مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ... القوم هم الرجال يعبر به عنهم لانهم يقومون بالامور الهامة في المجتمع او لانهم قوّامون على العائلة. والسُخر الاستهزاء والاحتقار. قال القرطبي: السخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه وقد تكون بالمحاكاة بالفعل أو القول أو الاشارة أو الإيماء أو الضحك على كلام المسخور منه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبح صورته. والتنكير لافادة الشمول اي لا يسخر اي قوم من اي قوم فهناك تعميم في جهة الساخرين وفي جهة المسخور منهم.

وهنا سؤال يثار غالبا وهو أنه لماذا لم يوجه النهي الى الافراد ليشمل سخرية الفرد اذ كثيرا ما لا يسخر القوم من القوم وانما يسخر الفرد من الفرد. وذكر الزمخشري في الجواب وجها حسنا تبعه غيره وهو أن في ذلك اشعارا بأن الفرد غالبا لا يسخر الا في جمع من الناس وسائر القوم يضحكون معه ولا ينهونه بل ربما يكررون مقاله فتعود سخرية الفرد عملا جماعيا والآية تريد استفظاع ما كانوا عليه من الحال. ولكن يبقى السؤال عن الجمع في المسخور منه فهذا الوجه لا يفيد جوابا عنه وهو امر غفل عنه المفسرون.

والظاهر أن هذه الآية كسابقتها تحاول تصحيح الوضع الاجتماعي فكما أن الآية السابقة لم تتعرض للنزاع الفردي وانما تعرض لتنازع الفرق والطوائف كذلك هذه الآية منعت من سخرية كل طائفة من طائفة اخرى واحتقارها وهذا يختلف قبحا وتأثيرا عن سخرية الفرد من الفرد او الجماعة من الفرد ومنه يتبين أن موضع الاهتمام في الآية منع الطائفية والتعصب العرقي والقومي والقبلي ولعل اكثر ما كان شائعا آنذاك هو التعصب القومي والقبلي وهذا امر خطير يوجب تفكك المجتمع المسلم وهو في بدء تكونه بحاجة ماسة الى التعاضد والتكاتف بل المجتمع بحاجة الى ذلك دائما سواء كان اساس الوحدة فيه الدين او الوطن كما يحاول اليوم ان يكون هو الاساس في المجتمعات ولكن دين الله تعالى يعتبر الاسلام والاعتصام بحبل الله تعالى اساس الوحدة والتماسك ويقبح جدا ان يتفرق المجتمع الاسلامي لاختلاف الفرق والطوائف والقبائل.

عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ... جملة مستقلة وهي جواب عن سؤال مقدر حول سبب النهي وهو أن كل قوم يجب ان لا يفترضوا أنهم هم القوم المختار عند الله تعالى كما ظن اليهود فليس هناك قوم يختارهم الله تعالى لقوميتهم كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم (ان الناس من عهد آدم الى يومنا هذا مثل اسنان المشط لا فضل للعربي على العجمي ولا للاحمر على الاسود الا بالتقوى..). [1]

وظاهر الآية أنه يمكن أن يكون قوم خيرا من قوم. وكلمة (عسى) على ما قلنا مرارا ليست للترجي كما ورد في بعض التفاسير بل لبيان انه امر متوقع فيجب على كل قوم وطائفة ان يتوقعوا كون الطائفة الاخرى خيرا منهم. فيعود السؤال عن وجه الخيرية اذ لا يكون الفضل الا بالتقوى وهي صفة فردية والآية هنا تمنع كل قوم من احتقار قوم عسى أن يكون القوم الآخر خيرا منهم فما هو الموجب لكون قوم خيرا من قوم؟

والجواب أن الآية الكريمة لم تقل ان القوم الآخر أكرم عند الله تعالى وانما أشارت الى احتمال أن يكون القوم الآخر من جهة المقومات التي تعتبر عند الناس مناطا للفضيلة كالذكاء والجود ونحو ذلك خيرا منهم فلا بد لكل قوم يحتقر قوما أن يحتمل ذلك فان الغالب ان كل قوم لهم مميزات حسنة وربما كانت لهم صفات عامة سيئة ايضا ولكن الافضلية لا تناط بصفة خاصة فربما كانوا بملاحظة مجموع القيم خيرا من القوم الساخر وليس الامر كما ورد في التفاسير من أن النهي من جهة احتمال الفضل والكرامة عند الله تعالى وأن مناط الفضل عنده هو التقوى ولا يعلم به أحد. وذلك لان التفاضل هنا بين الاقوام لا الافراد.

وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ... يتبين بما مر معنى هذه الآية، ولكن يبقى هنا سؤال وهو أن الآية لا تشمل سخرية الرجال من النساء وكذا العكس. ولعل الوجه أن الغالب هو سخرية الرجال من الرجال والنساء من النساء خصوصا في ذلك المجتمع حيث كانت مجالس النساء ومجامعهن خاصة بهن كما ينبغي بل يجب ان يكون كذلك دائما. وفيه وجه آخر وهو أن منع الرجال يكفي عن منع النساء كما ان اكثر الاحكام يذكر فيها الرجل ولا يعني ذلك الاختصاص وانما ذكر حكم النساء هنا مستقلا لان نوعية السخرية بين النساء تختلف عن نوعيتها في الرجال فكل من الجنسين يحتقر الافراد والاقوام بمناط خاص هو موضع الاهتمام عندهم فالرجال مثلا يعيبون غيرهم من الرجال غالبا بالجبن والبخل وضعف التعبير ونحو ذلك والنساء يعبن غيرهن من النساء غالبا بالنقص في ما يتميز في نظرهن من الجمال والتجمل والتبعل وحضانة الاولاد ونحو ذلك.

وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ... اللمز والهمز والغمز في الاصل بمعنى الدفع والضغط الخفيف واستعير للطعن والانتقاص كما ان الطعن ايضا كذلك وقيل ان اللمز في المواجهة والهمز في الغياب وقيل غير ذلك. والغرض من الآية النهي عن الانتقاص من سائر المؤمنين وانما عبر بالانتقاص من النفس بلحاظ أن المؤمنين مجموعة واحدة متحدة كأنهم شخص واحد فتعيير أحدهم تعيير للكل فاذا صدر هذا التعيير من أحدهم فكأنه عيّر نفسه وعابها. وهذا الاسناد حقيقي وليس مجازيا فان العيب في كل مؤمن يعتبر عيبا للجميع في تلك الظروف الخاصة حيث كان المجتمع العربي يبحث بدقة ويضع كل حركة من الجماعة المؤمنة تحت المجهر كما هو الحال في نظائرهم فانا نجد في مجتمعنا مثلا انه اذا صدر ما لا ينبغي من رجل دين معمم فانه يصيب الجميع وليس كذلك سائر الطوائف والسبب هو ما اشرنا اليه من ان الاعداء يضعون كل صغيرة منهم تحت المجهر ويكبرونه اضعافا ويعممونه على الجميع.

وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ... النبز التلقيب اي وضع اللقب للآخرين ولكنه يستعمل في القاب السوء ويتداول في كثير من المجتمعات المتخلفة وضع الالقاب السيئة للناس احتقارا لهم وايذاءً وهكذا كان المجتمع العربي آنذاك والاسلام منعهم من ذلك فالآية بل السورة بكاملها من اهم الآيات والسور في مجال تربية المجتمع الاسلامي وتكوين اسسه. 

بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ... الاسم هو العلامة ويطلق على اللقب والكنية ايضا وحيث كانوا يطلقون على من سبق منه معصية لقبا يدل على ذلك منعهم من التلقيب بما يدل على الفسوق فان السمة الواضحة للانسان المؤمن هو ايمانه حتى لو صدر منه ما لا ينبغي فلا يجوز ان يسمى بما ينافي الايمان. وقيل ان المراد بالاسم الذكر كما يقال خلد اسمه او رفع اسمه اي ذكره فالمعنى بئس الذكر ان يذكر المؤمن بفسقه.

وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ... تبشير وانذار معا فالجملة تدعو الى التوبة وتبشر بأن ما مر منكم من الاخطاء والذنوب تغفر لكم بالتوبة وانذار لمن لم يترك السنن الجاهلية ولم يتب الى الله تعالى فانه سيكون من الظالمين بل التعبير يدل على الحصر فالظالم هو الذي لا يتوب ويصر على العادة السيئة ليس غيره فان التائب لا يكون ظالما بعد ذلك وان كان ما صدر منه ظلما بحق اخيه.  

يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ... الآية الكريمة تمنع بعض ما يهدد كيان المجتمع ووحدته وتماسكه وهي امور مهمة جدا في ترسيخ النظام الاجتماعي وتأمين الحياة السعيدة للانسان وحفظ حقوقه الشخصية وكرامته. فاول تلك الامور التي يوصي بها الله سبحانه من آمن به وبرسوله وبدينه تجنب الظن السيء بالآخرين. وجعل المخاطب في ذلك (الذين آمنوا) ايذانا بان الالتزام بذلك مقتضى الايمان بالله ورسوله. والاجتناب بمعنى الابتعاد ماخوذ من الجانب اي كن على جانب من ذلك فلا تقربه. وقد اختلف اللغويون في تحقيق معنى الظن وهو ــ على ما يبدو من موارد استعماله ــ الاعتقاد الذي لا يستند الى دليل سواء كان قطعيا او فيه نوع تردد فالمراد هنا تجنب الاعتماد في تقييم الاشخاص على التهمة والاعتقاد الذي لا يستند الى دليل قاطع او حجة شرعية.

وليس المراد بالطبع الاجتناب عن نفس الظن فانه امر غير اختياري فالانسان اذا واجه امورا تدل ولو بوجه ظني ضعيف على حالة او عمل فانه يحصل له الظن بذلك والناس مختلفون في التأثر بهذه العوامل فهناك من يحصل له اليقين بادنى امارة وعلامة وهناك من يحصل له الظن وهناك من يتردد الى غير ذلك وانما المنهي عنه هو ترتيب الاثر على الظنة والتهمة ومؤاخذة الناس به فعلا او قولا.   

وليس المراد ايضا حسن الظن بالناس والاعتماد على كل احد بمجرد كلام معسول وعدم اتخاذ الحيطة على النفس او المال او نحو ذلك حتى لو ظن باحد شرا، فان ذلك من السذاجة ويؤدي الى اضرار كثيرة. ومن الواضح انه ليس من الاساءة بالظن ان يحتاط الانسان اذا ظن باحد شرا اذ المنهي عنه هو ترتيب الاثر على سوء الظن وليس معناه العمل بحسن الظن بل ربما تتغير المقاييس بتغير الزمان ويكون الاولى بوجه عام هو الاحتياط وعدم الاعتماد على الناس كما عن امير المؤمنين عليه السلام (إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجل الظن برجل لم يظهر منه حوبة فقد ظلم وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله ثم أحسن رجل الظن برجل فقد غرر).[2]

ومن هنا يتبين الوجه في أنه تعالى لم يأمر باجتناب الظن مطلقا بل الكثير منه فان الغالب من موارد الظن بالسوء ما يتلقفه الناس لينشروه فيما بينهم ويجعلونه حديث المجالس للانتقاص من الآخرين وقليل من موارده يستلزم الاحتياط في مقام العمل وهذه الموارد واضحة للجميع والناس بطبيعتهم يحتاطون في موارد لزوم الاحتياط بسبب سوء الظن بالشخص كما نلاحظه في رجال الامن مثلا فانهم يبحثون عن المجرمين بادنى مظنة للسوء وهو ما ينبغي ان يفعل اذا كان القصد المحافظة على امن المجتمع.

وقيل في تفسير الآية ان التقييد بالكثير من جهة ان ما يقابله هو الظن بالخير وهو قليل وانما الغالب الظن بالسوء وقال بعضهم ان ظن السوء كثير في نفسه ولا يراد انه الاكثر. ولكن الصحيح الواضح من السياق ان المراد بالظن هو ظن السوء خاصة فالكثرة باعتبار ان بعض الظن بالسوء يجوز العمل على طبقه في مورده بل لا يجوز الاجتناب عنه وهو موارد لزوم الاحتياط كما قلنا لكن ليس معناه ان نتهم احدا ونجازيه بمجرد الظن انما الواجب هو الاهتمام به واخذ الحيطة. وبذلك يتبين ايضا المراد بقوله تعالى (ان بعض الظن اثم). والاصل في الاثم ــ على ما قال العسكري في فروق اللغة ــ التقصير. وقال في الكشاف (هو الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب) وفي المفردات ومقاييس اللغة ان اصله التباطؤ وهو يناسب التقصير والمراد هنا التباطؤ عن الخير ومنه سمي الذنب اثما.

 ومهما كان فالآية تمنع هنا من اساءة الظن بالناس ولم يخصص الحكم بالمؤمنين او المتقين والصالحين فالظاهر ان الهدف هو بناء مجتمع يبتني على اساس حسن الظن بالناس كما نجده اليوم في المجتمعات المتحضرة وهذا الامر يوجب رخاءً اجتماعيا وهناءً في العيش وراحة للضمير وتأدبا عاما ويحث عامة الناس على عدم الاضرار بالآخرين ومتابعة النظام والقانون والابتعاد عن الشر والفوضى. والناس بصورة عامة تواقون للخير والاستثناء شاذ فلا بد من حسن الظن بهم حتى لا يظنوا بانفسهم الشر ولا يهون الشر في اعينهم فتميل اليه نفوسهم ولكن ليس معنى ذلك عدم اخذ الحيطة بل القرآن يؤكد على ان يكتب كل دين ولا يكتفى بحسن الظن قال تعالى (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا...) بل رغّب في اخذ الرهان ان لم يمكن الكتابة.

وَلا تَجَسَّسُوا... وهذا هو الامر الثاني مما اوصى به الله تعالى لتنظيم المجتمع الصالح. والتجسس من الجسّ وهو كما قال ابن فارس في معجم المقاييس (تعرّف الشي‏ء بمسّ لطيف يقال جسست العِرق وغيره جسّا والجاسوس فاعول من هذا لأنّه يتخبّر ما يريده بخفاء ولطف) والنهي عنه بعد المنع من اساءة الظن يدل على انه اذا أسأت الظن فلا تتحقق ولا تبحث عن ما يستره المظنون كما ورد في الحديث النبوي الشريف (ثلاث لازمات لامتي الطيرة والحسد وسوء الظن فقال رجل ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه قال إذا حسدت فاستغفر الله وإذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض‏).[3] والمراد بالتجسس الممنوع البحث عن الشؤون الشخصية للناس كما اذا رأيت أحدا يحمل قارورة يشبه قوارير الخمر فانه لا يجوز لك ان تتحقق وتسأل بل يجب ان يحمل على الصحة ما دام له محمل كما ورد عن اميرالمؤمنين عليه السلام (ضع امر اخيك على احسنه حتى ياتيك ما يقلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من اخيك سوء وانت تجد لها في الخير محملا)[4] وغير ذلك من الاحاديث وهي كثيرة جدا وموردها جميعا الامور الشخصية. ومنها ما روي عن ابي عبدالله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تطلبوا عثرات المؤمنين فإن من تتبع عثرات اخيه تتبع الله عثراته ومن تتبع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته)[5] وربما يستفاد من الآية عدم اختصاصه بالمؤمنين لاطلاق النهي.

نعم ربما تضطر الحكومات الى التجسس لمعرفة الاعداء اذا ارادوا ايقاع الشر او اثارة الحرب وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عيون اي جواسيس يخبرونه عما يدور حوله من حوادث فقد كان محاطا بكثير من الاعداء بل ربما يتوقف الامر على التجسس على بعض الناس في بيوتهم او التنصت الى مكالماتهم ولا يجوز ذلك في الظروف المعتادة وانما يجوز في الحالات الطارئة وبالنسبة لمن يظن به انه يقصد ايقاع الشر بالمجتمع خصوصا في زماننا هذا حيث يمكن لاي واحد من الناس ان يفجر مجتمعا سكنيا او تجاريا برمته ويهلك عددا هائلا من الابرياء فلا يجوز في مثل ذلك التمسك بالمنع عن التجسس او لزوم رعاية الحريات الشخصية او الكرامة الانسانية.

وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ... وهذا هو الامر الثالث من هذه الوصايا. والاغتياب والغيبة ــ بالكسر ــ ماخوذ من الغيبة ـ بالفتح ــ وهي الغياب عن البصر والمراد به الوقيعة في الناس في غيابهم وقد اختلف في تعريف الغِيبة التي حرمها الله تعالى فقيل هو ذكرك اخاك بما يكرهه. وعرّفه كثير من الفقهاء بانه ذكر المؤمن بعيب في غيبته سواء أكان بقصد الانتقاص ام لم يكن وسواء أكان العيب في بدنه ام في نسبه ام في خلقه ام في فعله ام في قوله ام في دينه ام في دنياه ام في غير ذلك مما يكون عيبا مستورا عن الناس. ويظهر من الآية الكريمة ان حرمته خاصة بالمؤمنين حيث قال لا يغتب بعضكم بعضا ولذلك قلنا بان النهي في الموردين السابقين لا يختص بالمؤمنين فالقرينة على ذلك هو تخصيص هذا الحكم بالمؤمنين.

وقد شنّع الله تعالى ذلك اشد تشنيع حيث شبهه باكل لحم الاخ ميتا ومن بدائع القرآن أنه لا يكتفي في مثل هذه الموارد بالنهي والمنع بل يحاول تنفير النفوس من الامر ومن الواضح والضروري ان النفس تشمئز غاية الاشمئزاز من رؤية هذا المشهد فضلا عن القيام به: اخ ياكل لحم اخيه بعد موته!! وانما شبهه تعالى بذلك لان المؤمنين اخوة كما سبق ذكره في هذه السورة وغيابه يشبه موته لانه لا يستطيع الدفاع عن نفسه كالميت والوقيعة في عرض الاخ يشبه اكل لحمه ان لم يكن اشد منه ولذلك ورد في بعض الروايات ان حرمة عرض المؤمن كحرمة دمه وماله كالحديث النبوي المشهور (المؤمن حرام كله عرضه وماله ودمه).[6] وفي الآيات تأكيد من جهات اخرى ايضا كذكره ضمن استفهام انكاري والتعبير بقوله (ايحب احدكم) النافي لان يكون اي احد منهم محبا لذلك وقوله تعالى (فكرهتموه) وهو بتقدير جملة اي (عرض عليكم هذا فكرهتموه). فكراهة هذا الامر وجداني طبيعي فلتكن كراهة الغِيبة ايضا كذلك.

والمنع من الغيبة يزيد المجتمع تماسكا بل يمنحه نوعا من الشعور بالمسؤولية تجاه غيره من المؤمنين بصورة واقعية فان ذلك يعني ان المودة والمحبة بين افراد المجتمع يجب ان لا تكون من المجاملات التي تتعارف في المجتمعات البشرية بل الشعور بالاخوة يجب ان يكون واقعيا ينبع من ايمان كل فرد بربه وبدينه حتى في غياب اخيه المؤمن وهذا من خصائص المجتمع الديني ولذلك اختص النهي عنها بالمؤمنين في ما بينهم. وقد تأكد النهي عن الغيبة في الروايات الكثيرة من الفريقين بحيث اصبح تحريمه والتنديد به من الامور الواضحة في الدين لا يكاد يخفى على احد.

واستثنى الفقهاء من حرمة الغيبة بعض الموارد حيث تقتضي الحكمة تجويزها بل ايجابها فمنها مورد التظلم لقوله تعالى (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ..)[7] ومنها مقام النصيحة للمؤمن في ما اذا استشار بل مطلقا وهذا باب واسع فقد يستشير المؤمن للزواج او للمشاركة او الاستيجار او اي نوع من التعامل مع الآخرين وهو لا يعرف صاحبه فعلى اخيه المؤمن اذا عرف انه لا يصلح له ان ينصحه ويمنعه من الوقوع في المشاكل ومن ذلك مورد انتخاب احد لتصدي رئاسة الجمهورية او اي مقام آخر يتوقف على الانتخاب كالمجلس التشريعي فان المصلحة العامة تقتضي ان لا يخفي الانسان ما يعلمه من المرشحين ومن هو الاصلح للناس ولا يجوز ان يخفي شيئا من ذلك تذرعا بحرمة الغيبة ولكن لا يجوز ايضا ان يتذرع بالمصلحة وينشر بين الناس كل ما لا ينبغي ان يقال من الاسرار وانما عليه اولا ان لا يقول الا ما يعلمه بوجه قطعي وثانيا ان يقتصر على المقدار الذي يكفي لامتناع الناس من التصويت له وهكذا في سائر موارد الاستشارة او النصيحة بوجه عام.

ومنها ما لو كانت الغيبة لمصلحة المغتاب مصلحة اهم من فضح سره وذكر عيوبه كما لو كان يترتب على ذلك حفظه من الوقوع في ضرر متوقع من الظالمين ونحوهم او كان يترتب على ذلك منعه من الاستمرار في المنكر اذا لم يمكن ردعه عنه بوجه آخر.

وذكروا موارد اخرى منها التجاهر بالفسق والظاهر انه خارج عن الغيبة لانه ليس عيبا مستورا اما لو كان الشخص متجاهرا امام مجموعة من الناس فقط فلا يجوز فضحه امام غيرهم كما انه لا يجوز اغتيابه في عيب من عيوبه او فسق آخر مما لا يتجاهر به. ومنها غيبة من يخاف على الدين او المجتمع الاسلامي منه لكونه مبتدعا او منحرفا او جاهلا يظهر نفسه بمظهر العلماء ونحو ذلك وهذا يدخل في باب النصيحة. ويمكن ان يدخل في ذلك ايضا ما ذكروا من جرح الشهود والقدح في المقالات الباطلة والرد على العلماء ونفي الاجتهاد او الاعلمية او سائر شروط المرجعية عن مدعيها ونحو ذلك.

وقد وقع الخلاف بين الفقهاء في ان التوبة عن الغيبة هل يكفي مطلقا او في خصوص ما اذا لم يمكن الاعتذار من المغتاب او لا يكفي مطلقا بل لابد من الاعتذار او الاستغفار له بل ربما قيل انه لا يغفر له ان لم يغفر له المغتاب سواء تمكن من الاعتذار ام لا بل روي ذلك في بعض الروايات وعلل به ان الغيبة اشد من بعض الكبائر لانه يكفي فيها التوبة والغيبة لا تغفر حتى يغفر له المغتاب. ولكن جمعا من الفقهاء المحققين ومنهم سيدنا الاستاد حفظه الله[8] يقولون بكفاية التوبة في كل الموارد وان حرمة المؤمن حق لله تعالى ولذلك لا يجوز للمؤمن نفسه ايضا ان يذل نفسه ولا اثر لاعلانه مسبقا بانه راض عن اغتيابه فالحرمة باقية حتى مع هذا الاعلان ولا يجب الاعتذار بل ربما لا يجوز اذا كان موجبا لايذائه وكثيرا ما يوجب ذلك تنافرا ومزيدا من التصدع في المجتمع فالاولى للانسان ان يكتفي بالكف عن اعراض الناس والاستغفار وليست الغيبة باشد من سائر الكبائر.

وهل يجب الدفاع عن المغتاب والانتصار له ورد ذلك في بعض الروايات وافتى به بعض الفقهاء وورد انه اذا لم يرده ولم ينصره خذله الله تعالى في الدنيا والآخرة وان عليه كوزر المغتاب. ولكن ذلك غير ثابت والروايات ضعيفة خصوصا ان السامع ربما لا يعرف المغتاب وانه هل يستحق الغيبة ام لا نعم يجب النهي عن المنكر مع اجتماع شرائطه ومنها العلم بكونه منكرا وانه خارج عن موارد الاستثناء وان القائل منتبه لكونه غيبة اذ لا يعتبر منكرا في غير هذا الحال وتختلف الموارد في ذلك فربما يذكر القائل احد العلماء او الاولياء الصالحين ممن لا يحتمل فيهم جواز الغيبة ولا يحتمل الغفلة بل يقطع بكون القائل يقصد بذلك الطعن في الدين وفي رجاله وهنا يجب قطعا التصدي له والدفاع عن الدين ورجاله.

وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحيمٌ... تأكيد على لزوم اجتناب الغيبة وانه ينافي التقوى وتحذير من غضبه تعالى. وربما يستغرب التعليل حيث يتوهم ان المناسب في تعليل التقوى هو التاكيد على كونه منتقما وذا عقاب شديد لا كونه توابا رحيما ولكن الظاهر ان التعليل بلحاظ ان الغيبة كثيرا ما يتداولها الناس بل يستسيغونها وحيث شدد النكير عليه فربما يتصور الانسان انه غير قابل للمغفرة بالتوبة كما مر ذكره فعلل تعالى الامر بالتقوى واجتناب الغيبة في المستقبل بانه تعالى تواب رحيم فلا تستبعدوا ان يقبل توبتكم اذا رجعتم اليه وتركتم الذنب. وهذه الجملة تدل على كفاية التوبة الى الله تعالى ولا يتوقف قبولها على الاسترضاء والاعتذار. والتواب مبالغة في التوبة اي الرجوع. والتوبة من العبد هي الرجوع الى الله تعالى باجتناب نواهيه والائتمار باوامره واستغفار ما مضى منه. والتوبة من الله تعالى توبتان توبة قبل توبة العبد حيث يوفقه للتوبة كما قال تعالى (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[9] وتوبة بعدها وهو قبول توبته وادخاله في رحمته.  

روى الآلوسي في روح المعاني (أن سلمان الفارسي رضي اللّه تعالى عنه كان مع رجلين في سفر يخدمهما وينال من طعامهما وأنه نام يوما فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء وقالا: ما يريد سلمان شيئا غير هذا أن يجي‏ء إلى طعام معدود وخباء مضروب فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يطلب لهما إداما فانطلق فأتاه فقال: يا رسول اللّه بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك قال: ما يصنع أصحابك بالإدام؟ لقد ائتدموا فرجع رضي اللّه تعالى عنه فأخبرهما فانطلقا فأتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالا: والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا قال: إنكما قد ائتدمتما بسلمان فنزلت).

وروى ايضا عن أنس قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهي‏ء لهما طعاما فقالا: إن هذا لنؤوم فأيقظاه فقالا: ائت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقل له إن أبا بكر وعمر يقرءانك السلام ويستأدمانك فقال: إنهما ائتدما فجاءا فقالا: يا رسول اللّه بأي شي‏ء ائتدمنا قال بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما فقالا: استغفر لنا يا رسول اللّه قال: مراه فليستغفر لكما). والظاهر ان مورد الروايتين قصة واحدة والرواية الاولى تدل على ان الآية نزلت في هذا الشأن ويظهر من الثانية ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يستغفر لهما وانما امرهما ان يطلبا من سلمان ان يغفر لهما مما يدل على ان الله تعالى لا يغفر للمغتاب الى ان يغفر له من اغتابه وقد مر الكلام فيه. ويظهر من القصتين ان بعض المحدثين او المؤلفين كانوا يحذفون بعض الاسامي ويستبدلونها بتعابير عامة كالرجل او الرجلين لاهداف سياسية او غيرها ومن ذلك حديث الدواة والكتف.

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى‏ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا... كان الخطاب في الآيات السابقة موجها الى الذين آمنوا ولكن الخطاب في هذه الآية ورد بعنوان الناس فربما يقال ان الخطاب فيه موجه واقعا الى البشر جميعا نظرا الى ان نبذ التمييز العنصري والتعصب القبلي امر حضاري لابد من ترسيخه في البشرية لتنظيم الحياة الاجتماعية على الارض ولكنه بعيد عن سياق الآية وعن اهداف القرآن الكريم لان الآية لا تنفي التفاضل بين البشر كما هو الهدف من نبذ التمييز بل تحدد للتمييز مقياسا لا يعرفه المجتمع البشري وهو التقوى فليست الآية في مقام نفي التمييز بل لتحديد مقياس التفاضل عند الله تعالى.

ومن جهة اخرى فان الدين الالهي لا ينظر الى الحياة الدنيا وشؤونها الا كمقدمة لنيل السعادة في الآخرة قال تعالى (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ..)[10] فلا يهم الدين ما يخص الشأن الدنيوي والحضارة البشرية. والخطابات في القرآن بعضها يخص المؤمنين لبيان احكام الشريعة او غيرها فان الدين يهمه شأنهم حتى لو كان لتنظيم الحياة الاجتماعية ولكن من جهة الحكم الشرعي فقط كاحكام النكاح والطلاق والارث والبيع والاجارة وغيرها ولا يتعرض الدين للشأن الاقتصادي ولا لغيره من شؤون الحياة بل يبين الحكم الشرعي فحسب وهو يمنع بعض ما نراه مفيدا لنا اقتصاديا لا انه يقترح علينا طرقا مفيدة. وبعض خطابات القرآن موجهة لعامة البشر ولكن بهدف هدايتهم وسوقهم الى الايمان بالله تعالى لا تنظيم حياة الناس الاجتماعية، ويختلط الامر كثيرا على الباحثين فيحسبون ان الدين يشمل علم الاقتصاد والسياسة والاجتماع وليس كذلك والا لكان يغني المؤمنين في الطب والتكنولوجيا وغيرهما ايضا.

وعليه فلا يبعد ان يكون المخاطب في هذه الآية ايضا هم الذين آمنوا الا انه خاطبهم باعتبار انهم بشر ولعل السر في انتخاب هذا التعبير في الخطاب حثّ المؤمنين على عدم التفاخر والتفاضل على غيرهم من البشر بالعنصر والقبيلة ونحوهما كما لا يجوز ان يفتخروا في ما بينهم بها وليعلموا ان التميز انما هو بالتقوى. وفيه وجه آخر وهو ان هذا الامر اي كون اختلاف الشعوب بهدف التعارف فحسب لا يختص بالمؤمنين فخوطبوا بما انهم ناس لا بما انهم مؤمنون. ويحتمل ان يكون الخطاب للبشر جميعا ويكون تنبيها لهم على سخافة ما يعتبرونه في اعرافهم مناطا للافضلية وان الفضيلة ليست الا بالتقوى.   

ويذكر المفسرون ان المراد بالذكر والانثى آدم وحواء فالمعنى ان البشر كلهم ينتمون في النهاية الى اصل واحد فالاجدر بهم ان لا يفتخر بعضهم على بعض بأصله ومَحْتِده ولكن هذا المعنى بعيد في نفسه وبعيد ترتيبه على ما ذكر اما في نفسه فلانه لاشك في تأثير العوامل الوراثية في سعادة الانسان وفي اختياره لمنهج الحياة وفي اعتناقه للدين والمذهب وفي كثير مما يبرر الافتخار والتباهي فلا شك في أن الانتماء الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شرف للانسان ونجد في الآثار مباهاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بجده عبدالمطلب وكذلك مباهاة الأئمة عليهم السلام بجدهم الكريم بل بسائر من ينتمي الى هذه الشجرة الطيبة كحمزة وجعفر عليهما السلام بل حتى بمن يأتي بعدهم كالامام المهدي عليه السلام.

وأما عدم ترتبه على ما ذكر فمن الواضح أن مجرد كوننا جميعا من نسل آدم وحواء لا ينافي التباهي والتفاخر بالآباء الاقربين بل حتى لو كانوا مشاركين في الجد القريب ونحن نجد الفرق الواضح بين بني هاشم الاطيبين وبني امية الذين هم اولاد عبد شمس وهما اخوان فالفريقان يشتركان في عبد مناف.

وقيل ان المراد بهما الرجل والمرأة والمعنى ان كل واحد منكم مخلوق من أب وأم فلا فخر لاحد على احد الا بمميزاته الذاتية ولكنه غير صحيح اذ انه كالقول بان الانسان خلق من نطفة فالاصل في الجميع واحد وان اختلفت النطف وانما يمتاز الانسان بصفاته الخاصة به لا باصله ومحتده ولا باي جهة من الجهات الاخرى التي ربما يتفاخر بها ومن الواضح ان مجرد وجود وجه مشترك بين الجميع لا ينفي التفاضل كما ان هناك وجوها مشتركة بين الانسان والحيوان ولا تنافي هذه الوجوه فضل البشر وكرامته.

ويحتمل أن تكون (من) بيانية وان لم يذكر في التفاسير فالمعنى أنا خلقناكم رجالا ونساءً وجعلناكم شعوبا.. ولعل القصد من التعميم الى الذكر والانثى لدفع توهم أن الذكورة مما يوجب الفخر والتباهي فكما أن الاختلاف في الشعوب والقبائل للتعارف ولا يبرر التفاخر كذلك الاختلاف في الذكورة والانوثة فالتقوى هو مناط التفضيل عند الله حتى بين الرجل والمرأة ولا فضيلة للرجل على المرأة الا بالتقوى وهذا الامر مما أكد عليه القرآن الكريم في مواضع عديدة كقوله تعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ..)[11] وقوله تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)[12] ونحوهما. وهكذا ينبّه القرآن على أمر غريب في ذلك المجتمع، بل في كثير من المجتمعات المتخلّفة المعاصرة حتى الذين يدّعون الاسلام، حيث نجد أكبر الظلم على المرأة. وأمّا رسالة السماء منذ البدو فلم تفرّق بين الرجل والمرأة في كسب المنزلة والثواب لدى اللّه تعالى.  

وحاصل معنى الآية أن هذه الاختلافات انما هي مميزات شخصية لتعيين الاشخاص ورسم هوياتهم حتى يكون لكل أحد عنوانه الخاص به وهو أمر هام يتقوم به كثير من الشؤون الاجتماعية وهذا معنى قوله تعالى لتعارفوا اي ليعرف بعضكم بعضا ولا يوجب ذلك كرامة عند الله انما الكرامة عنده بالتقوى وكل من كان أتقى فهو أكرم عند الله تعالى ولا ينافي ذلك وجود تفاضل في المجتمع باسباب اخرى كالعلم والفن والشجاعة وسائر الامتيازات التي تستلزمها الحاجات الاجتماعية، كما لا ينافي شرفا وافتخارا بالانتساب الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نعم لا شرف لمن ينتمي الى هذا النسب الشريف ان لم يكن مؤمنا لانه خالف سنة جده وسيرته.

والحاصل أن الآية لا تمنع التفاضل والتفاخر ولا تنفي شرف الانتساب بوجه عام وانما تحدد الكرامة عند الله تعالى وان المناط فيها هو التقوى فمن لم يكن متقيا لا كرامة له عند الله تعالى حتى لو كان ابن نبي وكل ما زادت التقوى زادت الكرامة ولا ينافي ذلك شرف الانتساب ولزوم الاحترام لذلك في الدنيا اذا كان مؤمنا متقيا بل ان ذلك ينفع المؤمن يوم القيامة ايضا كما يدل عليه قوله تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ..)[13] وقوله تعالى (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ..)[14] وقوله تعالى (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ..).[15]

وقد بينا في التفسير أن هذه الآيات تدل على أن الله تعالى يدخل الجنة من الآباء والازواج والذرية من يكون صالحا بشفاعة المؤمن المقرب وذلك لانه لو كان المراد بهم من يستحق الجنة بنفسه استحقاقا كاملا لم يكن وجه للالحاق لانه داخل في القسم الاول فلا معنى للالحاق ولا لتوهم التنقيص من العمل كما في سورة الطور فقوله تعالى (وما ألتناهم من عملهم من شيء) يراد به دفع توهم ان الالحاق انما يكون بالتنقيص من عمل الاولين وتسجيله في صحيفة عمل الملحقين. والتقييد بالصلوح يدل على أن الشفاعة لا تشمل الكافر والمنافق وربما بعض المؤمنين ايضا ولعل المراد به صلاحية الدخول في الجنة وان كان له بعض الموانع لبعض اعماله السيئة.

واختلف كلام اللغويين والمفسرين في أن الشعب ــ بفتح الشين ــ حي من القبيلة او انه يجمع القبائل ولا طائل تحت هذا الاختلاف اذ يصدق الشعب لغة على كل مجموعة من الناس والغرض ان الانتماءات القبلية سواء القريبة ام البعيدة انما تفيد في التعارف وليس مناطا بذاتها للتقرب الى الله تعالى.

والسبب في اثارة هذا الامر هو ان كثيرا من العرب كانوا يعتبرون هذه العناوين والانتماءات مناطا للشرف واقعا بل حتى في مناطات الاحكام الدينية وكانوا ينتقصون الموالي ومن ليس لهم اصل في العرب والرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يحارب هذه الظاهرة بشدة ويأمر الأشراف بان يزوجوا بناتهم من الموالي وقد تكرر ذلك في عدة موارد حتى انه امر ان يزوج زيد بن الحارثة زينب بنت جحش وهي بنت عمته صلى الله عليه وآله وسلم ومن الغريب أن هذه الظاهرة بقيت في القوم مع كل هذه المحاولات حتى ان بعض الخلفاء فرقوا بين العرب وغيرهم في العطاء من بيت المال بل فرقوا بين الاشراف وغيرهم بل بين اقاربهم وغيرهم الى ان جاء امير المؤمنين عليه السلام فمنع كل ذلك.

واغرب من ذلك ان بعضهم فسر هذه الآية ايضا بما ينافي الهدف الواضح منها روى السيوطي في الدر المنثور عن عمر بن الخطاب انه قال هذه الآية خاصة بالعرب، والموالي اي قبيلة لهم واي شعاب؟! فمغزى هذا الكلام ان الآية انما تمنع وجود تفاضل واقعي عند الله بين العرب لا بين العرب وغيرهم بقرينة انه تعالى اعتبر الشعوب والقبائل للتعارف، والشعوب والقبائل خاصة بالعرب، والموالي لا ينتمون الى شعب وقبيلة!! وهذا من غرائب الكلام فان كل البشر لهم شعوب وقبائل ولكنهم حيث كانوا لا يجدون الاعجمي المؤمن في المدينة منتميا الى قبيلة من العرب كانوا يتصورون انه ليس له قبيلة في بلده ايضا!!!

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ... الكرامة هي مناط التقييم فيطلق الكريم على كل شيء شريف قيم ويقال للاحجار النفيسة الاحجار الكريمة ويقال للعينين الكريمتان ولابنة الرجل كريمته كما في الاحاديث فالاكرم عند الله تعالى اي الاشرف والانفس. والتقوى مصدر من الوقاية وهي التحفظ. وتقوى الله تعالى اي التحفظ مما يسخطه ويكرهه فكلما كان الانسان ابعد من معاصي الله تعالى كان اتقى واحفظ لنفسه من التعرض لغضبه وعذابه.

إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ... الظاهر أن الجملة في مقام التعليل لكون الكرامة والشرف عند الله تعالى بالتقوى ولعل التوصيف بالعلم لان معرفة المناط الحقيقي للكرامة تتوقف على العلم بحقائق الامور والله تعالى لعلمه بها هو الذي يحدد مناط الكرامة لا البشر الجاهل بها. والخبير من الخبرة وهي معرفة دقائق الامور التي لا يعرفها عامة الناس. ولعل توصيفه تعالى بالخبرة من جهة اعتبار مناط الكرامة درجة التقوى لمكان افعل التفضيل في قوله تعالى(اتقاكم) ومعرفة ذلك صعبة للغاية بل مستحيلة لعامة الناس لان تمييز من هو اتقى من غيره يتوقف على معرفة ضمائر البشر ودخائل نفوسهم وهي امر غير متاح للبشر بوجه عام وانما يعرفها علام الغيوب جل وعلا.

 


[1] مستدرك الوسائل ج12 ص89 باب كراهة الافتخار

[2] نهج البلاغة باب الحكم / الحكمة: 114

[3] بحار الانوار ج55 ص320

[4] الكافي ج2 ص362 باب التهمة وسوء الظن

[5] الكافي ج2 ص354 باب من طلب عثرات المؤمنين

[6] كتاب المؤمن للحسين بن سعيد ص72

[7] النساء: 148

[8] سماحة السيد السيستاني دام ظله

[9] التوبة: 118

[10] الانفال: 67

[11] آل عمران: 195

[12] النساء: 124 راجع ايضا سورة النحل: 97 وسورة غافر: 40

[13] الرعد: 23

[14] غافر: 8

[15] الطور: 21