مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللّه فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا... الظنّ هنا بمعنى اليقين وانما عبّر عنه بالظنّ لأنّه ليس مستندا الى دليل ملموس بل هو مما شعروا به في ذاتهم بعد أن آمنوا بالقرآن وبما ورد فيه من صفاته تعالى.

والمراد بعدم الإعجاز في الارض عدم إعجازه جلّ وعلا في التصرف في الكون بمعنى أنّهم لا يمكنهم أن يعملوا شيئا خلافا لارادته التكوينية. فالانس والجنّ يتصرّفون في الكون ضمن قوانين الطبيعة لا يمكنهم تجاوزها وهم بأجمعهم محكومون بإرادته تعالى.

واختيارهم ليس بالتفويض بل إنه تعالى يمدّهم بالقدرة والاختيار متى شاء وكيفما شاء فلا يمكنهم أن يفعلوا شيئا الا اذا اراد اللّه تعالى ذلك بل إنّ ارادتهم واختيارهم ايضا بمشيئته تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).

والمراد بعدم الاعجاز بالهرب عدم التمكن من الخروج عن طاعته تعالى باللجوء الى عالم آخر والخروج عن هذا الكون قال تعالى (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) والنفوذ من اقطار الكون بمعنى الخروج منها ولا يمكن لشيء أن يخرج منها. و(هربا) حال وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل اي (هاربين). وورد في التفاسير احتمالات اخرى في معنى الآية أعرضنا عن التعرض لها.

وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا... يبيّن هذا القوم من الجنّ سبب إيمانهم إمّا ترغيبا لغيرهم من الجن او الانس او إقرارا منهم بالإيمان أمام الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لمبايعته وينبّهون بقولهم (لمّا سمعنا الهدى آمنّا به) على سرعة إيمانهم فلم يتردّدوا في الإيمان بمجرّد سماعهم للقرآن وهو المقصود بالهدى.

والجملة التالية اي قوله (فمن يؤمن بربه..) تعليل لإيمانهم بالكتاب حيث إنّهم علموا أنّه كتاب اللّه تعالى بمجرّد سماعهم له لاعجازه الواضح فايمانهم به من الايمان بالربّ ومن يؤمن بربّه فلا يخاف بخسا ولا رهقا.

والبخس: النقص. وقد مرّ الكلام حول معنى الرَّهَق. فالمراد بالبخس هنا ان ينقص من أجره او من حقه شيء فان ذلك مناف للربوبية والمراد بالرهق ان يغشاه مكروه من عذاب الدنيا او الآخرة. وفي العين ومعجم المقاييس أن الرهق: الظلم. فالايمان بالربّ يؤمّنه من العذاب والظلم.

ولم يذكر هنا العمل الصالح لأنّ محلّ الكلام هو الايمان والايمان الصحيح يستتبع العمل الصالح فاكتفي به وقد ورد في بعض الروايات غير المعتبرة أنّ الجنّ مأمورون بالصلاة والزكاة وغير ذلك فلو صحّ الخبر فلا نعلم طريقتهم في العبادة ولكنّ الثابت من القرآن أنّهم مأمورون بالعبادة قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

وفي تفسير القمي في ذيل قوله تعالى (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ..)  (سئل العالم عليه السلام عن مؤمني الجن أيدخلون الجنة؟ فقال: لا ولكن لله حظائر بين الجنة والنار يكون فيها مؤمنو الجن وفساق الشيعة).

وأوّلها في الميزان بأنّ المراد بهذه الحظائر لعلّه بعض درجات الجنة التي هي دون جنة الصالحين. وهو بعيد عن لفظ الحديث لأنه ينفي دخولهم الجنة ويُصرّح بان هذه الحظائر بين الجنة والنار فالمراد أنّهم لا يدخلون النار ولا الجنة ويمكن أن يستفاد ذلك من عدم ذكر ثواب لايمانهم في الآية واقتصار فائدة الايمان في عدم البخس والرَّهَق.

ولكن الرواية مرسلة وضعيفة واستناد الكتاب الى القمي غير ثابت مع استبعاد عدم الجزاء لهم على عملهم الصالح من عدله تعالى. مضافا الى أنّ اشتمال الحديث على فساق الشيعة وهو عنوان يشمل كثيرا من الظلمة والطغاة والاشرار ومرتكبي الكبائر يدلّ بوضوح على كونه مجعولا يقصد به الإباحة لاهل المفاسد والكبائر والعياذ باللّه.

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ... المذكور في عامّة التفاسير أنّ المراد بالاسلام هنا الايمان بالرسالة كما هو الظاهر من اللفظ عرفا فيكون إشارة الى أنّ طائفة من الجنّ بعد أن سمعوا القرآن او سمعوا بخبره آمنوا بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وأسلموا وطائفة لم يؤمنوا به وهم القاسطون اي الجائرون.

ولكن في مجمع البيان أن المراد به الاستسلام لأمر اللّه تعالى وارتضاه العلامة الطباطبائي قدس سره ولعله أولى كما يظهر من مقابلته للقاسطين، والمتعارف مقابلة الاسلام بالكفر. ومن جهة اخرى يبدو أن التقسيم لا ينظر الى الحالة الفعلية اي بعد نزول القرآن او الاستماع اليه بل الظاهر بيان تقسيم الجنّ طيلة تاريخهم الى من أسلم أمره لله تعالى ومن جار وعدل عن الحق.

والقسط ــ بكسر القاف ــ هو العَدل وأصله النصيب، و ــ بالفتح ــ الجور. والمُقسط: العادل كأنّ الهمزة بمعنى رفع القَسط اي الجور قال تعالى (إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) والقاسط الذي يأخذ نصيب الآخرين ويجور. والمراد به هنا الذي جار وعدل عن طريق الحق او جار على نفسه وظلمها.

فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا... تحرّى: قصد حَرا الشيء اي جانبَه، فالمعنى أن الذي أسلم أمره لله تعالى او آمن بالرسالة هو الذي قصد جانب الرَشَد والهداية الى الحق واتى باسم الاشارة للجمع باعتبار مصاديق من أسلم. ويحتمل أن تكون هذه الجملة وتاليتها مما عقب اللّه تعالى به كلامهم او ما تضمنته خواطرهم كما يحتمل ان تكون تتمة لكلامهم.

وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا... والتعبير عنهم بالحطب لمزيد من التحقير. والاتيان بفعل الماضي بقوله تعالى (فكانوا) إمّا لبيان الثبوت المطلق فهو مسلوب عنه الزمان او أنه من باب المبالغة كأنّهم الآن في جهنم بل كأنّهم من اول وجودهم فيها.