مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة الاحقاف مكية تشتمل على اثبات الوحدانية والربوبية المطلقة للكون واثبات المعاد والرسالة وأن القرآن هو الكتاب المنزل من عند الله تعالى والاشارة الى بعض ما جرى على الامم السالفة وورد في نهايتها قصة ايمان الجن بالقرآن وبالرسالة.

حم... مرّ الكلام حول الحروف المقطّعة في تفسير سورة يس.

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ... مرّ تفسيرها في بداية سورة الجاثية.

مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ... الآية تستدل على لزوم حشر الناس يوم القيامة. والظاهر أن المراد بالسماوات هنا الاجرام الفلكية التي نراها فوقنا وبالارض الكرة الارضية واضافة (ما بينهما) لكي يشمل التعبير كل الكون المشهود اي عالم الطبيعة وقد ذكرنا مرارا أن السماوات قد يراد بها في القرآن العوالم العلوية التي ترتبط بها الملائكة الكرام الا أن قوله تعالى (واجل مسمى) يقتضي أن لا يراد بالسماوات عالم الملائكة هنا وان احتمل ان يكون للسماوات بمعنى ماوراء الطبيعة اجل ايضا كما ربما يفهم من قوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ..)[1] الا أنه لا علاقة له بهذا الاستدلال فانه يبتني على فناء الحياة الدنيا وزوال النظام الكوني في عالم الطبيعةكما سيتبين ان شاء الله تعالى.

والباء في قوله تعالى (بالحق) للملابسة اي ما خلقنا الكون الا خلقا على اساس الحق وهو كونه لغاية وهدف وهذا الامر مع توصيفه تعالى في الآية السابقة بالعزيز الحكيم يقتضي لزوم تعقب هذه الحياة بحياة أخرى ينال فيها الانسان جزاء أعماله الصالحة والفاسدة ويوضع موضعه اللائق به فان هذا هو مقتضى العدل والحكمة، والنظام الكوني يدل على أن الكون مبتن عليهما وأن خالقه عزيز حكيم لا يعمل الا بمقتضى الحكمة وهو العزيز والغالب المطلق الذي لا يمنعه شيء من تحقق ما يريد.

واذا لاحظنا الكون نجد أن كل شيء في موضعه الذي ينبغي ان يكون الا هذا الانسان فانا نجد أن كثيرا من البشر يستحقون أشدّ العذاب ومع ذلك فهم يعيشون في رفاهية ونعمة وسعة من العيش ونجد كثيرا ممّن يستحقون التبجيل والاحترام لا يُعرف قدرهم ولا يُكرمون بل يقضون حياتهم في بؤس وعناء بل نجد المجتمع البشري يقلب الموازين طيلة القرون ويكرم ويعظم الظلمة والاشرار أكثر من إكرام الانبياء والمصلحين فضلا عما لاقوه في حياتهم من ظلم وتشريد وقتل فلا بدّ لتحقق الحكمة من خلق الانسان الذي سخّر الله له هذا الكون أن يعود الى عالم آخر يوضع فيه كل انسان موضعه ويرى كل احد نتيجة أعماله.

وَأَجَلٍ مُسَمًّى... عطف على الحق اي ما خلقنا السماوات والارض وما بينهما الا بأجل مسمى اي ملابسا للاجل. والمسمّى اي المعيّن. والأجل المدة المضروبة والغاية المحدَّدة للشيء ولعله بتقدير كلمة (بتقدير) ونحوه لان الذي يلابس الخلق ليس هو الاجل نفسه بل تقديره وتحديده. وكون الخلق ملابسا لتقدير الاجل بمعنى انه من بدو الخلق كان مؤجلا ومحدودا لحد معين من الزمان والمراد به الاجل الطبيعي لهذا النظام الكوني. ولعل القصد من ذكر الاجل المسمى الاشارة الى أنّ هذا النظام وهذه الحياة فانيان لا محالة وهو مقدّر من بدو الخلق بمعنى أنّ خلق هذا النظام يلازم الفناء فلم يخلق الله الطبيعة بحيث تبقى الى الابد فلا يمكن أن تتحقق الحكمة والعدالة في هذه الحياة وفي هذه المرحلة من الكون وهنا يستنتج أنه لا بد من حياة اخرى وعالم آخر ومرحلة اخرى من التكوين لتتحقق فيها العدالة التي تقتضيه الحكمة الالهية.

وقيل: ان المراد بالاجل المسمى يوم القيامة ونسب الى ابن عباس وتبعه المفسرون فان اريد به يوم النفخة الاولى او فناء الكون فهو صحيح الا ان التعبير عنه بيوم القيامة غير دقيق ويوهم أن المراد يوم النفخة الثانية وإحياء الناس وقيام نظام جديد وهو غير مراد في الآية قطعا كما يلاحظ من التعبير بالاجل الذي هو نهاية مدة بقاء هذا النظام ولأنّ الآية بصدد الاستدلال على لزوم تحقق يوم القيامة فكيف يكون هو بنفسه جزءا من الاستدلال؟!

وقيل: إنّ المراد به آجال البشر فلكل أحد أجله المسمى وهو أقرب الى الحقيقة من التعبير بيوم القيامة بمعنى أن موت الانسان يمكن ان يكون جزءا من الاستدلال فانه لو كان مخلّدا في هذه الحياة أمكن أن يأتي الله تعالى بيوم ينال كل انسان جزاءه في الدنيا ولكن حيث انه يموت من دون أن ينال جزاء اعماله خيرا او شرا فلا بدّ من حياة اخرى وعالم آخر. 

وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ... اي بالرغم من أن الكتاب منزل من عند الله العزيز الحكيم ومنذر لما يأتي بعد أجل السماوات والارض وبالرغم من أن الكون مليء بالآيات الدالة على أنه مخلوق بالحق وأجل مسمى (مع ذلك كله) تجد الذين كفروا ــ بوجه عام او خصوص مشركي مكة والجزيرة العربية لان الخطاب موجه اليهم ــ معرضين عن ما أنذروا به وهو الخطر المحدق بهم والمراد به يوم القيامة فتكون (ما) موصولة. ويمكن أن تكون مصدرية اي تجدهم معرضين عن نفس الانذار والآيات المتضمنة له. والسياق يفيد التعجيب من حالهم.

والاعراض بمعنى صرف الوجه فالمراد أنهم يصرفون وجوههم حتى لا يواجهوا الحقيقة فانهم لا يريدون أن يسمعوا ما لا يعجبهم وان كان حقا. وهكذا الانسان في جميع شؤونه فانه اذا حُذِّر عن عاقبة فعله حتى لو كان التحذير لامر دنيوي محسوس وحتى لو كان الامر خطيرا يتعلق بالموت والحياة ولكنه لا يوافق ميوله فهو لا يحب أن يسمع فضلا عن التدبر والتفكر وفضلا عن الانتهاء عن فعله كما نجده من المدمنين للتدخين او استعمال المخدرات او الكحول او نحو ذلك مما يتعاطاه اهل الاهواء والشهوات.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ... المعروف بين المفسرين أن قوله (أرأيتم) بمعنى أروني وأخبروني، وأن قوله (أروني) بعد ذلك تأكيد له. ولكن الظاهر أن قوله تعالى (أرأيتم ما تدعون..) اي انظروا الى ما تدعون من دون الله اي الاصنام وغيرها فهو توطئة للجملة التالية والمراد بقوله (ما يدعون من دون الله) ما يعتقد بعض البشر أنهم يؤثرون في الكون تأثيرا فاعليا غيبيا بالاستقلال فيدعونهم بدلا عن الله كما كان المشركون المخاطبون يعتقدون ذلك في الملائكة او في الاصنام لانها تمثل الملائكة وكما يُعتقد ذلك في بعض الانبياء والاولياء. و(تدعون) بمعنى أنكم تطلبون منهم حاجاتكم وتظنون انهم يغنون عنكم من الله شيئا. ودعاؤهم من دون الله بمعنى أنهم لا يدعون الله ويدعون هذه الاصنام وغيرها بدلا منه.

وعليه فكل من يعتقد أن لشيء مّا تأثيرا فاعليا غيبيا في الكون بدلا عن الله تعالى بمعنى أنه لا يستند في فعله وتأثيره الى ارادته تعالى فهو يدعو أحدا من دونه تعالى وهو مخاطب بهذا الخطاب.

أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ... هذه الجملة تفنّد ربوبية غيره تعالى فان الربوبية لا تنفك عن الخلق لان التأمل في نظام الكون يقضي بأن الرب المدبر له هو الخالق الذي وضع كل شيء موضعه وهيّأ لكل شيء ما يحتاج اليه في ذاته وفي ما حوله وهو الذي أنشأ هذا النظام المتناسق والمتكامل بحيث يكمل كل جزء منه سائر الاجزاء فالسؤال أن ما تعتبرونهم أربابا هل خلقوا من الارض شيئا ليكونوا ربه وما الذي خلقوه؟ ومن الطبيعي أن الجواب هو النفي. فهذا مجرد تنبيه لما غفلوا عنه حيث اعتبروا من لا دور له في الخلق ربّا مؤثرا في الكون توهما منهم أن الرب ليس هو الخالق وان هناك من يؤثر في الكون تأثيرا مباشرا ومستقلا غير الخالق الحكيم جل شأنه.

أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ... (أم) منقطعة ففيها معنى الاضراب عن السؤال الاول وهو الخلق في الارض واستفهام أمر آخر وهو اشتراكهم في شيء من تدبير السماء. ومن الواضح أن الاصنام وغيرها لا تؤثر شيئا في السماوات ولم يكن المشركون يعتقدون ذلك فالاستفهام للتقرير اي أخذ الاقرار منهم ولكي ينتبهوا الى أن الكون واحد متناسق فخالق السماوات ومدبّرها هو خالق الارض ومدبّرها ايضا اذ لايمكن أن تنفصل ادارة الارض عن ادارة السماء فاذا اقررتم بان الارباب المزعومين لا دخل لهم ولا تأثير في السماوات فهو ملازم لنفي تأثيرهم في الارض ايضا. وانما أتى بضمير ذوي العقول مع أن المراد به الاصنام لان اسناد التدبير والربوبية اليها يستلزم ذلك فهو نوع من التهكم.

ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ... لعل الغرض انكم حيث لا يمكنكم الاتيان بشواهد خارجية تدل على تأثير الاصنام في الكون فأتوني بدليل نقلي من كتب السماء يدل على ربوبية الاصنام أوغيرها وهذا على غرار ما مر من الاستدلال على ربوبية الله تعالى بالكتاب المنزل من عنده وبآيات التكوين التي ملأت الكون. والاشارة في قوله (من قبل هذا) الى القرآن الكريم. والأثارة والأثر ما يبقى من الشيء فالمراد ما بقي لديكم من علوم الاولين وهو عطف على الكتاب اي ائتوني بمستند سماوي أو علم بشري يدل على ربوبية غير الله تعالى.

وقوله (ان كنتم صادقين) شرط جزاؤه محذوف يدل عليه الطلب السابق اي ان كنتم صادقين في دعواكم فائتوني بكتاب او اثارة.

وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ... استفهام انكاري اي ليس هناك أضل من هؤلاء الذين يدعون غير الله بدلا عن الله بمعنى أنهم يعتبرونهم آلهة وأربابا يؤثرون في الكون استقلالا مع أن الاصنام التي يدعونها لا يستجيبون لهم ولا يردون عليهم بل لا يسمعون دعاءهم كما قال تعالى (إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).[2]

وقوله (الى يوم القيامة) يمكن ان يكون كناية عن التأبيد كقوله تعالى (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)[3] ويمكن أن يكون بمعناه الظاهر ولكن ليس له مفهوم فليس معناه أنهم يستجيبون لهم يوم القيامة بل معناه أن حالهم مع هؤلاء يوم القيامة يختلف عن حالهم في الدنيا وذلك لانهم يوم القيامة يكونون لهم أعداء ويكفرون بعبادتهم وشركهم كما مر في الآية المذكورة وسيأتي في الآية التالية.

وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ... هذا بمعنى قوله تعالى (لا يسمعوا دعاءكم) ولكنه عبر هنا بالغفلة مع أن الاصنام جماد لا توصف بالغفلة فهو اما من جهة انهم يسندون اليها ما لا يسند الا الى عاقل ففيه نوع من التهكم والاستهزاء واما باعتبار أن الجمادات ايضا لها نوع من الشعور عند الله تعالى وفي ذلك شواهد كثيرة في الكتاب العزيز كقوله تعالى (قالتا أتينا طائعين) فاسناد الغفلة الى الأصنام من جهة أنها لا تشعر بأن هذا الدعاء موجه اليها لانها تعلم انها غير قادرة على شيء فلا تصدّق ذلك.

وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً... الضمير في قوله (لهم) لا يرجع الى الناس بل الى المشركين خاصة اي ان الأصنام التي يتخذونها آلهة تعاديهم يوم يحشر الناس جميعا. والاعداء جمع عدو وهو مشتق من العدو أي التجاوز. وكل من يتجاوز الحد الطبيعي في المنافرة فهو عدو وقد لا يكون عداؤه عن قصد كما قال تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ..)[4] فانه تعالى لا يحذّر ممن يعادي علنا من الازواج والاولاد بل المراد من لا يظهر منه عداوة ولا يقصدها ايضا بل ربما يقصد الخير ولكنه يجرّ الانسان الى ما لا يرضى الله تعالى به والانسان ينجرّ وراءه حبا لولده وزوجته ويقع في المفسدة والبلاء من حيث لا يدري. ومن هذا القبيل عداوة الاصنام للمشركين وهي تعاديهم في هذه الدنيا ايضا لانها كسائر المخلوقات مؤتمرة بأوامر الله تعالى مطيعة له بخلاف المشركين المتآمرين على ربهم ولكن هذا العداء لا يظهر الا يوم القيامة حيث تبرز الحقائق الكامنة علانية.

وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ... الكفر بمعنى الانكار فالمراد أن الاصنام تنكر عبادة المشركين لها واقعا كما قال تعالى (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) وليس ذلك كذبا منها لان المشركين يعلمون حين عبادتهم أن الاصنام لا تسمع شيئا ولا تعمل عملا فهم لا يدعونها ولا يعبدونها بجدّ وانما يدعونها تثبيتا لما يجمعهم وتجتمع عليه أحزابهم من العقيدة الفاسدة التي تبنّـوها كذبا وزورا كما قال تعالى في حكاية قول سيدنا ابراهيم عليه السلام (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..).[5] اي من أجل ابقاء المودة وترسيخها بين الاتباع وهكذا كل دعاة الباطل وأتباع المذاهب الفاسدة الواضحة الفساد. وهذه الآية تحاول أن تنبههم الى ما يغفلون او يتغافلون عنه.

 


[1] الزمر: 68

[2] فاطر: 14

[3] هود: 107- 108

[4] التغابن: 14

[5] العنكبوت: 25<