مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

الجاثية سورة مكية كما هو واضح من مضامينها حيث تشتمل على التذكير بآيات الله الكونية، والدعوة الى الايمان بالله وبآياته التي انزلها على رسوله لهدايتهم، والتنديد بموقف المشركين تجاه الرسالة والدعوة، والاشارة الى عاقبة الايمان والكفر يوم الحساب. وسميت بهذا الاسم لاختصاصها من بين السور بورود هذه الكلمة فيها.

حم... من الحروف المقطعة وقد مر بعض الكلام حولها في تفسير سورة يس.

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ... مر الكلام في نظيرة الآية في ابتداء سورة الزمر ومجمل القول أن (تنزيل الكتاب) مبتدأ وخبره (من الله..) او خبر لمبتدأ محذوف اي هذا تنزيل.. والكتاب اي المكتوب، بمعنى المجموع، ويطلق على كل مجموعة من الالفاظ او المعاني. والمراد التاكيد على ان هذا الكتاب منزل من اللّه تعالى وليس من انشاء البشر.

والعزيز بقول مطلق الغالب الذي لا يؤثر فيه شيء ولعله اشارة الى ان مقتضى عزته المطلقة ان لا تتمكن الشياطين من التدخل في هذا الوحي كما ظنه المشركون. ووصف الحكمة لعله للرد على انحاء الشبهات التي ترد على الرسالة من اختيار شخص الرسول واللغة والزمان وغير ذلك. فالجواب العام أن ذلك مقتضى حكمته تعالى والبشر لا يمكنه ان يدرك وجه الحكمة في كل ما خلقه اللّه ودبّره.

إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ... يمكن ان يكون المراد بالسماوات والارض الكون كله بما فيه الملائكة والعوالم الغيبية كما هو الحال في سائر موارد هذا التعبير ويمكن ان يكون المراد خصوص العالم المحسوس باعتبار أنه هو الذي يمكن ان يكون آية للناس. والآية: العلامة. فكل أجزاء العالم المشهود علامات على وجود الخالق القادر الحكيم، فهي تدل على الله تعالى من جهة امكانها وحاجتها في كينونتها وبقائها الى سبب ومن جهة النظام المستقر فيها ومن جهة بديع تركيبها وجمالها ومن جهة الهدف والغرض المشهود من الدقة في اجزائها وغير ذلك فاينما تدور بعينك في الكون تجد الآيات واضحة بينة. فالنظام المستقر في الاجرام الفلكية التي تدور ملايين السنين دونما اي تغير وانحراف ودون اي خطر يهدد كيانها آية عظيمة من آياته تعالى. ونظام المجموعة الشمسية التي نحن فيها بالذات وما فيه من خصائص تساعد على تكوّن الحياة على هذا الكوكب آية اخرى وما نجده في كل ذرة من ذرات الكون من النظام الحاكم في اجزائها والموجب لتكوّنها وتكوّن الاجسام منها آية ايضا ثم اذا لاحظنا كل مجموعة من المخلوقات على الارض وما فيها من نظام ثم ما بينها من تناسب وتناسق لتبقى دائرة الحياة على هذا الكوكب مستديمة لكان فيها ما يكفي لمن يتدبر ولا يعاند.

ولا يمكن عدّ آياته تعالى في الكون (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه..ِ).[1] ومن العجيب ان المتعمقين في أجزاء هذا الكون وفي نظامه المتكامل كلما زادوا تعمقا وغورا زادوا بعدا عن الله تعالى وكفرا به وقلّ من تجده مؤمنا منهم. ويحاولون تفسير الكون بما لا يبقى معه مجال لفرض وجود خالق مدبر فكأنهم اذا اكتشفوا النظام الموجود في الكون وعلموا سبب ترابط الاجزاء المبعثرة تراجعت فكرة وجود الخالق وكأنّ الاعتقاد بوجود المدبّر الحكيم يبتني على عدم وجود قانون في الطبيعة وكأنه تعالى يدير الكون من غير نظام بينما العكس هو الصحيح وأن النظام الموحد المتكامل الذي يحقق ترابط الاشياء صغيرها وكبيرها لهو اقوى دليل على وجود الصانع ووحدته وحكمته وتدبيره.

ويلاحظ أن هؤلاء يصفون المؤمنين بأنّهم سُذّج وبسطاء ولكن الواقع أنّ المؤمنين من أفطن الناس وأذكاهم فلهم عقلية تحاول كسر الحواجز والوصول الى ما وراء هذه الظواهر وهؤلاء هم الذين اذا رأوا الآيات رأوا فيها اليد الصانعة وشعروا بما وراءه من حكمة وتدبير وليسوا كهؤلاء السذج الذين يتعمقون في هذا الظاهر ولا يتجاوزونه فهم كما قال الله تعالى (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..).[2]

ومن غريب ما نسمعه من ملاحدة العصر انهم يقولون لماذا نبحث عن حقيقة لا يمكننا الوصول اليها وهي غير محسوسة ولا مرئية حتى بالاجهزة؟! وما هو الداعي لتكلف الايمان به مادام الوضع المادي لا يتغير عما هو عليه فسواء عرفناه ام لم نعرفه فالاسباب الطبيعية هي التي توصلنا الى اهدافنا؟! فما لنا نبحث عن انه هل هناك خلف هذه الاسباب من يديرها ام ليس وراءها احد؟ فحسبنا ان نعرف الاسباب و نتمسك بها!!!

ويقال لهم: لو سلمنا انه لا فائدة تعود علينا في هذه الدنيا من معرفة الخالق الحكيم ولو سلمنا انه لا يجب علينا عقلا ومنطقا ان نشكر المنعم ولو سلمنا ايضا اننا لا نستوحش من تصور العالم يسير بلا ادارة وبلا حكمة وكأنه جهاز لا يحكمه الا زرّ التشغيل ولكن ما الذي يؤمننا من العذاب المحتمل الذي وعد به الانبياء والرسل ونزلت به كتب السماء؟! ونحن نعلم ان الانبياء ما كانوا اُناسا كذّابين او دجّالين او يبحثون عن مصالحهم بل نعلم عنهم انهم زهاد في الدنيا جاهدوا في سبيل تعليم الناس وتزكيتهم وإعلان الخطر المحدق بهم وتحملوا في سبيل ذلك اصعب المشاق وبذلوا النفس والنفيس وقُتلوا وشُرِّدوا ولم يتركوا جهادهم فهم ليسوا ممن يحاول ان ينتفع بسذاجة الناس بل كانوا هم اول من يلتزم بالطريقة التي يبلغون عنها اذن فاحتمال صدقهم في ما يدعونه احتمال قويّ يبعث الانسان العاقل على الاهتمام به والبحث عن الحقيقة من اجله.

وربما يسأل عن وجه التقييد في الآية بالمؤمنين فان المفروض أن هذه الآيات طريق للايمان فالذي يحتاج اليها هو الذي لم يؤمن حتى الآن لا المؤمن؟

والجواب اولا أن المؤمن ايضا يحتاج الى ما يقوي ايمانه حتى لا يتأثر بالاعلام المعادي وثانيا أنه لعل المراد بالمؤمنين من يمتلك الارضية الصالحة للايمان فلا يعاند الحق مع وجود الادلة والبراهين الواضحة ولا يخالف نداء الفطرة ولا يعادي الله تعالى ولا يكون ممن لا يؤمن الا بما يراه بل ربما يشكك حتى فيما يراه ويشعر به ايضا.

وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ... الآية السابقة تلفت الانظار الى الآيات في الكون بكامله وهذه الآية تعيد بالانسان الى نفسه والى ما يماثله من بين الاشياء اي الحيوان. انظر وتدبر في كل جارحة وعضو في جسمك تجد عجبا. ويكفي الانسان في معرفة ربه وحسن تدبيره أن يلاحظ ما آتاه الله من أعضاء داخلية وخارجية وما آتاه من قوى وغرائز سواء كمل علمه بمعرفة وظائف الاعضاء وأدوائها وتطورها وارتباط بعضها ببعض وكيفية تغذيها ومقاومتها لما يهجم عليها من جراثيم ام كانت له معرفة بدائية لا يعلم من العين الا انها تبصر ومن الاذن الا انها تسمع فكل حسب معرفته يشعر بعظمة من اودع فيه هذه الاعضاء ونظمها على هذا الترتيب الانيق الجميل بحيث يعمل كل عضو عمله ولا يزاحم الآخر ومع ذلك فهي زينة لصاحبها وجمال لمظهره.

والبحث في وظائف الاعضاء أعظم من أن يسجل في مقال او كتاب بل اعظم من ان يختص بها شخص واحد فلكل عضو بل لكل جزء من عضو خبير متخصص وهم مع ذلك يعترفون بانهم لم يبلغوا غايته ولن يبلغوا بالطبع وكل ما فتح لهم باب علموا ان هناك مجاهيل كثيرة ولقد قرأت قبل سنين في مجلة لا تعترف بالله وتحاول تفسير الكون بما لا يكون فيه مجال للاعتراف بالله تعالى قرأت فيها تقريرا لسلسلة الاعصاب التي تشتمل عليها العين والكاتب المتخصص يحاول ان يقول انها من صنع الطبيعة ومع ذلك لما خاض في شرح ارتباط هذه الاعصاب لم يتمالك نفسه فكتب: الله اكبر!!!

وأعجب من جسم الانسان الذي هو ــ فيما يبدو ــ أشدّ تعقيدا من كل مخلوق على الارض روحه الذي لم يصل الى فهم خباياه وزواياه العلم مهما توسعت دائرته بل لم يكشف العلم حتى الآن وجوده ومن يدعون بالعلماء ينكرون حقيقة وراء جسم الانسان تختص به ولكن الله تعالى الذي خلقه أخبر عن هذه الحقيقة فقال (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فيهِ مِنْ رُوحِه..)[3] وقال ايضا (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقين)[4] وهو الذي يتوفاه الله تعالى حين موت الانسان بل حين نومه ايضا كما قال تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حينَ مَوْتِها وَالَّتي‏ لَمْ تَمُتْ في‏ مَنامِها..).[5]

ثم حوّل النظر الى ما حولك من الحيوان ــ والدابة كل ما يدبّ على الارض ــ وتدبر في صغيرها وكبيرها واسأل نفسك: من نظّم امورها وتكفل رزقها وجعل لكل واحد منها ما يحتاجه من الاعضاء المناسبة لكيفية اكله وشربه وتكاثر نسله وجعل بعضها غذاءا لبعض آخر؟ ومن نظّم هذه الحلقة المستديرة في طبيعة الحيوان بحيث لولا ذلك لاختل نظام البيئة؟ واخيرا عرف الانسان الجاني على نفسه وغيره انه أضرّ بنفسه ايضا وأضرّ بالبيئة التي يسكنها حيث تسبب في ازالة بعض هذه الحلقة من الوجود وهو الآن يحاول ان يصحح اخطاءه ولكن لا يعود الى نفسه فيتفكر في من دبر هذا الكون وكل اجزائه وهل الطبيعة العمياء تحمل هذا الذكاء البارع فتكوّن نفسها؟!

والبثّ: النشر والتفريق. والفعل المضارع يدل على الاستمرار. و(ما يبثّ) عطف على (خلقكم) اي وفيما يبث وينشر من دابّة آيات. والمراد ايجادها بمختلف أنواع الايجاد فمنها ما يخلق بالولادة ومنها ما يوجد بالتبييض ومنها ما يوجد بأسباب اخرى فالحياة والدبّ والحركة لا تختصّ بما نسميه حيوانا في المصطلح العرفي. والحياة سرّ لم ينكشف حتى الآن ولعلها تبقى الى الابد سرا غامضا.

نعم في كل ذلك آيات لقوم يوقنون. اي من ليس مضطربا في التفكير كأهل الوسوسة حيث لا يحصل لهم يقين بشيء حتى ما يجدونه برأي العين. وليس معنى اليقين ما ذكره المفسرون من انه زيادة في الايمان وبلوغ مرحلة اليقين ونحو ذلك مما قالوه في وجه اختلاف التعبير في الآيات. بل المراد ان هذه الآيات تفيد من له نفس مطمئنة سليمة يمكنه ان يحصل على اليقين اذا تأمل وتفكر ولا يختص يقينه بما يراه ويشعر به. ولذلك أتى به بصيغة المضارع ليدل على الاستمرار بخلاف الآية السابقة حيث جعل الآية للمؤمنين لأنها توجب حصول الايمان الثابت ومن هنا لزم اقحام كلمة (لقوم) ليتأتى الاتيان بالمضارع.

وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ... اي وفي اختلاف.. فالحرف هنا مقدر. وهذه الآية تنبه الانسان بما حوله من ظواهر الطبيعة التي ألفناها فلم نعد نشعر باعجازها وغرابتها ودلالتها على الخالق الحكيم الرحيم فمنها اختلاف الليل والنهار. وله معنيان: احدهما الاختلاف بمعنى التعاقب فالليل يخلف النهار والنهار يخلف الليل ولو استمر الليل او النهار لاختل النظام وكم من مفاسد تترتب ومصالح تفوت بذلك مما يطول شرحها. والثاني اختلافهما طولا وقصرا وهذا ايضا احد معنيي قوله تعالى (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) وهذا الاختلاف الذي ينشأ من انحراف مدار الارض هو الذي يتسبب في حدوث الفصول المختلفة وما يترتب على ذلك من آثار عظيمة على هذا الكوكب.

وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا... عطف على (اختلاف الليل) مع تقدير حرف الجر اي وفي ما انزل.. والمراد بالرزق النازل من السماء المطر. قيل: عبر عنه بالرزق لانه سببه فبالمطر يحصل الانسان على ما يريده من نبات الارض. ولكن الصحيح أن المطر هو بنفسه أعظم رزق للانسان والحيوان والنبات وعليه تتوقف الحياة لكل الاحياء. فانظر كيف دبّر الله تعالى الكون لانجاز هذه المهمة وكيف سخر له الشمس والرياح والبحار وغير ذلك ولولا نزول المطر لم يكن على وجه الارض ماء عذب فكل الانهار والعيون ونحوها مخازن للامطار. والارض تموت بانقطاع المطر بمعنى انها لا تنبض بالحركة والانبات فاذا انزل الله ماء السماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج. ويعبّر عن هذه الحركة والنشاط الحادث في الارض بعد موتانها بالحياة.

وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ... اي وفي تصريف الرياح.. والمراد به تغيير مسار الرياح وله آثار عظيمة في الحياة على الارض فبهذا التصريف ينتقل الهواء البارد الى الاماكن الحارة فتتلطف الجو وبه ايضا تنتقل الغيوم الى ما شاء الله ان ينزل عليها رزقه وبه تتنقل الادخنة والغبار والروائح الكريهة.

آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ... في كل ذلك آيات لمن يعقل. وليس معنى ذلك ما ذكروه من انه مرحلة اعلى من الايمان واليقين او انه بمعنى التفكر في خلق الله بل المراد ان الذي يتأثر من مشاهدة هذه الآيات فتدله الى الله تعالى هم الذين يعقلون. والعقل في الاصل هو الحبس ومنه عقال البعير والعاقل من يحبس نفسه مما يعمله السفهاء. والعقل ما به تدرك الحقائق وتكتسب العلوم ووجهه أن العاقل يحبس في ذهنه ما يدركه من الجزئيات ثم يستنتج منها علما ولذلك قال تعالى (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)[6] ومعناه أن عدم التعقل يترتب على الصمم والبكم والعمى، فمن لا يتمكن من إدراك الجزئيات لفقدانه الحواس لا يتمكن من حبس الجزئيات فلا يعقل شيئا ولا يكسب علما ومثل هذا لا يتأثر بمشاهدة الآيات ولا ينتقل منها الى معرفة ربه.

واختلاف التعبير في هذه الآيات لا يدل على خصوصية في كل منها فتختص الاولى بالمؤمنين والثانية باهل اليقين والثالثة باهل العقل كما قيل بل المراد ان هذه الآيات مع انها واضحة بينة الا انها لا تفيد الا من تكون له هذه الخصال الثلاث:

اولا: الاستعداد للايمان بالغيب فلا ينحصر فهمه بالمحسوسات ولا يعاند وهذه نفسية خاصة تساعد على الايمان ونحن نعلم ان كثيرا من الكافرين يحملون نفوسا عنيدة فلا يقبلون ولا يستسلمون للحق حتى لو كان واضحا ونعلم ان هناك من الناس من طبعه العناد والمكابرة.

ثانيا: امكان الوصول الى اليقين فلا يكون مضطرب النفس لا يستقر ذهنه على شيء فمثل هذا لا يؤمن وان وجدت مؤمنا مضطربا فاعلم ان ايمانه وراثي وليس بالتفكر والتدبر.

ثالثا: ان يكون من اهل التعقل اي يكون مدركا للحقائق فالذين لا يعقلون ولا يشعرون وهم كثير من الناس بل هم الاكثر لا يؤمنون بالله تعالى وبآياته الدالة على حكمته وتدبيره وربوبيته كما قال تعالى (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).[7]

ولكن المفسرين ذكروا وجوها في سر الاختلاف لا تخلو من ضعف نذكر وجهين منها لعلهما اقوى ما ذكر ففي الميزان ما ملخصه ان آية السماوات والارض تدل بدلالة بسيطة ساذجة على انها لم توجد نفسها بنفسها بل لها موجد فاعتبر ذلك آية للمؤمنين بوجه عام وأما انه خلق الانسان والحيوان الذي له شعور فكونه آية لله انما هو بلحاظ ان نفوسها من عالم وراء عالم المادة وهو الملكوت وقد قال تعالى (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)[8] فتختص الدلالة باهل اليقين واما آية الحوادث الكونية فتحتاج الى مزيد من التعقل والتفكر ولا تنال بالفهم البسيط فاختصت بهم .

وذكر بعضهم ان الوجه في الاختلاف ان الانسان يمر بمراحل ثلاث في مسير معرفة الله تعالى فالاول هو التفكر ثم اليقين ثم الايمان ولكنه ذكرها بالعكس لشرافة الايمان ثم اليقين ثم التفكر.

واظن ان التكلف الواضح فيهما وفي غيرهما يغنينا عن التعرض لما فيهما من الضعف مع انهما اوضح ما قيل في الباب وما ذكرناه لعله اوضح والحمد لله اولا وآخرا.

تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ... الاشارة يمكن ان تكون الى الآيات الكونية ومعنى تلاوتها بيانها كقوله تعالى (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)[9] ويمكن ان تكون اشارة الى آيات الكتاب التي تتضمن الاشارة الى آيات الكون والتلاوة واضحة فيها. والتلاوة بالحق قد تكون بتقدير التلبس اي نتلوها متلبسة بالحق بمعنى كون آيات الكتاب مطابقة للواقع.

ويمكن ان يكون (بالحق) قيدا للتلاوة نظير قوله تعالى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ..)[10] والتلاوة بالحق هي التي لا تزيد ولا تنقص فيكون المراد ان القرآن ينزل من عند الله تعالى مأمونا من تدخل الشياطين وعليه فتكون الآية حاكية عن لسان الملائكة من دون اسناد اليهم وله نظائر في القرآن كقوله تعالى (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)[11] وقوله تعالى (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ..).[12]

فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ... اي ان لم يؤمنوا بهذا الحديث مع أنه من الله تعالى فبأيّ حديث يؤمنون؟! والاستفهام للانكار اي إنهم لا يؤمنون بأيّ حديث آخر اذا لم يؤمنوا بهذا الحديث ومعنى ذلك أنهم ممن لا يحصل لهم الايمان بشيء وهو ما يدل عليه تقييد الآيات بالمؤمنين على ما أوضحناه.

وربما يتصور اشكال في هذا التعبير مع أنه متكرر في القرآن وغيره من جهة ان الله تعالى ليس له قبل ولا بعد ومن جهة أنه ليس حديثا فما هو المصحح لهذا التعبير؟

قال في الكشاف (أي بعد آيات اللّه كقولهم: أعجبني زيد وكرمه، يريدون: أعجبني كرم زيد. ويجوز أن يراد (بعد حديث اللّه) وهو كتابه وقرآنه كقوله تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيث).

والتوجيه الاول أحسن وانما يقال مثل ذلك في ما اذا كان التركيز على المضاف اليه والمقام من هذا القبيل فالاهتمام بالآيات والاستغراب من عدم الايمان بها من جهة انها مضافة الى الله تعالى.

ولكن هناك احتمال آخر لم يذكروه وهو ان المراد بالله في الآية الحديث المتعلق به تعالى لا حديثه بمعنى اضافته الى الفاعل فمعنى الآية انهم اذا لم يؤمنوا بالله تعالى وبآياته الكونية فبماذا يؤمنون؟! والغرض من ذلك بيان وضوح الامر فهو كقوله تعالى (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).[13]

 


[1] لقمان: 27

[2] الروم: 7

[3] السجدة: 9

[4] المؤمنون: 14

[5] الزمر: 42

[6] البقرة: 171

[7] يوسف: 103

[8] الانعام: 75

[9] الانعام: 151

[10] البقرة: 121

[11] الصافات: 164- 166

[12] مريم: 64

[13] ابراهيم: 10