مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ... الآيات مستمرة في مخاطبة طواغيت قريش وهنا يستشهد بقوم طغاة قبلهم لم يؤمنوا ايضا برسولهم بالرغم من وضوح آياته وبراهينه فقوّض الله كيانهم وهدم بنيانهم، وانما يستشهد بهم ليعتبر المخاطبون بهم. ولعل وجه اختيار فرعون وقومه أن المخاطبين كانوا على علم بقصتهم لكثرة علماء بني اسرائيل بين ظهرانيهم وأن قوم فرعون كانوا أقوى منهم بكثير وأطغى ومع ذلك أهلكهم الله تعالى فلا يغترّ هؤلاء بكثرتهم وقوتهم.

والفتنة اصلها الاحراق على ما حكي عن الخليل رحمه الله وقد استعملت بهذا المعنى في قوله تعالى (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)[1] ثم استعملت في اذابة الذهب بالنار لتخليصه من الشوائب او لمعرفة جودته وبمناسبة هذا المعنى استعملت في ما يمتحن به الانسان فيظهر به جوهره وقابلياته او يخلص مما لا ينبغي ان يتصف به. وقيل انها في الاصل بمعنى اذابة الذهب ثم استعملت في الاحراق.

ومهما كان فالمراد بها هنا امتحان الانسان وابتلاؤه ليظهر جوهره ولتتكون شخصيته وكل ما في هذه الحياة من عسر ويسر يفتتن به الانسان ويبتلى كما قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)[2] وقال تعالى (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[3] وقد ابتلي قوم فرعون وهم اقباط مصر بالامرين فقد آتاهم الله من النعم والقوة والمال ما تمكنوا بها من بسط سلطتهم على اقوام آخرين واستعبادهم ومنهم بنو اسرائيل ومن جهة اخرى ابتلاهم الله بعد ان بعث اليهم موسى عليه السلام بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم فكان كل منها عذابا مريرا ولكنهم لم يتنبهوا بها.

وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ... اي موسى عليه السلام والكريم كل ما شرف من الانسان وغيره فيقال حجر كريم ونبات كريم قال تعالى (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)[4] وموسى عليه السلام كان شريفا بالذات في قومه ثم تربّى وترعرع في قصر فرعون ثم اظهر قوته وشكيمته ومروءته في الدفاع عن قومه بالبطش بالعدو القبطي فقتله ثم تسنّم الى اعلى ما يمكن ان يصل اليه البشر حيث اختاره الله للرسالة واظهر على يده اعجب المعجزات فكان الجدير بالقوم ان يؤمنوا به ويطيعوه ولكن فرعون الذي يدعي الربوبية والالوهية استنكف ان يتنازل عن عرشه لمن تربى تحت يده وجرت عليه نعمته ثم هو من قوم استعبدهم!! وحيث لا يمكن ان ينصاع فرعون لرسالته مع انه كان عالما بصدقه في دعواه لقوله تعالى (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)[5] بادر الى تضليل قومه كما هو شأن سائر الطواغيت.

أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ... (أن) تفسيرية وتفسر الرسالة التي دلّ عليها قوله (رسول كريم). والأداء دفع الحق كأداء الامانة. وفي هذه الجملة احتمالان:

الاول: ان عباد الله مفعول أدوا اي اتركوهم معي لاذهب بهم حيث يشاؤون والمراد بهم بنو اسرائيل والتعبير عنهم بعباد الله ردّ على مزاعمهم أنهم عبيد لهم.

والثاني: ان عباد الله منادى اي يا عباد الله أدّوا اليّ الحق الذي يجب ان يؤدّى الى الرسل من الايمان والطاعة والمتابعة. والاول اقرب. والجملة التالية تعليلية على الاحتمالين اي اتركوا عباد الله لان هذا امر من الله تعالى وانا رسوله اليكم وانا أمين في اداء الرسالة والتعليل على الاحتمال الثاني واضح.

وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ... تأكيد على ان الامر من الله تعالى وانه مجرد رسول يبلّغهم رسالة السماء فلا تترفّعوا على أمر الله تعالى وأطيعوه. والجملة التالية تتضمن تهديدا واضحا فان المراد بالسلطان البرهان والدليل الواضح الموجب لتسلط صاحبه على غيره وهو الثعبان واخراج اليد بيضاء وما تعقبهما من الآيات التي اوقعتهم في حرج شديد. والحاصل انه هددهم بأنهم اذا لم يطيعوا أمر ربهم فسينزل عليهم انواع من العذاب وقوله (آتيكم) اما فعل مضارع او اسم فاعل من أتى.

وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ... الظاهر انه انشاء للاستعاذة اي اني اعوذ بربي وربكم ان ترجمون والتأكيد على ان الذي يعوذ به هو ربه وربهم ايضا يشتمل على ترغيب وترهيب فهو يعوذ به لانه ربه ومن شأن الرب ان يحفظ المربوب خصوصا اذا كان رسولا له. وايضا يعوذ به لانه ربهم ومن شأنه ان يعاقبهم اذا ارتكبوا ما لا يرضى به. والرجم هو الرمي بالحجارة وهو مما كانوا يفعلونه بمن يريدون طرده باحتقار ولذلك ربما يطلق على نفس الطرد وبهذا المعنى اطلق الرجيم على الشيطان.

والعلامة الطباطبائي رحمه الله فسر الاستعاذة هنا بانه اخبار عن استعاذته سابقا واعلام لهم بان الله تعالى اعاذه من شرهم حيث جاءه الخطاب (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[6] ولعله انما قال ذلك لانه فعل ماض ولانه لا ينبغي له ان يستعيذ بعد ان أعاذه الله.

ولكن الفعل الماضي يستعمل في الانشاء كما قلنا والاستعاذة يمكن ان تكون من اجلهم لا من اجله فمعنى كلامه عليه السلام انه يستعيذ بالله من ان يرتكبوا ذلك فينالهم عذابه وغضبه.

وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ... وهذا يؤيد ما ذكرناه انه في الجملة السابقة يخاف عليهم من ان يرجموه وهنا يحذرهم من ان ينالوا منه فينالهم سخط من الله فيطلب منهم ان يعتزلوه ان لم يؤمنوا له ولم يصدقوه إرفاقا بهم كما هو شأن الرسل عليهم السلام. والكسرة في النون في قوله (فاعتزلون) للدلالة على الياء المحذوفة اي فاعتزلوني.

والايمان بمعنى التصديق وهو يتعدى بالباء تارة وباللام اخرى والظاهر أنه اذا تعدّى بالباء فمعناه التصديق بوجوده او بمقامه كالايمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر فهو تصديق بوجود الله وبربوبيته وبرسالة الرسول وبوجود اليوم الآخر واذا تعدّى باللام فهو بمعنى تصديق كلامه فمعنى قوله عليه السلام (ان لم تؤمنوا لي) اي ان لم تصدقوا كلامي وما أدعيه.

ويدل على ما مر من الفرق قوله تعالى (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ..)[7] فايمانه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بالله تعالى تصديق بذاته وصفاته وربوبيته. وايمانه للمؤمنين بمعنى تصديقه لكلامهم ومن هنا قالوا له انه اذن اي يصدق كل ما يقال له في قصة معروفة بينه صلى اللّه عليه وآله وسلّم وبعض المنافقين.

فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ... الفاء تدل على تقدير جزء من القصة يناسب ترتب الدعاء عليه اذ لا يترتب على ما حكي عنه عليه السلام في الآيات السابقة والمقدر انهم أجرموا واستمروا في استعبادهم للمؤمنين وقتل اولادهم واستحياء نسائهم وكأنّ ما وجدوه من صبر موسى عليه السلام في مواجهة طغيانهم هو الذي دعاهم الى التمادي في إجرامهم حتى انهم كلما نزل عليهم العذاب جاءوا اليه وطلبوا منه ان يدعو ربه ليكشف عنهم العذاب فكان يدعو ويكشف عنهم العذاب ثم يعودون الى كفرهم وعنادهم. وأخيرا طفح الكيل وانتهى صبر موسى عليه السلام فدعا عليهم.

قوله (أنّ هؤلاء..) مأوّل بالمصدر فلا بدّ من تقدير حرف الباء ليتعلق بقوله (دعا) والمعنى فدعا ربه عليهم بأن هؤلاء قوم مجرمون اي دعا بهذا الدعاء ومثله قوله تعالى (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ).[8] ولم يذكر ما دعا به عليهم وكأنه عليه السلام اكتفى بالقول انهم مجرمون وهو السبب في الدعاء عليهم والظاهر أن المطلوب ان ينالوا جزاء المجرمين. وقد ذكرنا مرارا أن الاجرام بمعنى القطع وأن الاجرام في المجتمع لا يطلق على كل عمل مخالف للقانون او العرف وانما يطلق على الاعمال الفظيعة التي تستوجب قطع أواصر العلاقة بالمجتمع كالقتل واذا اعتبر الانسان في الدين مجرما فلعله من جهة قطع علاقة العبودية والربوبية بينه وبين الله تعالى. ولا شك أن جزاءه عذاب شديد.

فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ... التعبير كله مبني على الاختصار فحذف كل ما يدل عليه الكلام وما يقتضيه المقام. والمقدّر هنا (قلنا فأسر..) والفاء للتفريع اي (ان كان كذلك فأسر). والاسراء السير ليلا فقوله (ليلا) للتأكيد على ان لا يخرجوا نهارا وعباد الله بنو اسرائيل وعلله بانهم متبعون فليكن السير ليلا حتى تكون لهم فرصة الفرار واما النهار فلا يمكن فيه خروج جمع عظيم من البلد بدون موافقة الحكام.

وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا... اختلف اللغويون وأهل التفسير في معنى الرهو فقيل انه بمعنى الساكن والمراد اتركه كما هو ولا تضربه بعصاك ليعود كما كان وقيل ان السكون صفة لموسى عليه السلام بالنسبة الى البحر اي لا تحدث حركة بل اتركه بحاله. وقيل انه بمعنى الطريق المنفرج. وقيل كل منخفض بين مرتفعين. وقيل الطريق الواسع. ومهما كان فالمراد واضح وهو نهيه عن تغيير حالة البحر.

واختصر الكلام هنا فلم يذكر قصة ذهابهم وتحيرهم امام البحر وقول موسى عليه السلام (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[9] ونزول الوحي عليه ان اضرب بعصاك البحر وانفلاقه بحيث كان كل فرق كالطود العظيم وتجاوزهم ووصولهم الى الساحل واكتفى هنا بالاشارة الى انه وجد امامه طريقا في البحر يبسا فسلكه وبعد اختصار كل ذلك ذكر الامر النازل عليه بما معناه (واترك البحر خلفك ساكنا او منفرجا) ليغرق فرعون وقومه ولم يرد ذكر هذا الامر في غير هذا المورد من موارد نقل قصته عليه السلام.

إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ... تعليل للحكم السابق بان البحر يجب ان يبقى بحاله ليدخله فرعون وقومه لانهم جند مغرقون اي أراد الله تعالى إغراقهم وتوصيفهم بأنهم جند للاشارة الى أنهم بأجمعهم مغرقون.

 

كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)

 

كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ... (كم) استفهام للتعجيب من الكثرة اي ما أكثر ما تركوا وراءهم من جنات وعيون وزروع. وفي الكلام اختصار عن كل ما حدث فان التعبير بأنهم تركوا يدل على أنهم اُغرقوا وماتوا وبقي ما كانوا يتنعمون به. وفي بيان كثرة ما تركوا من نعم مزيد من الاعتبار وتنبيه للمخاطبين بأن من سبقكم كانوا في احسن عيش وأوفر نعمة وسلبت منهم لكفرهم وطغيانهم فلا يغرّنّكم بأسكم واموالكم.

والمقام: موضع الاقامة، اي المسكن. والمقام الكريم اي الممتاز الذي له شرف ورفعة من بين المساكن فبلادهم كانت من أحسن البلدان وبيوتهم كانت من أحسن البيوت وكانوا يقيمون في بلاد متحضرة وقصور فخمة وفي رفاهية من العيش. ويمكن إرادة المقام المعنوي بمعنى كونهم موضع احترام وتقدير بين سائر المجتمعات البشرية في ذلك العصر.

والنعمة ــ بالفتح ــ مصدر بمعنى التنعم ــ وبالكسر ــ ما يتنعم به. والاتيان بالمصدر أبلغ في بيان وفور النعمة. والتعبير بأنهم كانوا فيها للدلالة على كونهم مغمورين بالنعمة محاطين بها. وفاكهين اي ناعمين متلذذين بالنعمة معجبين بها.

كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ... (كذلك) اي كان الامر كذلك. وهذا التعبير يؤتى به للتأكيد على أن ما ذكر هو الواقع ولعل الغالب فيه ما يستغرب وقوعه فيؤكد بمثل هذا التعبير.

واورثنا تلك النعم قوما آخرين وهم بنواسرائيل لقوله تعالى (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيل)[10] والارث كل ما يصل اليك من غيرك من غير معاملة كما في المفردات او كل ما يصل الى قوم من قوم سابقين من مال ومجد.

ولا شكّ أنّ المراد ليس رجوع بني اسرائيل في نفس الوقت الى مصر واستيلائهم على موروث الفراعنة فان ذلك مخالف لقوله تعالى (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)[11] وكذا ما يتبين من ملاحظة سائر الآيات الواردة في قصة بني اسرائيل كما أن التاريخ وما ورد في التوراة ايضا يخالفه.

وقال بعضهم إن مخالفة الظاهر تختص بآية الشعراء ولا بد من تاويلها وأما هذه الآية فالمراد بالقوم الآخرين ملك القبط الذي استولى على العرش بعد فرعون وهو بعيد لأن انتقال الممتلكات الى الورثة أمر طبيعي لا موجب للتنبيه عليه كأمر يدعو الى الاعتبار وانما العبرة بانتقالها الى المستضعفين في ذلك العصر وهو ما وعد الله به بني اسرائيل في قوله تعالى (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).[12] وقال تعالى في الوفاء بوعده (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ).[13]  

ويمكن ان يقال ان المراد تسلطهم على تلك المناطق ولو بعد زمان طويل حيث تسلط عليها سليمان عليه السلام وايراث الارض في التعبير القرآني لا يعني أن نفس القوم بأعيانهم يرثون تلك الارض بل حتى لو ورثتهم الاجيال المتأخرة منهم يطلق عليها انهم ورثوه ولا شك أن بني اسرائيل ما كانوا مؤهلين في تلك الحقبة لوراثة الارض بل كان لا بد من تربيتهم ليتأهلوا لحمل الرسالة الالهية ولنشر العدل وسلطة الشريعة والرسالة على البشر فهم كانوا مستعبدين في مصر قرونا ولم يمتلكوا نفسيات مساعدة تؤهلهم لهذا الامر الخطير ولذلك اخذهم موسى عليه السلام الى أماكن بعيدة عن مواطن تلك الذكريات المرة ليستعيدوا مقتضيات الفطرة البشرية من طلب الحرية والاستقلال الى أن بلغوا في أجيال متأخرة ما أراد الله تعالى لهم من وراثة مشارق الارض ومغاربها بما صبروا.

فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ... اكمال لتنبيه القوم كي يعتبروا بما مر على فرعون وملئه حيث انهم على كل ما وصلوا اليه من تقدم حضاري وسلطة وقوة اهلكهم الله تعالى فلم تبكهم السماء ولا الارض وعدم بكاء السماء والارض كناية عن أنهم هلكوا كهلاك غيرهم من الأقوام فلم يتأثر الكون من هلاكهم ولا أخل ذلك بنظام المجتمع البشري وهذا احتقار لهم بعد تلك العظمة كقوله تعالى (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا)[14] ومن الملفت للنظر ان الله تعالى ابقى على رفات فرعون ليكون آية لمن خلفه وعبرة لمن يعتبر وليعلم الناس انه لو كان الها كما زعموا لم يذق هذا الذل والهوان.

وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ... الانظار: الامهال. اي لم يمهلهم الله تعالى بعد ان قضى عليهم بالهلاك فغشيهم العذاب فجأة مع انه امهلهم قبل ذلك زمانا طويلا وكرر عليهم الآيات. وفي الآية اشارة الى اظهار فرعون للايمان بعد ان أحس بالنهاية المؤلمة حين الغرق فلم يمهله الله تعالى كما قال: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).[15]

وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ... تسلية وتطييب خاطر للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين مع انهم لم يصابوا بمثل ما أصاب بني اسرائيل من العذاب المهين حيث كان فرعون وقومه يقتلون ابناءهم ويستحيون نساءهم كما قال تعالى (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)[16] ومع ان طواغيت مكة لم يبلغوا تلك السلطة التي بلغها فرعون حيث قال (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)[17] فاذا لم يمهل الله فرعون وقومه ونجّا بني اسرائيل على غاية ضعفهم وهوانهم حيث كانوا عبيدا للاقباط فالامر بالنسبة للمؤمنين في مكة أهون وهكذا اراد الله تعالى ان يبعث فيهم الطمأنينة.

والمراد بكون فرعون عاليا أنّه كان متعاليا ومتكبرا يستعبد الناس ويذلهم كما قال تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ)[18] وكان من المسرفين اي الذين تجاوزوا الحد المتعارف من الطغيان فالطغاة كثيرون ولكن هناك حد لا يتجاوزونه غالبا وتجاوزه فرعون كما تجاوزه بعض فراعنة عصرنا الى ان سلط الله عليه اولياءه فاذلوه واذاقوه الهوان والحمد لله رب العالمين.

وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ... الضمير يعود لبني اسرائيل والله تعالى اختارهم على العالمين في ذلك العهد حيث ولّاهم السلطة والقدرة وتمكنوا من السيطرة على مناطق من الارض الى ان تجبروا وطغوا فاهلكهم الله تعالى على يد بعض عباده كما ورد في سورة الاسراء ويقال انه يدعى نبوخذنصر.

او اختارهم على العالمين جميعا حيث جعل منهم الانبياء وارسلهم الى شتى بقاع الارض وهذه نعمة عظيمة بل هو اعظم النعم اختص الله به هذا القوم لما كان فيهم من خصال حميدة فان النبوة والرسالة لا تكون الا في ارضية صالحة لمقام العصمة وهي نادرة جدا وفي هذا القوم كثرت هذه الارضية الخصبة لجلالة قدر اجدادهم يعقوب واسحاق وابراهيم عليهم السلام .

وقوله تعالى (على علم) اي لم يكن الاختيار جزافا (تعالى الله عن ذلك) وانما اختارهم لعلمه تعالى بصلاحيتهم لذلك وهكذا كل ما يختاره الله تعالى. وليس معنى ذلك ان كل من يتسنم عرش السلطة فقد اختاره الله كما يتوهم (تعالى الله عن ذلك ايضا) بل من يختاره الله تعالى للنبوة والامامة فانما يختار لعلمه بكونه صالحا لتحمل المسؤولية الكبرى.

وهناك من يقول ان كثرة الانبياء فيهم لا تدل على ميزة وصلاحية بل السبب فيه شيوع المفاسد فيهم فاحتيج الى كثرة الانبياء. وهذا كلام فاسد فان الانبياء لا يبعثهم الله تعالى الا مع العصمة ولا بد من صلاحية البشر لذلك وفي القرآن آيات كثيرة تدل على ان الله فضلهم على العالمين ولا ينافي ذلك وجود جماعة كبيرة منهم يفسدون في الارض ويقتلون النبيين.

وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ... من الواضح ان الله تعالى ميّز هذا القوم بكثرة ما ظهر بينهم من المعجزات والآيات وفي ذلك بلاء مبين وامتحان واضح فان كثرة الآيات يقطع العذر ويكمل الحجة عليهم فكثرة الآيات ــ من جهة ــ نعمة عظيمة يزيد في ايمان الناس ولكنها من جهة اخرى بلاء وامتحان كما ان كل النعم الالهية بلاء وامتحان وكثر في بني اسرائيل من لم يخرج من الامتحان فائزا فسلط الله عليهم من أذاقهم الذلّ مرة اخرى.

 

[1] الذاريات: 13

[2] الانبياء: 35

[3] الكهف: 7

[4] لقمان: 10

[5] الاسراء: 102

[6] طه: 46

[7] التوبة: 61

[8] القمر: 10

[9] الشعراء: 62

[10] الشعراء: 57- 59

[11] الاعراف: 138

[12] القصص: 5

[13] الاعراف: 137

[14] الشمس: 14- 15

[15] يونس: 90- 91

[16] البقرة: 49

[17] النازعات: 24

[18] القصص: 4