مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ... يعود السياق الى الحديث السابق عن مشركي قريش فالاشارة في قوله (هؤلاء) الى المشركين والتعبير عنهم بذلك لا يخلو من احتقار. و(هي) ضمير القصة اي لا يواجهنا في نهاية هذه الحياة الا موتة واحدة وليس بعدها حياة. والانشار بمعنى النشر وهو في الاصل بمعنى البسط ويكنى به عن إحياء الموتى. والغرض التنديد بانكارهم ليوم المعاد فان الوثنية لا تعترف بعالم آخر بعد هذه الحياة كما هو الحال في كفرة هذا العصر. وهذا منهم مجرد استبعاد اذ لا يملك احد دليلا على نفيه.

وقد وقع الكلام في التعبير الوارد في هذه الآية اذ ربما يقال ان الانسب ان يقولوا ان هي الا حياتنا الاولى او الدنيا كما في موضع آخر واما موتتنا الاولى فانه لا يناسب للرد على من يدعي حياة اخرى.

وذكروا وجوها في توجيه العبارة والاقرب ما ذكره ابن منير في حاشية الكشاف ان التوصيف بالاولى في مقابل الحياة الاخرى لا في مقابل الموتة الثانية ومعنى ذلك انهم ينكرون ان يكون بعد هذه الموتة اي شيء من الحياة او الموت ولكن حيث وُعدوا على لسان الرسل ان بعد الموت حياة فهنا أمران أمر قطعي محسوس وهو الموت وأمر موعود يعتبر عندهم موهوما ومرفوضا وهو الحياة بعد الموت فيقولون هنا لا يوجد شيء الا الامر الاول وهو الموت فتوصيف الموتة بالاولى باعتبار ان الحياة الموعودة امر ثان.

فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ... هذه حجة متكررة طالما تمسك بها المنكرون للمعاد وهي المطالبة بالآباء السابقين وانه لو كانت هناك حياة بعد الموت فلماذا لا يرجعون؟! ومنهم من يستبعد إحياء كل هذه الملايين الغابرة والاحتفاظ بهم في عالم آخر فاين هم الآن؟! وكيف يعودون؟! وكيف تدبّ الحياة في هذه العظام النخرة التي اصبحت ترابا بل عادت واصبحت بشرا او حيوانا او نباتا ثم عادت ترابا وهكذا الدائرة غير المنتهية؟!

والجواب عن كل ذلك أن الله على كل شيء قدير وهو الذي خلقهم اول مرة والاعادة أهون في حد ذاتها.

أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ... الآية الكريمة تهوّن من شأنهم في أعينهم فانهم كانوا يتصورون أنّ لهم شأنا بين الناس فكذلك امام الله تعالى فلا ينزل عليهم العذاب. والآية تنبههم ان الله تعالى أهلك من هو أعظم منهم شأنا حتى في أعينهم وهم قوم تبّع حيث يقال انهم فتحوا البلاد العظيمة وتسلطوا على كل المنطقة وكذا من كان قبلهم من الاقوام الذين بنوا حضارات وأسّسوا دولا وقد أهلكهم الله جميعا وأبادهم ولم يبق منهم الا اسم في التاريخ وآثار من مساكنهم ليعتبر من بعدهم. وقوله تعالى (انهم كانوا مجرمين) بيان لسبب الاهلاك. فمن أجرم فلينتظر نفس العاقبة. وقد مرّ الكلام في معنى الاجرام في تفسير الآية (فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون).

و(تُبَّع) من ملوك اليمن ويسمون التبابعة والظاهر ان المراد به ملك خاص من بينهم ولعله من ذكر في التاريخ باسم أسعد او سعد ابو كرب وقد ورد ذكره في روايات كثيرة وانه ممن بشّر اهل المدينة في عصره بظهور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بينهم وأنه أمرهم وأمر أولاده بمتابعته ونصرته وحكي عنه أنه تمنّى أن يكون في عصره ليخدمه وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم انه نهى عن سبّه لانه أسلم وروي انه اول من كسى الكعبة المشرفة. ولعله لذلك لم يرد في الآية تُبّع وقومه بل قوم تُبّع وورد ذكرهم في سورة ق ايضا هكذا.

والآية توسّطت بين انكار المشركين للمعاد والجواب عنه ولكن لا ترتبط بنفس الموضوع والظاهر ان الغرض منها التعجيل في التنديد بالمكابرة التي اعلنوا عنها بطلبهم إحياء الآباء وتهديدهم بعذاب الاستئصال الذي أصاب المجرمين قبلهم.

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ... المراد بالسماوات كما قلنا مرارا عالم ماوراء الطبيعة وبالارض عالم الطبيعة ولعله لذلك اعتبرهما شيئين فأتى بضمير التثنية لما بينهما مع ان السماوات جمع ولا حاجة الى تاويل ان المراد جنس السماوات بل هو غير صحيح ولا اظن القائل مقتنعا به ومهما كان فالمراد بالتعبير الكون كله وحتى لا يشذ شيء ذكر ما بينهما ولعل المراد الملائكة كما مر في نظيره.

والذي يلاحظ الكون بكل أجزائه الصغيرة والكبيرة يجد نظاما عجيبا متناسقا فهذا يدل بوضوح ان له صانعا حكيما وان اجزاء الكون لم تترابط بالصدفة ومن دون تنسيق ويتبين بوضوح ايضا ان الصانع الحكيم لم يخلق هذا النظام عبثا ولعبا بل هناك هدف وغرض تسير نحوه كل اجزاء الكون متناسقة متكاتفة ومن الطبيعي انه يجب في مثل هذا النظام المتكامل ان يقع كل شيء موقعه ونجد ان كل شيء في الطبيعة واقع موقعه الا ما دخلت فيه يد الانسان الذي جعله الله حرا طليقا فافسد في الارض كما قالت الملائكة قبل خلق البشر (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ..)[1] وكما قال تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ..).[2]

والانسان بنفسه لم يوضع موضعه فهناك كثير من المجرمين يصعدون مدارج الحكم ويتسلطون على رقاب الناس ويهلكون الحرث والنسل بل يبقى الفساد بعدهم وبسببهم سنة جارية مئات السنين ويحرّفون الدين وينشرون البدع ويميتون السنة ومع ذلك تجد اكثر الناس يقتدون بهم ويتخذونهم أئمة وفي المقابل نجد ان اكثر الانبياء والائمة والمصلحين والاتقياء يقتلون ويسجنون ويشردون بل تهان كرامتهم وينال منهم في وسائل الاعلام الى غير ذلك من المظالم المنتشرة في بقاع الارض وطيلة التاريخ البشري فلا بد من ان يكون هناك عالم آخر ينال كل انسان جزاءه ويقع كل انسان موقعه والا لما كان لخلق الانسان ولخلق هذا الكون الذي خلق لاجله حكمة وغاية.

مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ... أعاد ضمير التثنية مرة اخرى الى مجموع السماوات والارض وهذا يؤكد ما ذكرناه. والباء في قوله (بالحق) للملابسة اي ما خلقناهما الا ملابسا للحق بمعنى ان الكون يتحكم فيه الحق وهو النظام الالهي المبتني على الحكمة. والحق هو الامر الثابت وليس هناك شيء في الطبيعة اشد ثباتا من النظام الكوني. ولكن اكثر الناس لا يعلمون ذلك ويتصورون ان الكون لا يحكمه نظام عادل ولعلهم انما يتوهمون ذلك لما يجدونه من الظلم المتفشي بين البشر او ما يجدونه في الطبيعة ولا يعلمون له حكمة.

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ... حيث كان الاساس في الدليل السابق تفشّي الظلم في الارض وفي خصوص المجتمع البشري أكّدت الآية بأن الحكمة انما تتمّ بتحقيق العدالة في يوم ما وهو يوم الفصل اي اليوم الذي يفصل فيه الحق عن الباطل وتتبين فيه حدود الحق واضحة لا غبار عليها وينال كل انسان رتبته ويفصل بين اهل الحق واهل الباطل ويفصل بين كل ظالم ومن ظلمه ويفصل بين اعمال الخير واعمال الشر فربما نرى في هذه الحياة عملا في غاية الحسن بحيث يحسد عليه صاحبه ثم نجده يوم القيامة من أسوأ الاعمال وكذلك العكس فربما نستصغر عملا من احد او حتى من انفسنا ثم نجد انه هو الذي ينقذنا من العذاب فان مقاييس محاسبة الاعمال دقيقة لا تصل اليها افهامنا.

والحاصل ان ذلك اليوم يوم الفصل وتبيّن الحقائق فلا غبار ولا ضبابية ولا يولج الليل في النهار ولا النهار في الليل ولا يدمج الحق بالباطل كما في هذه النشأة.

والتعبير باليوم بمعنى انه مرحلة من مراحل الكون وليس بمعنى اليوم بالمعنى المعروف كما هو واضح. والميقات اي الموعد المحدد واصله من الوقت وهو بمعنى تحديد الشيء من حيث الزمان او المكان او غيرهما ولا يختص بالزمان كما يوهم اللفظ ومنه مواقيت الاحرام وهي أمكنة. قال في معجم المقاييس (اصل يدل على حدّ شيء وكنهه في زمان وغيره) والظاهر  أنّ منه ــ في غير الزمان والمكان ــ الموقوت في قوله تعالى (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا).[3]

يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ... (يوم) بدل عن يوم الفصل. والمولى الاول هو المتبوع والثاني هو التابع وكلمة (مولى) يتحد فيها اسم الفاعل والمفعول واصلها من (ولي) اي اتى الشيء بعد الشيء تباعا من دون فاصل. وقيل: ان الاصل فيها هو القرب ولذلك تطلق على الاقارب. والمعنى في الآية واضح وهو ان الاسياد في الدنيا لا يغنون شيئا يوم الحاجة الملحّة وهو يوم القيامة. والحكم عام لكل البشر ولا يختص بالمشركين كما يتوهم كما أن ضمير (هم) في قوله (ولا هم) يعود الى جميع البشر. وهم المقصودون بالضمير في الآية السابقة ايضا.

ومثل هذه الآية قوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)[4] وقوله تعالى (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)[5] وغير ذلك.

وقيل: الفرق بين النصرة والاغناء ان النصرة بمعنى المساعدة فلا يستقل بها المولى واما الاغناء بمعنى انه يقوم به مستقلا. وبناءا عليه فهذا الفرق يظهر يوم القيامة في الشفاعة فان لم يكن للمشفوع عمل يستحق به دخول الجنة او النجاة من النار فالمنفي هو الاغناء اذ لو كان الشفيع يفيده لكان مغنيا له عن العمل. وان كان له عمل فالمنفي هو النصرة فيكون المعنى أنّ عمله غير كاف فهو بحاجة الى من ينصره ويقويه والشفيع لا ينصره الا من رحم الله. ولكن فيه احتمال آخر سيأتي ان شاء الله تعالى. وعلى كل حال ففي ذلك اليوم لكل امرئ منهم شأن يغنيه فلا يقوم بالنصرة والاغناء أحد ولو قام لم يؤثر شيئا اذ يسقط في ذلك اليوم تأثير الاسباب الطبيعية كما قال تعالى (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ).[6]

إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ... قيل: انه استثناء عن الضمير في (ولا هم ينصرون) اي لا ينصر منهم أحد الا من رحمه الله تعالى. وقد يقال انه استثناء منقطع لان من رحمه الله تعالى لا يحتاج الى نصرة احد فالمعنى ولكن من رحمه الله تعالى هو الذي ينجو من العذاب.

وقيل انه استثناء عن المولى الاول الذي هو فاعل الاغناء ويفيد ان من رحمه الله يمكنه ان يغني عن مواليه بالشفاعة.

واعترض عليه العلامة الطباطبائي رحمه الله بان الاغناء بناءا على ما ذكر يتحقق في ما اذا لم يكن للمشفوع اي عمل يفيده يوم القيامة فتكون الشفاعة كافية له وهذا غير ممكن لان الشفاعة لا تكون الا لمن له على الاقل دِين مرضيّ. وعليه فلا بد من ارجاع الاستثناء الى النصرة فقط.

ولكن في رواية زيد الشحام انه استثناء من المولى الاول قال (قال لي ابو عبدالله عليه السلام ونحن في الطريق في ليلة الجمعة: اقرأ ــ فانها ليلة الجمعة ــ قرآنا فقرأت "ان يوم الفصل ميقاتهم اجمعين * يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون * الا من رحم الله" فقال ابو عبدالله عليه السلام: نحن والله الذي رحم الله ونحن والله الذي استثنى الله لكنا نغني عنهم).[7]

وفي نسخة (فكنا نغني عنهم) وعليها فالمعنى واضح وأما على نسخة (لكنّا نغني عنهم) فليس استدراكا عن الآية بل المراد ان معنى الآية مع الاستثناء (لا يغني مولى لكنا نغني). وعليه فالشفاعة بمعنى الاغناء ثابتة بناء على هذه الرواية. ولكن السند ضعيف.

والصحيح ان الفرق بين الاغناء والنصرة بالوجه الذي ذكره المفسرون غير صحيح لان الاغناء ليس بمعنى انه يكفيه كل شيء بل بمعنى انه يكفيه ما يحتاجه فان كان له دِين وعمل صالح ولكن كان عليه مؤاخذة لبعض المعاصي او لنقص في عمله فالشفاعة تغنيه عن مقدار حاجته وهي التي تحتاج الى استثناء واما النصرة فهي لا تكون الا في مقابل من يعاديه ويريد به شرا وهذا غير ممكن في المقام بدون استثناء اذ ليس في مقابل ارادة الله اي شيء يفيده او ينصره. فما ذكروه من ان الاستثناء يكون من النصرة ليس صحيحا، بل هو استثناء من المولى الاول كما في الرواية. ويمكن ايضا ان يكون استثناءا من المولى الثاني ولكنه على كل حال استثناء عن الاغناء والاستثناء متصل على الفرضين لان مورد الآية كما قلنا جميع البشر.

والحاصل بناء على ما ذكرنا في معنى الآية أنه لا ينفع شفيع ذلك اليوم الا من رحمه الله من الشفعاء او من المشفوع لهم ولا ينصر أحد أحدا بدون استثناء.   

وقوله تعالى (انه هو العزيز الرحيم) جملة تعليلية. والاتيان بصفة العزيز يناسب نفي تأثير الشفاعة في من لا يأذن له الله تعالى فهو عزيز لا يقهر ارادته شيء وصفة الرحيم تناسب تأثير الشفاعة باذنه تعالى.

 

[1] البقرة: 30

[2] الروم: 41

[3] النساء: 103

[4] البقرة: 48

[5] الانفطار: 19

[6] البقرة: 166

[7] الكافي ج1 ص423