مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة الدخان من السور المكية وتتناول على قصرها الاشارة الى تاريخ نزول القرآن الكريم وتقدير امور البشر ثم الانذار بعذاب الدنيا والاستشهاد ببعض الامم السالفة ثم الانذار العام بيوم القيامة والبشارة للمؤمنين ثم العود الى التذكير بنعمة انزال القرآن.

حم... (حم) من الحروف المقطعة وقد مر الكلام فيها بشيء من التفصيل في تفسير سورة يس.

وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ... قسم بالكتاب وهو القرآن الكريم وقد مرّ بعض الكلام في مثل هذه الآية في بداية تفسير سورة الزخرف. ومن اللطيف أنه أقسم بالقرآن على أن نزوله في ليلة مباركة اي التي بارك فيها الله تعالى وهي ليلة القدر. والبركة: الخير الكثير الدائم فالمعنى أن الله تعالى جعل في هذه الليلة خيرا كثيرا ثابتا مستمرا. ومن هذا الخير الكثير نزول القرآن الكريم فيها وهو أفضل خير وبركة.

إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ... تعليل لاصل إنزال القرآن المشتمل على إنذار البشر بيوم القيامة لا زمان إنزاله. وحيث ان الانذار اهم من التبشير اعتبر الكتاب منذرا فحسب والتعليل يفيد ان الانذار من شؤون الربوبية وانه امر مستمر ومستقر كما تفيده لفظة (كنا) حيث تدلّ على أن الله تعالى أنذر الأقوام السابقة ايضا باستمرار عن طريق الرسل والكتب وبذلك يردّ على توهّم المشركين أنه تعالى لا يرسل رسولا ولا ينزل كتابا قال تعالى (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ..).[1]

والدليل على أنّ المراد بالليلة المباركة ليلة القدر قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[2]، وليلة القدر عند الامامية مرددة بين ليلتين من شهر رمضان: الحادية والعشرين والثالثة والعشرين او باضافة الليلة التاسعة عشر والسبب في الترديد اختلاف الروايات وورود الترديد بالنسبة للحادية والعشرين والثالثة والعشرين في كثير منها بل في اكثر من ذلك كما سيأتي ضمن ما نذكره من الروايات وبعض الكلام فيها ان شاء الله تعالى. وقيل: إنها ليلة النصف من شعبان وهو غير صحيح لقوله تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ..) [3] حيث يدل بضميمة ما مر من الآيات على ان ليلة القدر في شهر رمضان.

وربما يستظهر من الآيات والروايات أنّ ليلة القدر ليلة واحدة في جميع البلاد ولكن الصحيح أنّها تختلف حسب الآفاق بناء على ما هو الصحيح من اختلاف بداية الشهر العربي باختلاف الافق فلا تكفي رؤية الهلال في بلد لسائر البلاد بل حتى لو قلنا بكفاية رؤيته في بلد لما يشترك معه في الليل او في معظمه كما قيل فانه ايضا يستوجب الاختلاف اجمالا.

وأمّا الاختلاف في الرؤية وفي ثبوتها واختلاف الانظار الفقهية في مناطات ثبوت الهلال فلا يوجب الاختلاف في واقعها فعلى من يحاول ان يدرك الاعمال المستحبة فيها ان يعمل في ليلتين بل اربع وقد ورد ذلك في بعض الروايات.

روى الكليني بسنده عن علي بن أبي حمزة الثمالي[4] قال: كنت عند أبي عبدالله عليه السلام فقال له أبوبصير: جعلت فداك الليلة التي يرجى فيها ما يرجى؟ فقال: في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين قال: فإن لم أقو على كلتيهما؟ فقال: ما أيسر ليلتين فيما تطلب قلت: فربما رأينا الهلال عندنا وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من أرض اخرى فقال: ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها... الحديث.[5]

انما الاشكال في انه كيف يوفّق بين نزول القرآن في ليلة واحدة كما صرّحت به الآيات وبين الواقع التاريخي الواضح وهو ان القرآن نزل في غضون ثلاث وعشرين سنة؟

وقد حاول العلماء الجمع بينهما بوجوه:

الوجه الاول: أن المراد بالآيات تحديد موعد نزول اول آية من القرآن فليلة القدر تاريخ بدء النزول التدريجي الذي استمر ثلاثا وعشرين سنة وهذا قول كثير من المفسرين ولا بأس به في حد ذاته الا أنه يعارض ما اتفقت عليه الامامية من أنّ البعثة كانت في السابع والعشرين من شهر رجب وان لم نجد له دليلا واضحا فالروايات التي تشتمل على ذلك كلها ضعيفة ولكن قد يكفي فيه هذا الاتفاق وعلى تقدير الثبوت يمكن أن يكون هذا اليوم اي السابع والعشرين من شهر رجب هو اليوم الذي اوتي الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فيه النبوة كما انه كانت له ارهاصات طيلة حياته فلا ينافي ان تكون ليلة القدر موعد نزول أول مجموعة من آيات القرآن الكريم وهي مطلع سورة العلق.

الوجه الثاني: ما ذكره جمع قديما وحديثا تبعا لبعض الروايات من ان القرآن نزل جملة واحدة الى البيت المعمور في شهر رمضان وهو بيت في السماء محاذ للكعبة المشرفة كما في الحديث ثم نزل تدريجا في غضون ثلاث وعشرين سنة.

روى الكليني عن حفص بن غياث، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: (سألته عن قول الله عز وجل: " شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن" وإنما انزل في عشرين سنة بين أوله وآخره؟ فقال أبوعبدالله عليه السلام: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة، ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: نزلت صحف ابراهيم في أول ليلة من شهر رمضان وانزلت التوراة لستٍّ مضين من شهر رمضان وانزل الانجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان وانزل الزبور لثمان عشر خلون من شهر رمضان وانزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان).[6] ورواه الصدوق عنه ايضا[7] والسند فيهما ضعيف.

وربما يعترض على هذا الوجه باستغراب تفسير البيت المعمور ببيت في السماء باعتبار ان المراد به في قوله تعالى (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ)[8] الكعبة المعظمة. ولكن هذا التفسير وارد في روايات كثيرة في كتب الفريقين[9] والاستغراب لا وجه له اذ لا يبعد ان يكون له معنيان بل يمكن ان يكون المراد بالآية في سورة الطور ايضا ذلك ولعل المراد بالبيت الذي في السماء غير ما هو المتفاهم من اللفظ لدينا.

واعترض عليه ايضا بانه لا فائدة في نزول القرآن على البيت المعمور او اي موضع آخر في السماوات وهذا الاعتراض بهذا البيان ضعيف جدا اذ مجرد عدم فهمنا للفائدة لا يدل على عدم الفائدة ونحن نجهل كثيرا من وجوه الحكمة في التكوين والتشريع بل اكثرها.

نعم يمكن ان يقال ان اعتبار ليلة القدر مبدأً لتاريخ نزول القرآن ينبغي ان يكون بلحاظ تأثير له في المجتمع البشري حتى يعتبر مما منّ الله به علينا من بركات ليلة القدر ولا نعلم للنزول في البيت المعمور تأثيرا بل هو امر لا نشعر به لو كان امرا واقعيا.

ويمكن الاستدلال بقوله تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..)[10] على أن المراد بالنزول في ليلة القدر يجب أن يكون بمعنى يؤثر في المجتمع البشري وذلك لأن النزول هنا اعتبر وصفا للشهر ورتّب عليه وجوب الصيام فيه بقوله (فمن شهد..) فيظهر منه أن السبب في وجوب الصوم في هذا الشهر هو نزول القرآن فيه فكأنه شكر على هذه النعمة الجليلة بل تدل على أن النزول فيه كان معلوما لدى عامة المسلمين في ذلك العصر اذ لم يرد بصورة الاخبار به بل بصورة التوصيف مما يدل على أنهم كانوا يعرفونه بهذا الوصف.

ولذلك عمد بعضهم الى تفسير البيت المعمور بقلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما في المقدمة التاسعة من تفسير الصافي. [11] ولكنه لا دليل عليه والروايات صريحة في انه بيت في السماء فان لم نعتمد الروايات فلا حاجة الى هذا التأويل أساسا.

نعم لو لم يقصد بذلك تأويل الروايات بل تفسير الآيات ابتداءا بأن النزول الدفعي كان على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في ليلة القدر ثم نزل تدريجا طيلة السنين كان له وجه وسيأتي بعض الكلام فيه.

وعبارة الشيخ الصدوق قدس سره غير واضحة في أنه يقصد تفسير الروايات او الآية بذلك حيث قال (اعتقادنا في ذلك أن القرآن نزل في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة الى البيت المعمور [ثم نزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة] وأن الله عز وجل أعطى نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم العلم جملة وقال له: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى اليك وحيه وقل رب زدني علما وقال تعالى: لا تحرك به لسانك لتعجل به..)[12].

فبملاحظة أن ما بين المعقوفتين ورد في بعض النسخ ومع حذفه يحتمل أنه أراد بإعطاء النبي صلى الله عليه وآله وسلّم العلم جملة واحدة تفسير البيت المعمور بقلبه صلى الله عليه وآله وسلّم وأما مع هذه النسخة فيبدو أن إعطاء العلم أمر آخر.   

ولكن هنا اشكال آخر يأتي في هذا الوجه سواء قيل بنزوله في البيت المعمور او على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وهو ان القرآن المنزل تدريجا لا يمكن جمعه في زمان قبل ذلك مطلقا قال الشيخ المفيد رحمه الله (الذي ذهب إليه أبو جعفر (اي الشيخ الصدوق) في هذا الباب أصله حديث واحد لا يوجب علما ولا عملا. ونزول القرآن على الأسباب الحادثة حالا بحال يدل على خلاف ما تضمنه الحديث، وذلك أنه قد تضمن حكم ما حدث وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لا يكون على الحقيقة إلا بحدوثه عند السبب، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ..)[13] وقوله: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ..)[14] وهذا خبر عن ماض، ولا يجوز أن يتقدم مخبره، فيكون حينئذ جزاءا (خبرا) عن ماض وهو لم يقع بل هو في المستقبل. وأمثال ذلك في القرآن كثيرة. وقد جاء الخبر بذكر الظهار وسببه، وأنها لما جادلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذكر الظهار أنزل الله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا..)[15] وهذه قصة كانت بالمدينة فكيف ينزل الله تعالى الوحي بها بمكة قبل الهجرة، فيخبر بها أنها قد كانت ولم تكن؟!)[16].

وحاصل ما ذكره ان الجمل الواقعة في ما بايدينا من الكتاب مما يحكي عن قضية ماضية بلحاظ زمان النزول كالتي نزلت بعد غزوة بدر وغزوة احد وغير ذلك من الحوادث لا يمكن ان تكون نازلة قبل الحدوث بلفظ الماضي. وأضاف بعضهم في شرح كلامه أن في القرآن ناسخا ومنسوخا فكيف يمكن نزولهما مع بعض؟!

واضاف اليه السيد المرتضى رحمه الله وجوها اخرى من الاستبعاد منها ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوقف عند حدوث حوادث كالظهار وغيره على نزول ما ينزل اليه من القرآن ويقول (ما انزل اليّ في هذا شيء) ولو كان القرآن انزل جملة واحدة لما جرى ذلك..[17]

والجواب عنه ان الله تعالى علام الغيوب وكل مستقبل في علمه بمنزلة الماضي ولا يزيد علمه بتحقق الامور المستقبلية. والماضي والمستقبل حاضر لديه تعالى فلا مانع من ان ينزّل القرآن بصيغة الماضي بلحاظ زمان التلاوة. والرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لم يكن مأمورا بالتلاوة آنذاك. ونظيره في القرآن ما يخبر به عن ما يقع يوم القيامة بلفظ الماضي وهي كثيرة ايضا فكما يقال هناك ان الاتيان بلفظ الماضي باعتبار أنه محقق الوقوع كذلك في غيره لأن كل ما يخبر به الله تعالى محقق الوقوع وهو لا تختلف عنده الازمنة.

واما وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات فهو ايضا لا يمنع من نزولهما معا على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع افتراض انه غير مامور بالابلاغ فتبقى الآيات معلقة الى زمان الامر به وانما تضرّ معرفة الناس بالناسخ قبل زمان النسخ ولا تضرّ معرفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم به بل نحن نعتقد ان الله تعالى يُعلمه بمثل ذلك من علم الغيب بل هناك في نفس الآيات المنسوخة ما تدل على انها ستنسخ كقوله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)[18] فان السبيل ــ على ما قيل ــ اشارة الى ما سينزل من نسخ الحكم بآية الجلد.

واما ما ذكره الشريف المرتضى رحمه الله تعالى من انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يجيب في بعض موارد السؤال عنه انه لم ينزل عليه وحي في ذلك وهذا لا يصدق مع افتراض النزول جملة واحدة فعلى فرض ثبوت ذلك بنقل معتبر يحتمل ان يكون بلحاظ انه غير مأمور بابلاغه واعتباره حكما شرعيا فهو ينتظر زمان الامر به. والحاصل أن نفي هذا الوجه كاثباته لا يستند الى دليل قطعي.

الوجه الثالث: ما ذكره العلامة الطباطبائي قدس الله سره وهو في الواقع تعديل للوجه الثاني بحيث لا يرد عليه الاشكال. قال في الميزان في تفسير قوله تعالى (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن..) ما ملخصه:

(إن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنما عبّرت عن ذلك بلفظ الانزال الدال على الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ..)[19] وقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ..)[20] وقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[21] واعتبار الدفعة إما بلحاظ اعتبار الكتاب أو البعض النازل منه مجموعة واحدة، ولذلك عبر عنه بالانزال دون التنزيل، وإما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضى فيه بالتفرق والتفصيل والانبساط والتدريج هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي ونازلا بالانزال دون التنزيل.

وهذا هو اللائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)[22] فإن هذا الإحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلا فصلا وقطعة قطعة فالإحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء ولا يتميز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه، والآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنما طرأ عليه بعد كونه محكما غير مفصل.

وأوضح منه قوله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ..)[23] وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[24] فإن الآيات الشريفة وخاصة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على أن التفصيل أمر طار على الكتاب فنفس الكتاب شيء والتفصيل الذي يعرضه شيء آخر.

وأوضح منه قوله تعالى: (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)[25] فإنه ظاهر في أن هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروّا عربيا، وإنما ألبس لباس القراءة والعربية ليعقله الناس وإلا فإنه - وهو في أم الكتاب - عند الله، عليّ لا يصعد إليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنه أصل القرآن العربي المبين.

وفي هذا المساق أيضا قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[26] فإنه ظاهر في أن للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون لا يمسه هناك أحد إلا المطهرون من عباد الله وأن التنزيل بعده، وأما قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار وهو الذي عبر عنه في آيات الزخرف، بأم الكتاب وفي سورة البروج، باللوح المحفوظ، حيث قال تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)[27] وهذا اللوح إنما كان محفوظا لحفظه من ورود التغير عليه، ومن المعلوم أن القرآن المنزل تدريجا لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ وعن التدريج الذي هو نحو من التبدل، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن ومحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل، وإنما هذا بمنزله اللباس لذاك.

ثم إن هذا المعنى أعني كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين - ونحن نسميه بحقيقة الكتاب - بمنزلة اللباس من المتلبس وبمنزلة المثال من الحقيقة وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحح لان يطلق القرآن أحيانا على أصل الكتاب كما في قوله تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)[28] إلى غير ذلك وهذا الذي ذكرنا هو الموجب لان يحمل قوله: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وقوله: إنا أنزلناه في ليلة مباركة، وقوله: إنا أنزلناه في ليلة القدر، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفعة كما أنزل القرآن المفصل على قلبه تدريجا في مدة الدعوة النبوية.

وهذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ..)[29] وقوله تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)[30] فإن الآيات ظاهرة في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان له علم بما سينزل عليه فنهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي).

ولنا ملاحظتان على ما ذكره قدس سره:

الملاحظة الاولى: أن ما ذكره تبعا لما في مفردات الراغب من أنّ الانزال يدلّ على كونه دفعيا والتنزيل على كونه تدريجيا وان الآيات التي تضمنت النزول في ليلة القدر او في شهر رمضان او في ليلة مباركة كلها بصيغة الانزال مما يدل على كونه دفعيا وما ورد بصيغة التنزيل ورد في النزول التدريجي لا اساس له في اللغة ولا في استعمالات القرآن الكريم ففي قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) [31] صرّح بالتنزيل مع إرادة النزول الدفعي لقوله (جملة واحدة) ومثله قوله تعالى (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)[32] وقوله تعالى (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا).[33]

واذا لاحظنا موارد التعبير بالانزال الظاهر في نفس هذا القرآن الذي بايدينا حصل القطع ببطلان هذا التفصيل كقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)[34] (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)[35] (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ..)[36] وغيرها من الآيات وهي كثيرة جدا وكذلك ما ورد في انزال الماء من السماء كقوله تعالى (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا...)[37] وهي ايضا كثيرة والمطر لا ينزل دفعة كما هو واضح.

واما ما ذكره في توجيه ذلك من انه في المطر وسائر الموارد يلاحظ المجموع شيئا واحدا فلا يصحح استعمال اللفظ في غير مورده اذ يمكن دعوى ذلك في جميع الموارد فمن اين يستكشف ان الاستعمال اللغوي يفرق بين الموردين بعد افتراض امكان استعمال كل منهما في المورد الآخر بمجرد اختلاف اللحاظ؟!

الملاحظة الثانية: انّ ما استفاده قدس سره من التعبير بالإحكام في مقابل التفصيل في قوله تعالى (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)[38] ومن قوله تعالى في سورة الزخرف (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)[39] وكذا سائر الآيات التي استند اليها قد مر بعض الكلام فيه في تفسير سورة الزخرف وحاصل ما ذكرنا هناك ان الإحكام ليس في مقابل التفصيل بل القرآن محكم وفي نفس الوقت مفصل و(ثم) ليس للتراخي الزماني بل التراخي في الذكر ومثله كثير تقول مثلا زيد عالم ثم هو عادل ايضا والاحكام لا يعني الاندماج والابهام والاجمال ونحوذلك مما رامه اذ ليس لهذا التفسير في كتب اللغة اي اثر بل اصله في اللغة المنع ولعله هنا بمعنى منعه من ورود التشابه لمقابلتهما في قوله تعالى (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ..)[40] ولعل ام الكتاب هنا بمعنى معظمه كما عن الخليل.

واما جعله قرآنا عربيا جعلا مركبا فيمكن ان يكون المراد بالمجعول تلك المعاني والحقائق التي صيغت في هذا اللفظ واما انه في ام الكتاب علي حكيم فلعل المراد بام الكتاب هنا اصله وهو ما في علم الله من الحقائق والمعاني التي شكلت القرآن. والعلو باعتبار ترفعه عن وصول الافهام اليه قبل ان يلبس لباس اللفظ ومعنى ذلك انها معارف لا يمكن للبشر ان يصل اليها لو لم ينزل الوحي. وحكمته ايضا بمعنى امتناعه من ان يصل اليه احد او تمنّعه من ورود الخطأ والسهو فيه. ومهما كان فان التدبر لا يوصلنا الى ما اراد والادلة ضعيفة جدا ولكننا لا نمنع ذلك اساسا فكل من الاثبات والنفي بحاجة الى حجة مفقودة.

الوجه الرابع: ما ذكره سيدنا العلامة ايضا حيث انه بعد التاكيد في الجزء الثاني من الميزان على الوجه المذكور ورفضه احتمال النزول جملة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عدل في تفسير سورة الدخان وفي ذيل قوله تعالى (فيها يفرق كل أمر حكيم) فقال (ولعل الله سبحانه أطلع نبيه على جزئيات الحوادث التي ستقع في زمان دعوته وما يقارن منها نزول آية او آيات او سورة من كتابه فيستدعي نزولها وأطلعه على ما ينزل منها فيكون القرآن نازلا عليه دفعة وجملة قبل نزوله تدريجا ومفرقا ومآل هذا الوجه اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القرآن في مرحلة نزوله الى القضاء التفصيلي قبل نزوله على الارض واستقراره في مرحلة العين وعلى هذا الوجه لا حاجة الى تفريق المرتين بالاجمال والتفصيل كما تقدم في الوجه الاول) ومراده بالوجه الاول ما نقلناه منه آنفا.

وعلى ذلك فيكون هذا توجيها آخر وهو ان القرآن نزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم تفصيلا لا اجمالا ودمجا ولكن في ضمن اعلام الله تعالى له بتفاصيل ما سوف يقضي به من حوادث تستتبع نزول الآيات فيكون بذلك قد اطّلع على الآيات ضمنا. وهذا الوجه لا بأس به ايضا.

وعليه فكل من الوجوه الاربعة محتملة في المقام وبكل منها يمكن توجيه الآيات المذكورة ورفع التنافي بينها وبين النزول التدريجي والحمد لله. ولكن الوجه الاول أقرب.

فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ... (فيها) اي في ليلة القدر. والفرق: الفصل، فيمكن ان يكون المراد هنا الحكم الفصل بمعنى تثبيت الامور وقضائها قضاءا حتميا قطعيا ويمكن أن يكون المراد تفصيل الامور المجملة والمبهمة بمعنى بيان تفاصيل المقضيّات والمقدرات. وتوصيف الامر بالحكيم بلحاظ انه مقتضى الحكمة او لانه منيع لا يعرضه التغيير والتبديل فهو قضاء حتم. والجملة تعليل لانزال القرآن في ليلة القدر بلحاظ أنها ليلة الحكم الفصل وانجاز الامور المهمة والحكيمة.

وللعلامة الطباطبائي رحمه الله رأي يستند الى تفسيره السابق للحكمة وهو انها حيث قوبلت بالتفريق فمعناها ما لا يتميز بعض اجزائه من بعض والتفريق فصل الشيء عن الشيء بحيث يتمايزان وقال (ان للامور بحسب القضاء الالهي مرحلتين مرحلة الاجمال والابهام ومرحلة التفصيل). ويتبين بما ذكرناه سابقا ان تفسير الحكمة بهذا المعنى لا اساس له.

وقد ورد في فضل ليلة القدر وانها الليلة التي تقدّر فيها الامور روايات كثيرة في كتب الفريقين وهناك اختلاف بينهما في تحديد الليلة فالعامة يعتبرون الليلة السابعة والعشرين ليلة القدر وعند الشيعة مرددة بين التاسعة عشر والحادية والعشرين والثالثة والعشرين ولكن اكثر الروايات تحصرها في ليلة احدى وعشرين وثلاث وعشرين نعم ورد في بعضها ان وفد الحاج يكتب في ليلة تسع عشرة كرواية محمد بن مسلم التي لا يبعد الاعتماد على سندها في عد الاغسال المستحبة (وليلة تسع عشرة وفيها يكتب الوفد وفد السنة..)[40.1] وفي رواية زرارة حول الغسل في ليالي رمضان (وقال في ليلة تسع عشرة يكتب فيها وفد الحاج وفيها يفرق كل امر حكيم..)[40.2] وفي بعض الروايات ما ينافيه ففي رواية ابي بصير التي مضى بعض منها قال (قلت ان سليمان بن خالد روى في تسع عشرة يكتب وفد الحاج فقال يا ابا محمد يكتب وفد الحاج في ليلة القدر والمنايا والبلايا والارزاق وما يكون الى مثلها في قابل فاطلبها في احدى وثلاث ..)[40.3]  ولكنها ضعيفة بالبطائني. وورد في موثقة زرارة بابن بكير ان التقدير فيها قال قال ابو عبد الله عليه السلام (التقدير في ليلة تسع عشرة والابرام في ليلة احدى وعشرين والامضاء في ليلة ثلاث وعشرين)[40.4]. وفي رواية سفيان بن السمط [40.5] ما يدل على انها من الليالي التي يرجى فيها من شهر رمضان وظاهرها انها من ليالي القدر ولكن الرواية ضعيفة.  

ولا يبعد ان يستفاد من الروايات ان ليلة القدر مرددة بين ليلتين الاحدى وعشرين والثالثة وعشرين ولكن لليلة تسع عشرة ايضا شأن وورد فيها الغسل واعمال اخرى ولا يبعد الاعتماد على ما يدل على ان وفد الحاج يكتب فيها.

ولكن هناك روايات تدل على أن ليلة القدر احدى ليالي العشر الاواخر من دون تحديد ويبدو من ملاحظة الروايات المختلفة أن هناك تعمدا من قبل المعصومين عليهم السلام بإخفائها في العشر الاواخر بل في كل الشهر الفضيل وذلك حثّا للناس على أن يبتهلوا الى الله تعالى في كل هذه الليالي ولكن اهتم أئمة أهل البيت عليهم السلام بالترديد بين الحادية والعشرين والثالثة والعشرين منها ونذكر هنا بعض ما صح من الروايات عن طرقنا:

روى الصدوق بسنده ــ وهو صحيح ــ عن زرارة عن ابي جعفر عليه السلام (أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم لما انصرف من عرفات وسار الى منى دخل المسجد فاجتمع اليه الناس يسألونه عن ليلة القدر فقام خطيبا فقال بعد الثناء على الله عزّ وجلّ أما بعد فإنّكم سألتموني عن ليلة القدر ولم أطوها عنكم لأني لم أكن بها عالما اعلموا أيها الناس انه من ورد عليه شهر رمضان وهو صحيح سوي فصام نهاره وقام وردا من ليله وواظب على صلاته وهجر الى جمعته وغدا الى عيده فقد أدرك ليلة القدر وفاز بجائزة الرب عزّ وجلّ) وقال ابو عبدالله عليه السلام (فازوا والله بجوائز ليست كجوائز العباد) [41] اي انها ليست من نعم الدنيا.

وهذا الحديث يدل بوضوح على أن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يبيّن موعد ليلة القدر لكي يهتم الناس بشهر رمضان وبالتعبّد فيه الى يوم العيد وأخفاها في كل الشهر ولم يحدّدها بالعشر الأواخر منه ويلاحظ أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم أضاف الى الصوم وأعمال الليالي حضور الجمعة والعيد.

وروى الكليني بسند صحيح عن حسان بن مهران عن ابي عبد الله عليه السلام قال (سألته عن ليلة القدر فقال التمسها في ليلة احدى وعشرين او ليلة ثلاث وعشرين). [42]

وروى بسند صحيح ايضا عن الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم عن حمران أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزوجل: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة..) قال: نعم ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الاواخر فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر قال الله عزوجل: (فيها يفرق كل أمر حكيم) قال: يقدّر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق فما قدر في تلك السنة وقضى فهو المحتوم ولله عزوجل فيه المشيئة قال: قلت: (ليلة القدر خير من ألف شهر) أيّ شيء عنى بذلك؟ فقال: العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ولولا ما يضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين ما بلغوا ولكن الله يضاعف لهم الحسنات (بحبنا).[43]

قال العلامة الطباطبائي رحمه الله (قوله عليه السلام "فهو المحتوم ولله فيه المشيّة" اي انه محتوم من جهة الاسباب والشرائط فلا شيء يمنع من تحققه الا ان يشاء الله ذلك).

نعم استثناء المشيئة لا ينافي الحتمية فالله تعالى في كتابه العزيز يستثني خلود اهل النار والجنة فيهما بالمشيئة ايضا قال تعالى (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ..).[44] والتقدير لا ينافي الاختيار ايضا فانه جزء من الاسباب ولم يقدّر الله تعالى ان هذا الامر يقع حتى لو لم يتحقق السبب بل قدّر انه يتحقق السبب فيتحقق الامر ومن السبب ارادة الانسان واختياره.

وروى الشيخ بسند موثق عن زرارة عن ابي جعفر عليه السلام قال (سالته عن ليلة القدر قال هي ليلة احدى وعشرين او ثلاث وعشرين. قلت: أليس انما هي ليلة؟ قال: بلى. قلت: فأخبرني بها. فقال: وما عليك ان تفعل خيرا في ليلتين).[45]

ويلاحظ من مجموع الروايات محاولة إخفائها ولكنها مختلفة في ذلك ففي مجموعة من الروايات اخفيت بين ليلتين الحادية والثالثة بعد العشرين وفي صحيحة حمران أخفاها الامام عليه السلام في العشر الاواخر وفي صحيحة زرارة الاولى أخفاها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في كل الشهر بل اشترط بلوغ ثوابها بحضور الجمعة والعيد بل ورد إخفاؤها في كل السنة في صحيحة الحلبي قال قال ابو عبدالله عليه السلام (اذا كان الرجل على عمل فليدم عليه سنة ثم يتحول عنه ان شاء الى غيره وذلك أن ليلة القدر يكون فيها في عامه ذلك ما شاء الله ان يكون). [46] ولعل المستفاد من هذه الصحيحة أن ليلة القدر ربما تتغير من سنة الى سنة وأنها غير متعين في الواقع بمعنى أن تعيين الليلة التي يقدر فيها الامور يعود اليه تعالى ولكن احتمال مصادفتها للحادية والعشرين والثالثة والعشرين من شهر رمضان وخصوصا الثانية اقوى منه بالنسبة الى سائر الايام كما أن احتمال وقوعها في العشر الاواخر منه اقوى من غيره والله العالم.

أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ... يحتمل ان يكون حالا من الضمير في (انزلناه) اي انزلنا القرآن حال كونه امرا من عندنا الى الخلق او المعنى أنزلناه بأمر من عندنا. ويحتمل أن يكون حالا من الامر في الآية السابقة فالمعنى أن كل امر حكيم يفرق ويفصل حال كونه أمرا من عندنا والتنكير للتفخيم اي امرا عظيما وكونه من عنده تعالى يزيده عظمة وفخامة وهذا يشمل إنزال القرآن ايضا لما مر من أن الآية السابقة تعليل له.

وقوله (إنا كنا مرسلين) تعليل لإنزال القرآن ايضا. وقوله (كنا) يدل على أن إرسال الرسل وإنزال الكتب من شؤون ربوبيته تعالى كما يأتي ذكره في الآية التالية. ولذلك لم تخل امة من نذير أرسله اليهم. ويلاحظ أن هذا التعليل يناسب أن يكون قوله (أمرا) حالا من القرآن وأما اذا اريد به كل أمر حكيم ليشمل القرآن فلا يناسب التعليل.

رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ... قيل يمكن ان تكون (رحمة)  مفعولا للارسال ولكنه بعيد لان الاوفق بالسياق حينئذ ان يقول (رحمة منا) فالظاهر انه مفعول لاجله لانزال الكتب وارسال الرسل. واضافة الرب الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لمزيد العناية به حيث انه هو المرسل وعليه انزل الكتاب فهو طريق نزول الرحمة الى العالمين من ربهم. والتعليل بانه تعالى هو السميع العليم المفيد للحصر من جهة انه الذي يسمع دعوات الناس وطلبهم لمعرفة الحقائق المغيبة عنهم وهو العليم بحاجاتهم الواقعية وان لم يسألوها وأنّ اهمها معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وكتبه وآياته واحكامه ولذلك ارسل الرسل وانزل الكتب.

رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ... توصيفه تعالى بانه رب الكون كله لئلا يتوهم متوهم انه رب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فحسب كما ورد في الآية السابقة حيث ان الوثنيين يعتبرون لكل مجموعة في الكون ربّا فالآية تؤكد لهم مرة اخرى انه رب الكون كله ولعل المراد بالسماوات ماوراء الطبيعة وبالارض عالم الطبيعة وبما بينهما الملائكة التي تنتقل بينهما لتدبير الامور ولرفع الاعمال وانزال الوحي واوامر الله التكوينية.

والربّ صفة مشبهة من ربب وربّى. والتربية كما في المفردات إنشاء شيء حالا فحالا الى التمام وفسر في معجم المقاييس وغيره بإصلاح أمر الشيء فالرب هو المصلح وهو القائم بالامور وحيث انه تعالى ربّ كل شيء فكل الخير والشر بيده ولا مؤثر في الكون غيره.  

واما الشرط (ان كنتم موقنين) فمعناه ان ملاحظة السماوات والارض والنظام الساري فيها يكفي لكي تؤمنوا به ان كنتم من الموقنين اي الذين يحصل لهم اليقين والوثوق من مجاريها الطبيعية المتعارفة في مقابل اهل الوسوسة والاضطراب النفسي الذين لا يحصل لهم اليقين حتى بالرؤية والاحساس المباشر.

لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ... لعل موقع هذه الجملة التي تنفي الالوهية عن غيره تعالى أنها نتيجة قطعية لكونه رب السماوات والارض اي الكون كله فان الرب كما قلنا هو الذي يربّي الشيء وبيده الخير والشر. والاله هو المعبود. والتأله: التنسك والعبادة. وكانت العرب تسمي الشمس إلاهة حيث عبدوها. والانسان لا يعبد بمقتضى طبيعته الا لجلب الخير ودفع الشر ومن هنا كانوا يعبدون ما يظنون أنه يجلب لهم المطر والرزق او انه يتسبب في نزول الشر كالحروب والبلايا والامراض فكانوا يعبدون بعض الاصنام او الكواكب دفعا لشرها فاذا ثبت أن الله تعالى هو رب السماوات والارض لا رب غيره في الكون وبيده الخير والشر والنفع والضرر فهو الاله وحده لا اله الا هو.

يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ... توصيفه تعالى بأنه هو المحيي والمميت تأكيد على معنى الربوبية. والاتيان بالفعل المضارع يدل على استمرار الاحياء والاماتة. والحياة والموت حالتان متكررتان في الطبيعة في مختلف المجالات، فالارض تحيا وتموت، والاشجار تحيا وتموت، والحيوان يحيا ويموت، وكل خلية من جسمه ايضا تحيا وتموت، والمجتمعات البشرية تحيا وتموت، والثقافات تحيا وتموت، وهكذا.. ويبقى الله تعالى هو الحي الذي لا يموت، وبيده الحياة والموت. والحياة من اسرار الكون التي لم يستطع احد حتى الآن فك طلاسمها ومعرفة رموزها وكل ما يصنعه الانسان إعداد للبيئة المناسبة للحياة وليس الا تصرفا في الكون وفقا للقوانين المتحكمة فيه.

ثم التوصيف بأنه تعالى ربكم ورب آبائكم الاولين لردعهم عن متابعة الآباء الوثنيين فانهم لم يعبدوا ربهم الذي كان الواجب عليهم ان يعبدوه.

 


[1] الانعام: 91

[2] القدر: 1

[3] البقرة: 185

[4] وفي بعض النسخ علي بن ابي حمزة البطائني والظاهر انه الصحيح

[5] الكافي: ج4 ص 156

[6] الكافي ج2 ص 628

[7] الامالي ص 119

[8] الطور: 4

[9] منها صحيحة زرارة في الكافي ج3 ص 302 باب بدء الاذان ح1

[10] البقرة: 185

[11]ج1 ص65  تفسير الصافي

[12] الاعتقادات: 82

[13] النساء: 155

[14] الزخرف: 20

[15] المجادلة: 1

[16] تصحيح اعتقادات الامامية: 123

[17] رسائل الشريف المرتضى ج1 ص403

[18] النساء: 15

[19] البقرة: 185

[20] الدخان: 3

[21] القدر: 1

[22] هود: 1

[23] الاعراف: 52- 53

[24] يونس: 37

[25] الزخرف: 1- 4

[26] الواقعة: 75- 80

[27] البروج: 21- 22

[28] البروج: 21- 22

[29] طه: 114

[30] القيامة: 16- 19

[31] الفرقان: 32

[32] الانعام: 7

[33] الاسراء: 95

[34] البقرة: 4

[35] المائدة: 44

[36] البقرة: 174

[37] البقرة: 164

[38] هود: 1

[39] الزخرف: 3- 4

[40] آل عمران: 6

[40.1] تهذيب الاحكام ج1 ص 114 باب الاغسال ح34

[40.2] تهذيب الاحكام ج4 ص196 باب سنن شهر رمضان ح2

[40.3]  تهذيب الاحكام ج3 ص59 باب فضل شهر رمضان ح4

[40.4] الكافي ج4 ص159 باب ليلة القدر ح9

[40.5] الفقيه ج2 ص160 ح2030

[41] ثواب الاعمال ص64

[42] الكافي ج4 ص156 باب ليلة القدر ح1

[43] نفس المصدر ح6

[44] هود 107 و108

[45] التهذيب ج3 ص 58 باب فضل شهر رمضان ح3

[46] الكافي ج2 ص82 باب استواء العمل والمداومة عليه