مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

 

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ... المراد بالآيات القرآن الكريم و(بينات) حال لها اي تتلى عليهم الآيات حال كونها بينة واضحة بمعنى أنهم يعلمون أنها آيات نزلت من عند الله تعالى وأنها ليست من انشاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا يمكن أن يكون هو المنشئ لها فهم يعلمون ذلك بمقتضى خبرتهم ومعرفتهم بخصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسوابقه وصدقه وبعده عن الشعر والكلام المسجع وكونه اميا لا يقرأ ولا يكتب وأن مثل هذا البيان لا يمكن أن يصدر منه ولا من غيره من البشر ولذلك لم يذكر بعد ذلك ضميرا يعود الى الآيات بل أبدله بكلمة (الحق) للاشارة الى أنهم علموا أنه الحق ومع ذلك قالوا فيه انه سحر واضح وهم بذلك يعترفون بتأثيره العجيب واخضاعه لمن يسمعه ولكنهم يأبون من الاعتراف بأنه حق بالرغم من احساسهم بذلك فيعللون تأثيره بالسحر.

ومثله التعبير بالذين كفروا بدلا عن الضمير للتأكيد على كفرهم وعنادهم. وقوله (لمّا جاءهم) لعله للتأكيد على أنهم بمجرد سماعه حكموا عليه بذلك من دون تردد وتروٍّ مكابرةً منهم وعنادا. واللام في (للحق) ليس لتعدية القول اذ ليس هذا خطابا للحق بل للتعليل اي من أجل الحق باعتبار أنه كلام حوله وتعبير عنه وتوصيف في شأنه.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ... (أم) منقطعة ففيها معنى الاضراب والاستفهام والاضراب الذي تتضمنه بمعنى أنهم لم يكتفوا بالقول بأنه سحر بل اتهموا الرسول صلى الله عليه وأله وسلم بأنه افتراه. والاستفهام للانكار.

قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا... المتداول في التفاسير أنّ المراد بهذا الجواب أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لو كان مفتريا لعاقبه الله تعالى ومنعه وهو قادر على كل شيء. فجزاء الشرط في الواقع ليس هو الجملة الواردة في الآية بل هذه تتمة الجزاء والجزاء المقدر (فهو قادر على أن يمنعني ولا تتمكنون من منعه لأنّـكم لا تملكون لي من الله شيئا) والملك في الاصل يدل على قوة في الشيء وصحّة على ما في معجم المقاييس والمراد به هنا القدرة اي لا تقدرون على منعه تعالى من اي ضرر يريد ايقاعه عليّ.

وفيما ذكروه ملاحظتان:

الاولى: أنه ليس للمخاطبين خصوصية في الدفاع عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم اذا أراد الله به شرا فلماذا يخاطبهم بقوله (فلا تملكون لي..) بل لا يتوقع منهم أن يدفعوا عنه حتى لو تمكنوا من فعل شيء.

وقد انتبه المفسرون لورود هذا الاشكال عليهم فقال بعضهم في الشرح (لا تقدرون انتم ولا غيركم..) ومردّ ذلك الى أن توجيه الخطاب اليهم من باب أنهم من الخلق وكل الخلق ليست لهم القدرة. ولكن من الواضح أن هذا التوجيه لا يحلّ الاشكال ولا يبرر مخاطبتهم بذلك مما تظهر منه الخصوصية.

وقال أكثرهم في الشرح (والمراد كيف أفتري على الله من أجلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عقابه عني ان افتريت عليه؟!) كما في مجمع البيان وغيره فأضافوا قولهم (من أجلكم) ليكون مبررا لتوجيه الخطاب الى المشركين كأنّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم يقول لهم (إنّي لو افتريت فقد افتريته من أجلكم مع أنكم لا تقدرون على مساعدتي ان عاقبني الله على افترائي وهو لا شك يعاقب على ذلك فلا موجب لهذا الافتراء) ومن الواضح أنه أبعد من الصواب من الوجه الاول اذ لا وجه لكون الافتراء من اجلهم الا أنه لمصلحتهم في الآخرة والمفروض أنه افتراء فأي مصلحة لهم فيه؟! بل ليس لهم فيه حسب دعواهم الا الضرر.

الملاحظة الثانية: أن هذا الجواب يشبه قول المشركين كما قال تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ..)[1] وقال ايضا (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)[2] وغير ذلك وحاصله أن الله تعالى قادر على منعهم من الشرك ونحوه وحيث لم يمنعهم يكشف ذلك عن رضاه بعملهم وقد ردّ عليهم القرآن كما في الآية الثانية بأنهم ليس لهم علم برضاه تعالى وعدم التعجيل في المؤاخذة لا يدل على الرضا. ونفس هذا الجواب يأتي هنا ايضا.

وتمسك بعضهم في تفسير هذه الآية بقوله تعالى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ).[3] حيث استظهروا من الآيات أنها ايضا بصدد الاستدلال على كون القرآن حقا بأنه تعالى يعاقبه أشدّ العقاب لو تقوّل على الله بشيء.

وهذا الكلام غير صحيح فما أكثر من ادّعى النبوّة كذبا وافتراءا، وما أكثر من نسبوا الى الله تعالى ما لم يقله من دعاة الدين والملوك والفراعنة وغيرهم، وفي القرآن الكريم نسب الافتراء الى المشركين وأهل الكتاب، مع أنه تعالى لم ينزّل عليهم عذابا من السماء، ولا منعهم من الافتراء عليه تكوينا. وستأتي تتمة الكلام في تفسيرها ان شاء الله تعالى.

والظاهر أن المراد من الآية المباركة ليس هو الجواب عن اتهامهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بالافتراء بل هو إعلام لمقاطعتهم لأنهم لا يكذّبونه جهلا بمقامه بل هم يعلمون بوضوح أنه صادق في دعواه وأنه لم يقل كذبا طيلة حياته وقد لبث فيهم عمرا من قبله وانما يتهمونه بالكذب والافتراء عنادا ومكابرة فهم لا يستحقون الجواب ومعنى هذه الجملة أنه اذا افترى على الله تعالى ــ وحاشاه ــ فان الله هو الذي يجازيه في الآخرة وليس لهم دور في الموضوع ولا عليهم مسؤولية ومثله قوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)[4] وقوله تعالى (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)[5] ويشهد لهذا التفسير الجملات التالية واما على ما ذكره المفسرون فلا علاقة لهذه الجملة بما يليها.

هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ... الافاضة في الحديث هو الخوض والاندفاع فيه والاشتغال به عن غيره. وحديث مستفاض اي ذائع ومنتشر بكثرة، استعير من افاضة الماء اي اسالته بكثرة. ويتبين منه أن القوم كانوا يصرون على نشر اتهامه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بالكذب والافتراء وهكذا شأن الطغاة اذا واجهوا الحق فانهم يسعون بمبالغة في التكذيب والتنقيص حتى لا يبقى له اي تأثير في المجتمع. وفي هذا الخطاب تهديد لهم بأن الله تعالى هو محاسبهم على ذلك. ويتبين بوضوح أنها لا تناسب التفسير المعروف وانما تناسب ما ذكرناه من أن الجملة تدل على المقاطعة وإيكال أمرهم الى الله تعالى.

كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ... الشهيد بمعنى الشاهد اي كفى به شاهدا على ما يقع بيني وبينكم من الخصومة والاحتجاج حيث انه أعلم بما يقولون وأعلم بنياتهم وبدوافعهم وهو القادر على مجازاتهم وهو الحكم العدل فتكفيني شهادته. وهذه الجملة ايضا تهديد وتحذير.

وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ... لعل هذه الجملة لاكمال التهديد بما قبلها حيث انه ربما يتوهم المشركون انه حيث هو الأعلم بما نخوض فيه وهو الشهيد بيننا وبينك فلم لا يعذبنا بذنوبنا فأكمله بقوله (وهو الغفور الرحيم) اي لا يغرنكم تأخير العقوبة لعنادكم وكفركم فانه تعالى غفور رحيم يمهلكم لعلكم ترجعون، ويمكن أن تكون لدفع اليأس عنهم وترغيبهم على التوبة والرجوع.  

قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ... البدع صفة مشبهة من الابداع اي ايجاد الشيء من غير مثال. والبدع يطلق على الفاعل والمفعول وهنا يحتمل المعنيين فعلى اسم الفاعل معناه اني لست مبدِعا ولم آت بطريقة جديدة في الرسالة فانا كباقي الرسل من حيث اني ابلغ ما ارسلت به. وعلى المفعول اي مبدَعا معناه ان الله تعالى لم يرسلني بكيفية مبدَعة اي جديدة بل كما ارسل سائر الرسل.

والحاصل ان لله تعالى سنة في ارسال الرسل وبعثهم حيث يبعث معهم الآيات ويأمرهم بالابلاغ وأنا ايضا كما سبقني من الرسل أحذو حذوهم وليس معناه انه لم يأت بشريعة جديدة وانه يتبع الشرائع السابقة بل المراد ان سبيله في الابلاغ سبيل الرسل السابقين.

والظاهر أن الآية في سياق الردّ عليهم باتّهامه بالسحر او الافتراء باعتبار أنه لم يأت بأمر غريب وانما هو رسول كسائر الرسل، ويمكن ان يكون ردا لبعض طلباتهم حيث كانوا يطلبون منه صلى اللّه عليه وآله وسلّم ان يأتي بمعجزات خاصة كما ورد في سورة الاسراء (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا).

وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ... قوله تعالى (ولا بكم) اي ولا أدري ما يفعل بكم، فحذف بعض الكلام لدلالة الجملة السابقة عليه. والجملة تؤكّد المضمون السابق وهو أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم ليس الا رسولا كسائر الرسل وأنه لا يدّعي أمرا وراء ذلك ليكون مستغربا. ونظير ذلك قوله تعالى (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ..)[6] وقوله تعالى (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[7] وقوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ..)[8] وفي حكاية كلام نوح عليه السلام (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ..)[9] وغير ذلك مما يدل على أن الانبياء كانوا ينفون عن أنفسهم أنهم فوق البشر لئلا يتوقع الناس منهم معاجز غير ما اعطاهم الله تعالى.  

وهناك إشكال يخطر في الأذهان في الآية الكريمة من جهة نفي علمه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بما يؤول اليه أمره مع أنه لا شك في أنه شافع مشفع يوم القيامة. ويمكن أن يجاب عنه بأنّ المراد نفي علمه بالغيب في مستقبل الحياة الدنيوية وفي نفس الوقت إظهار للعجز أمام ارادة الله تعالى وأن التقدير بيده يفعل بي وبكم ما يشاء أما في الآخرة فهو يعلم أن الله تعالى يدخله الجنة نعم يمكن ان ينفي العلم بتفاصيل ما يحدث وان كان بعيدا ايضا للروايات المتواترة اجمالا التي تشتمل على تفاصيل ما يحدث في مختلف مواقف يوم القيامة.

وفي روايات العامة ما يدل على نفي علمه صلى الله عليه وآله وسلم بما يؤول اليه امره في الآخرة ففي صحيح البخاري بسنده عن خارجة بن زيد (أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ ــ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ــ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا).[10] ورواه في الدر المنثور عن احمد والنسائي وابن مردويه ايضا ورواه بوجوه اخر عن غيرهم.

ونسب بعضهم الى ابن عباس القول بان الآية منسوخة بقوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ..).[11] ولكن لا معنى للنسخ هنا فهذا ليس حكما شرعيا وانما هو اخبار عن حقيقة قائمة لا تتبدل الا اذا اريد بالنسخ انه صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يعلم ان الله تعالى غفر له ذنبه وانه يدخله الجنة الا بعد نزول سورة الفتح وهي من أواخر السور وهذا بعيد جدا ومخالف للروايات المتواترة التي مرت الاشارة اليها خصوصا على روايات القوم حيث رووا بشارة العشرة بالجنة واعتمدوها. فالصحيح ان المراد عدم العلم بما يحدث في المستقبل من حوادث الدنيا.

ويمكن ان يقال انها ايضا كانت معلومة له صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي فهو كان عالما بانه سينتصر على المشركين مثلا بل أخبر بحوادث كثيرة تحدث بعده وقد جمعت الأحاديث الغيبية في كتاب بهذا الاسم وقد وقع كثير مما ورد فيها. ولكن لا يبعد القول هنا بعدم العلم بالتفاصيل ايضا كما قال تعالى (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[12] فممّا لا شك فيه بمقتضى الآيات أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يعلم الغيب بذاته واذا أَخبر بالغيب فانما هو وحي اُنزل عليه او اُخبر به بوجه آخر لا نعلمه.

والله تعالى لا يخبره عن كل الغيب فانّ ذلك ليس من صالحه ولا من صالح الامّة قال تعالى (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ...)[13] وقال ايضا (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ)[14] وهناك فرق بين المعرفة بالسيماء والهيئة والمعرفة بلحن القول. ويتبين من الآيتين وغيرهما انه صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يعرف كل المنافقين والاعداء او انه يعرف بعضهم بلحن القول مما لا يوجب علما قطعيا.

والحاصل ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك الأئمة عليهم السلام انما يعلمون بعض الغيب باذنه تعالى كما هو الحال في سائر الانبياء عليهم السلام فهناك آيات تدل على إخبارهم بالغيب كقول عيسى عليه السلام (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ..)[15] وهناك آيات تنفي علم الغيب عنهم كقوله تعالى نقلا عن سيدنا نوح عليه السلام (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ..)[16] فالجمع بين الآيات يقتضي أنهم عليهم السلام ما كانوا يعلمون الغيب بأنفسهم وانما كانوا يعلمون بالوحي من الله تعالى كما ان قدرة الانبياء على الاعجاز ايضا ليست منهم وانما هو باذنه تعالى كما قال خطابا لعيسى عليه السلام (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي..).[17] والامر لا يختص بعلم الغيب ولا بالمعجزات فكل ما يحدث في الكون لا يتم الا باذنه تعالى وانما يقال ذلك بالنسبة لعلم الغيب والاعجاز لدفع توهم أنهم عليهم السلام لهم قدرة ذاتية على معرفة الغيب وفعل المعجزات.

وبذلك يندفع الاشكال على الانبياء والأئمة عليهم السلام أنهم كيف كانوا يعملون ما يتضررون به لو كانوا يعلمون الغيب كشرب الامام السم وتعرض بعضهم للقتل او المرض؟! ومن الغريب ما قال بعضهم تأييدا لما ورد من الحديث (ما منّا الا شهيد او مسموم) أن النبي والامام لا يمكن ان يموت بمرض لأنه يعلم بكل شيء يضره فلا يرتكبه فلم يبق طريق لموتهم عليهم السلام الا القتل. وهذا باطل قطعا لانهم كثيرا ما كانوا يمرضون ويتعالجون وربما يطول بهم المرض وهذا وارد في روايات كثيرة.

وورد في بعض الاحاديث اشارة الى ما ذكرناه من الوجه فقد روى الكليني قدس سره بسنده عن الحسن بن الجهم قال: (قلت للرضا عليه السلام: إن أمير المؤمنين عليه السلام قد عرف قاتله والليلة التي يقتل فيها والموضع الذي قتل فيه وقوله لما سمع صياح الاوز في الدار: صوائح تتبعها نوائح، وقول ام كلثوم: لو صليت الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلي بالناس، فأبى عليها وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح وقد عرف عليه السلام أن ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف، كان هذا مما لم يجز تعرضه، فقال: ذلك كان ولكنه خيّر في تلك الليلة، لتمضي مقادير الله عزوجل).[18]

وقوله عليه السلام (خيّر في تلك الليلة) قرئ بالحاء المهملة فيكون المعنى أنه ابهم عليه الوقت في تلك الليلة فكان يعلم عليه السلام ان استشهاده في تلك الليلة ولكن لا يعلم الوقت بدقة وهذا هو ما ذكرناه. وأما بناء على نسخة الخاء فمعناه أنه خيّر بين لقاء الله والشهادة فاختار الشهادة ولكن هذا الامر يدفع عنه عليه السلام اشكال عدم التعرض لقاتله بمعنى أنه لم يجب عليه شرعا التعرض له لحفظ نفسه ولكن يبقى الاشكال في أنه بناء عليه يكون هو عليه السلام قد شارك في قتل نفسه ولكن لم يكن محرما عليه وهو بعيد جدا خصوصا في مثل شرب الامام الحسن عليه السلام للسم الذي دفعته اليه زوجته فيكون قد أقدم على قتل نفسه ولكنه كان مخيرا شرعا فلا يبقى وجه لكل ما يقال من كونه مظلوما ومسموما.

هذا مضافا الى أن الوارد في الحديث تعليل التخيير بمضي مقادير الله عز وجل وهذا التعليل لا يناسب التخيير اذ كان بامكانه عليه السلام اختيار البقاء وانما يناسب ابهام الوقت عليه لئلا يدافع عن نفسه فتقضي مقادير الله تعالى. وبذلك يتبين أن الصحيح هو القراءة بالحاء المهملة. ومهما كان فسند الرواية ضعيف.

وللعلامة الطباطبائي قدس سره بحث فلسفي في تفسير الميزان حول هذا الامر وحاصله أن العلم الغيبي في هذه الموارد يتعلق بالحادث بعلله المستوجبة لتحققه في الخارج بالضرورة فلا يمكن ان لا يتحقق وليس كالعلم المتعلق بالسبب فقط المؤثر في الارادة بحيث يتمكن العالم من ترك الفعل فهذا العلم هو جزء من العلة التامة للحادث فالامام عليه السلام كان يعلم ان ابن ملجم رافع سيفه وانه سيضربه وانه سيُقتل بهذه الضربة فالعلم متعلق بالمجموع وليس كالعلم المتعلق بنفس رفع السيف فقط فيؤثر في ارادته ويمكنه المنع ليجب عليه الدفاع عن نفسه. ولا يمكن ان يقع هذا العلم في سلسلة العلل لان المفروض تحقق العلة التامة والعلم الغيبي متعلق بمجموع السلسلة.

ثم قال (فمثله كمثل أهل الجحود والعناد من الكفار يستيقنون بأن مصيرهم مع الجحود إلى النار ومع ذلك يصرّون على جحودهم لحكم هواهم بوجوب الجحود وهذا منهم هو العلم العادي بوجوب الفعل قال تعالى في قصة آل فرعون: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ[19] وبهذا يندفع ما يمكن أن يقال: لا يتصور علم يقيني بالخلاف مع عدم تأثيره في الإرادة فليكشف عدم تأثيره في الإرادة عن عدم تحقق علم على هذا الوصف. وجه الاندفاع: أن مجرد تحقق العلم بالخلاف لا يستوجب تحقق الإرادة مستندة إليه وإنما هو العلم الذي يتعلق بوجوب الفعل مع التزام النفس به كما مر في جحود أهل الجحود وإنكارهم الحق مع يقينهم به. ومثله الفعل بالعناية فإن سقوط الواقف على جذع عال، منه على الأرض بمجرد تصور السقوط لا يمنع عنه علمه بأن في السقوط هلاكه القطعي).

ومعنى ذلك أن الامام عليه السلام كان يعلم ان ابن ملجم خلفه وهو رافع سيفه ولكن علمه لا يتعلق به فحسب فليس كعلم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأن اللحم مسموم مثلا حيث تركه ولم يأكله بل الامام كان يعلم انه سيقتله بهذه الضربة ولا يمكنه الدفاع لأن هذا العلم الغيبي لا يمكن أن يؤثر في إرادته ليقوم بالدفاع عن نفسه يقول العلامة لأن العلم الذي يحقق الارادة هو ما يتعلق بوجوب الفعل مع التزام النفس به وهنا لا يتحقق الالتزام كما لم يتحقق في الذين جحدوا بالرسالة مع تيقنهم بانها حق وان الجحود موجب لهلاكهم.

ولكن يبقى السؤال في ما هو الموجب لعدم التزام النفس فان عدم التزام الجاحدين بمقتضى علمهم انما كان متابعة الهوى فما هو الموجب هنا؟ هل هو التخيير من الله تعالى كما ورد في رواية الكافي السابقة على احدى النسخ فيكون الامام عليه السلام قد آثر لقاء الله تعالى على البقاء والمفروض جواز تعرضه للموت بوجه خاص؟ فان كان هذا هو السبب فيكون ذلك انتحارا جائزا شرعا وهو أمر مستغرب جدا.

ولا يقاس ذلك بالتخيير الذي ورد في مقتل الحسين عليه السلام فقد روى الكليني بسنده عن عبدالملك بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال: (أنزل الله تعالى النصر على الحسين عليه السلام حتى كان [ما] بين السماء والارض ثم خيّر: النصر، أو لقاء الله، فاختار لقاء الله تعالى).[20] فانه عليه السلام كان يجاهد القوم وانما خيّر بالنصر بالملائكة على فرض صحة الحديث وليس كالتخيير بين الدفاع عن النفس والتسليم للقتل واوضح منه شرب السم كما في قضية الامام الحسن عليه السلام.

ومن جهة اخرى هذا التخيير لا يوجب عدم إمكان تأثيره في الارادة كما ذكره العلامة أولا وانما يوجب اختياره قال رحمه الله (فلو فرض حصول علم بحقائق الحوادث على ما هي عليها في متن الواقع لم يؤثر ذلك في إخراج حادث منها وإن كان اختياريا عن ساحة الوجوب إلى حد الإمكان) فالمفروض أن يبقى تحقق القتل ضروريا ولا يتبدل الى الامكان بالرغم من علم الامام عليه السلام بوقوعه ولا يكون ذلك الا مع عدم تمكنه من الدفاع. فالسؤال أنه ما هو الموجب لعدم التمكن؟ مع أن غاية ما ذكره في آخر كلامه عدم اللزوم كما هو مقتضى التعبير بعدم التزام النفس ومقتضى التمثيل بجحود الكافر مع تيقنه اذ لا ريب في تمكنه من عدم الجحود.

وأما ما ذكره رحمه الله من التشبيه بجحود الكافر مع علمه بانه موجب للهلاك فليس من قبيل عدم التأثر بالعلم او عدم تأثيره في الارادة فان الكافر وغيره يرجح المعصية على الطاعة اما لعدم علمه بعظم العقاب وان علم باصله او لمخادعته نفسه بانه سيتوب في آخر الامر او لأنه يستبعد المؤاخذة او شدتها او لا يهتم بها لتأخر موعدها ويرجح الفائدة او اللذة المستعجلة كما هو الحال في كثير من البشر حتى بالنسبة للتبعات القطعية في الدنيا كمن يستعمل التدخين او المخدرات مع علمه بالضرر البليغ او لغير ذلك ومهما كان فالانسان على كل حال يراجع نفسه ويلاحظ معلوماته ويرجح الفعل او الترك على ضوئها.

وأما ما أشار اليه في آخر كلامه رحمه الله من التشبيه بالفاعل بالعناية فهو على ما ذكروه في الفلسفة كالواقف على شاهق فانه اذا نظر الى الارض وتصور السقوط فانه يسقط وهو فعل اختياري ينشأ من نفس التصور والا فانه لو راجع نفسه ولاحظ أن مكانه أكثر أمنا من السقوط لم يبادر اليه قالوا ومثله الحيوان اذا رأى سبعا فجأة فانه يحدث انه يذهب اليه بدلا من الفرار وعبروا عنه بالاستسباع قالوا وهذا يفعله الحيوان بالارادة ولكن من دون ملاحظة تجاربه ومعلوماته السابقة وترجيح الفعل على الترك.

ولكنه قدس سره ردّ ذلك في نهاية الحكمة واعتبره من الفعل بالقصد وعلله (بان تصور السقوط ممن قام على جذع عال مثلا علم واحد موجود في الخائف الذي أدهشه تصور السقوط فيسقط وفيمن اعتاد القيام عليه بتكرار العمل فلا يخاف ولا يسقط كالبنّاء مثلا فوق الأبنية والجدران العالية جدا. فالصاعد فوق جدار عال القائم عليه يعلم أن من الممكن أن يثبت في مكانه فيسلم أو يسقط منه فيهلك غير أنه إن استغرقه الخوف والدهشة الشديدة وجذبت نفسه إلى الاقتصار على تصور السقوط سقط بخلاف المعتاد بذلك فإن الصورتين موجودتان عنده من دون خوف ودهشة فيختار الثبات في مكانه فلا يسقط. وفقدان هذا الفعل العنائي للغاية الصالحة العقلائية لا يوجب خلوه من مطلق الداعي فالداعي أعم من ذلك).[21]  

وهذا على افتراض أن يكون هذا الفعل إراديا ومن الواضح انه لا يمكن معرفة ذلك ومن الممكن أن يكون ذلك أمرا غير اختياري فيكون سقوطه غير اختياري لا أنه يُسقط نفسه.

إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ... (ان) نافية. اي انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لا يخطط لمستقبله المرتبط بمستقبل الامة والرسالة وانما يتبع ما يوحى اليه من ربه وهذا هو المائز بين الرسل وغيرهم وهو أمر عظيم جدا وربما يستصغره بعض الناس جهلا نظرا الى قوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ...)[22] فيتوهم أن الرسول وفقا لهذه الآية لا يختلف عن سائر البشر ولكن هذه غفلة عن الفرق الكبير والهوة السحيقة التي بين الوحي وعدمه فهو بشر له كل خصائص البشرية الا انه بلغ من الكمال حدا يرتبط بالسماء مباشرة وينزل عليه الوحي من الله تعالى وأين هذا ممن هو عاجز من ان يرتبط بالسماء من جانب واحد فيعبد الله تعالى كأنه حاضر أمامه يشعر بعطفه ورضاه فكيف بتلقي الاوامر والارشادات مباشرة؟!

إن الفاصل كبير بين الرسول وغيره من البشر والواقع أن ما نجده من الفروق والمميزات كلها نتيجة هذا الفارق الذي يعبر عنه في القرآن بجملة قصيرة (يوحى الي) فهو بذلك يأتي بالمعجزات ويمتلك العصمة الالهية ويخبر عن الغيب ويعلم ما لا يعلمه بشر ويشفع المذنبين يوم القيامة ويصعد مدارج الكمال فيبلغ مقاما لا تبلغه الملائكة المقربون.

وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ... النفي والاستثناء يدلان معا على الحصر فهو تحديد لدور الرسول في مرحلة التبليغ وهو الانذار مع انه لا يختص به واقعا فانه مضافا الى ذلك يبشر بالجنة بل يأتي بالشريعة والاحكام بل يطبقها وينفذها فالتركيز على الانذار وحده يتضمن تهديدا وليس في مقام الحصر الحقيقي بل الغرض بيان ان اهم ما يحمله الرسول للبشرية هو الانذار بما هو آت لا محالة وهم غافلون عنه فهو حصر اضافي. وتوصيفه بالمبين باعتبار انه لا ينذر باجمال بل يفصل القول في ما ينذر به ويفصل القول في ما يترتب على المخالفة وفي ما يمكن به تفادي العقوبة وتجنبها وغير ذلك من الشؤون.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ... قوله (أرأيتم) أي (أخبروني) والضمائر في (كان) و(به) و(مثله) تعود الى القرآن الكريم وقوله (وشهد شاهد..) عطف على الجملة الشرطية والوجه في عطف هذه الجملة الاشارة الى اتمام الحجة عليهم بوجود شاهد على مثله. والشرط هنا ليس على حقيقته لان مضمون الشرط امر واقع وليس مقدرا وانما المراد التنازل عن الاصرار على كونه امرا واقعا الى افتراض انه قد يكون واقعا فانه امر ممكن على اقل تقدير. وجواب الشرط مقدر تدل عليه الجملة التالية اي فان كان ذلك واقعا ــ وهو واقع فعلا ــ ماذا انتم فاعلون بعد ما يتبين الحق وينكشف الغطاء والحال انكم قد كفرتم به مع وجود شاهد حجة وقد آمن هو به او يقدر الجزاء (فمن أضل منكم) ونحو ذلك.

والهدف من الآية بعث الشك والريب في قلوب المشركين وهذه مرحلة من الدعوة تخص المعاندين المستكبرين الذين يكذّبون الرسالة دون اي بحث وتمحيص او حتى توقف وامعان كما كان دأب العرب الجاهلي ويبدو أن طبيعة الصحراء ايضا مؤثرة في هذه النفسية العنيدة ففي مثل هذا الحال ينبغي ان يثار في قلوبهم الشك وان نزول القرآن من عند الله امر محتمل على الاقل ليتأملوا ويتريثوا ولا يبادروا بالتكذيب والعناد فان الانسان بطبعه يوازن بين اهمية المحتمل وقوة الاحتمال واذا كان المحتمل امرا خطيرا جدا فانه يهتم باقل احتمال منطقي ولا خطر اعظم من الشقاء الابدي.

وقد وقع الكلام في المراد من هذا الشاهد ففي تفسير القمي لو صحّت نسبة الكتاب اليه أنّ المراد به اميرالمؤمنين عليه السلام واستشهد بقوله تعالى (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ..)[23] حيث ورد في روايات كثيرة أنّ المراد بالشاهد اميرالمؤمنين عليه السلام. ولكن هذا الاحتمال مردود قطعا لتصريح الآية بانه من بني اسرائيل.

وقال بعض المفسرين ان المراد به موسى عليه السلام وان المراد بمثله المشهود عليه هو التوراة وهذا ايضا غير صحيح لوجوه عديدة منها انه لا يصح ان يعتبر موسى عليه السلام شاهدا للمشركين وهم لم يشهدوه ولم يعلموا به الا في ما يرويه أتباعه.

وقال جمع كثير منهم ان المراد به عبد الله بن سلام ورووا في ذلك روايات عديدة من طرق اهل السنة كما انهم رووا في فضله كثيرا واعتبروه موردا لنزول آيات اخرى ايضا ولكن شيئا من ذلك لم يصح عن طرقنا والتاريخ يشهد بانه من دعائم الحكم الاموي وممن حاول الوضاعون من اتباعهم رفع شأنه والظاهر انه من الاسرائيليين الذين مكروا بالاسلام واهله. ومهما كان فتفسير الآية به غير ممكن لان السورة مكية وهو ممن اسلم في المدينة. ولكن مفسري العامة اصروا على ذلك وتبعهم بعض المحققين من الشيعة غفلة عن حقيقة الرجل وقالوا بان كون الآية المدنية ضمن سورة مكية ليس بعزيز. ولكن كيف يمكن ان تكون الآية مدنية وهي تخاطب المشركين وفي سياق مخاطبات مكة كما هو واضح ؟!

وقيل: انها مكية ولكنها تستشهد بالمستقبل لانه محقق الوقوع ولكنه ايضا غير صحيح فان الخطاب لمشركي مكة فكيف يخاطبون بما سيحدث في المدينة ويستشهد به وهو لم يتحقق بعد؟!

ولذلك قال بعضهم ان المراد به بعض اهل الكتاب الذين آمنوا في مكة. ورُدّ هذا القول بان هذا الرجل غير معروف ولو كان فهو من عامة الناس وليس من اكابرهم واحبارهم ليصح ان يقال انه شاهد على رسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلى كون القرآن منزلا من عند الله تعالى.

ولكن يبدو من آيات اخرى أن من اليهود ومن علمائهم من آمن وشهد برسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة فمنها قوله تعالى في سورة الشعراء وهي مكية ايضا (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ)[24] وسياق الآيات يأبى أن تعتبر الآية مدنية وتدل على أن الذين شهدوا بمعرفة القرآن مجموعة من علماء اليهود وليس شاهدا واحدا.  

وعلى هذا فيمكن أن يقال في هذا الموضع أن المراد بالشاهد جنسه بمعنى أن هناك من يشهد منهم ويؤمن به ولا يحدده بالعدد. بل ورد في التاريخ أن كثيرا من علماء أهل الكتاب كانوا يبشرون به صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة وفي القرآن ايضا ما يدل على ذلك كقوله تعالى (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [25] فقوله تعالى (وكانوا من قبل يستفتحون..) اشارة الى أن اليهود كانوا قبل البعثة اذا قاتلهم المشركون أو آذوهم يهددونهم بأن الله تعالى سيبعث رسولا في هذه المنطقة فينتصرون به ولكنهم على ما يبدو كانوا يرجون أن يكون الرسول منهم لتصورهم أن النبوة لا تكون الا فيهم وهذا هو السر في هجرتهم الى يثرب فان كل قبيلة منهم كانت تأمل أن يكون النبي الموعود منها فلما رأوا انه من أولاد اسماعيل عليه السلام ورأوا فيه صلى الله عليه وآله وسلّم علامات النبي الموعود والصفات التي رأوها في كتبهم واعترفوا بها قبل ذلك كفروا به بغيا منهم.

والحاصل أن اعتبار الآية مدنية لا يناسب السياق ولا الخطاب فهو غير صحيح فان أمكن حمله على علماء اليهود الذين شهدوا بصدق الرسالة قبل الهجرة بل الذين بشروا بها قبل البعثة فهو والا فلا وجه لحملها على يهود المدينة خاصة او على فرد واحد منهم وذلك لان الآية لا تخبر عن وجود شاهد بالفعل وانما تفرضه فرضا كما تفرض كونه من عند الله فرضا ايضا ليرتّب عليه كونهم في غاية الضلال على هذا الفرض فيمكن أن لا يكون اشارة الى فرد خاص بل الى مجمل شهادة القوم به وهي معروفة منهم.

وفي الآية الكريمة سؤال آخر وهو أنه لم يقل شهد عليه بل شهد على مثله فما هو المراد بالمثل وكيف يكون ذلك شهادة على صحة الرسالة؟ والجواب أن العالم منهم لا يمكنه أن يشهد مباشرة بصحة الرسالة الا بمعنى ما يشهد به غيره ممن لا خبرة له بالكتب السابقة وانما يشهد بمقتضى ايمانه بالمعجز فما يختص به العالم بالكتب السابقة هو انه يتمكن من الشهادة على مثله بمعنى انه يشهد بأن مضمون هذه الآيات وارد في الكتب السابقة ليكون دليلا على صدق كونه نازلا من عند الله سبحانه. وفي قوله تعالى (فآمن واستكبرتم) اشارة الى أن عدم ايمانهم بالرسالة ليس لعدم اقتناعهم بها وعدم ثبوت الاعجاز في القرآن بل ليس الا لاستكبارهم وعنادهم.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ... هذه الجملة ــ كما مر ــ تدل على الجملة الجزائية المحذوفة وتعلل مضمونها فالتقدير (فمن أضل منكم) أو ما يفيد معناه وهذه الجملة تعلل ضلالهم بان الله لا يهديهم ومن لا يهديه الله فما له من هاد وانما لا يهديهم الله تعالى لظلمهم وعدوانهم وقلنا مرارا ان الظلم لا يحتاج لصدقه الى وجود مظلوم فكل عمل مخالف للحق ظلم وعدوان والظلم وضع الشيء في غير موضعه والذي لا ينصاع للحق مع وضوحه ظالم. فلا حاجة الى القول بانه ظالم لنفسه او لمجتمعه.

 


[1] الانعام: 148

[2] الزخرف: 20

[3] الحاقة: 44 - 47

[4] هود: 35

[5] يونس: 41

[6] الانعام: 50

[7] الاعراف: 188

[8] الكهف: 110

[9] هود: 31

[10] صحيح البخاري ج4 ص464 باب الدخول على الميت

[11] الفتح: 2

[12] الاعراف: 188

[13] التوبة: 101

[14] محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلّم): 30

[15] آل عمران: 49

[16] هود: 30

[17] المائدة: 110

[18] الكافي: ج1 ص259 باب ان الائمة يعلمون متى يموتون

[19] النمل: 14

[20] الكافي ج1 ص260 باب ان الائمة يعلمون متى يموتون

[21] نهاية الحكمة: ص9

[22] الكهف: 110

[23] هود: 17

[24] الشعراء: 197

[25] البقرة: 89