مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة الفتح سورة مدنية كما هو واضح من مضامينها بمعنى انها نزلت بعد الهجرة وان ورد في الروايات انها نزلت في طريق عودة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من الحديبية وتتناول السورة قصة صلح الحديبية وانه الفتح المبين وتتعرض لما حدث للمسلمين قبله وبعده ولمبايعتهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم تحت الشجرة وهي بيعة الرضوان وتتعرض ايضا للمخلفين من الاعراب وحكمهم وتنتهي السورة بمدح بليغ للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والذين معه.

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا... الخطاب للرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم والتعبير بالفتح يدل على أن هناك انغلاقا قبل ذلك ولا شك أن التعبير بالفتح كنائي في مثل فتح البلدان بمعنى السيطرة عليها ولعل الاصل فيه أن البلد كان له في القديم بوابات، والعسكر المهاجم انما يسيطر على البلد اذا تمكن من فتح البوابة فاعتبر كل سيطرة على البلد فتحا، ثم كل غلبة في الحرب فتحا. وفي مورد نزول الآية ايضا لا بدّ من أن يكون هناك انغلاق على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ففتح الله تعالى لهم. واللام للتعليل اي فتحنا من اجلك. و(فتحا) مفعول مطلق. ووصفه بانه فتح مبين بمعنى أن كونه فتحا أمر واضح بيّن لكثرة فوائده وغنائمه.

والسؤال أنه ما هو هذا الفتح المبين؟

ليس هناك اختلاف في أن السورة نزلت بعد صلح الحديبية وبشأنه وفي آياتها شواهد على ذلك والروايات بهذا الصدد كثيرة ايضا وانما الاختلاف في المراد بالفتح في هذه الآية فان المعروف ان المراد به صلح الحديبية وتدل عليه روايات ولكن بعضهم كالزمخشري قال ان المراد به فتح مكة وقيل فتح خيبر وقيل الفتح العام والغلبة النهائية وقيل الغلبة المعنوية. والسر في كل ذلك واحد وهو استبعاد أن يعبر عن الصلح بالفتح.

ومن الغريب أنّ هذا الاستبعاد بدا من بعض الصحابة في ذلك الوقت ولعله كان بعد تعبير الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عنه بأنه فتح. فقد روى في الدر المنثور عن البيهقي قال (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعاً، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما هذا بفتح، لقد صُدِدنا عن البيت وصُدَّ هدينا، وعكف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وردّ رجلين من المسلمين خرجا، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول رجال من أصحابه: إنّ هذا ليس بفتح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس الكلام، هذا أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح (جمع راحة اي الاكف) عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الإِياب، وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم، وردّكم سالمين غانمين مأجورين، فهذا أعظم الفتح. أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، وأنا أدعوكم في أخراكم، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟ قال المسلمون: صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكّرنا فيما فكّرت فيه ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا. فأنزل الله سورة الفتح).

ويظهر من الحديث أن ذلك كان رأي جمع كثير منهم ويظهر من الروايات أن الجو العام كان جو استياء مما حدث وشعور بالهزيمة والضيم والمذلة. ويلاحظ أن الاصحاب رجعوا عن رأيهم بعد بيان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخصوصا بعد نزول الآية ولكن بعض المفسرين بقوا على نفس الفكرة واستبعدوا أن يراد بالفتح الصلح خصوصا بعد شعورهم بأن الصلح فرض على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن راغبا فيه مع أن هذا خطأ كبير والصلح كان هو الهدف الاساس للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكل رسول في كل زمان فان الرسول لا يقصد السيطرة على الناس وليست الحكومة هدفا لاصحاب الرسالات بل هدفهم نشر هدايات الله تعالى بين الناس وهذا الامر لا يتم الا في ظل الهدوء والسلام والامن. والرسل لا يطلبون حربا ابتداءً أبدا وانما تفرض عليهم فرضا فما حصل عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان أعظم من كل ما اغتنمه في سائر الحروب بل لا يقاس ذلك بالغنائم والفتوح المتعارفة أبدا فأحسن تعبير عنه هو التعبير الالهي (انا فتحنا لك فتحا مبينا).

ولذلك ورد في حديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم (لقد انزلت علي سورة أحب الي من الدنيا وما فيها: انا فتحنا لك فتحا مبينا) وفي الدر المنثور (وأخرج البيهقي عن المسور ومروان في قصة الحديبية قالا: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً فلما كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح من أولها إلى آخرها، فلما أمن الناس وتفاوضوا لم يكلم أحداً بالإِسلام إلا دخل فيه، فلقد دخل في تلك السنين في الإِسلام أكثر مما كان فيه قبل ذلك، فكان صلح الحديبية فتحاً عظيماً). وفي جوامع الجامع عن الزهري (لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكّن الاسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الاسلام).

وفي صلح الحديبية روايات كثيرة ننقل احداها عن مجمع البيان قال:

(خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كانوا بذي الحليف قلّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش. وسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا جموعا وهم قاتلوك أومقاتلوك وصادّوك عن البيت فقال صلى الله عليه وآله وسلم: روحوا فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين. فسار حتى إذا كان بالثنية بركت راحلته فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما خلأت القصواء (خلأت: بركت من دون علة والقصواء اسمها) ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت به.

قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنما يتبرّضه الناس تبرّضا (اي يأخذونه قليلا قليلا) فشكوا إليه العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه في الماء فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه. فبينا هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ومعهم العوذ المطافيل (اي النساء والصبيان، العوذ جمع عائذ: المرأة او كل انثى ولدت لسبعة ايام سميت بذلك لان ولدها يعوذ بها والمطافيل جمع مُطفل: المراة التي معها طفلها) وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد وإنا جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جَمُّوا (بفتح الجيم وتشديد الميم المضمومة اي استراحوا) وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي (يكنى به عن الموت والسالفة اعلى العنق) أو لينفذ الله تعالى أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول.

فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وانه يقول: كذا وكذا. فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته فقالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحوا من قوله لبديل (الى ان قال) ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابتدروا أمره، وإذا توضأ ثاروا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له.

قال: فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت (اي ما رأيت) ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، وانه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته فلما أشرف عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها فبعثت له واستقبله القوم يلبون فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدّوا عن البيت. فقام رجل يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته فقالوا: ائته فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو فقال صلى الله عليه وآله وسلم: قد سهل عليكم أمركم فقال: اكتب بيننا وبينك كتابا. فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللهم فقال المسلمون: والله لا نكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب باسمك اللهم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لرسول الله وإن كذبتموني ثم قال لعلي امح رسول الله فقال: يا رسول الله إن يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوة فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمحاه.

ثم قال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض وعلى أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجا أو معتمرا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو إلى الشام فهو آمن على دمه وماله، وإن بيننا عيبة مكفوفة (لعله كناية عن عدم الغدر فالعيبة الوعاء ومكفوفة اي معقودة) وأنه لا إسلال ولا إغلال (اي لا سرقة ولا خيانة)، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف فقال سهيل: والله ما تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب.

فقال سهيل: على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ومن جاءنا ممن معك لم نرده عليك فقال المسلمون سبحان الله كيف يُردّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من جاءهم منا فأبعده الله ومن جاءنا منهم رددناه إليهم فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجا.

فقال سهيل: وعلى أنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا ولا تدخلها بالسلاح إلا السيوف في القراب وسلاح الراكب وعلى أن هذا الهدي حيث ما حبسناه محله لا تقدمه علينا فقال: نحن نسوق وأنتم تردون. فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إنا لم نقض بالكتاب بعد قال والله إذا لا أصالحك على شي‏ء أبدا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فأجره لي فقال ما أنا بمجيره لك قال بلى فافعل قال ما أنا بفاعل قال مكرز بلى قد أجرناه قال أبو جندل بن سهيل معاشر المسلمين أأُردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت وكان قد عُذّب عذابا شديدا. فقال عمر بن الخطاب: والله ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذ فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: ألست نبي الله ؟ فقال: بلى قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى قلت: فلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف حقا؟ قال: بلى أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا قال: فإنك تأتيه وتطوف به فنحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بُدنَه فدعا بحالقه فحلق شعره. الحديث...

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ... اللام للتعليل كما هو ظاهر اللفظ. وظاهر العبارة أن الفتح سبب لاربعة امور (الغفران واتمام النعمة والهداية والنصر) وحيث استغرب بعض المفسرين أن يكون الفتح سببا للغفران حاولوا تأويل الآية بوجوه ركيكة لا حاجة الى ذكرها وقد استقصاها العلامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير الميزان وردّها. والسبب في هذا الاستغراب هو توهم أن الذنب هنا بمعناها المتبادر اي المعصية وأن الغفران بمعنى العفو فالاستغراب على هذا في محله فإن إسناد المعصية الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مناف للعصمة فحاولوا تأويله.

ولكن الصحيح أن الذنب ليس بمعنى المعصية وان ورد كذلك في كثير من كتب اللغة ولكن الوجه في التعبير به عن المعصية او الجريمة هو ما يستتبعه من الذم او الجزاء قال العسكري في الفروق (الذنب ما يتبعه الذم او ما يتتبع عليه العبد من قبيح فعله وذلك أن أصل الكلمة الاتباع) وقال الراغب في المفردات (الذنب في الاصل الاخذ بذنب الشيء يقال ذنبته اي اصبت ذنبه ويستعمل في كل فعل يستوخم عقباه اعتبارا بذنب الشيء ولهذا يسمى الذنب تبعة اعتبارا لما يحصل من عاقبته). فالمراد به هنا تبعة الاعمال في الدنيا وقد يكون العمل واجبا شرعيا الا انه يستوجب تبعات غير محمودة للانسان في المجتمع ومعنى الغفران ستر هذه التبعات بمعنى المنع من تأثيرها الاثر غير المحمود.

ومثله ما حصل لموسى عليه السلام فانه أدى واجبا عليه وهو نصرة المؤمن على الكافر وحيث أدى الى قتله ــ ولعله لم يقصد القتل ــ فاعتبر ذلك ذنبا لما يستتبع من مشاكل في المجتمع فاستغفر ربه فغفر له وليس معنى الاستغفار الندم على ما حصل ولذلك لما غفر له قال عليه السلام (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ)[1] ومعناه أنه سيستمر في الدفاع عن المؤمنين حيث ان الله تعالى في عونه ويدافع عنه ويحفظه من كيد الاعداء. ولذلك ايضا اعتبره ذنبا لهم عليه كما قال (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)[2] فهو ذنب في نظرهم.

والمراد هنا أيضا ما صدر من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالنسبة لقريش في مكة وبعد ذلك في المدينة من تسفيه آرائهم وتحقير آلهتهم والاستخفاف بكبرائهم وتقاليدهم ودعوتهم الى التوحيد والى الاعتراف بنبوته فالمراد بما تقدم هو ما تقدم على الهجرة حيث كان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم تحت ضغط المشركين في مكة ومع ذلك لم يأل جهدا في التنديد بأعمالهم وتسفيه كبرائهم وبما تأخر ما صدر منه صلى اللّه عليه وآله وسلّم في المدينة من محاربتهم وكسر شوكتهم في المنطقة العربية.

والمراد بالمغفرة ستر هذه التبعات الاجتماعية بالفتح والنصر والغلبة فان عامة الناس كما هو المشهود تبهرهم القوة والغلبة فاذا قام أحد بثورة لتغيير المعايير الاجتماعية ولم ينجح بل استؤصلت ثورته وصار سببا لقتل جماعة وسجن آخرين وغير ذلك من المشاكل الاجتماعية التي تحصل في الثورات فان عامة الناس بل حتى الخاصة منهم غالبا يعيّرونه ويعتبرون ما قام به جريمة اجتماعية لا تغفر حتى لو كانت دعوته حقة وأما اذا تمكن من قلب النظام والسيطرة على الوضع وتغيير المعايير فانهم يعتبرونه بطلا قوميا واماما متبعا. وهكذا كان الوضع العام لدى قريش والجزيرة العربية بالنسبة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وبذلك يرتفع الاشكال من جهة إسناد الذنب الى المعصوم ومن جهة تعليل الفتح بالمغفرة وذلك لان الفتح والغلبة يبرر ما قام به صاحب الثورة من تغيير للسنن الاجتماعية ومخالفة للتقاليد الموروثة كما نجده في جميع المجتمعات والعصور وهذا ما صرح به الامام الرضا عليه السلام في جواب المأمون حيث قال للامام عليه السلام (فأخبرني عن قول الله عز وجل ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال الرضا عليه السلام : لم يكن أحد عند مشركي مكة أعظم ذنبا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لانهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما فلما جاءهم صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة الى كلمة الاخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا " أجعل الآلهة الها واحدا ان هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم ان هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ان هذا الا اختلاق " فلما فتح الله عز وجل على نبيه مكة قال له: يا محمد انا فتحنا لك مكة فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر عند مشركي أهل مكة بدعائك الى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ومن بقي منهم لم يقدر على انكار التوحيد عليه اذا دعا الناس اليه فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم فقال المأمون: لله درك يا أباالحسن ..).[3]

وظاهر الحديث أن المراد بالفتح فتح مكة وهو خلاف ظاهر الآية كما مر ولعله سهو من الراوي ويمكن أن يعتبر صلح الحديبية فتحا لمكة ايضا لانه من مقدماته. ولذلك قال جابر بن عبدالله الانصاري رضوان الله عليه على ما روي (ما كنّا نعدّ فتح مكة إلا يوم الحديبية).

وفي الآية التفات حيث أسند الفتح الى ضمير المتكلم مع الغير (انا فتحنا) ثم أسند الغفران وما بعده الى الله تعالى (ليغفر لك الله) وكان مقتضى السياق أن يقال لنغفر لك ولعل الوجه فيه ان الغفران وما بعده أغراض ومصالح مترتبة ومقصودة لله تعالى بالذات فكان الانسب أن يسند الى الذات المتعالية وأما الفتح فهو متوقف على عوامل طبيعية عديدة وأرضية صالحة وان كان مرادا لله تعالى ايضا ولكنه لا يتحقق الا بأسبابه العادية المؤثرة بارادته تعالى والظاهر أن القرآن الكريم ينسب ما كان كذلك الى ضمير المتكلم مع الغير ايذانا بأنه أمر طبيعي حدث في موعده المحدد بأسبابه العادية والعوامل المؤثرة بارادته تعالى.

وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ... لا يبدو من الآية الاختصاص بنوع من النعم فيمكن أن يكون المراد  النعمة بالمعنى العام الشامل لكل النعم المادية والمعنوية الا أن مقتضى التعليل أن يكون المراد بالنعمة ما يترتب على الفتح والغلبة فلعل المراد خصوص ما يتعلق بانتشار الدعوة واستسلام المشركين في الجزيرة العربية لحكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

ولكن اذا لاحظنا أن الله تعالى اعتبر نصب أميرالمؤمنين عليه السلام يوم الغدير وليا واماما للمسلمين اكمالا للدين واتماما للنعمة بقوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا..)[4] فلا يبعد أن يكون المراد باتمام النعمة هنا أيضا هذا المعنى وهذه النعمة وان كانت عامة لجميع المسلمين والله تعالى منّ عليهم جميعا بها حيث قال (واتممت عليكم) الا ان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم حظي بها اكثر من غيره كما هو واضح.

والغرض من الآية بناءً على ذلك أن هذا الفتح هيّـأ الارضية الاجتماعية الصالحة لهذا النصب الخطير حيث كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يحذر الفتنة وعدم تقبل المجتمع لذلك حتى أنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ..)[5] وكما كان الفتح علة للغفران الاجتماعي كذلك هو سبب لتقبل المجتمع مثل هذا النصب الالهي المثير للاحقاد الجاهلية. وقد جاء إعلان هذا النصب المبارك بعد صلح الحديبية وفي حجة الوداع.

وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا... الصراط هو الطريق واصله السراط ابدل صادا لتناسب الطاء وهو من سرط الطعام اذا ابتلعه كأن الطريق يبتلع السائر فيه ويغيبه عن الانظار. والاستقامة بمعنى عدم الانحراف عن الحق وليس بمعنى كونه خطا مستقيما في مقابل الخطوط المنحنية وهذا تعبير متعارف عن الطريق الصحيح الذي لا ينحرف عن الحق الى جهة اخرى.

وقد اختلفوا في المراد بهدايته صلى اللّه عليه وآله وسلّم الى صراط مستقيم حيث انه كان مهديا اليه منذ أن بعث فقيل ان المراد الزيادة في هدايته بتشريع احكام اخرى وقيل المراد تثبيته على الصراط والصحيح أن الانسان مهما بلغ علما وكمالا فانه لا يستغني عن هداية الله تعالى الى الصراط المستقيم في جميع شؤونه باستمرار ومن هنا فان الواجب على كل مسلم ان يكرر يوميا عدة مرات ضمن صلاته (اهدنا الصراط المستقيم) والرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم أحوج ما يكون الى هذه الهداية فان اقل خطأ منه في سبيل الدعوة يسبب كارثة في الدين فاحتياجه الى هداية الله تعالى في كل حركة وسكون في هذا المضمار اكثر واكبر. هذا ولكن مقتضى التعليل ان يكون المراد ما هو مناسب للفتح والغلبة فالظاهر أنه الصراط المستقيم الموصل الى المقصود في نشر الدعوة وهو التمكن من ايصال الرسالة الى شتى أقطار العالم لتتم الحجة على الناس وان كانت الحاجة الى الهداية اوسع من ذلك.

وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا... العزيز من العزة وهي القوة والشدة والصلابة يقال ارض عزاز اذا لم تؤثر فيها المعاول ويعبر به عن الغالب الذي لا يمنع من تحقق ما يريده شيء وعلى الشيء النادر الذي لا يوجد مثله او قلما يوجد والظاهر ان توصيف النصر به هنا بهذا المعنى لانه نصر لا مثيل له أو يندر أن يحصل لأحد ولعل المراد الانتصار الذي تحقق للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في فتح مكة فان صلح الحديبية مقدمة له ولعل العزة فيه من جهة أن الله تعالى أذل له الرقاب دون حرب وقتال.

 


[1] القصص: 17

[2] الشعراء: 14

[3] عيون اخبار الرضا عليه السلام ج2 ص 180

[4] المائدة: 3

[5] المائدة: 67