مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى...

من هنا يعود للتنبيه على أهمية الانفاق في سبيل الله وخطر البخل في هذا المجال بوجه آخر وهو أن نار جهنم معدّة لمن يكذّب بآيات الله ويمتنع من أداء فرائضه وأنها بعيدة عن المتقين الذين يؤتون اموالهم في سبيل الله تعالى.

ومقدمة لبيان ذلك نبّه على أمرين:

الاول أن الله تعالى هو المتكفل لهداية الناس الى سبيل السعادة.

والآخر أن الامر بيده في الدارين فاذا نبههم على الخطر فهو العالم به فحسب.

ومن هنا يتبين أن هذه الجملة استينافية وليست للتعليل كما في الميزان وقوله (علينا) لا يفيد الوجوب ليقال انه هو اوجب على نفسه بل يفيد أنه هو المتكفل لها والقائم بها سواء ما كان بالفطرة او بارسال الرسل وانزال الكتب والتوفيق.

واللام للتأكيد ويقال لها لام القسم كأن هناك قسما مقدرا اي والله ان علينا للهدى.

وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى...

وبنفس التأكيد الذي جاء في الجملة السابقة أكد هنا أن الامر بيده في الكونين في الحياة الاولى وفي الحياة الاخرة.

وهذه جهة اخرى غير ما يستفاد من قوله تعالى (ولله ملك السماوات والارض) فلا وجه للخلط كما في كلماتهم فان مفاد كون السماوات والارض له تعالى أنّ الكون بأجمعه ملك له تعالى ملكية حقيقية بمعنى أنّ كل ما في الكون مستند في حدوثه وكينونته وبقائه الى ارادته تعالى ومضاف اليه بنحو من الاضافة لا نعقلها بدقة.

واما أن الآخرة والاولى له تعالى فهذا أمر خاص بالانسان ومن يشاركه في التكليف فان له حياتين حياة في الدنيا وحياة في الآخرة ومحطّ الكلام هنا أنّ كل ما يحصل للانسان في الحياتين من الله تعالى فهو الذي خلقه ورزقه وهداه في جميع أطوار الحياة هنا وهو الذي يوصله الى غاية كماله او يسقطه الى نهاية حضيضه في الحياة الآخرة نتيجة لعمله في الدنيا.

وهذا التنبيه مقدمة لتحذيره مما سيلقاه من الشدائد هناك حتى لا يقول الانسان انه اُخذ على غِرّة. والذي ينبههه على الخطر هو خالق الخطر.

فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى...

الفاء للترتيب اي هذا الانذار يترتب على ما مر من ان الهداية على الله تعالى وأنّ الجنة والنار منه. والفعل الماضي لا يدل على سبق الانذار بل قد يكون إنشاءا له.

و(تلظّى) في الاصل (تتلظّى) اُسقطت احدى التاءين. والتلظّي هو الاشتعال والتوقّد. واللظى: اللهب الخالص كما في العين.

لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى...

صلى النار اي قاسى حرها واحترق بها. واستشكل في الآية بأنها تحصر الصلي بالنار في من هو الاشقى من الناس مع أن اهل النار مختلفون في مراتب الشقاء ولا تختص النار بأشقاهم!!

واجاب عنه في الميزان أن الاشقى هنا بالقياس الى انحاء الشقاء في الدنيا فإنّ أشقاهم من خسر آخرته.

ويمكن ان يكون المراد الاشقى من بين هذين الفريقين كما سيأتي توضيحه ولا يراد به من هو اشقى الناس قاطبة والا لم يكن معنى للانذار العام في قوله (فانذرتكم..).

ولكـن الاشكال لا ينتهي بذلك لانــه وصف الاشقى بانــه الذي كــذب وتولى.

والمراد بــه ــ كما قالوا ــ من كذب بالرسالة او بآيات الله تعالى اي الكافر. والتولي: الاعراض فمعنى الآية ان الكافر هو الذي يدخل النار فحسب ومن هنا تمسّك بها المرجئة ــ على ماقيل ــ وقالوا ان المسلم لا يدخل النار مهما كثرت معاصيه وآثامه.

وهذا مخالف لآيات كثيرة واضحة بل مخالف لضرورة الدين ومن المسلمين طغاة جبابرة قتلوا ائمة المسلمين وحرفوا الدين المبين. فحاول المفسرون دفع الاشكال.

قال العلامة الطباطبائي قدس سره (المراد بصلي النار اتّباعها ولزومها فيفيد معنى الخلود وهو مما قضى الله به في حق الكافر قال تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» [1] وبذلك يندفع ما قيل: إن قوله: «لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى» ينفي عذاب النار عن فساق المؤمنين).

وهذا التأويل ورد في عدة من التفاسير ولكن الصلي بالنار ورد في القرآن بشأن المؤمن ايضا قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا).[2] فلا يمكن ان يحمل الصلي بقول مطلق على الخلود وليس في الآية قرينة تدل على ذلك.

مضافا الى ان الخلود ايضا لا يختص بالكافر قال تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[3] والخطاب فيها وفيما قبلها وما بعدها للمؤمنين.

وقال بعضهم ان المراد بالنار هنا نار خاصة لا يدخلها المؤمن الفاسق بل هو خاص بالكفار المكذبين للرسالات.

وهذا لا باس به في حد ذاته خصوصا بملاحظة ما ورد من التأكيد في القرآن بان السيئة لا تجزى الا بمثلها فلا بد من وجود مراتب كثيرة لا تحصى من العذاب.

وقد أشرنا كرارا بان المراد بالنار لعله امر آخر يختلف باختلاف الموارد فقد يكون هذا تشبيها لعذاب الآخرة بأشدّ ما يكون من العذاب في الدنيا.

الا ان الظاهر من النار حين اطلاقها هو مطلق عذاب الآخرة لا خصوص ما يعذب به الكافر وهم ايضا لهم مراتب متفاوتة من الكفر والتكذيب والخبث والظلم والاعتداء على الناس فيبقى اشكال الحصر بحاله.  

وربما يقال بأن الآية لا يمكن حملها على ظاهرها من الحصر بقرينة الآية التالية (وسيجنبها الأتقى) فان معناها ان الذي يجنبها هو الاتقى فقط فيبقى كثير من الناس حتى الاتقياء في الذين يصلونها.

ولكن هذا غير صحيح لان الوصف لا مفهوم له فالتصريح بان الأتقى يجنّب النار لا يعني ان غيره يصلاها.

والظاهر ان المراد بمن كذب في هذه الآية هو نفسه الذي كذّب بالحسنى في الآية السابقة فهو مكذّب بوعود الله تعالى وكما قلنا هناك ربما لا يكون هذا مكذّبا بلسانه بل قد يكون من المؤمنين المصلّين ولكنه يكذّب بها في قرارة نفسه فيظهر تكذيبه في عمله بل ربما يظهر من فلتات لسانه ايضا وعليه فهو لا يختص بالكافر.

والحصر بناءا على ذلك حصر إضافي وليس معناه أنّ النار لا يصلاها الا هذا المكذّب ولا يجنّبها الا من يؤتي ماله يتزكّى بل الآية تقارن بين نوعين من الناس نوع يؤتي ماله لا يقصد به الا الاجر من الله ونوع يبخل بماله لانه لا يصدّق ما وعد الله من الاجر والثواب فلا يصلى النار من بينهما الا الأشقى الذي يكذّب بما وعد الله ويجنّبها الأتقى منهما.

وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى...

(يُجَنّبها) مبني للمفعول اي يُبعد عنها. والضمير يعود الى النار ونائب الفاعل الأتقى.

والاصل في التجنيب هو الجنب اي شقّ الانسان والحيوان ثم استعير لكل ما يقرب من الشيء فيقال كنت بجانبه او بجنبه ومنه قوله تعالى (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)[4] واذا قصد التجنيب عنه افاد معنى الابعاد.

ومثله الناحية تقول انا في ناحيته اي في الجهة التي هو فيها فان اردت خلافه قلت تنحيت عنه.

وليس معناه الإبعاد بصورة مطلقة كما يتوهم بل بمعنى كونه في شقّ غير ذلك الشقّ ولكنه قريب منه ولذلك لا يقال التنحية او التجنيب في شيء بعيد عنه كل البعد.

ومن هذا الباب الاجتناب فاذا قيل زيد يجتنب الخمر او الربا انما يصدق ذلك اذا كان مبتلى بهما اما الذي ليس له مال ليتعامل به لا يقال في حقه انه يجتنب الربا.

وايتاء المال بمعنى اعطائه ولم يذكر للايتاء مفعول لان المناط هنا هو القصد والغرض لا من يُعطَى المال ولا الجهة التي يُعطَى لها.

ولذلك عقّبه بقوله (يتزكّى) ليدل على أنّ المناط هو قصد التزكّي وهو من الزكاة اي الطهارة فلا ينظر الى جهة الصرف والايتاء وانما ينظر الى غايته من الاعطاء فان اراد به الزكاة والتقرب الى الله تعالى فهو الاتقى.

وقوله (يتزكى) جملة حالية من فاعل الايتاء اي يؤتي ماله حال كونه يطلب الزكاة وطهارة النفس.

وتوصيفه بكونه اتقى اضافي نظير ما قلناه في الاشقى فهذه مقارنة بين نوعين من البشر نوع يبخل بماله تكذيبا لوعد الله فهو الاشقى ونوع يؤتي ماله للتقرب الى الله تعالى فهو الاتقى وبينهما كثير لا من هذا القبيل ولا من ذاك.

ويمكن ان يكون التوصيف بلحاظ ان التقوى له درجات ومراتب فهناك من يتقي الله تعالى في اجتناب المحرمات والعمل بالعبادات وتجده في الظاهر في غاية النسك والزهد ولكنه لا يؤتي ماله في سبيل الله ويحاول بشتّى الاعذار ان يبرّر موقفه.

وهذا امتحان كبير للناس فدعوى التقوى والنزاهة لا يثبتها في كثير من الموارد الا بذل المال واوضح منه بذل النفس.

قال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا).[5] 

وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى...

الآية تؤكّد على إخلاص هذا الأتقى في إعطائه المال فتنفي وجود أيّ نعمة لأيّ أحد عليه يستلزم جزاءا منه.

وليس المراد نفي وجود نعمة عليه مطلقا فانه غير ممكن عادة فلا اقلّ من وجود النعمة عليه من ابويه. بل المراد ان اعطاءه المال ليس من جهة الشكر لاحد له نعمة عليه ففي الجملة تقدير اي تجزى به اي بما آتاه.

وشكر احسان الاخرين بالاحسان امر مطلوب ولكنه ليس موضوعا لهذا الحكم الخاص بمن أخلص عمله لله تعالى وان أمكن ان يقصد القربة في جزاء الاحسان بالاحسان ايضا.

و(من) زائدة تفيد التأكيد وهي في الواقع تبعيضية كما هو الاصل في هذا الحرف وافادتها للتأكيد من جهة أنها تدل على انه لم يكن عليه حتى جزء من نعمة.  

إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى...

استثناء منقطع فيفيد معنى الاستدراك اي ولكنه يعطي ابتغاء وجه ربه. والابتغاء بمعنى الطلب المؤكد لان البغي بنفسه بمعنى الطلب وباب الافتعال يؤكده وهو مفعول لاجله اي هذا غايته في الاعطاء.

وقد فسر الوجه بالذات بتقدير الرضا اي ابتغاء رضا ربه.

وللعلامة الطباطبائي كلام في ذلك ناقشناه سابقا في تفسير قوله تعالى (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ).[6]

وقلنا إنّ الوجه لا يمكن أن يراد به غير الذات المتعالية لانه وصفه بانه ذو الجلال والاكرام وهذا من صفاته تعالى وقلنا هناك ايضا ان السر في اختيار هذا التعبير هو التأكيد على ان الباقي هو الذات المتعالية لا ما يتعلق به فالتعبير بالوجه كالتعبير بانك رايت زيدا نفسه.

والوجه يعبر به عن الذات لان الوجه في الانسان يعبر عن ذاته فعنوان كل احد وجهه فاذا رايت يد زيد ولم تر وجهه تقول رايت يده اما اذا رايت وجهه ولم تر شيئا اخر منه تقول رايته بنفسه.

ولكن السؤال هنا عن السر في اختيار هذا التعبير في مثل هذه الموارد كقوله تعالى (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)[7] او قوله تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)[8] ونحوهما.

فيمكن ان يقال ان المراد ان الهدف من العمل الخالص لوجهه تعالى هو ان يلقاه الله يوم اللقاء بوجهه وهذا تعبير كنائي عن الرضا.

والسر فيه ان الانسان اذا رضي بفعل احد يلاقيه بالوجه اما اذا سخط عليه فيدبر عنه ولا يواجهه فمن هذا الباب استعير الوجه للدلالة على الرضا.

والتعبير بالرب لبيان السبب فحبهم لله تعالى ينبع عن انه تعالى ربّاهم وأوصلهم الى غاية الكمال.

ولعل توصيفه بالاعلى للاشارة الى أنه أعلى من أن يجعل له شريك في العبادة والاطاعة فلا يقصد بالاعمال المامور بها منه تعالى الا رضاه جل شأنه بل عند الاولياء هو أسمى وأعلى من ان يجعل اطاعته وعبادته وسيلة للوصول الى الحاجات حتى الجنة فليس المطلوب الاول عندهم غيره تعالى فهم لا يطلبون بعملهم جنة ولا نعيما بل لا يريدون من الله بإزاء ذلك شيئا الا رضاه وانما يدفعهم اليه حبهم لله تعالى وانه يحب هذا العمل وهذا غاية في الاخلاص لا يصل اليها المدّعون ولا ينالها الا الاولياء المقربون.

وَلَسَوْفَ يَرْضَى... وهذا جزاء هذا المخلص الذي لا يطلب الا رضاه تعالى وهذا المحب المتفاني في حبه تعالى ولا اعلم ماذا يؤتيه ربه الاعلى ليرضى فان الانسان لا يسدّ نهمته شيء ولا يقتنع بكل ما يعطى من مال وجاه ونعم مادية لا تعدّ ولا تحصى لا في الدنيا ولا في الآخرة.

والله اعلم ماذا يعطي هذا المحب يوم اللقاء ليرضى وتقنع نفسه ويصل الى امنيته ولذلك لم يشر في الآية الى جزائه ولم يذكر الجنة ونعيمها وانما اختصر وأبهم لان ما يعطى لا يحيط به بيان ولا تدركه العقول ولا يشبهه شيء ولعله هو ما يعبر عنه بقوله تعالى (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا).[9] والله العالم.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على حبيبه محمد واله الطيبين الطاهرين.

 


[1] البقرة: 39

[2] النساء: 29- 30

[3] النساء: 93

[4] النساء : 36

[5] النساء: 77

[6] الرحمن: 27

[7] الانسان: 9

[8] الكهف: 28

[9] الانسان: 21