مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ... السكينة من السكون وهو الاطمئنان والاستقرار. والانزال من الله تعالى ايجاد للشيء قال تعالى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ..)[1] ومثله قوله تعالى (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ..)[2] وكل خلق من الله تعالى انزال من سماء الامر والملكوت الى أرض الخلق.

وكان المؤمنون في سفر العمرة الذي انتهى الى صلح الحديبية بأمس الحاجة الى هذه السكينة بعد ما أقلقهم الوضع غير المتوقع حيث انهم خرجوا لاجل العمرة وحُرموا منها وكانوا يتوقعون وفقا للرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ــ كما ورد في آخر السورة ــ ان يوفّقوا للعمرة في تلك السنة ورأوا ما لم يتوقعوه فمُنعوا من الاعتمار وصالح النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشركين وتنازل لمندوبهم في كل ما أراد في وثيقة الصلح فمسح البسملة ومسح وصف رسول الله عن اسمه الكريم ورضي أن يرد الى المشركين من أسلم منهم واستجار بالمسلمين فرأى كثير منهم أن في هذا الصلح مذلة، وشك بعضهم في الدين وتزلزلت عقائدهم فأنزل الله السكينة والاطمئنان عليهم ليزول عنهم الشك والاضطراب ويزدادوا ايمانا.

لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ... اللام للتعليل ويظهر منه أن الغرض من انزال السكينة لم يكن ازالة الشك العارض فحسب بل الغرض أن يزداد ايمانهم. وقد وقع البحث والكلام لدى المفسرين والمتكلمين في أن الايمان هل هو مما يقبل الزيادة والنقصان أم لا؟ والاكثر يقولون بقبوله الزيادة كما هو واضح ولكن ذهب جماعة ــ منهم على ما يقال ابوحنيفة ــ الى عدم قبوله للازدياد وقد عرّفوا الايمان بالتصديق البالغ حد الجزم وقالوا ان الامر فيه يدور بين السلب والايجاب ولا معنى لزيادة التصديق وأوّلوا الآية وأمثالها بوجهين:

الاول: أنّ المراد بالازدياد عدم وجود فترات ينعدم فيها الايمان فالذي يقلّ ايمانه معناه انه يكفر بالله تعالى في بعض الفترات.

وهذا التأويل لا وجه له لانه يستلزم كثرة الارتداد في المؤمنين مما لا ينبغي نسبته اليهم بل يستلزم لوازم فقهية مترتبة على ارتدادهم لا يمكن الالتزام بها. وربما يستشهد لذلك بقوله تعالى (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)[3] ولكنه يدل على شركهم حين الايمان لان الجملة (وهم مشركون) حالية ومقتضاه عدم خلوص الايمان في أكثرهم مما يدل على اختلاف المؤمنين في زيادة الايمان ونقصه. ويدل على ما ذكرنا أنه لو كان المراد بالزيادة ما ذكر لم يصح التعبير بأنه زيادة ايمان الى ايمانهم بل هو حدوث ايمان بعد زواله.

الثاني : أن المراد زيادة ما يؤمنون به فكل حكم وكل خبر ينزل بالوحي ويؤمنون به يزدادون ايمانا بمعنى زيادة مورد الايمان. ومن الواضح أن هذا لا يترتب على انزال السكينة بل على انزال الحكم والحقائق الغيبية والآية صريحة في أن الايمان يزداد بانزال السكينة في قلوبهم مما يدل بوضوح على أن الايمان الذي يزداد من جنس السكينة والاطمئنان.

ولكن يبقى الكلام في أنه ما هو حقيقة الايمان هل هو العلم اليقيني او هو التصديق بالشيء او هو العلم مع الالتزام وعقد القلب. والبحث أشبه ما يكون ببحث لفظي حيث انه يدور على معنى الكلمة وحيث ان الايمان موضوع لكثير من الاحكام الشرعية فلا بد من القول فيه بانه وبمقتضى ظاهر القرآن بل صريحه أمر يقبل الزيادة والنقصان فلا يصح تأويله بمعنى لا يقبل ذلك.

والصحيح أنه ليس مجرد العلم بالشيء بل هو ــ كما قال العلامة الطباطبائي رحمه الله ــ العلم مع الالتزام وعقد القلب به بحيث يترتب عليه لوازمه من العمل وليس هو نفس العمل بل العمل من لوازمه حيث انه يصدر من المنافق ايضا فما ورد من تفسيره بالعمل تفسير باللازم ويقصد به أن الايمان لا يصدق الا اذا كان مؤثرا في مرحلة العمل. والمراد بالعلم الذي هو احد جزءي الايمان العلم العرفي لا اليقين القاطع بحيث لا يكون هناك احتمال للخلاف فالعرف يطلق العلم على الاحتمال القوي الذي لا يعتنى باحتمال الخلاف فيه وهذا بنفسه مما يقبل الزيادة والنقصان. ونحن نجد من أنفسنا في ما نعلمه من الامور الخارجية أن الاطمئنان يزيد لدينا كلما زادت الشواهد حتى نصل الى الاطمئنان الكامل بالمشاهدة ونحوها.

ومما يدل على ذلك ايضا قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي...)[4] فالآية صريحة في أن الايمان يزداد برؤية الشواهد التي تدل على الامر الغيبي وان كان ابراهيم عليه السلام مؤمنا بقدرة ربه بدرجة عالية جدا من الايمان الا أنه مع ذلك قابل للازدياد فالايمان هو الاطمئنان وسكون النفس وهو ذو مراتب وكلما زادت الشواهد زاد الاطمئنان.

هذا بالنسبة الى جزء من الايمان وهو العلم وانكشاف الواقع وفيه جزء آخر وهو عقد القلب وهو أمر اختياري فالانسان ربما يحصل له العلم بالشيء ولكنه لا يؤمن به كما كان ذلك دأب المعاندين من الكفار قال تعالى في شأن قوم فرعون (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)[5] ومن الواضح أن المراد ليس هو الانكار باللفظ والاعتقاد بالقلب فان المؤمن ايضا قد يضطر الى ذلك بل المراد أنهم أنكروا آيات الله مع تيقنهم وعلمهم وانكشاف الامر لهم بحيث لم يحتمل الخلاف او كان احتماله ضعيفا جدا لا يعتنى به ولذلك وصف الآيات بأنها مبصرة فهناك أمر اختياري قلبي في الايمان.

ونظير ذلك الحب والبغض فانهما يحصلان عادة من دون اختيار وهذا المعنى لا يمكن أن يتعلق به أمر أو نهي مع أن الشرع يأمر بحب أولياء الله تعالى وبغض أعدائه وليس المراد خصوص الابراز والعمل بل عقد القلب فالانسان يمكنه أن يعقد قلبه على حب شيء أو بغضه وكذلك يمكنه أن يعقد القلب على قبول شيء او رفضه. وهذا الامر ايضا قابل للشدة والضعف.   

وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا... الظاهر أن المراد بالجنود العلل والعوامل الطبيعية وغير الطبيعية المؤثرة في الكون فلعل المراد بجنود السماوات الملائكة وهي الوسائط بين الله تعالى وخلقه وبجنود الارض العوامل الطبيعية وكونها لله تعالى واضح لانها متقومة به وبارادته ولا كيان لها مستقلة عن ارادته تعالى وكلها تسير وتؤثر بأمره. وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر وهو واضح.

انما الكلام في الغرض من التنبيه على هذه الحقيقة في هذا الموضع ولا يبعد أن يكون المراد التنبيه على الحقيقة التي توجب السكينة للمؤمنين فكان عليهم أن ينتبهوا أن الله تعالى على كل شيء قدير وكل شيء يؤثر بأمره فلو أراد لأهلك أعداء الرسالة في لحظة ولكنه عليم حكيم يعلم عواقب الامور ولا يعمل الا ما تقتضيه الحكمة. ولو انتبهوا الى هذه الحقيقة لم يحدث فيهم أي اضطراب وقلق بل سكنت قلوبهم واطمأنت نفوسهم أن الامر بيد العليم الحكيم القادر على كل شيء. ولعل التعبير بالجنود للتناسب مع الغلبة على الأعداء.

ومن الطريف تكرار الجملة بعد بيان عاقبة أمر الفريقين وأن فريقا منهما في الجنة وفريقا في النار ليتبين وجه الحكمة في تأخير الغلبة الظاهرية للمؤمنين عليهم وأن الهدف الاسمى عند الله تعالى ليس هو الغلبة في الدنيا بل هو استحقاق الثواب والعقاب في الآخرة كما قال تعالى (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ..).[6] والتعبير بلفظ الماضي (وكان الله عليما حكيما) مع أنه حقيقة أزلية أبدية لعله للتنبيه على أن كل ما حدث في ما مضى مما أثار فيكم الشك كان بعين الله تعالى ونابعا عن علمه وحكمته وليس هناك أي تغيير وتبديل مضافا الى ان (كان) في مثل هذه المواضع قد تكون منسلخة عن الزمان.

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا... يحتمل أن تكون هذه الجملة تعليلا لانزال السكينة باعتباره سببا لزيادة الايمان وهو السبب في دخول الجنة. واضاف المؤمنات الى المؤمنين مع أن السكينة هنا نزلت على الرجال الحاضرين في تلك الواقعة لدفع توهم اختصاص الجنة والثواب بالرجال. ويصح أن نقول: ان نزول السكينة على الحاضرين سبب لزيادة ايمان الغائبين رجالا ونساءً بعد اطّلاعهم على ما حدث لكونه آية من آيات الله تعالى. ويحتمل ايضا أن السكينة نزلت على الجميع الحاضرين والغائبين بعد اشتراكهم في الاستياء مما حدث فيكون ذكر المؤمنين من باب التغليب. ويحتمل ايضا وجود مجموعة من المؤمنات مع الرجال.

ولكن الاولى أن تكون الجملة تعليلا لمضمون الجملة السابقة (ولله جنود السماوات..) حيث ان المراد بها التنبيه على أنه تعالى رب الكون كله وان العوامل المؤثرة في السماوات والارض انما تؤثر بارادته تعالى فهذا التعليل يدل على أن خلقه تعالى لهذا الكون وتدبير اموره انما هو من اجل حياة اخرى وعالم آخر يعقب هذا الكون يجازى فيه الانسان باعماله فهو نظير قوله تعالى (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)[7] على ما سيأتي ان شاء الله تعالى في تفسير الآية المباركة. وبناءً على هذا فالجملة تبين العلة الغائية لخلق السماوات والارض وما فيهما من جنود وليست تعليلا لنفس السلطة والملكية الالهية.

ويؤيد هذا الاحتمال عطف تعذيب المنافقين على ادخال المؤمنين الجنة فانه لا يمكن ان يكون نتيجة لانزال السكينة على المؤمنين الا ان يقال انه تعليل للتخصيص بالمؤمنين فيكون المعنى انزل السكينة على المؤمنين دون المنافقين ليدخل المؤمنون الجنة ويعذب المنافقون وهو بعيد.

ومن الغريب أن العلامة الطباطبائي قدس سره رفض هذا التفسير هنا مع أنه قال في تفسير الآية المذكورة في سورة النجم: (وقوله: «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» إشارة إلى ملكه تعالى للكل ومعناه قيام الأشياء به تعالى لكونه خالقهم الموجد لهم فالملك ناشئ من الخلق وهو مع ذلك منشأ للتدبير فالجملة دالة على الخلق والتدبير كأنه قيل: ولله الخلق والتدبير. وبهذا المعنى يتعلق قوله: «لِيَجْزِيَ» إلخ واللام للغاية، والمعنى: له الخلق والتدبير وغاية ذلك والغرض منه أن يجزي الذين أساءوا إلخ). وهذا هو نفس ما مر في تفسير هذه الآية وهما من باب واحد بل مثلهما ايضا قوله تعالى (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)[8] فان الجزاء ورد في الآية علة لبدء الخلق وإعادته لا للاعادة فقط.

وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ... التكفير هو الستر. وانما سمي الكافر كافرا لانه يستر الحق وينكره. والعطف لا يدل على الترتيب فلا ينافي كون التكفير قبل دخول الجنة مضافا الى ما مر في تفسير قوله تعالى (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ)[9] من ستر سيئات اهل الجنة بعضهم عن بعض حتى لا يحتقر بعضهم بعضا ولو في نفسه فهو نظير ازالة الضغائن كما قال تعالى (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).[10]

وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا... (ذلك) اشارة الى دخول الجنة. والفوز هو النجاة والاختصاص بالشيء فالفائز هو الغالب في المسابقة حيث يختص بالجائزة ولا شك أن الفوز العظيم هو الفوز بالجنة بل هو الفوز فحسب كما قال تعالى (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)[11] حيث يظهر منه الحصر. وانما قيّد ذلك بكونه عند الله تعالى لان الناس حتى المؤمنين منهم يهتمون بالظفر والغلبة في الدنيا ايضا اهتماما بالغا لا يقل عن اهتمامهم بالجنة ولذلك قال تعالى (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)[12] ولكن الله تعالى لا يعير اهتماما به الا كسبب لدخول الجنة كما قال عز من قائل (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ).[13]

وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ... عطف على يدخل كما هو واضح وقد مر أن الاولى أن تكون الجملتان تعليلا لقوله تعالى ولله جنود السماوات والارض.. وقدم ذكر المنافقين لان ضررهم أشد على الاسلام وأهله لكونهم بين ظهرانيهم ولذلك كان عذابهم ايضا أشد قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).[14]

الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ... المراد بالظن الاعتقاد الذي قد لا يستند الى دليل وشاهد ومن خصائص المؤمن المتقي حسن الظن بالله تعالى وورد في حديث معتبر عن الامام الرضا عليه السلام أنه قال (أحسنِ الظن بالله فان الله عزّ وجلّ يقول أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي ان خيرا فخيرا وان شرا فشرا).[15] والمتقون انما يحسنون الظن به تعالى لانهم يعلمون أنه لا يريد بهم الا الخير حتى لو أصابهم أشد المصائب فانهم يعلمون أن الله تعالى يريد أن يجزيهم جزاءً عظيما لا يستحقونه الا بالصبر على هذه المصائب فهم دائما في راحة بال وسكينة واطمئنان. وأما الكافر والمنافق بل حتى ضعفاء الايمان فانهم حتى لو كانوا في بُلَهنِية من العيش فانهم يتوقعون الشر دائما فهم أبدا في قلق واضطراب لعدم ركونهم في الحياة الى ركن وثيق والحال أن الحياة في هذه الدنيا مليئة بالاخطار.

والمراد بظن السوء هنا ما سيأتي في الآية12 (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) فانهم انما ظنوا ذلك لاعتقادهم أن الله تعالى لا ينصر رسوله فيعود هذا الظن الى سوء الظن به تعالى. وربما يقال بأن اعتبار هذا الامر من ظن السوء بالله يستلزم ايمانهم به تعالى وبأن كل ما يحدث فهو منه وأنه هو المؤثر في كل شيء حيث يتوقع منه ان ينصر نبيه فلم يفعل.

والجواب انه لا يستلزم ذلك لان ظنهم بعدم نصرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يمكن ان يكون من جهة ظنهم انه تعالى غير قادر على ذلك او من جهة ظنهم أنه تعالى لا يؤثر شيئا في الكون فهذا ايضا من سوء الظن به تعالى وعدم المعرفة بشأنه كما قال تعالى (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[16] والسوء بالفتح مصدر وبالضم اسم للمصدر.  

عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ... الدائرة ما يصيب الانسان من مكروه كأنه يدور حوله ويحيط به قال تعالى (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ..)[17] وقال ايضا (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ..)[18] واضافة الدائرة الى السوء بيانية. والجملة هنا دعاء عليهم أو قضاء وحكم من الله تعالى أو اخبار عن مستقبلهم. وعطف قوله (وأعد لهم جهنم) يؤيد كونه قضاءً او اخبارا. واذا كان دعاءً فالدعاء من الله تعالى ليس على حقيقته فانه المدعو في كل دعاء فالقصد منه لو كان دعاءً هو الحكم عليهم ايضا او التنديد بهم واظهار الغضب منهم.

وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا... مر الكلام مرارا حول اسناد الغضب والرضا الى الله تعالى. واللعن هو الطرد وهو غاية الغضب الالهي. والباقي واضح.

وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا... مر الكلام في نظيره والتكرار من جهة اختلاف المورد فهناك يبين للمؤمنين أنه تعالى قادر على انزال السكينة عليهم او قادر على نصرهم واهلاك عدوهم وهنا ينبه المنافقين والمشركين أنه قادر على انجاز ما يوعدهم به ولذلك اختلف التعبير في صفاته تعالى فالتنبيه على العزة لبيان أنه غالب على أمره ولا يمنع من تحقق مراده شيء ولكنه لحكمته يؤخر العقوبة والانتقام.

 


[1] الزمر: 6

[2] الحديد: 25

[3] يوسف عليه السلام: 106

[4] البقرة: 260

[5] النمل: 13- 14

[6] الانفال: 67

[7] النجم: 31

[8] يونس: 4

[9] سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم: 15

[10] الحجر: 47

[11] ال عمران: 185

[12] الصف: 13

[13] الانفال: 67

[14] النساء: 145

[15] الكافي ج2 ص72 باب حسن الظن بالله

[16] الحج: 74

[17] المائدة: 52

[18] التوبة: 98<