مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ... يعود السياق الى التعرض لحال المنافقين ومحاولاتهم اليائسة للاساءة الى الاسلام والمسلمين ومنها توطيد العلاقات مع اليهود وهم من ألدّ أعداء الاسلام. والاستفهام لانشاء التعجب والرؤية متضمنة معنى النظر ولذلك تعدى بـ (الى) ووجه العجب في موالاة ذلك القوم اما نفس كونهم مغضوبا عليهم او ما تتضمنه الجملة التالية كما سيأتي.

والظاهر أن المراد بالقوم المغضوب عليهم اليهود لتكرر التعبير عنهم بذلك في الكتاب العزيز كقوله تعالى (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ..)[1] وقوله تعالى (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ..).[2] بل يحتمل أن يكون ما ورد في هذه الآية هو بالذات ما ورد في سورة الحشر (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).[3]

ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ... ذهب جمع من المفسرين الى انه توصيف للمنافقين لانهم مذبذبون لا ينتمون الى المؤمنين واقعا ولا الى الكافرين كما هو مقتضى مخالفة ظاهر حالهم لواقع أمرهم ولكن الظاهر أنه توصيف لذلك القوم وهم اليهود والمراد أنهم ليسوا منكم فيكون السبب في توليهم للقوم ظاهر حال المنافقين حيث انهم آمنوا في الظاهر، ولا هم منهم اي من طائفة المنافقين او من حزبهم وهو حزب النفاق ولذلك فليس لهذا الولاء وجه معقول. وبذلك تكون هذه الجملة مبينة لسبب انشاء التعجب من ولائهم لهم. واما بناءا على ما ذكروه فلا يظهر لتوصيف المنافقين في المقام علاقة بالموضوع خصوصا بملاحظة ان الجملة لم ترد بالواو بل وصفا ثانيا. ولو صح ما ذكروه لكانت جملة استينافية تستدعي الواو.

وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ... عطف على ما سبق ولعل الاتيان بالفعل المضارع للدلالة على أن ذلك عادتهم وديدنهم وهو ميزة النفاق وقد نسب الحلف الكاذب اليهم في مواضع عديدة من الكتاب العزيز. والمراد بالكذب هنا دعواهم الايمان وانكارهم للمؤامرة والدسيسة وتولّي الاعداء فهم يكذبون ويحلفون عليه والحال أنهم يعلمون أنهم كاذبون فيتعمدون الحلف الكاذب واليمين الغموس وليس ذلك لسذاجتهم او جهلهم او المراد أنهم يعلمون قبح الحلف الكاذب وأنه اثم كبير.  

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَديداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ... الجملة الثانية تعليل للاولى والمعنى أن العذاب يناسب العمل فالله تعالى لا يعذّب على سوء السريرة بل على الاعمال وكلما ازداد العمل سوءا اشتد العذاب. وقوله تعالى (ما كانوا) للدلالة على استمرارهم في الاعمال السيئة مما يمنع من نزول الرحمة والتوبة.

اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهينٌ... الظاهر أنه بيان لعملهم السيء المذكور في الآية السابقة وهو نفس ما ذكر في ما سبق من أنهم يحلفون على الكذب. والجُنّـة كل ما يتستر به. ومن هنا يظهر أن هذه الآية تبيّن وجه القبح في حلفهم فان الانسان ربما يحلف على الكذب ليدفع عن نفسه او غيره الشر وهذا لا يذمّ عليه بل ربما يكون واجبا ولكن المنافقين كانوا يحلفون ليتستروا بذلك ويستروا كفرهم الدفين ليتمكنوا من الاندساس في صفوف المسلمين والتأثير على البسطاء منهم ومنعهم من الايمان بالله ورسوله.

والصدّ هنا بمعنى المنع فيكون متعديا والمفعول مقدر اي صدوا الناس عن سبيل الله اي الدين الذي انزله الله تعالى لهداية البشر. وقد يأتي الصدّ لازما بمعنى الاعراض. ووجه الاهانة في العذاب هنا هو كون العمل مما لا يصدر الا من الحقير المستحق للاهانة وهو التستر بصورة الصديق الموافق حتى اذا تمكن من تحصيل الوثوق والاعتماد أساء الى صديقه من حيث لا يشعر به وهذا فعل الجواسيس وأصحاب الضمائر الدنيئة.

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً... الاغناء: الكفاية. ومنه الغني اي الذي يملك ما يكفيه. وقوله (من الله) بتقدير مضاف يناسب الكلام اي من عذاب الله والمراد دفع توهم يحصل لكثير من البشر ومنهم منافقو المدينة من أن الاشراف والاغنياء والكبراء لهم مكانة خاصة ولا ينالهم السوء وربما يتصور بعضهم أن له عند الله تعالى كرامة ولولا ذلك لم يحصل على هذا المال والجاه. وكذلك يتصور بعض البسطاء من الناس فيهم. وكم سمعنا من بعضهم أن آل فلان لهم قرب عند الله والا لما أعزهم وملّكهم على الناس.

وفي خطبة الصديقة زينب عليها السلام في محضر يزيد لعنه الله ما يدل على أنه وأتباعه ايضا كانوا يتوهمون ذلك حيث قالت: (أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الارض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الاسارى أن بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة وأن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك... مهلا مهلا أنسيت قول الله تعالى ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين..).[4]

ومنافقو المدينة ايضا كانوا يتوهمون ذلك ورأسهم عبد الله بن أبي كان من الاثرياء وكان يتوقع أن يكون ملكا من ملوك العرب وهذا هو السبب الاساس في نفاقه وبغضه للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وللرسالة حيث تبددت أحلامه وأمانيه بوصول الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الى المدينة.

ومن هنا كان يستكبر ويستعلي على المؤمنين ويتصور أن المجتمع بحاجة الى ماله وأموال أصحابه ويدعي لنفسه العزة ويستذل المؤمنين كما وردت حكاية كلامه في قوله تعالى (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ).[5]

والحاصل أن الآية الكريمة تنبّه الانسان على أن المال والجاه لا ينفعان شيئا اذا أراد الله باحد سوءا. وذكر الاولاد باعتبار أن كثرة الاولاد في تلك المجتمعات كانت أساس القدرة والقوة والجاه.

أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ... وهذا هو الدليل على عدم اغناء المال والولد عن عذاب الله تعالى فان عذابه ينالهم في الآخرة حيث لا ينفع مال ولا ولد ولا بيع ولا خلة ولا شفاعة. والخلود: الثبات والبقاء.

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَميعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ... الظرف يمكن ان يتعلق بفعل محذوف اي اذكر يوم.. ويمكن ان يتعلق بما قبله اي هم اصحاب النار في ذلك اليوم. وقد مر في نظيرها في أوائل السورة أن الجميع اما للتأكيد على عدم الاستثناء او بمعنى كونهم مجتمعين. والغرض من الآية بيان أن النفاق والكذب متمكن من نفوسهم بحيث لا يفارقهم حتى في عالم الآخرة وأمام ربّهم.

والغريب في ذلك أن الانسان في الوضع الطبيعي لا يكذب الا لدفع ضرر او جلب منفعة ولكن بعض الناس نجدهم يفضلون الكذب على الصدق من دون حاجة وان بعضهم يصرّح بأنه لا داعي للصدق مادام للكذب مجال فاذا سألته عن اسمه أجابك بالكذب من دون احتمال ضرر او خطر او مع التمكن من التهرب وعدم الجواب ولكنه يفضل الكذب. فمثل هذا الانسان تنقلب طبيعته وحيث ان يوم القيامة يوم بروز الحقائق فانه يظهر بطبيعته الثانوية التي تقتضي الكذب والنفاق مع أنه يعلم آنذاك أن كذبه لا ينطلي على أحد ويعلم أنه أمام ربه الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة ولكنه لا يتمكن من التخلي عن الكذب.

وقد ورد مثل ذلك في قوله تعالى (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)[6] ويلاحظ أن هذه الآية تصرّح بأنهم اي المشركين يكذبون على أنفسهم لا على ربهم اذ يعلمون أن الله تعالى لا يكذب عليه ولكن التعبير في الآية التي نحن فيها بأنهم يحلفون له اي لله تعالى كما يحلفون لكم يبين أن المنافقين شر حالا من المشركين فهم يحلفون لربهم الحلف الكاذب يوم تتجلى الحقائق والسبب هو أن النفاق متمكن منهم وهو يدعو الى الحلف الكاذب والمشرك لا ينافق.

ولعل تشبيه حلفهم هناك بحلفهم هنا من جهة أنهم يتوقعون في كليهما أن يصلوا بذلك الى تمويه الحقائق على غيرهم كما تدل عليه الجملة التالية وهم يصلون الى ذلك بكذبهم وحلفهم في الدنيا بالطبع ولكنهم لا يحصلون على شيء مما يتوقعون في الآخرة.

وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ... اي يحسبون ويظنون أنهم مستقرين على شيء وهو كناية عن أنهم سيحصلون على نتيجة مقصودة من حلفهم على الكذب وهذه جملة حالية اي يحلفون حال كونهم يظنون ذلك والظاهر أنه حكاية لحالهم في الحلف في تلك النشأة وأما هنا فليس ذلك حسبانا محضا. ولعله يبين وجه التشبيه ايضا كما مر.

والحاصل أنهم كما يحلفون لكم مع توقع الوصول الى نتيجة في تمويه الحقائق كذلك يحلفون أمام ربهم بنفس التوقع والحسبان. وهذا من غريب أمر الانسان فانه يعلم هناك أن الحقائق واضحة وأنها لا تنطلي في تلك النشأة على عامة أهل المحشر فكيف بها على الله تعالى وهو العالم بخفيات الامور؟! والسبب هو تمكن النفاق ومحاولة اخفاء الحقائق من نفوسهم بحيث لا تغيب هذه الصفة عنهم حتى في تلك النشأة.

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ... (ألا) أداة تنبيه تدل على اهتمام خاص بهذا الاعلان. والالف واللام مع ضمير الفصل للدلالة على الحصر اي انهم هم الكاذبون حقيقة لا غيرهم مع أن صفة الكذب لا تختص بهم قطعا ولكن حيث ان طبيعة الانسان كما قلنا تقتضي أن لا يلجأ الى الكذب الا لدفع ضرر او جلب منفعة فمن كان يكذب حتى في غير هذا الحال فهو الكاذب حقيقة لانه اتخذ الكذب طبيعة ثانوية وهذا هو شأن المنافقين.

اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ... الاستحواذ: الاستيلاء والسوق بعنف والشيطان ليس مستوليا على الانسان في الوضع الطبيعي وانما دوره الوسوسة والتزيين وانما يتحقق ذلك في ما اذا أصر الانسان على متابعة ما يغويه الشيطان ويلقيه في روعه فانه بتكرر ذلك وتسليم القياد له يتسلط عليه ويتمكن منه ولا يمكنه التخلّي عن غواياته. واذا تمكن منه الشيطان فان أهم مرحلة يريد منه هو نسيان ربّه تماما. والمراد به ما يلازم النسيان وهو عدم احتساب أي دور لله تعالى ولأوامره ونواهيه في حياته حتى لو تذكّر ربّه بالخاطر أو ذكّره أحد به او ذكره باللسان فكل ذلك لا ينافي النسيان. فاذا بلغ الانسان الى هذه المرحلة من متابعة الشيطان فانه يعتبر من حزبه. والحزب: الجماعة من الناس يجمعهم شأن خاص بهم وهذا الحزب تجمعهم متابعة الشيطان بصورة كاملة فهذه ميزتهم بين الناس.

أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ... الجملة مؤكدة مضافا الى أداة التنبيه بـ (ان) وضمير الفصل الدال على الحصر فتدل على أن الخاسر الحقيقي الذي لا ينتفع بشيء من حياته ومما أنعم الله به عليه في هذه الدنيا هو من دخل في حزب الشيطان وأما من لم يدخل حتى لو اتبع الشيطان جزئيا فانه لا يخسر الخسارة الكاملة وينتفع بشيء من حياته حتى لو لم يدخل الجنة فان النار دركات.

ويمكن أن يكون المراد بالخسارة هنا خسارة الدنيا والآخرة فان سياق الكلام يعود الى المنافقين وهم المراد بحزب الشيطان وأنهم تشبثوا باليهود وتولوهم ليستنصروا بهم على المسلمين فهم خسروا الآخرة لنفاقهم ويخسرون الدنيا ايضا لما يأتي في الآية التالية أنهم في الأذلين على احتمال او أنهم يوادّون اليهود الذين هم في الاذلين على احتمال آخر.

 


[1] البقرة: 90

[2] المائدة: 60

[3] الحشر: 11

[4] بحار الانوار ج45 ص133

[5] المنافقون: 7-8

[6] الانعام: 22- 24<