسول الله صلّى الله عليه وآله في شأن الخلافة لم يكن قد سمعها الا مواطنوه في المدينة من مهاجرين وأنصار فكانت تلكالنصوص اذن الامانة الغالية عند هذه الطائفة التي لابد أن تصل عن طريقهم الى سائر الناس في دنيا الاسلام يومئذ والى الاجيال المتعاقبة والعصور المتتالية. ولو احتج الامام على جماعة أهل المدينة بالكلمات التي سمعوها من رسول الله صلّى الله عليه وآله في شأنه وأقام منها دليلاً على امامته وخلافته لكان الصدى الطبيعي لذلك أن يكذب الحزب الحاكم صديق الامة في دعواه وينكر تلك النصوص التي تمحو من خلافة الشورى لونها الشرعي وتعطل منها معنى الدين.

وقد لا يجد الحق صوتاً قوياً يرتفع به في قبال ذلك الانكار لأن كثيرا من قريش وفي مقدمتهم الامويون كانوا طامحين الى مجد السلطان ونعيم الملك وهم يرون في تقديم الخليفة على اساس من النص النبوي تسجيلا لمذهب الامامة الالهية ، ومتى تقررت هذه النظرية في عرف الحكم الاسلامي كان معناها حصر الخلافة في بني هاشم آل محمد الاكرمين وخروج غيرهم من المعركة خاسرا. وقد نلمح هذا اللون من التفكير في قول عمر لابن عباس معللا اقصاء علي عن الامر : ان قومكم كرهوا ان يجمعوا لكم الخلافة والنبوة [53]  فقد يدلنا هذا على أن اسناد الامر الى علي في بداية الامر كان معناه في الذهنية العامة حصر الخلافة في الهاشميين وليس لذلك تفسير اولى من أن المفهوم لجمهرة من الناس يومئذ من الخلافة العلوية تقرير شكل ثابت للخلافة يستمد شرعيته من نصوص السماء لا من انتخاب المنتخبين فعلي ان وجد نصيرا من علية قريش يشجعه على مقاومة الحاكمين فانه لا يجد منهم عضدا في مسألة النص اذا تقدم الى الناس يحدثهم ان رسول الله صلّى الله عليه وآله قد سجل الخلافة لأهل بيته حين قال : اني مخلف فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي الخ.

وأما الانصار فقد سبقوا جميع المسلمين الى الاستخفاف بتلك النصوص والاستهانة بها اذ حدت بهم الشراهة الى الحكم الى عقد مؤتمر في سقيفة بني ساعدة ليصفقوا على يد واحد منهم فلن يجد علي فيهم اذا استدل بالنصوص النبوية جنودا للقضية العادلة وشهودا عليها لانهم اذا شهدوا على ذلك يسجلون على انفسهم تناقضا فاضحا في يوم واحد وهذا ما يأبونه على انفسهمبطبيعة الحال.

وليس في مبايعة الأوس لأبي بكر أو قول من قال : لا نبايع الا عليا مناقضة كتلك المناقضة لأن المفهوم البديهي من تشكيل مؤتمر السقيفة ان مسألة الخلافة مسألة انتخاب لا نص فليس الى التراجع عن هذا الرأي في يوم اعلانه من سبيل.

وأما اعتراف المهاجرين بالامر فلا حرج فيه لأن الأنصار لم يجتمعوا على رأي واحد في السقيفة وانما كانوا يتذاكرون ويتشاورون ولذا نرى الحباب بن المنذر يحاول بث الحماسة في نفوسهم والاستمالة بهم الى رأيه بما جلجل به في ذلك الاجتماع من كلام وهو يوضح انهم جمعوا لتأييد فكرة لم يكن يؤمن بها الا بعضهم.

واذن فقد كان الامام يقدر انه سوف يدفع الحزب الحاكم الى انكار النصوص والاستبسال في هذا الانكار اذا جاهر بها ولا يقف الى جانبه حينئذ صف ينتصر له في دعواه لان الناس بين من قادهم الهوى السياسي الى انكار عملي للنص يسد عليهم مجال التراجع بعد ساعات وبين من يرى ان فكرة النص تجعل من الخلافة وقفا على بني هاشم لا ينازعهم فيها منازع. واذا سجلت الجماعة الحاكمة وانصارها انكارا للنص واكتفى الباقون بالسكوت في الاقل فمعنى هذا ان النص يفقد قيمته الواقعية وتضيع بذلك مستمسكات الامامة العلوية كلها ويؤمّن العالم الاسلامي الذي كان بعيدا عن مدينة النبي صلّى الله عليه وآله على انكار المنكرين لانه منطق القوة الغالب في ذلك الزمان.

ولنلاحظ ناحية اخرى فان عليا لو ظفر بجماعة توافقه على دعواه وتشهد له بالنصوص النبوية المقدسة وتعارض انكار الفئة الحاكمة كان معنى ذلك ان ترفض هذه الجماعة خلافة ابي بكر وتتعرض لهجوم شديد لكيانه السياسي الى حد بعيد فانه لا يسكت عن هذا اللون من المعارضة الخطرة فمجاهرة علي بالنص كانت تجره الى المقابلة العملية وقد عرفنا سابقا انه لم يكن مستعدا لاعلان الثورة على الوضع القائم والاشتراك مع السلطات المهيمنة في قتال.

ولم يكن للاحتجاج بالنص اثر واضح من ان تتخذ السياسة الحاكمة احتياطاتها واساليبها الدقيقة لمحو تلك الاحاديث النبوية من الذهنية الاسلامية لانها تعرف حنيئذ ان فيها قوة خطر على الخلافة القائمة ومادة خصبة لثورة المعارضين في كل حين....

ثم ألم يكن من المعقول ان يخشى الامام على كرامة حبيبه وأخيه رسول الله صلّى الله عليه وآله أن تنتقض وهي أغلى عنده من كل نفيس ـ اذا جاهر بنصوص النبي صلّى الله عليه وآله وهو لم ينس موقف الفاروق من رسول الله صلّى الله عليه وآله حين طلب دواة ليكتب كتابا لا يضل الناس بعده أبدا ، فقال عمر : ان النبي ليهجر أو قد غلب عليه الوجع  [54] ، وقد اعترف فيما بعد لابن عباس ان رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يريد أن يعين عليا للخلافة وقد صده عن ذلك خوفا من الفتنة. [55]

وسواء أكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يريد ان يحرر حق علي في الخلافة اولا فان المهم ان نتأمل موقف عمر من طلبه فهو اذا كان مستعداً لاتهام النبي صلّى الله عليه وآله وجها لوجه بما ينزهه عنه نص القرآن وضرورة الاسلام خوفا من الفتنة فما الذي يمنعه عن اتهام آخر له بعد وفاته مهما تلطفنا في تقديره فلا يقل عن دعوى ان رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يصدر عن أمر الله في موضوع الخلافة وانما استخلف عليا بوحي من عاطفته بل كان هذا اولى من تلك المعارضة لأن الفتنة التي تقوم بدعوى على النص أشد مما كان يترقبه عمر من اضطراب فيما اذا كان النبي صلّى الله عليه وآله قد خلف نصا تحريريا بامامة يعلمه الجميع.

واذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله قد ترك التصريح بخلافة علي في ساعته الاخيرة لقول قاله عمر فان المفهوم ان يترك الوصي الاحتجاج بالنصوص خوفا من قول قد يقوله » .[56]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقول الكاتب : « لقد كان الامام علي يؤمن بنظام الشورى وانّ حقّ الشورى بالدرجة الاُولى هو من اختصاص المهاجرين والأنصار ، ولذلك فقد رفض بعد مقتل عثمان ، الاستجابة للثوار الذين دعوه إلى تولي السلطة وقال لهم : ليس هذا إليكم... هذا للمهاجرين والأنصار من أمّره أولئك كان أميراً .

وعندما جاءه المهاجرون والأنصار وقالوا : « امدد يدك نبايعك » دفعهم ، فعاودوه ، ودفعهم ثمّ عاوده ، فقال : « دعوني والتمسوا غيري واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم... وإن تركتموني فأنا كأحدكم ، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً » ، ومشى إلى طلحة والزبير فعرضها عليهما فقال : من شاء منكما بايعته ، فقالا : لا... الناس بك أرضى ، وأخيراً قال لهم : فإن أبيتم فإنّ بيعتي لا تكون سراً ، ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني فليبايعني ». [57]

أما الرواية التي تقول انّه عليه السلام رفض الاستجابة للثوار فلا يمكن تصديقها ، إذ لا يمكن أن يناط تعيين الخليفة بصورة مطلقة بالمهاجرين والأنصار ، وإلاّ لاختصّ نظام الشورى بذلك العهد والمفروض أنّ الرواية تشتمل على ذلك بوضوح لأنّ الامام عليه السلام وفقا لهذه الرواية لم يردّ دعوتهم بأنّ التعيين ليس بيدكم بل أتى بأعذار اخرى.

ولو قيل باختصاص الحكم بأهل الحلّ والعقد فلا يمكن تفسير الرواية وفقا لهذا القول ايضا ، لعدم انطباق هذا العنوان على جميع المهاجرين والأنصار، بل النسبة بين العنوانين عموم من وجه ، فانّ هناك في ذلك العهد من يعدّ من أهل الحلّ والعقد وليس من المهاجرين والأنصار، وكذلك العكس.

ولو صحّت نسبة القول إليه عليه السلام فلا بدّ من حمل ذلك على انّه انّما ردّ دعوتهم لكونهم قاتلي الخليفة ، ولو قبل الامام دعوتهم لصُدّقت تهمة بني اُميّة وأتباعهم بانّه عليه السلام يترأس الثوّار ، فإذا كانت التهمة قد أثرت مفعولها مع بعده عليه السلام عنها ذلك البعد، بل قيامه بالدفاع عن عثمان فما ظنّك بها لو كان يقبل اقتراح الثوار ؟!

وأما رفضه لقبول البيعة إلاّ بعد الحاح الناس عليه فهذا لا يدل على انتفاء النص، وقد بيّنا فيما سبق أنّ البيعة ليست بمعنى الانتخاب، بل هي تعهّد والتزام من الناس بنصرة من يبايعونه، وهو عليه السلام بعد أن شاهد من الناس هذا الخذلان طيلة الأعوام السابقة لم يرض منهم ببيعة متعارفة كما بايعوا الآخرين ، وأراد أن تكون بيعتهم بيعة مؤكّدة وكان يعلم كما أخبره به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنّ الاُمّة لا تكتفي في غدرها بغصب الخلافة، بل تغدر به بعد البيعة فتنكث البيعة، ويتلو الناكثين قاسطون ومارقون ، فأراد أن يتمّ الحجة عليهم ، وأما ما ذكره من عرضه الخلافة على طلحة والزبير فكذب محض لا يمكن تصديقه ولم ينقل في المصادر المعتبرة.

قال الكاتب ( ص 23 ـ 24 ) : « وهناك رواية في كتاب سليم بن قيس الهلالي تكشف عن إيمان الإمام علي بنظرية الشورى وحقّ الاُمّة في اختيار الإمام ، حيث يقول في رسالة له : « الواجب في حكم الله وحكم الاسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل... أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رِجلاً ولا يبدؤوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنّة ».

هذه قطعة من حديث طويل اقتطعها المراوغ ليؤيّد بها اكذوبته وافتراءه على الامام عليه السلام ونحن ننقل قسماً وافياً منه ليعلم مدى مراوغة الرجل وسوء سريرته :

في كتاب سليم بن قيس أنّ معاوية أرسل ابا هريرة وأبا الدرداء برسالة إلى الإمام عليه السلام في وقعة صفين يكرر فيه اتهامه عليه السلام بايوائه قتلة عثمان ، فأجابه عليه السلام يقول :

« إنّ عثمان بن عفان لا يعدو أن يكون أحد رجلين: إمّا إمام هدى حرام الدم واجب النصرة لا تحلّ معصيته ولا يسع الاُمّة خذلانه، أو إمام ضلالة حلال الدم لا تحلّ ولايته ولا نصرته، فلا يخلو من إحدى الخصلتين.

والواجب في حكم الله وحكم الاسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل ضالاً كان أو مهتدياً، مظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدم أو حرام الدم، أن لا يعملوا عملاً، ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً، ولا يبدءوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عَفيفاً عالماً ورعاً، عارفاً بالقضاء والسنّة، يجمع أمرهم، ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظالم، ويحفظ أطرافهم، ويجبي فيئهم، ويقيم حجّتهم وجمعتهم، ويجبي صدقاتهم، ثمّ يحتكمون إليه في إمامهم المقتول ظلماً ويحاكمون قتلته اليه ليحكم بينهم بالحقّ، فإن كان إمامهم قتل مظلوماً حكم لأوليائه بدمه وإن كان قتل ظالماً نظر كيف الحكم في ذلك .

هذا أوّل ما ينبغي أن يفعلوه أن يختاروا إماماً يجمع أمرهم إن كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه وإن كانت الخيرة إلى الله عزّ وجلّ وإلى رسوله فإنّ الله قد كفاهم النظر في ذلك والإختيار ورسول الله صلّى الله عليه وآله قد رضي لهم إماماً وأمرهم بطاعته واتّباعه .

وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان وبايعني المهاجرون والأنصار بعدما تشاوروا ثلاثة أيام وهم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وعقدوا إمامتهم ولي ذلك أهل بدر والسابقة من المهاجرين والأنصار غير أنّهم بايعوهم قبلي على غير مشورة من العامة وإنّ بيعتي كانت بمشورة من العامة .

فإن كان الله جلّ اسمه جعل الإختيار إلى الاُمّة وهم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم واختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خير لهم من اختيار الله ورسوله لهم وكان من اختاروه وبايعوه بيعته بيعة هدى وكان إماماً واجباً على الناس طاعته ونصرته فقد تشاوروا فيّ واختاروني بإجماع منهم .

وإن كان الله عزّ وجلّ هو الذي يختار وله الخيرة فقد اختارني للأمة واستخلفني عليهم وأمرهم بطاعتي ونصرتي في كتابه المنزل وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وآله فذلك أقوى بحجتي وأوجب بحقي » . [58]

ويكفينا هذا البيان الواضح ويغنينا عن أي تعليق .

ثمّ قال الكاتب : « وعندما خرج عليه طلحة والزبير احتجّ عليهما بالبيعة وقال لهما : بايعتماني ثمّ نكثتما بيعتي ولم يشر إلى موضوع النصّ... »

أقول : انّ طلحة والزبير لم يدّعيا الخلافة فيحتجّ عليهما بالنصّ، وانّ اثمهما ليس إلاّ نكث البيعة حيث خرجا على امامهما بعد أن بايعاه بحجة المطالبة بدم عثمان، ولذلك احتج الامام عليهما بوجوب الوفاء بالبيعة. وليس هنا مورد الاحتجاج بالنصّ على الخلافة كما هو واضح .

واستشهد الكاتب أيضاً بما ذكره الامام عليه السلام في كتاب له إلى معاوية : « فانّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، وانّما الشورى للمهاجرين والأنصار إذا اجتمعوا على رجل فسمّوه إماماً كان ذلك لله رضا » .

من الواضح أنّ مضمون هذه الرواية ــ لو صحّ الاسناد ــ ليس ممّا يعتقده أمير المؤمنين عليه السلام، وإلاّ لم يكن لتأخّره في بيعة القوم يوم السقيفة وجه شرعي. وكلّ ما مرّ من أقواله وأفعاله عليه السلام طيلة هذه المدّة تنادي بأعلى الصوت بانّه عليه السلام لم يقبل خلافة القوم ، ولم يذعن بشرعيتها طرفة عين.

فاحتجاجه عليه السلام على معاوية في هذه الرواية جدال بالتي هي أحسن ، واحتجاج عليه بما يسلّمه ويقبله من عناصر الاستدلال والقياس ، فانّ معاوية كان لا بدّ له من التسليم لخلافة الخلفاء وقبول شرعيتها ، وإلاّ لم تصحّ ولايته التي نالها بتفويض من تلك الخلافة ، ولم يتمّ له دعوى القيام بمطالبة دم الخليفة المقتول.

وإذا سلّم أنّ الخلافة لا تتمّ إلاّ ببيعة المهاجرين والأنصار دون عامّة المسلمين في مختلف الأقطار والأمصار ، فانّه لا يبقى له عذر في مقابلة أمير المؤمنين عليه السلام ، وعدم التسليم لخلافته التي تستمدّ شرعيتها من نفس منبع الشرعية التي استمدّت منه الخلافات الماضية.

وليس هذا احتجاجاً باصول يسلمها الإمام عليه السلام ، وقد مرّ آنفاً انّه لا يمكن التسليم لصحة هذه الدعوى ، وانّه لا وجه لاختصاص نظام الشورى بالمهاجرين والأنصار ، حتى لو فرضنا صحّة ما يقال من اختصاصه بأهل الحلّ والعقد ، مع انّه أيضاً بمعزل عن الصواب كما هو واضح.

ويتبيّن ذلك بوضوح من ملاحظة قوله عليه السلام لانّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان... أتراه يدّعي انّه لو قدّر له البقاء إلى عهد لم يبق فيه اولئك النفر فبايعه جميع الناس دونهم لكونهم موتى، فهل يرتاب أحد في شرعية هذه البيعة بحجة انّه لم يبايع فيه أحد من اولئك النفر ؟!

وهكذا يظهر بأبين من الشمس أنّ الاحتجاج على الخصم يبتني على اُصوله التي لا يستطيع انكارها وان لم تكن صحيحة عند المستدل .

ثمّ قال الكاتب ( ص 24 ) : « وقد كان الإمام علي عليه السلام ينظر إلى نفسه كإنسان عادي غير معصوم ، ويطالب الشيعة والمسلمين أن ينظروا إليه كذلك ، ويحتفظ لنا التاريخ برائعة من روائعه التي ينقلها الكليني في الكافي والتي يقول فيها : « إنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي ، إلاّ أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي » . [59]

لا شكّ في أنّ الإمام عليه السلام كغيره من المعصومين ليس في نفسه بفوق أن يخطئ، وهذا شأن كلّ انسان. وقد قال الله تعالى في شأن نبيّه سيّد المعصومين صلى اللّه عليه وآله وسلّم : (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَانَصِيرًا) [60]

فالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم في نفسه لا يملك عصمة، وليس معصوماً من هذا الذنب العظيم الذي ينافي رسالته وأمانته، وانّما عصمته مستمدّة من تثبيت الله تعالى له ، ونحن لا نعتقد عصمة للإمام ولا للرسول ولا لأيّ أحد من دون تثبيت الله تعالى له. وأين هذا من نفي العصمة رأساً وكونه انساناً عادياً كما يحاول اثباته الكاتب ؟!.

 



[1] راجع كتاب البيع للإمام الخميني قدس سره  ج2 ص 473 ، وقد عبّر عنه بالتوقيع المبارك المنسوب إلى إمام العصر عجل الله فرجه.

[2] هود : 113

[3]  آل عمران : 159

[4]  الشورى : 38.

[5]النساء: 65

[6]النساء: 64

[7] التوبة: 120

[8] الممتحنة: 12

[9] الاحزاب: 6

[10]الاحزاب: 36

[11]النور: 63

[12] هذه الجملة منقولة بصور مختلفة في مصادر كثيرة منها صحيح البخاري باب رجم الحبلى ج8 ص25 ومنها المصنف لابن ابي شيبة باب ما جاء في خلافة ابي بكر ج8 ص570 ومنها مسند احمد اول مسند عمر بن الخطاب ج1 ص55 وغير ذلك

[13] السقيفة وفدك للجوهري : 70 ، سيرة ابن هشام 4 : 335 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 47 ، الامامة والسياسة 1 : 16 ، الرياض النضرة 1 : 167.

 

[14]الطبن ــ بكسر الباء ــ الفطن.

[15] راجع بلاغات النساء لابن طيفور ص19 والسقيفة وفدك للجوهري ص 120 وشرح ابن ابي الحديد ج 16 ص233

[16] تاريخ الطبري ج1 ص399 راجع ايضا شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ج1 ص486 وتفسير البغوي ج3 ص400 وتاريخ ابن عساكر ج42 ص49 وتاريخ ابي الفدا ج1 ص117 وكنز العمال ج13 ص114 والكامل في التاريخ لابن الأثير ج2 ص63 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج13 ص211

[17] راجع جامع البيان ج19 ص149 في تفسير قوله تعالى (وانذر عشيرتك الاقربين)

[18] راجع تفسير ابن كثير ج3 ص364  وتاريخه ج3 ص53

[19] رواه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبيّ ، باب مناقب عليّ من صحيحه 5 : 89 ح 202 ، ورواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل عليّ 4 : 1870 ح 30 ـ 32 بعدّة طرق ، الترمذي في سننه 5 : 640 و641 ح 3730 و3731 ، ابن ماجه في سننه 1 : 42 ح 115 وص 45 ح 121 ، أحمد بن حنبل في مسنده 1 : 170 و 177 و 179 و 182 و 184 و185 وج 3 : 32 بعدّة طرق ،  صحيح ابن حبّان ج15 ص16 و369 و371 ، الحميدي في مسنده 1 : 38 ح 71 ، ابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث 2 : 389 ح 2680.

[20] روى هذا الحديث أحمد بن حنبل من أربعين طريقاً ، وابن جرير الطبري من نيف وسبعين طريقاً ، والجزري المقرىء من ثمانين طريقاً ، وأبو سعيد السجستاني من مائة وعشرين طريقاً ، والحافظ أبو بكر الجعابي من مائة وخمس وعشرين طريقاً ، والحافظ أبو العلاء العطّار الهمداني بمائتين وخمسين طريقاً.

ورواه الترمذي في سننه 5 : 633 ح 3713 وقال : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ، ابن ماجه في سننه 1 : 45 ح 121 ، الحاكم في المستدرك 3 : 109 و 134 و 371 و 533 بعدّة طرق ، البغوي في مصابيح السُنّة 4 : 172 ح 4767 ، أحمد بن حنبل في مسنده 1 : 84 و 119 و152 و331 ، وج4 : 368 و 370 و 372 و 381 ، وج5 : 347 و 358 و361 و 366 و 419 ، الدولابي في الذريّة الطاهرة : 168 ح 228 ، الشجري في أماليه 1 : 145 و 146 بعدّة طرق ، القاضي عياض في الشفاء 1 : 468 ، علاء الدين ابن بلبان في الإحسان بترتيب صحيح ابنحبّان 9 : 42 ح 6891 ، الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 5 : 474 ، وج 7 : 377 وج 8 : 290 و ج 12 : 344 وج 14 : 236 بعدّة طرق ، ابن عساكر في ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق 1 : 395 ـ 417 ، ح 457 ـ 491 ، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 : 17 و 104 ـ 108 و 120 و 164 بأكثر من ثمانية وعشرين طريقاً.

 

[21] الطبقات ج2 ص 254

[22] تاريخ ابن كثير ج11 ص146

[23]  تهذيب التهذيب ج7 ص 297

[24] السيرة الحلبية 3 : 283 ، سيرة أحمد زيني دحلان 3 : 3 ، تذكرة الخواص : 18 ، دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 542.

[25] الامتاع للمقريزي : 513 ـ 517.

[26] مسند أحمد : 4|281 ، فضائل أحمد : 111 ، 164 ، مصنّف ابن أبي شيبة : 12|78|1267 ، تاريخ بغداد : 8|290 ، البداية والنهاية : 5|210 ، مناقب الخوارزمي : 94 ، كفاية الطالب : 62 ، فرائد السمطين : 1|38 ، 71.

 

[27] مسند أحمد 5 : 498 ح 18815 ، خصائص أمير المؤمنين للنسائي : 113 ح 93 ، السنن الكبرى 5 : 134 ح 8478.

 

[28] المعجم الكبير : 12 | 99 ضمن ح 12593 ، البداية والنهاية : المجلّد 4 ج 7 | 345 ، مجمع الزوائد : 9 | 120 ، منحة المعبود : 2 | 178 ح 2652.

 

[29]  الارقام هنا تختلف عما ذكره الكاتب في الهامش وما ذكره خطأ.

[30] الكافي 1 : 236.

[31] تطور الفكر... ص20

[32] تطور الفكر ص20

[33] راجع الغدير 1 : 270. وانظر ايضا : مسند أحمد بن حنبل : 4|281 ، وذكره عن أحمد في كنز العمّال : 6|397 ، فضائل أحمد : 111 ، 164 ، مصنّف ابن أبي شيبة : 12|78|1267 ، تاريخ بغداد : 8|290 ، البداية والنهاية : 5|210 ، مناقب الخوارزمي : 94 ، كفاية الطالب : 62 ، فرائد السمطين : 1|38 ، 71. الرياض النضرة : 2|169 ، وسيلة المآل في عدّ مناقب الآل : 109 ( مخطوط ).

 

[34] تطور الفكر ص21 نقلا عن الشافي للمرتضى قدس سره ج3 ص242

[35] الشافي 3 : 240.

[36] شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 1 : 34 ( الخطبة الشقشقية)

[37]شرح نهج البلاغة 1 : 218 .

[38] تذكرة الخواص : 128 ، البحار 28 :233 .

[39] نهج البلاغة الخطبة: 6

[40] الإمامة والسياسة 1 : 22 ، كنز العمال 5 : 588 ح 14046 ، تاريخ الطبري 3 : 210 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 1 : 169.

 

[41]الشافي ج3 ص110

[42] هذا وقد بحثت عن هذه الجملة او ما يشابهها بالطرق الحديثة في مختلف البرامج الالكترونية فلم اجد شيئا والظاهر أنه من نسج الخيال ومن ملفقات الكاتب

[43] نهج البلاغة الخطبة 74

[44] تطور الفكر ص22

[45]الشافي ج2 ص67

[46] وهو حديث يوم الدار ، انظر تاريخ الطبري ج2 ص 321 .

[47]الشافي ج2 ص65 ــ 68

[48]الشافي 2 : 97 ـ 98 .

[49]تطور الفكر ص22

[50]شرح النهج ج1 ص 131 ، وج 3 ص 5 ، البحار ج 28 ص 313 .

[51] راجع البحار ج 28 ص 189 و 208 .


[52]تطور الفكر ص23

[53]راجع الكامل في التاريخ لابن اثير  ج 3 ص 24

[54]للحديث مصادر كثيرة تكتفي بذكر واحد منها ، راجع صحيح البخاري 1 : 37 ، باب كتابة العلم

[55] راجع شرح النهج لابن ابي الحديد ج 2 ص 114 .

 

[56]فدك في التاريخ : 106 ـ 112

[57]تطور الفكر.. ص23

[58]كتاب سليم بن قيس ص292 ورواه عنه في البحار ج33 ص143

[59]الكافي ج8 ص292

[60]الاسراء : 74 ـ 75