مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

ولقد زيّـنّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين... مرّ الكلام في ذلك في تفسير سورة الصافات حيث يقول تعالى (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزينَةٍ الْكَواكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) 6-7.

وقلنا إنّ السماء الدنيا هي أقرب سماء الينا، والمراد بالمصابيح الاجرام الفلكية المضيئة مما يدل على أن كل هذه الاجرام الفلكية منتشرة في أقرب سماء الينا، فيحتمل أن يكون المراد بغيرها من السماوات العوالم العلوية التي ليست من المادة، وليس فيها كوكب ولا نجم، والعلوّ فيها ليس بمعنى العلوّ الحسيّ بل هو علوّ معنوي.

ويحتمل ان يراد بما عدا السماء الدنيا الأجرام الفلكية التي لا نراها لبعدها عنا فلا تعتبر زينة لنا، بل لا شكّ في أنّ بعض ما اكتشفه البشر ايضا بل أكثره لا يعدّ زينة حيث لا نراها بالعين المجرّدة، فالواقع أنّ وراء كل ما نراها من أجرام نيّرة سماوات ومجرّات وأجرام اخرى كثيرة جدّا جدا لا يحصيها الا الله تعالى.

والآية تشير الى الجانب الجمالي للكون وتدلّ على أنّ تزيين السماء بالكواكب أمر مقصود في التكوين. والجمال جزء من الخير المقصود الذي اشير اليه بقوله تعالى (تبارك..).

وذكرنا هناك ايضا بعض الكلام حول الشهب ورمي الشياطين بها، وأنها كيف تكون جزءا من الكواكب كما هو ظاهر الآيات الكريمة، وقلنا إنّ الآيات لا تدل على أنّ الكواكب تستخدم لرجم الشياطين، وإنما تدل على أنّ بعض ما في الفضاء تستخدم لرجمها، وهذا لا دليل على بطلانه حتى يستبعد او يستغرب. ونحن لا نعلم حقيقة الشياطين، وأنّها كيف خلقت، وبأيّ شيء تندحر، فربما يكون في هذه الكواكب أشعّة ثاقبة تدحرها.

ولعل أفضل توجيه لذلك ما ذكره العلامة الطباطبائي قدّس اللّه سرّه من انّ هذه التعابير كلها كناية عن امر غير محسوس فهي كالفاظ العرش والكرسي واللوح ونحوها، وانما تشير الى حقيقة غير محسوسة، وهي أن الملائكة تدحر الشياطين عن عالم الملكوت الذي ليس هو من العالم المحسوس بوسائل تناسب ذلك العالم والداحر والمدحور. فكما أنّ الملائكة ليسوا من هذا العالم المحسوس اي الاجسام المتزاحمة فكذلك الشهب.

وأعتدنا لهم عذاب السعير... فعذابهم في الدنيا هو الرجم والطرد وفي الآخرة السعير وهي النار الملتهبة. وأعتدنا بمعنى أعددنا وهو من العتاد. وقيل هو من باب ابدال الدال بالتاء.

وربما يستغرب بعض الناس من تعذيب الشيطان بالنار مع أنه مخلوق منها كما في آيات عديدة. وهو في غير محله أما خلق الشيطان من النار فهو أمر مبهم لا نعلم حقيقته، وهو كخلق الانسان من طين مع أنه لا يحمل شيئا من خصائصه.

وأما نار جهنم فقد ذكرنا مرارا أنه ليس كالنار الموجودة في الطبيعة وحقيقتها مجهولة، ولعل التعبير عنها بالنار من باب أقرب لفظ الى تلك الحقيقة المبهمة، والالفاظ قاصرة عن بيانها. والسبب واضح لأن الالفاظ مصنوعة من قبل الانسان، وهو يجعل الالفاظ لما يعرفه من المفاهيم، وليس منها جهنم.

ومن لطيف التعبير أن السياق انتقل من ذكر شؤون الربوبية المطلقة الى ذكر الكواكب التي هي ضمن دائرة الملك والخير الكثير، ومنها الى رجم الشياطين المرتبط بالكواكب، ومن ذكرهم الى عذابهم في الآخرة، لينتقل الى عذاب الكفار.

وللذين كفروا بربّهم عذاب جهنم وبئس المصير... الكفر: الستر والانكار، فيدل التعبير على أنّ مورد الكلام من ينكر وجود الله تعالى او ينكر ربوبيته المطلقة فهو كافر لأنه يستر الحقيقة التي لا يمكن إنكارها الا ممّن يخالف فطرته وعقله ووجدانه.  

اذا اُلقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور... تصوير بديع للنكسة التي يصاب بها الانسان الكافر في عاقبة أمره وهو المخلوق الممتاز الذي أراد الله له تشريعا أن يكون موضع بركته وخيره الكثير بعمله، فهو الآن يلقى في جهنّم وكأنه من النفايات.

وتصوير هائل لتلك النار المجهولة حقيقتها، فكأنّها تشعر بإلقاء هذه النفايات البشرية فتشهق شهقة يسمعون صوتها.

والشهيق: ردّ النفس ضدّ الزفير، وهو اخراجه، واصله العلوّ ومنه الجبل الشاهق. ولعل وجه التعبير عنه بالشهيق أنّه يوجب ارتفاع الرئة بادخال الهواء. فالتعبير هنا يصوّر تلك النار المستعرة حينما تشعر بإلقاء المنكرين للخالق الربّ تجذبهم بشهيق يسمع صوته، فكأنّها تريد أن تلتهمهم وتدفع بهم الى أعماقها، وهي في نفس الوقت تفور اي تغلي غيظا والتهابا.

تكاد تميّز من الغيظ... إنّ جهنّم تشعر بوجود الكفرة بربهم فيها، فتغتاظ من وجود هذا البشر الشاذّ الذي أنكر وجود ربّه، او أنكر ربوبيّته مع وجود كل هذه الآيات، ويبلغ بها الغيظ حدّا يكاد أن تتميّز، اي تنشطر وتنقسم الى أجزاء متميّزة متباعدة.

والقرآن يثبت لجهنّم شعورا قال تعالى (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ق: 30، كما يثبت للارض والسماء والحجارة شعورا، بل لكل شيء تجاه ربه شعورا، قال تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) فصلت: 11، وقال (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ..) البقرة: 74، اي الحجارة   وقال ايضا (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..) الاسراء: 44، الى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة.

وقد مرّ بعض الكلام حول ذلك في تفسير قوله تعالى (والنجم والشجر يسجدان) في سورة الرحمن.

كلّما اُلقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير... الفوج: الجماعة. والخزنة جمع خازن. والخزن حفظ الشيء في خزانة، ثم اطلق على كل نحو من الحفظ. والمراد بهم هنا الموكلون بالنار والقائمون على امورها.

وتدلّ الآية على أنّ النّاس يلقون فيها جماعات لا منفردين. ومثل هذه الآية في ذلك وفي سؤال الخزنة قوله تعالى (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) الزمر: 71.

ولعلّ الوجه في إلقاء الجماعة ارتباط المصير بينهم كما أنهم لهم كتاب واحد غير الكتاب الفردي قال تعالى (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا..) الجاثية: 28.

وسؤال الخزنة قد يكون من اجل تبكيتهم والشماتة بهم، وقد يكون ردّ فعل طبيعي ينشأ من الاستغراب عن حالتهم وهم يعلمون أن النذر جاءتهم. والنذير يشمل غير الرسل فلا يبعد أن هذا السؤال والاستغراب يشمل كل من تمّت عليه الحجة ولو عن طريق المبلّغين.

والغرض هنا من حكاية هذه المواقف في القيامة هو تنبيه الانسان قبل أن يقابل تلك المواقف لئلا يؤخذ على غفلة وغرّة.

قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذّبنا وقلنا ما نزّل اللّه من شيء... (بلى) جواب عن الاستفهام عن النفي ويفيد الاثبات. ومع ذلك أكّدوا الجواب بذكر الجملة ذاتها. وقولهم (مانزّل الله من شيء) من الاجوبة المتكررة في الامم الى يومنا هذا، فالبشر مازال يرفض أن يحكم الله تعالى في شؤون المجتمع البشري.

ان أنتم الا في ضلال كبير... الظاهر أنّ هذا من بقية خطاب الكفرة للمنذرين. ويبعد احتمال مقاطعتهم من قبل الملائكة بذلك كما قيل، فإنّ السياق يأباه. وانما اعتبروا دعوى الرسالة او الانذار ضلالا كبيرا لأنّه كذب على الله تعالى.

وقالوا لو كنّا نسمع او نعقل ما كنّا في أصحاب السعير... كرّر الاخبار بأنهم قالوا لأنّ هذه الجملة ليست إكمالا لجواب الملائكة، بل هو أمر آخر، فلعلهم ذكروها للملائكة ايضا، او تداولوا الحديث فيما بينهم.

ولنا في إسناد القول الى الناس او غيرهم في مثل هذه الموارد سواء كان في مخاطبة الملائكة او غيرها رأي آخر وهو أنه لا يبعد أن يكون ذلك إشارة الى ما تنطوي عليه النفوس وما يعبر عنه بلسان الحال فلا حاجة في ذلك الى تقدير مخاطب ولا تحقق كلام.

وهناك موارد كثيرة عبّر فيها بالقول في القرآن الكريم ويقوى فيها هذا الاحتمال فلعل منها بعض موارد تخاطب الناس يوم القيامة سواء ما حكاه الله تعالى عن المستكبرين والمستضعفين من اهل النار او ما حكاه من تخاطب اهل الجنة بعضهم مع بعض او تخاطب الفريقين.

ولعل منها بعض موارد التخاطب بين الله تعالى وملائكته كقوله جلّ شأنه (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). البقرة: 30 وغير ذلك.

وظاهر الترديد أنّ هناك طريقين للنجاة من النار أحدهما السمع والثاني التعقل مع أن النجاة لا تتم الا بالسمع والطاعة المطلقة.

ومن هنا قيل: إنّ المراد بالسماع الإصغاء الى كلام الرسل، حيث إنّهم كانوا يمتنعون من الاستماع ويجعلون أصابعهم في آذانهم، وبالتعقل إدراك معنى كلامهم والتدبّر فيه.

ولكن لو كان كذلك لأتى بالواو، اذ لا يفيد السماع من دون تعقل، وظاهر الآية كفاية أحدهما في النجاة من النار، ومردّ هذا التأويل ــ وهو ظاهر كلام أكثر المفسرين ــ أنّ الموجب لدخول النار أحد أمرين إمّا عدم الاستماع رأسا او عدم التعقل، مع أنّ ظاهر الآية أنّ الموجب للنجاة أحد أمرين: السمع والتعقل.

وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله ما معناه أنّ المراد بالسمع الطاعة والالتزام لا نفس الاستماع والاصغاء وأنّ العقل هو تمييز الخير والشر ولكن المراد هنا الالتزام بمقتضى هذا التمييز. ثم قال: (أريد بالسمع استجابة دعوة الرسل والالتزام بمقتضى قولهم وهم النصحاء الأمناء، وبالعقل الالتزام بمقتضى ما يدعون إليه من الحق بتعقّله والاهتداء العقلي إلى أنه حق ومن الواجب أن يخضع الإنسان للحق).

 ومعنى ذلك أنّ المراد بالسمع لازمه وهو الاطاعة المطلقة وهي تفيد النجاة بعد أن ثبت للانسان أنّ الرسالة حقّ بالآيات والمعجزات، وإن لم يتعقّل الانسان ويدرك حقائق كلام الرسل والمعارف الالهية التي أتوا بها.

والناس قسمان، فالقسم الاكبر يطيع الرسل من دون تأمّل لمحتوى الرسالة إيمانا بهم، والقسم الخاصّ يعقل ويدرك حقيقة الرسالة ويؤمن بها. ولكن يبقى مناط النجاة من النار واحدا في الفريقين وهو الاطاعة والتبعية للرسل.

فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير... السحق: البعد. والصيغة صيغة دعاء عليهم بأن يبعدهم اللّه تعالى عن رحمته ولكنه من اللّه تعالى إبعاد لهم في الواقع.

ولم يأت بالضمير فيقول (فسحقا لهم) مع أنه أخصر وأنسب لأمرين:

الاول: الاشارة الى السبب اذ لو أتى بالضمير لتوهّم أنّ الاعتراف بالذنب هو الموجب للابعاد مع أنه لا ينبغي أن يوجبه لو لم يوجب العكس.

والثاني: أن يشمل الشياطين ايضا حيث تقدم ذكرهم أنّهم من اصحاب السعير.

والذنب الذي اعترفوا به حسبما يستفاد من السياق هو الكفر بربّهم. وقد مرّ أنّ الكفر هو الانكار وهو يستدعي ثبوت الأمر بحجة تامّة، إمّا بالسماع من الرسل مع وجود الآيات والمعجزات، او بتعقّل الأدلة المثبتة لوجوده تعالى وعموم ربوبيته.

إنّ الذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير... من دأب القرآن أن يعقّب على ذكر العذاب بذكر الرحمة في الآخرة لمن يستحقها لئلا يخلو الكلام من ذكر الرحمة، وإن كان الغرض من هذه الآيات التنبيه على عذاب الكافرين، وليكون الانسان بين الخوف والرجاء.

ووصف المؤمنين بالخشية لأن المقام مقام التنبيه على ما يوجب العقاب. والخشية بالغيب إمّا بمعنى التقوى في السر حيث لا يرى الانسان الا ربه ليدلّ على خلوصه، وإمّا بمعنى الخشية منه تعالى مع أنّه لا يراه، فيكون قيدا توضيحيا، ولكنه يشير الى السبب في تقييم هذه الخشية، وهو الايمان بالغيب، وهو أساس الكمال الانساني، فان الانسان لا يبلغ بذاته الكمال المطلوب الذي يهيئه لتسنّم درجات القرب لدى اللّه تعالى الا اذا اتصف في ذاته بالارتباط الوثيق بعالم الغيب، بحيث يهيمن ذلك على أفعاله وأفكاره وتمنياته، حتى يصل الى حدّ لا يريد الا رضا اللّه تعالى ولا يهاب الا مقامه.

ومثل هذا الانسان يستحق المغفرة ثم الاجر الكبير. ولا بدّ اولا من المغفرة حتى لو لم يكن له إثم، اذ لا يرفع العمل لولا مغفرته تعالى وإغماضه فلكل عمل نقائصه، ولولا المغفرة لم يستحق أحد الاجر الكبير، وكفاه عظمة أن اللّه تعالى يصفه بالكبر.

وفي الآية ايضا إشارة الى أنّ ما ورد في اول السورة من الوعد بالمغفرة لمن كان أحسن عملا مورده من يخشى ربه بالغيب، حيث قال تعالى (وهو العزيز الغفور) فتفيد الآية أنّ أحسن العمل هو الخشية بالغيب بكلا معنييه اي التقوى في الخفاء والايمان بالغيب.

ويقابل الايمان بالغيب من لا يؤمن الا بما يشعر به ويحسّه، وفي ذلك اولا نوع من الكبر والجفاء وثانيا يستلزم الاخلاد الى الارض ومتابعة الهوى، كما قال تعالى (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) الاعراف: 176.

وأسرّوا قولكم او اجهروا به إنّه عليم بذات الصدور... الإسرار هو الإخفاء، إمّا عن شخص او عن كل أحد، ويقابله الإجهار والاعلان.

وتأتي هذه الآية في سياق الحثّ على الخشية بالغيب فتنبّه الانسان بأنّه لا غيب عند اللّه تعالى، ولا يختلف عنده الإسرار والإعلان.

وتأتي ايضا في سياق عموم ملكه تعالى وسلطته الذي بدأ به السورة المباركة فلا يشذّ عن هذا العموم ما يُسرّ به الانسان.

وتأتي ايضا في سياق مواجهة الذين كفروا للنذير الذي أرسله اللّه تعالى اليهم، حيث قيل إنّ بعض المشركين تكلّم على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم فنزل به الوحي، فقال بعضهم لبعض أسرّوا القول كيلا يسمعكم ربّ محمّد!!! وعليه ففي الآية تهديد لهم.

وقوله تعالى (إنّه عليم بذات الصدور) تعليل للجملة السابقة وذلك لأنّ الإسرار يسبقه كتمان النفس واستحضاره، والله تعالى يعلم ما في الصدور قبل أن يقوله سرّا.

بل هو يعلم ما لا يشعر به الانسان في خبايا نفسه، وذات الصدور يشمله ايضا لان (ذات) بمعنى صاحب، والصدور كناية عن القلب، ويراد به النفس الانسانية، والذي يصاحب النفس يشمل ما ينتبه له الانسان ويشعر به، وما هو في منطقة اللاشعور او ما يسمى بالارتكاز.

وصيغة (عليم) مبالغة تدل على الثبات والرسوخ، فعلمه تعالى بذات الصدور ليس حادثا يتبع تحققه حتى في الصدور، بل هو علم ثابت أزلي كعلمه بكل شيء، فهو يعلم بما يخفيه الانسان قبل أن يوجد، والحاضر والمستقبل لديه سواء.

ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير... الاستفهام للانكار. وانكار النفي اثبات. وجملة (وهو اللطيف الخبير) حالية. والظاهر أنّ (من خلق) فاعل (يعلم) أي ألا يعلم الذي خلق حال كونه هو اللطيف الخبير؟ ومتعلق العلم غير مذكور، لأنه غير محدود بشيء، فالمعنى أنّ الخالق اللطيف الخبير عالم بكل شيء.

واللطيف: الدقيق من الامور، والمراد به هنا خالق الامور الدقيقة التي لا تدركها الحواس. والخبير مأخوذ من الخبرة اي العلم بتفاصيل كل شيء ودقائقه، كما يلاحظ ذلك في موارد استعمال القرآن الكريم، وليس مساوقا للعليم كما ذكره بعض اللغويين.  

وهذه الجملة للاستدلال على الجملة السابقة وهو أنه تعالى عليم بذات الصدور، فإنّ ذات الصدور جزء من الانسان، وهو مخلوق له تعالى بكل أجزائه وخبايا ذاته.

وأتى بها بصورة الاستفهام الانكاري لاستغراب هذا التصور أن يكون الخالق اللطيف الخبير يجهل خبايا ما خلقه!! فكيف خلقه بهذه الدقّة المتناهية؟!

وقيل: (من خلق) مفعول (يعلم) بمعنى أنه تعالى يعلم حقيقة من خلقه وهو الانسان وكل زواياه وخباياه.

وما ذكرناه أوضح وأقرب.