مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إنّ اللّه وملائكته يصلّون على النبيّ... مرّ الكلام حول الصلاة، ورجّحنا أن يكون معناها الحقيقي هو نفس هذه الشعيرة المعروفة، واستعمل في غيرها من موارد التوجّه والعطف بالمناسبة. ومهما كان فالمراد بصلاة اللّه سبحانه هو العطف والرحمة، ومن الملائكة هو الدعاء والاستغفار، والتوسّط في إنزال رحمة اللّه. وقد ذكر الفعل المنسوب الى اللّه تعالى وملائكته بصيغة المضارع إيذانا بأنّه دائميّ ومستمرّ.

يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما... من غاية اللطف أنّه سبحانه قدّم على الأمر بالصلاة على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، أنّه تعالى وملائكته يصلّون عليه، ليؤكّد للمؤمن أنّك بصلاتك عليه ستكون في صفّ الملائكة، بل تتبع في ذلك ربّك. وأيّ شرف للإنسان أعظم من هذا أن يكون بعمله تابعا ربّه، كأنّه يعمل عمله.. ولذلك يصحّ أن يقال إنّ أفضل الأعمال الصلاة على محمد وآل محمد، إذ لا يوجد في الأعمال ما يكون بهذه المثابة.

ثمّ إنّ الصلاة من المؤمنين دعاء بالصلاة من اللّه عليه صلى اللّه عليه وآله وسلّم. وهنا مثار سؤال، وهو أنّه اذا كان اللّه تعالى يصلّي عليه بصورة مستمرّة فلا حاجة الى دعاء الناس فلماذا يؤمرون به؟

ويمكن الجواب بوجهين:

الاول: أنّ الدعاء ربّما يحمل معنى آخر كسلام التحية، فإنّك حينما تسلّم على صاحبك تدعو له بالسلامة، الا أنّه يحمل في طيّاته أمرين: أحدهما التحيّة والآخر إعلان الصلح وعدم الشنآن فيما اذا كانت هناك شبهة ذلك. كما أنّ اللعن وهو دعاء على الغير يحمل في طيّه إعلانا بالعداء، ورفعا لشعار المخالفة، وتنديدا بما صدر من الملعون من ظلم ونحوه..

وكذلك سائر الأدعية، فإذا دعا المؤمنون بالفرج لصاحب الامر سلام اللّه عليه، فإنّه ربّما لا يغيّر الواقع، الا انّه رفع شعار الولاء له، وتوجّه الى اللّه تعالى بالشكوى من الوضع الحاضر، وغير ذلك من المعاني. وكذلك الدعاء له بطول العمر ونحوه فالهدف من كل ذلك إظهار الولاء، وهكذا سائر الموارد. فالصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رفع لشعار الولاء له، وشكر له على ما قدّم للبشرية من رحمة ونعمة، ولا يلزم أن يكون فيها نفع له، كما أنّ صلاتنا للّه تعالى لا تنفعه وإنّما تنفعنا.

الثاني: أنّ الدعاء للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم والصلاة عليه لا يبعد أن يكون له نفع واقعي له، فالرحمة من اللّه تعالى ليس لها حدّ ولا نهاية. والإنسان مهما كان، فإنّه بحاجة متواصلة إلى رحمة اللّه تعالى.

وللدعاء أثر غريب مجهول لدينا، فإنّ القران ينقل دعوات الملائكة للمؤمنين بتعبير يوحي بأنّ ذلك من وظائفهم الدائمية، قال تعالى: (الَّذينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحيمِ * رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتي‏ وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ) غافر : 7 – 9.

ولا ريب أن لهذه الدعوات تأثيرا واقعيا غامضا لا نعرف سرّه ومداه. وقد قال تعالى: (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) الفرقان : 77.

واما كيفية الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقد ورد في روايات كثيرة من طرق العامة والخاصة أنّ الصلاة يجب أن تكون على النبي وآله.. وورد النهي عن الصلاة البتراء. وفسره صلى اللّه عليه وآله وسلم بترك ذكر الآل.

قال ابن حجر ــ على تعصبه المقيت ــ في الصواعق المحرقة: ويروى (لَا تصلّوا عَليّ الصَّلَاة البتراء) فَقَالُوا وَمَا الصَّلَاة البتراء قَالَ (تَقولُونَ اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وتمسكون بل قُولُوا اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد). [1]

وروى السيوطي في الدر المنثور في ذيل هذه الآية روايات كثيرة جدا وعن مصادر مختلفة، كلها تتضمن أنّ الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يجب أن تكون مع ذكر الآل، ومنها ما رواه عن مجموعة كبيرة من المصادر ومنها الصحاح الست حيث قال:

(وأخرج عبد الرزاق وابن أبى شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن مردويه عن كعب بن عجرة رضي اللّه عنه قال: قال رجل: يا رسول اللّه أما السلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك؟ قال: قل: اللّهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل ابراهيم انك حميد مجيد اللّهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل ابراهيم انك حميد مجيد).

والصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم واجبة في تشهد الصلاة عندنا وعند بعض فقهاء العامة، واكتفى بعضهم بالسلام على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم. وقد وقع البحث في الفقه عن وجوب الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عند ذكر اسمه الشريف، حيث ورد في أحاديث كثيرة التنديد بمن لم يصلّ عليه عند ذكره. والمشهور استحبابه المؤكد، وقيل بالوجوب.

وقد ورد في الحديث الحثّ على رفع الصوت بالصلاة على النبيّ وآله لانّ ذلك يذهب بالنفاق.. ولعل المراد بالنفاق هذه الحالة المشهودة لدى بعض أعداء أهل البيت عليهم السلام، حيث لا يجرؤون على إظهار بغضهم حذرا من لصوق ما ورد في أحاديث الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بهم، ولكنه يبرز لاشعوريا في فلتات لسانهم، وفي بعض تصرفاتهم.

ولعمري إنّ إظهار الحب والولاء لأعداء اهل البيت، أكبر شاهد على البغض الدفين، فتجد كثيرا من الناس لا يعظّمون من الصحابة إلا من ثبت عداؤه لأهل البيت عليهم السلام، بل من قاتلهم وقتلهم.

ولا يختصّ الامر ببعض من عرفوا بالصحابة، بل تجدهم يعظّمون أعداءهم حتى لو كان من الظلمة المعروفين، اذ لا يختلف اثنان ممن لهم أدنى خبرة بالتاريخ على أنّ الحجاج بن يوسف الثقفي من أقسى الطغاة الظالمين، ولكنهم يسمون شوارعهم باسمه تيمنا وتبركا، لانه قائد اسلامي! قتل الناس على حبّ امير المؤمنين عليه السلام، بل كان يقتل من يأبى عن السب والشتم !!!

ومن هذه الفلتات ما ذكره صاحب الكشّاف ــ لا غفر اللّه له ــ في هذا المقام من كراهة الصلاة على أحد من اهل البيت منفردا، لئلّا يتّهم الإنسان بالرفض، لأنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى أن يجعل الانسان نفسه في موضع الاتّهام. ولا أدري لماذا لم يطبّق النهي المذكور في ما يوجب اتّهامه بالنصب؟!

وامّا التسليم فقد ورد في بعض الأحاديث أنّ المراد به هو التسليم لأمره، وهو المراد قطعا في قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء : 65 والقرينة واضحة.

والظاهر أنّه هنا بمعنى السلام والتحية، ولذلك نضيف السلام الى الصلاة عليه وآله. والتعبير عن ذلك بالتسليم وارد في القران أيضا.. قال تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّه مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) النور : 61.

ان الذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدنيا والآخرة... لا شكّ أنّ اللّه تعالى لا يتأذى من شيء، ولا يؤثر فيه شيء، فلا وجه لما في بعض التفاسير من أنّ المراد من إيذاء اللّه، المعاصي والشرك، بل نقلوا فيه حديثا قدسيّا يشكو اللّه فيه خلقه وإيذاءهم له. وهذا مضحك حقا.

والصحيح أنّ اللّه تعالى إنما يعتبر إيذاء الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم إيذاءا له كما أسلفنا مرارا. والسرّ فيه أنّ الذي يؤذي النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم فإنّما يؤذيه لأنّه نبيّ مرسل من اللّه تعالى، ولم يكن للناس عداء معه قبل رسالته، بل كان في الناس عزيزا مكرّما لمكانة قومه، ومكانته في قومه، ولصدقه وأمانته، وإنّما عادوه حينما أبلغهم رسالة ربّهم، وسفّه أحلامهم، وقبّح سننهم، واحتقر آلهتهم، فهم انّما كانوا يعادون اللّه سبحانه.

قال تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمينَ بِآياتِ اللّه يَجْحَدُون) الانعام: 33. ولم يكن الايذاء خاصا بالمشركين، بل هناك من أسلم ولكنه حمل معه الى المدينة عداء الجاهلية، واستمر الخطّ الجاهلي يعمل ضدّ خطّ الرسالة حتى بعد وفاة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

ثم إنّ إيذاء الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يختصّ بحال حياته، حيث انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لا يقل عن الذين قتلوا في سبيل اللّه، وقد وصفهم اللّه تعالى بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، فهو بطريق أولى يستبشر بالخير، ويتأذّى من أيّ شر يلحق بدينه، أو بالقرآن، او بأهل البيت عليهم السلام.

و بذلك يُعلم أنّ مصداق هذه الآية بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أكثر من الذين كانوا في حياته. وقد صرّح الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم باستمرار تأذّيه فيما بعده بقوله فيما تواتر عنه بوجوه كثيرة: (فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها).

وممّا يدعو الى التأمّل أنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يؤكّد على هذا الامر في مواطن عديدة ويخاطب بذلك أصحابه، ولم يتدبّروا ويفكّروا في مغزى كلامه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وغرضه من هذه التنبيهات المتكررة.

وهل كانت فاطمة سلام اللّه عليها في معرض الايذاء؟ ولم تكن المرأة اذ ذاك تتدخل في الشؤون الإجتماعية حتى يعاديها الرجال فتكون بحاجة الى الإيصاء. ولكنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يعلم بما سيحدث بعده. وكأنّ هذه الآية ايضا تنظر الى تلك الوقائع.

وقد جعل اللّه سبحانه جزاء المؤذي رسوله، لعنته في الدنيا والآخرة.. فاللعنة في الدنيا ــ وهي في الاصل الإبعاد والطرد ــ تتحقّق بعدم الهداية والتوفيق. ولا يغرنّ أعداء اللّه ما يحصلون عليه من مال وزعامة، فإنّ ذلك من إملائه تعالى، وليس شيئا يفرح به المؤمن، وانّما يفرح به الكافر، وقد أعطى اللّه أضعاف ما أعطوا هؤلاء للفراعنة والطغاة الكفرة، وقال تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) آل عمران: 178.

وتظهر اللعنة في الآخرة بوضوح، فان الطرد والإبعاد عن الرحمة الالهية في الدنيا لا يتجلى للجميع، لعموم ظواهر الرحمة للمؤمن والكافر، وأمّا في الآخرة فيتبيّن من تشمله الرحمة، ومن يطرد من رحمته تعالى. وقد عبّر عنه في القرآن بقوله تعالى (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللّه وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..) آل عمران: 77.

وأعدّ لهم عذابا مهينا... لحن صارخ بالتهديد حيث يعلن أن العذاب معدّ لهم من قبل وينتظرهم، وذلك مضافا الى اللعن والطرد من رحمته تعالى، وحيث إنّ ايذاءهم انما نشأ من استكبارهم على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقابله اللّه تعالى بالهوان والمذلة، مرّة بالطرد واخرى بعذاب مهين. 

والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا... لا شكّ في أن ايذاء المؤمن وهو الاضرار به بأي نحو كان محرّم شرعا وموجب لسخط اللّه تعالى، كما دلت عليه الاحاديث الكثيرة، الا ما كان بموجب حكم شرعي كاجراء الحدود والقصاص.

ولكنّ الآية الكريمة تنظر الى إيذاء خاص ربما يحتقره كثير من الناس حتى المؤمنين، وهو الايذاء باللسان وبإسناد أمر الى المؤمن لم يرتكبه، لمجرد سماع الخبر من هنا وهناك، بل ربما يتعمد بعضهم اختلاق الكذب وإسناده الى مؤمن تشفيا وانتقاما، او لأي سبب آخر.

والقرينة على ذلك في الآية الكريمة قوله تعالى (فقد احتملوا بهتانا) فيتعيّن بذلك أن يكون المراد من الايذاء اتهام المؤمن او المؤمنه بأمر لم يرتكبه.

وقال بعض المفسرين ان تقييد الايذاء بغير ما اكتسبوا لاخراج ما لو كان الايذاء في مقابل عمل يستوجبه كموارد القصاص والحدود. ومعنى ذلك أنّ المراد بالإيذاء ليس هو الايذاء باللسان او لا يختصّ به. وهذا ينافي الحكم عليهم بانهم يحتملون بهتانا، فما هي مناسبة البهتان للايذاء العملي؟ فقال بعضهم إنّ الذي يؤذي بريئا لا يمكنه أن يؤذيه الا أن يتّهمه بأمر ليبرّر موقفه.

وهذا تأويل غريب، فإنّ الظاهر من الآية أنّ نفس هذا الايذاء بهتان، فيختصّ الإيذاء باتّهام المؤمن بأمر لم يفعله وهو بريء منه. ويصحّ ان يجعل ذلك تضمينا، بمعنى أنّ الايذاء يضمّن معنى الاتّهام والبهت، ولا موجب لتعميم المراد بالايذاء. وعلى ذلك فقوله (بغير ما اكتسبوا) يتعلق بالاتّهام الذي يتضمنه الايذاء، وهو بنفسه الاثم المبين اي الواضح. والمقصود التنبيه على كونه اثما مبينا، وأما كونه بهتانا فهو واضح، ولا يختصّ بالمؤمن والمؤمنة.

يا أيّها النبيّ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهنّ من جلابيبهنّ... الآية من الآيات التي تأمر بتستّر النساء والتزامهن بالحجاب. والجلباب ثوب واسع أكبر من الخمار وأصغر من الرداء. وإدناؤه كناية عن التستّر بالصاقه بثيابها ووجهها، حيث كانت المرأة المتهتكة تتركه مفتوحا، فتظهر بعض مفاتنها، فأمرهنّ اللّه تعالى بالمبالغة في الستر. وأين هذا من محاولة نفي وجوب الحجاب من أصله، كما يسمع من بعض المنتحلين للفقه في هذا الزمان؟!

ومناسبة الآية لما سبق، أنّ الآية السابقة تعرّضت للمنع من إيذاء المؤمنين والمؤمنات واتّهامهم، وهذه الآية تأمرهم بما يبعّدهم عن مواضع الاتّهام. وابتدأ بالأمر نساء النبي وبناته ليكون أبلغ في التأثير، ولا يتوهّم التّشديد على عامّة الناس فحسب.

ولعلّ توسيط النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلّم في إبلاغ الأمر اليهنّ، خصوصا مع تقديم نسائه وبناته، والتعبير عن المؤمنات بنساء المؤمنين، للاشارة الى أن ذلك ليس من التشريعات الاساسية العامة، بل هو من شؤون العائلة يقصد به المحافظة على تماسكها، وابعادها عن مواضع الاتهام، فيكون أشبه بالنصيحة العائلية، ولذلك يؤمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأن يقول ذلك لاسرته ثم لنساء المؤمنين، ولا يبعد أن يستظهر منه توسيط المؤمنين بابلاغ ذلك الى نسائهم والا لقال (والنساء المؤمنات).

ولا ينافي ذلك وجوب أمر الحجاب كما هو المستفاد من آيات اخرى ايضا فان الموضوع هنا المبالغة في التستر.

ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين... تعليل للحكم المذكور. و(أدنى) اي أقرب. وتعليل الحكم بأنّ في ذلك مصلحة لهنّ ايضا مما يؤكد ما مر من عدم اعتباره حكما أساسيا. ويحتمل في معنى التعليل المذكور أمران:

الاول: أنّ الذين في قلوبهم مرض وأهل الفسق والفجور كانوا يتحرّشون بالنساء اذا خرجن ليلا لحاجة، ولم يكونوا يجرؤون التحرّش بالحرائر وإنّما بالإماء، فاذا كانت الحرة غير محتشمة تحرّشوا بها، إما جهلا بكونها حرّة، أو لإمكان الاعتذار بعدم معرفتها، فعلّل اللّه سبحانه هذا الحكم بأنّ الإحتشام أقرب الى أن يعرفن بأنهنّ حرائر، فلا يؤذين خوفا من المؤاخذة.

والثاني: أنّ المؤمنة اذا لم تحتشم يظنّ المفسدون أنّها مبتذلة، فيتحرّشون بها. فالإحتشام اقرب الى معرفة أنّها مؤمنة، بعيدة عن أهوائهم، فلا يقتربون منها.

وكان اللّه غفورا رحيما... لعلّ التعقيب بالغفران والرحمة إيذان بأنّ الأمر موسع نوعا مّا، فلا يحتاج الى دقّة ووسوسة بل يكفي منه ما يحقق الغرض، وذلك لأنّ التحجّب والإحتشام أمر ذو مراتب. ولو لم يعقّبه بذلك لأوهم أنّه يجب ــ من باب الإحتياط ــ المبالغة في ذلك الى أقصى الحدود. وهذا التعقيب يفسح المجال لمنع الوسوسة، ويدلّ ايضا على ما ذكرناه من عدم كونه من التشريعات الاساسية.

 


[1]  الصواعق المحرقة ج2 ص430 فصل في الآيات الواردة فيهم.