مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ... (كم) استفهام للتعجيب من الكثرة اي ما أكثر ما تركوا وراءهم من جنات وعيون وزروع. وفي الكلام اختصار عن كل ما حدث فان التعبير بأنهم تركوا يدل على أنهم اُغرقوا وماتوا وبقي ما كانوا يتنعمون به. وفي بيان كثرة ما تركوا من نعم مزيد من الاعتبار وتنبيه للمخاطبين بأن من سبقكم كانوا في احسن عيش وأوفر نعمة وسلبت منهم لكفرهم وطغيانهم فلا يغرّنّكم بأسكم واموالكم.

والمقام: موضع الاقامة، اي المسكن. والمقام الكريم اي الممتاز الذي له شرف ورفعة من بين المساكن فبلادهم كانت من أحسن البلدان وبيوتهم كانت من أحسن البيوت وكانوا يقيمون في بلاد متحضرة وقصور فخمة وفي رفاهية من العيش. ويمكن إرادة المقام المعنوي بمعنى كونهم موضع احترام وتقدير بين سائر المجتمعات البشرية في ذلك العصر.

والنعمة ــ بالفتح ــ مصدر بمعنى التنعم ــ وبالكسر ــ ما يتنعم به. والاتيان بالمصدر أبلغ في بيان وفور النعمة. والتعبير بأنهم كانوا فيها للدلالة على كونهم مغمورين بالنعمة محاطين بها. وفاكهين اي ناعمين متلذذين بالنعمة معجبين بها.

كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ... (كذلك) اي كان الامر كذلك. وهذا التعبير يؤتى به للتأكيد على أن ما ذكر هو الواقع ولعل الغالب فيه ما يستغرب وقوعه فيؤكد بمثل هذا التعبير.

واورثنا تلك النعم قوما آخرين وهم بنواسرائيل لقوله تعالى (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيل)[1] والارث كل ما يصل اليك من غيرك من غير معاملة كما في المفردات او كل ما يصل الى قوم من قوم سابقين من مال ومجد.

ولا شكّ أنّ المراد ليس رجوع بني اسرائيل في نفس الوقت الى مصر واستيلائهم على موروث الفراعنة فان ذلك مخالف لقوله تعالى (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)[2] وكذا ما يتبين من ملاحظة سائر الآيات الواردة في قصة بني اسرائيل كما أن التاريخ وما ورد في التوراة ايضا يخالفه.

وقال بعضهم إن مخالفة الظاهر تختص بآية الشعراء ولا بد من تاويلها وأما هذه الآية فالمراد بالقوم الآخرين ملك القبط الذي استولى على العرش بعد فرعون وهو بعيد لأن انتقال الممتلكات الى الورثة أمر طبيعي لا موجب للتنبيه عليه كأمر يدعو الى الاعتبار وانما العبرة بانتقالها الى المستضعفين في ذلك العصر وهو ما وعد الله به بني اسرائيل في قوله تعالى (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).[3] وقال تعالى في الوفاء بوعده (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ).[4]  

ويمكن ان يقال ان المراد تسلطهم على تلك المناطق ولو بعد زمان طويل حيث تسلط عليها سليمان عليه السلام وايراث الارض في التعبير القرآني لا يعني أن نفس القوم بأعيانهم يرثون تلك الارض بل حتى لو ورثتهم الاجيال المتأخرة منهم يطلق عليها انهم ورثوه ولا شك أن بني اسرائيل ما كانوا مؤهلين في تلك الحقبة لوراثة الارض بل كان لا بد من تربيتهم ليتأهلوا لحمل الرسالة الالهية ولنشر العدل وسلطة الشريعة والرسالة على البشر فهم كانوا مستعبدين في مصر قرونا ولم يمتلكوا نفسيات مساعدة تؤهلهم لهذا الامر الخطير ولذلك اخذهم موسى عليه السلام الى أماكن بعيدة عن مواطن تلك الذكريات المرة ليستعيدوا مقتضيات الفطرة البشرية من طلب الحرية والاستقلال الى أن بلغوا في أجيال متأخرة ما أراد الله تعالى لهم من وراثة مشارق الارض ومغاربها بما صبروا.

فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ... اكمال لتنبيه القوم كي يعتبروا بما مر على فرعون وملئه حيث انهم على كل ما وصلوا اليه من تقدم حضاري وسلطة وقوة اهلكهم الله تعالى فلم تبكهم السماء ولا الارض وعدم بكاء السماء والارض كناية عن أنهم هلكوا كهلاك غيرهم من الأقوام فلم يتأثر الكون من هلاكهم ولا أخل ذلك بنظام المجتمع البشري وهذا احتقار لهم بعد تلك العظمة كقوله تعالى (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا)[5] ومن الملفت للنظر ان الله تعالى ابقى على رفات فرعون ليكون آية لمن خلفه وعبرة لمن يعتبر وليعلم الناس انه لو كان الها كما زعموا لم يذق هذا الذل والهوان.

وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ... الانظار: الامهال. اي لم يمهلهم الله تعالى بعد ان قضى عليهم بالهلاك فغشيهم العذاب فجأة مع انه امهلهم قبل ذلك زمانا طويلا وكرر عليهم الآيات. وفي الآية اشارة الى اظهار فرعون للايمان بعد ان أحس بالنهاية المؤلمة حين الغرق فلم يمهله الله تعالى كما قال: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).[6]

وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ... تسلية وتطييب خاطر للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين مع انهم لم يصابوا بمثل ما أصاب بني اسرائيل من العذاب المهين حيث كان فرعون وقومه يقتلون ابناءهم ويستحيون نساءهم كما قال تعالى (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)[7] ومع ان طواغيت مكة لم يبلغوا تلك السلطة التي بلغها فرعون حيث قال (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)[8] فاذا لم يمهل الله فرعون وقومه ونجّا بني اسرائيل على غاية ضعفهم وهوانهم حيث كانوا عبيدا للاقباط فالامر بالنسبة للمؤمنين في مكة أهون وهكذا اراد الله تعالى ان يبعث فيهم الطمأنينة.

والمراد بكون فرعون عاليا أنّه كان متعاليا ومتكبرا يستعبد الناس ويذلهم كما قال تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ)[9] وكان من المسرفين اي الذين تجاوزوا الحد المتعارف من الطغيان فالطغاة كثيرون ولكن هناك حد لا يتجاوزونه غالبا وتجاوزه فرعون كما تجاوزه بعض فراعنة عصرنا الى ان سلط الله عليه اولياءه فاذلوه واذاقوه الهوان والحمد لله رب العالمين.

وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ... الضمير يعود لبني اسرائيل والله تعالى اختارهم على العالمين في ذلك العهد حيث ولّاهم السلطة والقدرة وتمكنوا من السيطرة على مناطق من الارض الى ان تجبروا وطغوا فاهلكهم الله تعالى على يد بعض عباده كما ورد في سورة الاسراء ويقال انه يدعى نبوخذنصر.

او اختارهم على العالمين جميعا حيث جعل منهم الانبياء وارسلهم الى شتى بقاع الارض وهذه نعمة عظيمة بل هو اعظم النعم اختص الله به هذا القوم لما كان فيهم من خصال حميدة فان النبوة والرسالة لا تكون الا في ارضية صالحة لمقام العصمة وهي نادرة جدا وفي هذا القوم كثرت هذه الارضية الخصبة لجلالة قدر اجدادهم يعقوب واسحاق وابراهيم عليهم السلام .

وقوله تعالى (على علم) اي لم يكن الاختيار جزافا (تعالى الله عن ذلك) وانما اختارهم لعلمه تعالى بصلاحيتهم لذلك وهكذا كل ما يختاره الله تعالى. وليس معنى ذلك ان كل من يتسنم عرش السلطة فقد اختاره الله كما يتوهم (تعالى الله عن ذلك ايضا) بل من يختاره الله تعالى للنبوة والامامة فانما يختار لعلمه بكونه صالحا لتحمل المسؤولية الكبرى.

وهناك من يقول ان كثرة الانبياء فيهم لا تدل على ميزة وصلاحية بل السبب فيه شيوع المفاسد فيهم فاحتيج الى كثرة الانبياء. وهذا كلام فاسد فان الانبياء لا يبعثهم الله تعالى الا مع العصمة ولا بد من صلاحية البشر لذلك وفي القرآن آيات كثيرة تدل على ان الله فضلهم على العالمين ولا ينافي ذلك وجود جماعة كبيرة منهم يفسدون في الارض ويقتلون النبيين.

وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ... من الواضح ان الله تعالى ميّز هذا القوم بكثرة ما ظهر بينهم من المعجزات والآيات وفي ذلك بلاء مبين وامتحان واضح فان كثرة الآيات يقطع العذر ويكمل الحجة عليهم فكثرة الآيات ــ من جهة ــ نعمة عظيمة يزيد في ايمان الناس ولكنها من جهة اخرى بلاء وامتحان كما ان كل النعم الالهية بلاء وامتحان وكثر في بني اسرائيل من لم يخرج من الامتحان فائزا فسلط الله عليهم من أذاقهم الذلّ مرة اخرى.

 

[1] الشعراء: 57- 59

[2] الاعراف: 138

[3] القصص: 5

[4] الاعراف: 137

[5] الشمس: 14- 15

[6] يونس: 90- 91

[7] البقرة: 49

[8] النازعات: 24

[9] القصص: 4