مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ...

(من) للاستفهام الانكاري، اي لا يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه. والرغبة إذا تعدت بـ (في) تفيد الميل اليه وإذا تعدت بـ (عن) تفيد الاجتناب والتباعد. والملة: السنة والطريقة. والسفه خلاف الحلم والاصل فيه الخفة ويطلق على خفة العقل وقلة الادراك.

واختلفوا في وجه انتصاب قوله (نفسه)، فقيل إن سفه بمعنى سفّه اي امتهنها واستخف بها ولعل هذا هو اظهر الاقوال. واوضحه الجوهري في الصحاح، فقال (قولهم سَفِهَ‏ نَفْسَهُ، وغَبِنَ رأيَه، وبَطِرَ عيشَه، وأَلِمَ بطنَهُ، ووَفِقَ أمرَه، ورَشِدَ أمرَه، كان الأصل‏ سَفِهَتْ‏ نفسُ زيدٍ ورَشِدَ أمرُهُ، فلما حُوِّل الفعلُ إلى الرجل انتصب ما بعده بوقوع الفعل عليه لأنه صار في معنى‏ سَفَّهَ‏ نفْسَه بالتشديد).

وقيل ان الاصل في الجملة سفه نفسا، فهو تمييز وذلك لان السفه مستند الى النفس بالذات فلما، اسند الى ذي النفس اخرج النفس تمييزا كقولك طبت به نفسا. وقيل ان نفسه منصوب بنزع الخافض وهو في الاصل سفه في نفسه ومثله قوله تعالى (تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ)[1] اي لاولادكم ونسب الى الزجاج انه قال سفه نفسه بمعنى جهل نفسه.

ومهما كان فالمراد أنه لا يترك ملة ابراهيم عليه السلام الا سفيه؛ وانما عبر بهذا التعبير اي (سفه نفسه) لانه ليس سفيها بذاته والا لم يكن عليه اثم، بل هو الذي أوقع نفسه في السفاهة والجهالة واستخف بنفسه واحتقرها، لان متابعة طريقته وسنته عليه السلام خير للدنيا والاخرة؛ فان الله تعالى اصطفاه في الدنيا وهو في الاخرة من الصالحين فمن يتّبع طريقته يحصل على الخير في الدنيا والاخرة.

 

وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ...

الاصطفاء افتعال من الصفو وهو الخلوص من كل ما يشوب الشيء ويختلط به، فمعناه اتخاذ الصفو من الشيء وخالصه، كما ان الاختيار من الخير بمعنى اتخاذ الخير وهما بمعنى واحد، فالمراد هنا أنّ الله تعالى اختاره من بين الناس للنبوة والامامة والخلة لانه كان هو الصفو الخالص من بينهم.

وهذا جزاؤه في الدنيا؛ وجاء ذكر جزائه في الدنيا في موضعين اخرين ايضا: في قوله تعالى (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)[2] وفي قوله تعالى (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)[3]؛ وبملاحظة هذه الآية يمكن ان تفسر الحسنة في الآية الاولى واجره في الدنيا في الآية الثانية بالاصطفاء للنبوة والامامة والخلة لا بما يتراءى منهما من الشؤون الدنيوية.

وصلوحه في الآخرة ايضا لم يقيد بشيء، فهو صالح لكل ما ينبغي ان يصل اليه الانسان في تلك الحياة من القرب لدى الله تعالى ونيل رضوانه والتلذذ بجواره وبما يفيض عليه من النعم الخالدة. 

وفي الميزان ما معناه أن هذه الآية مع تقييد الصلاح بالآخرة تدل على أن المراد بالصلاح هنا مرحلة متقدمة من التكامل البشري، وأنه عليه السلام لم يبلغها في الدنيا بقرينة قوله (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[4] فكان يطلب أن يلحق بهم ولا يتوقع أن يكون منهم، فالمعنى في هذه الآية أنه عليه السلام سيكون منهم في الآخرة.

وهذا غير صحيح فان اعتراف المؤمن في دعائه بأنه لم يبلغ مرحلة من التكامل وطلبه من الله تعالى ان يوفقه لبلوغها لا يعني انه لم يبلغها واقعا، بل هو من التواضع والتذلل امام ربه، مضافا الى أن هذا الدعاء كان في أوائل أمره، حيث انه ورد ضمن محاجّته لقومه ولذلك يدعو فيه لابيه و هو ليس والده مع كونه من المشركين وهو قد تبرأ منه بعد ان علم انه عدو لله تعالى، ويدل على ذلك ايضا أن الآية تشتمل على دعاء آخر وهو قوله (هب لي حكما) وهذه الآيات وردت بعد ان وهبه الله الحكم والرسالة.

 

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ...

الظرف متعلق بقوله (اصطفيناه) او بمقدر اي اذكر... وعدم التقدير اولى والمعنى ان الاصطفاء تم بعد أن أسلم وجهه لله تعالى.

وربما يتوهم أنه لو كان متعلقا بالاصطفاء لكان المناسب ان يقال (اذ قلنا له) ليتناسب مع الضمير في (اصطفينا)، ولكن الظاهر أن هذا التعبير للاشارة الى أن هذه الدرجة من الكمال انما وصل اليها بتربيته تعالى.

وهو في الجواب لم يقل اسلمت لك بل لرب العالمين، ليكون اشارة الى السبب وهو انه تعالى رب كل شيء وانا ايضا من ضمن المربوبين فوصلت الى المرحلة التي ارادها لي بتربيته، فانا أسلم نفسي له ضمن تسليم الكون له ولست وحيدا في ذلك. وبذلك استحق الاصطفاء.

ومن هنا يتبين أن الاسلام لا يراد به الدين الاسلامي وهو عقيدة ونظام يتبعه الانسان فيكون من المجتمع المسلم ويحظى بحقوق خاصة واحكام خاصة، بل المراد هو التسليم لامره تعالى وهو مرحلة بعد مرحلة الايمان القلبي بربوبيته تعالى، بخلاف الاسلام بالمعنى الاول فانه قبل الايمان ولذلك نفاه الله تعالى عن الاعراب مع اسلامهم حيث قال (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..).[5]

والاسلام الذي وصل اليه ابراهيم عليه السلام واستحق بذلك الاصطفاء، مرحلة متكاملة من الايمان القلبي الذي نفاه الله تعالى حتى بأدنى مراتبه عن الاعراب. وهذا الاسلام ايضا له مراتب متفاوتة تتبع مرتبة ايمان الانسان بربه، فكلما كان ايمانه اقوى وأشد اطمئنانا وتثبتا زاد تسليما ورضا بما قدّره الله تعالى وبما شرعه.

ومن هنا يتبين أن التسليم يتفرع الى تسليم لتشريعه تعالى وتسليم لتقديره، وكلاهما مما لا يحصل للانسان الا بايمان قوي ورياضة شديدة، والغالب ممن يدّعون الاسلام وحتى الايمان لا يرضون بكل ما قدّر لهم، بل يظهرون الاستياء والتذمّر، كما لا يرضى كثير من الناس بما ورد في الشرع حتى لو عملوا به فهم يعملون على مضض.

وإذا راجعنا ضمائرنا، نجد أن كثيرا من الاحكام يصعب علينا الرضا بها، وكثير من الناس مع انهم مؤمنون ولا يتركون الصلاة حتى النوافل ويهتمون بالمستحبات والادعية، ولكنهم يبحثون عن مبرر للتهرب من الحكم بالتضحية بالنفس في موارد لزومها مثلا، بل الكثير منهم يتهربون من إنفاق المال حتى في الموارد الواجبة الا إذا كان قليلا.

وهناك كثير من الناس يرفضون الانصياع للاحكام الواردة بصراحة في القرآن الكريم وان لم يتجرأوا بالنفي ولكنهم غير مقتنعين بها، كالاحكام الخاصة بالنساء وطريقة تعاملهن مع الازواج وأحكام المواريث واحكام الاسترقاق، والاحكام التي تمنع من كثير من الانشطة الاقتصادية الدائرة حاليا في المجتمع البشري مما يتسبب في منعهم من الوصول الى ما وصل اليه الكفار، وغير الملتزمين بالدين من الثروة الهائلة فتبقى هذا الامر من الاماني التي تدفن معهم، وغير ذلك من الاحكام التي لا يستسيغها كثير من الاذواق او لا يتقبلها كثير من العقول، ودين الله لا يصاب بالعقول كما في الحديث.

وابراهيم عليه السلام نجح في اصعب امتحان في هذا المجال، حيث اُمر في المنام ان يذبح ابنه بيده وهو ولده البكر اسماعيل عليه السلام، وكان قد بلغ معه السعي اي اول مرحلة من النشاط في مجال العمل، ومن الطبيعي ان يكون الوالد وهو شيخ كبير يعلق الامال على مثل هذا الغلام ليساعده في شؤون الحياة، وخصوصا في ذلك العصر الذي لا تتحمل الدولة شؤون حياة الافراد بل تستقل كل اسرة حتى في الدفاع عن نفسها، ومع ذلك فانه استسلم لامره تعالى مع انه لم ينزل عليه عن طريق ملك او خطاب بالمباشرة بل امر به في المنام، وتله للجبين ليذبحه فاتاه النداء ان صدقت الرؤيا وقال عنه تعالى (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ).[6]

كما أن من الصعب جدا التسليم والرضا بما قدّره الله تعالى من المصائب في هذه الحياة المليئة بالمكاره. وليس المراد ان يتحمل الانسان ما اصيب به من فقر او مرض او ظلم او اي امر يصيبه ويلحق به الاذى، بل اللازم ان يحاول الانسان انقاذ نفسه وغيره وان لا يستسلم للظلم ولا للفقر والمرض، بل يبحث عن الطرق المتاحة له لحل مشاكل الحياة، ولكن اذا سدّت الابواب في وجهه وراى انه لا مناص من الاستسلام وأن الامر مقدّر بصورة حتمية، فلا يتذمّر ولا يظنّ بالله تعالى ظنّ السوء بل يرضى بما قدّر له ويتذكر قوله تعالى (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)[7]، فالاسلام هنا بمعنى الرضا، والا فاصل الاستسلام مما لا بد منه للعاجز الضعيف.  

ويلاحظ في ذلك اروع مثال في التاريخ، وهو الامام الحسين عليه السلام حيث كان كلما ازدادت مصائبه في يوم عاشوراء يزداد بشرا وتألّقا ونورا، ولم يسمع منه اي كلمة تذمّر من أصل الحادثة، وان استنكرها بما أنها جريمة بشرية، الا انه عليه السلام كان يرى ان الحادثة لها جهتان، جهة الجريمة وهي تستند الى تلك الطغمة الفاسدة، وجهة التقدير الالهي وهي من هذه الجهة فيها كل الخير من الله تعالى له ولاهل بيته واصحابه عليهم السلام.

وقد اخبر اصحابه صبيحة ذلك اليوم الفجيع، بان الله تعالى اذن في قتلي وقتلكم، ولم تزده كثرة البلاء والمصيبة وتواترها الا صبرا وثباتا وقوة وشكيمة، حتى تعجب منه الاعداء لانه لم يجد من الله تعالى في ذلك الا الخير والسعادة.

ولذلك لما خاطب الرجس اللئيم عبيدالله بن زياد سيدتنا زينب سلام الله عليها بقوله كيف رايت صنع الله باخيك واهل بيته، قالت ما رايت الا جميلا هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم..    

 

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ...

الضمير في قوله (بها) قيل يعود الى الملة، والاولى ان يعود الى الكلمة التي قالها اي (اسلمت لرب العالمين)، بمعنى أنه وصى بمضمون هذه الكلمة أي الجملة كما يظهر من نص الوصية المذكورة اي قوله تعالى (يا بنيّ ان الله اصطفى..)، فانها هي نفس الوصية ولذلك لم يأت بايّ فاصل بينها وبين قوله (وصّى)، ولا حاجة الى تقدير فنفس هذا التعبير يدل على أن هذا القول هو نصّ وصيته عليه السلام.

ويظهر من الآية أنه عليه السلام كان له بنون مع أن القرآن لم يذكر منهم الا اسماعيل واسحاق عليهما السلام، وفي العهد القديم أنه عليه السلام بعد وفاة زوجته سارة تزوج غيرها وولدت له حيث ورد فيه (وعاد إبراهيم فأخذ زوجة اسمها قطورة فولدت له زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق وشوحا..).[8] ويحتمل أن يكون المراد بالبنين ما يشمل حفيده يعقوب عليه السلام او يشمل البنات من باب التغليب ان كانت له بنات.

وعطف يعقوب هنا على جدّه قبل ذكر نص الوصية للاهتمام بذكره، فانه جدّ بني اسرائيل وهم مورد الاهتمام في هذه الآيات لاتمام الحجة عليهم، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة، وسيأتي ذكر وصيته ويظهر منها ايضا انه اوصاهم بان يوصي كل منهم بنيه فاصبحت وصية متداولة.

واصطفاء الدين بمعنى اختياره، كما كان اصطفاء ابراهيم من بين الناس بمعنى اختياره رسولا واماما، وفي ذلك اشارة الى أن الشريعة كانت تامّة في عهده عليه السلام، فان الدين مجموعة من الحقائق والعهود والاحكام، فكان كل ما يطلب من الانسان ليحظى بكرامة ربه واضحا في ما نزل عليه من الوحي.

والتعبير بالنهي عن الموت مع انه ليس باختيارهم بمعنى الاهتمام بعدم مفارقة الاسلام في اي لحظة لعدم العلم بموعد الموت. والاسلام كما قلنا هو التسليم لامر الله تعالى فهو روح الدين الذي اختاره الله تعالى لعباده.

 

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ...

اختلفوا في (أم) وأنها متصلة ام منقطعة، فعلى الانقطاع لا تفيد الا الاضراب والاستفهام، وعلى الاتصال لا بد من تقدير استفهام محذوف. ولعله اظهر بدليل أن اليهود كانوا يدّعون أن يعقوب وهو جدّهم، أوصاهم ان يتبعوا اليهودية مع ان من الواضح ان دين اليهود متأخر عنه. كما كانوا يدعون هم والنصارى والمشركين ان ابراهيم عليه السلام كان يتبع دينهم، ولذلك ردّ الله عليهم في سورة آل عمران ضمن عدة آيات الى ان يقول (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). [9]

فالظاهر أن التقدير هنا، أتكذبون على يعقوب فيما تنسبون اليه من دينه او وصيته، ام كنتم شهداء... فيستدل بعدم كونهم شهداء على أنهم يكذبون في هذه الدعوى. والاستفهام للانكار، اي لم تكونوا شهداء فكيف تدعون عليه انه اوصى بذلك، او للتقرير لأنهم لا بد لهم من الاقرار بعدم الحضور.

وذكر وصيته حال الاحتضار، لبيان شدة اهتمامه بما يدين به أبناؤه وخلفاؤه في المجتمع. والظاهر أن كل هذه الجملة واردة ضمن الاستفهام، ولا وجه للقول بأن الاستفهام الانكاري انتهى الى قوله حضر يعقوب الموت وما بعده جملة اخرى لا تدخل ضمن الانكار.

وانما قال (ما تعبدون) ولم يقل (من تعبدون)، لان كثيرا من البشر يعبدون غير ذوي العقول كالاصنام والشمس والقمر فلا حاجة الى دعوى شمول (ما) له تعالى، مع أن التعبير عنه تعالى بهذا اللفظ ورد في قوله تعالى (والسماء وما بناها)، فدعوى اختصاصها بغير ذوي العقول من المخلوقين تفتقر الى دليل.

وقوله (من بعدي)، يدل على أنهم ما كانوا يعبدون غير الله تعالى فأراد أن يتأكد من بقائهم على الدين الصحيح بعده. وهم لم يقولوا (نعبد رب العالمين) او نعبد الله، بل قالوا نعبد إلهك واله آبائك، ليتبين أنهم ما زالوا وسوف يستمرون على نفس الطريقة التي كانت عليه آباؤهم وهم من الانبياء والمرسلين عليهم السلام. وذكر اسماعيل من بين الآباء مع أنه عمه عليهما السلام من باب التغليب ومن جهة أن العمّ بمنزلة الاب خصوصا إذا كان أكبر منه سنّا.

وقوله (الها واحدا)، حال بلحاظ التوصيف اذ الاله ذكر قبل ذلك. والقصد منه الاشارة الى أن الآباء المذكورين يعبدون الها واحدا، لئلا يتوهم أن لكل منهم الها. ثم أكد مرة اخرى على الاسلام لله تعالى، اي التسليم لامره وارادته، للاشارة الى انه هو روح الدين الالهي في جميع شرايع السماء.

 

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ...

حيث كان اليهود يتبجّحون بأنهم من ذرية ابراهيم واسحاق عليهما السلام، ويعتبرون ذلك ميزة لهم تبرّر لهم عدم الاستسلام للشريعة الجديدة، فالآية الكريمة وردت في الرد على هذا النوع من التوهم حيث كانوا يعتقدون أن انتسابهم الى هؤلاء المقربين عند الله تعالى ينفعهم ويرفع عنهم التكليف.

والامة كما قلنا سابقا كل جماعة يجمعهم أمر واحد، سواء كان دينا او هدفا سياسيا او لغة او وطنا ونحو ذلك؛ وهؤلاء المذكورون امة واحدة يجمعهم دين واحد، وفي ذلك اشارة الى انكم لا تتبعون تلك الامة في دينهم فلستم منهم لان ميزتهم انما هي في الدين والعقيدة.

وقوله (خلت) من الخلوّ. والاصل فيه فراغ المكان والزمان من الشيء ولكنه يسند مجازا الى نفس الشيء، فيقال خلا إذا فرغ منه المكان او الزمان اي مضى لسبيله، فالمعنى تلك امة قد مضت ولم يبق منهم أحد.

ثم نفى عنهم اي ارتباط بعمل تلك الامة خيرا كان او شرا، فما كسبت من خير لا يلحقكم منه ثواب او مدح، وإذا عملت امرا يوجب الذمّ فلا تسألون عنه ولا تؤاخذون به. وهذا لا ينافي اكرام الانسان لانتسابه الى الرسول مثلا فإنه في الواقع إكرام له صلى الله عليه وآله وسلم لا للمنتسب، ولا يوجب ذلك تأثيرا في لحوق آثار العمل الصالح بالانسان وكما لا يؤاخذ الاولاد بجرائم آبائهم كذلك لا ينتفعون عند الله تعالى بحسناتهم.

ومن هنا فإن ما يسمع من بعض الخطباء من أن ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يدخلون النار مهما ارتكبوا من الآثام، كلام باطل لا أساس له وان استندوا في ذلك الى بعض الروايات الضعيفة سندا ودلالة، فهناك من الذرية من ينصبون العداء لاهل البيت عليهم السلام الى يومنا هذا، بل منهم من ساهم في الظلم عليهم وشارك في دمهم، ومنهم من ارتدّ عن الاسلام في هذا العصر وهناك اسر من السادة، اعتنقوا المسيحية وهناك منهم من أعلن إلحاده. 

 


[1] البقرة : 233

[2] النحل : 122

[3] العنكبوت : 27

[4] الشعراء : 83

[5] الحجرات : 14

[6] الصافات : 106

[7] البقرة : 216

[8] العهد القديم بداية الاصحاح 25

[9] ال عمران : 67