مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ... الآية على ما يبدو نزلت بعد صلح الحديبية حيث كان من الشروط بين الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وقريش أن يعيد اليهم من جاء من مكة الى المدينة مهاجرا ومن ذهب اليهم من المسلمين لا يعيدوه الى المدينة. ثم ان بعض النساء آمنّ وهاجرن الى المدينة فجاء الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ازواجهنّ يطلبون اعادتهنّ وفقا للشرط فنزلت الآية. وقيل أبى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ذلك على أساس أن المذكور في العهد الرجال. ولعل الوجه فيه أن العهود تمضى حسب الصراحة لا الظهور فلا تقبل دعوى أن ذكر الرجال من باب التغليب. وعليه فالآية نزلت مؤيدة لفعله صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

والتعبير عنهنّ بالمؤمنات ثم الامر بامتحانهنّ لعلّه من جهة كفاية صدق الايمان بمجرّد الاظهار والنطق بالشهادتين ولكن ترتيب الاحكام الآتية يتوقف على التأكد من صدقهنّ في الايمان. مع أن الامتحان لا يوجب علما خصوصا على ما روي أنهم كانوا يحلّفونهن أنّهنّ ما خرجن فرارا من رجالهنّ او طلبا للدنيا او حبّا لرجل آخر ونحو ذلك فان الحلف لا يدل على الصدق خصوصا ان كانت مشركة في الباطن ولكنّ ذلك كان يثير فيهنّ الالتزام بتعهدهنّ وأيمانهنّ. وقيل إنّ المراد بامتحانهنّ أخذ البيعة منهنّ حسبما ورد في الآية الاخيرة.

ثم ان الخطاب في هذه الآية للذين آمنوا مع أنّ الامتحان وما يتبعه من ارجاع النساء او عدم ارجاعهن انما هو وظيفة ولي الامر وهو الرسول صلى الله عليه واله وسلم ولعل السبب في ذلك أن هذه الاحكام لا تختص بعهد الرسالة بل هي وظيفة ولي امر المسلمين في كل عصر حسب تعيينه تعالى لا وفقا للاهواء. ومثل ذلك الآيات الواردة في بيان الحدود والقصاص كقوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ..)[1] اذ لا شك أن إجراء الحدود ليس من وظائف عامة الناس مضافا الى ان بعض الاحكام الواردة في هذه الآية احكام وضعية لا تختص بولي الامر كبطلان زواج الكافر بالمراة التي اسلمت كما هو المستفاد من قوله تعالى (لاهن حل لهم ولا هم يحلون لهن) ومن قوله (ولا جناح عليكم ان تنكحوهن..) وكذلك بطلان زواج المسلم بالمراة التي بقيت على شركها او ارتدت بعد اسلامها وهو المستفاد من قوله تعالى (ولا تمسكوا بعصم الكوافر).

اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ... الغرض من هذه الجملة التنبيه على عدم امكان التحقّق عن صدقهنّ في اظهار الايمان وأن ما يظهرن من الالتزام او يحلفن عليه لا يدلّ على كونهنّ مؤمنات واقعا فان ذلك لا يمكن معرفته للناس وانما هو أمر قلبي لا يعلمه الا اللّه تعالى وكم من مؤمن في الظاهر كثير الصلاة والصيام متزهّد متنسّك وهو في الواقع منافق لا يظهر حقيقة حاله.

فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ... رجع رجعا يأتي لازما ومتعديا. وهذا هو صريح الحكم بالنسبة للنساء اللاتي هاجرن الى المدينة وتركن ازواجهنّ وهم المراد بالكفار في الآية. والمراد بالعلم ما يشمل الوثوق اذ لا يمكن العلم بسرائر القلوب بل يمكن ان يكون المراد به العلم بما تظهره وتلتزم به فيكون العلم مستعملا في معناه ولكن لا يقصد بالايمان الا النطق بالشهادتين والالتزام بلوازمهما.

لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ... تعليل لعدم الرجع والجملتان تفيدان حكما واحدا وهو انتفاء العلقة الزوجية فالحلية هنا كناية عن الحكم الوضعي ولا يراد بها حلية الاستمتاع حتى يستغرب من توجيه الخطاب للكافر. وعليه فالتكرار يحتمل ان يكون للتأكيد والمقام يقتضيه اذ المفروض عدم وقوع ما يوجب الانتفاء وهو الطلاق. والعرف العربي كان يفرض الزوجة في حبالة الرجل وكأنّها ملكه حتى يطلقها كما تفيده التعابير بالذمة والحبالة والطلاق بل يعبّر عن العقد في زماننا ايضا بالملك فكان لا بد من التأكيد على عدم بقاء هذه العلاقة بعد ايمان المرأة وبقاء الرجل على شركه. ويحتمل ان تكون الجملة الاولى لبيان الحرمة الفعلية والجملة الثانية لبيان حرمة تجديد العقد لاي تغيير آخر غير ايمان الرجل كما لو حضر الرجل في بلاد المسلمين او سكنت المرأة في بلد من بلاد الكفر. ويمكن ان يكون هذا هو السر في التعبير بالفعل المضارع في الجملة الثانية الدال على الاستمرار.

وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا... اي اعطوا ازواجهنّ الكفار ما أنفقوا في سبيل الحصول على الزوجة التي آمنت فانفصلت عنه بايمانها. والظاهر أن المراد خصوص المهر وان احتمل بعضهم شموله لكل ما أنفق. والخطاب فيه وان كان للمؤمنين في ظاهر اللفظ الا ان المباشر للتنفيذ هو ولي الامر اي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وخليفته بالحق. ولعل الحكم بذلك من أجل عدم تصعيد الموقف المتدهور أساسا بين المسلمين والمشركين إبقاءا على حالة الصلح التي استفاد منه المسلمون بالحرية في تبليغ الدين بين قبائل العرب. فالوضع كان يستدعي نوعا من الرخاوة في موضع التشدد فحيث اخذت منهم ازواجهم عوّضهم الله تعالى باعطائهم المهور لئلا يتضرروا مادّيّـا بعد تضررهم بتفكّك الاسرة ويبدو من ملاحظة الوضع الاجتماعي آنذاك اهتمامهم بالجانب المادّيّ من الزواج لصعوبة تحصيل المال لدى الغالب.

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ... الغرض من هذا الحكم التأكيد على زوال الزوجية السابقة فبامكان المرأة أن تتزوّج بمن تشاء. ولعلّ التقييد بايتاء الاجور ــ والمراد بها المهور ــ أن ما حصل من ارجاع ما استلمت من المهر الى زوجها السابق من بيت المال لا يوجب سقوط حقها في مطالبة المهر فليست هي مسترقّة او بحكمها.

وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ... العِصَم جمع عِصْمة. والعصمة: الحفظ والمنع ويراد بها هنا الزواج حيث يعصم الزوجين من الوقوع في الحرام. والكوافر جمع كافرة والامساك بعصمهن كناية عن ابقاء زواجهن والمعنى ان المسلم اذا لم تسلم زوجته او ارتدت وكفرت وجب الانفصال عنها بمعنى عدم بقاء علقة الزوجية بينهما شرعا فلا حاجة الى طلاق. هذا هو صريح الآية ويستفاد منها عدم الابتداء بالزواج بهن بطريق اولى. انما الكلام في ان الحكم هل يشمل الكتابيات باعتبار انهن كوافر وفي الآيات مواضع صرح فيها بكفر اهل الكتاب منها قوله تعالى (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ..)[2] وقوله تعالى (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)[3] وغيرهما. والسبب واضح لانهم كفروا برسالة الرسول صلى الله عليه واله وسلم ام لا يشملهن؟

يمكن ان يقال ان السياق هنا قرينة على ارادة المشركات بالخصوص. والجواب عنه ان مورد الآية وان كان المشركات فقط ولكن المورد لا يخصص الحكم. ولكن الظاهر تخصيص الآية بقوله تعالى (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ..)[4] فيجوز طبقا لهذه الاية الزواج بالكتابيات اما مطلقا او في خصوص المتعة. وهناك رواية تدل على نسخ هذه الآية بقوله تعالى (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) روى الكليني بسند صحيح عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (والمحصنات من الذين اتوا الكتاب من قبلكم) فقال: هذه منسوخة بقوله: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر).[5] ولكن الحديث لا يمكن التمسك به ولا بد من رد علمه اليهم عليهم السلام لان سورة المائدة آخر ما نزل من القرآن ولا يمكن ان تنسخ هذه الآية بسورة الممتحنة. وتمام البحث في الفقه.

وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا... حيث كان النهي عن ابقاء علقة الزوجية مع الكافرة يستلزم تركها للمدينة ورجوعها الى بلاد المشركين ورد الامر هنا ــ والامر للجواز والاباحة ــ بمطالبة ما انفق المؤمن للزواج والظاهر ان المراد به المهر فيجوز له ان يطالب الكفار بما انفقه من المهر. ولعل تكرار الحكم بالنسبة للكفار حيث أجاز مطالبتهم هنا لما انفقوا بعد الامر السابق في قوله تعالى (وآتوهم ما انفقوا) للاشارة الى المقابلة بالمثل فتكون النتيجة أن الحكم بجواز مطالبتهم لما بذلوا من مهور ازواجهم يتبع موافقتهم على بذل مهور اللواتي يذهبن اليهم من نساء المؤمنين او بقين هناك بعد الهجرة ولم يهاجرن مع ازواجهن فان امتنعوا من دفعها لم يجب على المؤمنين دفع مهور أزواج الكفار الهاربين منهم.

ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ... الاشارة في قوله (ذلكم) الى الحكم السابق ولم يقل (ذلك) ليكون الخطاب متوجها الى الجميع اي المؤمنين والكافرين وقوله تعالى (يحكم بينكم) جملة وصفية تشتمل على ضمير غائب يرجع الى الحكم اي يحكم به بينكم والخطاب هنا ايضا للفريقين. وكل ذلك للتأكيد على الحكم السابق وكذا تذييله بأنه تعالى عليم حكيم اي عليم بالمصالح والمفاسد وحكمته تمنع من ترك الامور على عواهنها فيشرّع الحكم اللازم في ظرف لزومه. ويبدو من السياق أن بعض النفوس كانت تأبى ذلك او تستعظمه ولعل بعضا من ذوي القلوب المريضة كانت تحاول بثّ الفتنة وتهييج المشاعر بأن هذا تضعيف للمسلمين وهم الآن في عزة ومنعة ولكن الحكمة الالهية كانت تقتضي الابقاء على حالة الصلح والتعامل مع المشركين بنوع من الانصاف فكان لا بد من التأكيد على أن هذا حكم الله لتقبله النفوس المضطربة وتنصاع لها وأنه مقتضى العلم بالمصالح والحكمة. ولذلك ورد التذييل بالاسمين الجليلين.    

وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ... كلمة (شيء) مبهمة يتعين المراد بها بما يأتي بعدها فمعناه إحدى أزواجكم والفوت بمعنى التباعد اي ذهبت بعض ازواجكم الى الكفار لارتدادها او بقيت هناك ولم تهاجر مع زوجها لبقائها على شركها. والظاهر أن المراد بالمعاقبة أن المشركين لم يؤدوا مهر هذه الازواج بعد ابلاغهم الحكم الالهي العادل الذي سبق ذكره فعاقبهم المسلمون بعدم دفع مهور نسائهم اللاتي آمنّ وأتين الى المدينة.

فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا... اي ادفعوا للمؤمنين الذين ذهبت أزواجهم الى الكفار فتضرروا ماديا بعد تضررهم بتفكك الاسرة مثل ما دفعوا من المهر ليتمكنوا من الزواج فان هذا الضرر انما لحقه لتمسكه بدينه فلا بد من تعويضه ليخف عنه الحرج ولئلا يحاول المشركون بذلك من التأثير في قلوب الضعفاء من المؤمنين ويهزوا كيانهم ومشاعرهم.

وذكر المعاقبة ليس تقييدا للحكم بل انما اتي بها لدفع توهم الاكتفاء بها في مقابلة الكفار فان ذلك لا يغني هذا المؤمن المتضرر شيئا. وقيل: ان المراد بالمعاقبة غزوهم وأن المهر يدفع من الغنائم المأخوذة منهم ومعنى ذلك أن هذا المتضرر لا ينتفع بشيء ما لم يحدث غزو بين ذلك القوم وبين المسلمين. وهو بعيد كما أن التعبير عن الغزو بالمعاقبة بعيد ايضا اذ ليست الغزوات دائما تتصف بذلك.

وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ... لعل الامر بالتقوى في هذا الموضع لاستثقال بعض النفوس من دفع هذا المال للمتضرر من المؤمنين كما أن المتضرر ايضا يجب أن يتقي الله في تحديد المهر الذي دفعه مما لا يعلم عادة الا من قبله. وتوصيف المخاطبين بالايمان بالله تعالى لعله لتشجيعهم على التقوى وتحبيبها اليهم باعتبارها من مقتضيات الايمان وللاشارة الى أنهم ينبغي أن لا يكونوا كالمشركين فانهم لا يتقون الله لعدم ايمانهم به وهذه المقارنة مما يزيد فيهم التحمس للتقوى وللامتثال.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا... نزلت الآية في مورد المؤمنات بعد الفتح كما ورد في رواية معتبرة وسيأتي ذكرها ان شاء الله تعالى ولكن ذلك لا يقتضي اختصاص الحكم بهن. والبيعة كانت تعني في ذلك العصر الالتزام بالطاعة للسلطان او القائد والدفاع عنه وعن مبادئه وكأنه باع نفسه له وكانت تتحقق البيعة عندهم بالمصافحة باليد كما أن البيع كان كذلك. ولم يرد في الكتاب العزيز شرح لبيعة الرجال لان الغرض الاساس من البيعة معهم الدفاع عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم وعن دينه واما النساء فليس عليهن شيء من ذلك فبيّن ان المبايعة معهن انما كانت على اسس الدين والحفاظ عليها وسيأتي في الحديث ما يدل على اختصاص هذه البيعة بهن.

وقوله (يبايعنك) اي يردن المبايعة وهدفهن من هذه البيعة اعلان اسلامهن وذكر هذه الشروط للاشارة الى ما يجب عليهن ذكره والالتزام به في البيعة والدخول في الدين فالمراد بقوله (يبايعنك على ان..) انه اذا بايعنك على هذه التفاصيل فبايعهن فهذا تعليم لهن بشروط البيعة اذ لا شك انهن لا يبتدئن البيعة بهذه التفاصيل ولا يعلمن بما يجب ان يبايعن عليه فالغرض من الآية ان الواجب على الرسول صلى الله عليه واله وسلم ان لا يبايعهن الا بذكر هذه التفاصيل ليتبين لهن الاسس العملية للدين الذي يردن الدخول فيه. وعليه فجواب الشرط قوله تعالى (فبايعهن). وأوّل أمر يطلب منهنّ البيعة عليه عدم الشرك بالله تعالى لانه الأصل الاول في ديانات السماء ولأنهنّ كنّ مشركات فطلب منهنّ التخلّي عن طريقة السلف. والتقييد بالشيء للتأكيد على عدم جواز اي نوع من الشرك في العقيدة من حيث الخلق والربوبية والتأثير في الكون وفي مقام العمل ايضا.

وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ... لعلّ التأكيد على السرقة من جهة ابتلائهن بسرقة أموال الازواج حيث انهم لم يكن لديهم محافظ للمال فكانت أموالهم مخزونة في البيوت وكان لا بد من كون المرأة مأمونة على ذلك ولذلك ورد في الحديث في صفات المرأة المفضّلة (وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله).[6] وأما قتل الاولاد فلعلّ الغالب من موارد ابتلاء النساء به هو اسقاط الجنين ولكن قيل بأن بعضهنّ في ذلك الزمان كنّ يقتلن البنات خصوصا اذا توالت ولادتهن او يساعدن أزواجهنّ في وأدهن ولعلّ ذلك كان خوفا من الطلاق.

وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ... البهتان مصدر من البَهت وهو التحير والدهشة ويطلق على الكذب على احد ومواجهته به مما يوجب اندهاشه وتحيره. قال ابن دريد في الجمهرة (ولا يكون البهت الا مواجهة الرجل بالكذب عليه). وافترى الكذب اختلقه فان القائل ربما ينقل كذبا وربما يختلقه واصله من القطع. وفرى الشيء اي قطعه. والظاهر أن هذا تعبير كنائي عن ما تمارسه بعض النساء بعد الفحشاء من نسبة الاولاد الى أزواجهنّ مع علمهنّ بحقيقة الامر وهي جريمة فوق جريمة الزنا التي ارتكبتها ولعلها أعظم منها وتترتّب عليها مشاكل في الاسرة وفي الاحكام وربما يترتّب عليها زواج غير صحيح وتوارث في غير موضعه وغير ذلك. فكون البهتان مما تفتريه بين يديها ورجليها كناية عن ولادة طفل منها واسنادها له الى غير ابيه الواقعي.

وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ... التأكيد على اطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لمزيد العناية بالاوامر الحكومية التي تصدر منه صلى الله عليه وآله وسلّم ولعلّ بعض النفوس تأبى من الطاعة نظرا الى أنها ليست من الشرع ومن أوامر الله تعالى ونحن نجد حتى الآن من لا يعتبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الا مبلغا عن الله لا تجب اطاعته في أوامره الشخصية والقرآن يؤكد على وجوب اطاعته في كل ما يأمر به وهو غير اطاعة الله تعالى في أوامره التي يبلغها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. والمعروف ما عرف بين الناس بكونه خيرا في قبال المنكر وهو ما يستنكره الناس والتقييد به ليس للاحتراز فانه صلى الله عليه وآله وسلّم لا يأمر بغير المعروف وانما هو لبيان الوجه في لزوم الاطاعة وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلّم لا يأمر الا بالمعروف. ويمكن أن يكون الوجه فيه تقييد سائر الاطاعات بالمعروف كاطاعة قائد الجيش او ولي الامر لو كانت ولايته شرعية او اطاعة الوالدين وان لم تكن واجبة. ومنه يتبين سخافة قول من يدعي لزوم اطاعة ولي الامر مهما كان ومهما قال.

وفي الحديث ان المراد به امور خاصة فقد روى الكليني قدس سره بسند معتبر عن أبي عبد الله عليه السلام قال (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة بايع الرجال ثم جاء النساء يبايعنه فأنزل الله عز وجل (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم) فقالت هند أما الولد فقد ربينا صغارا وقتلتهم كبارا وقالت أم حكيم بنت الحارث بن هشام وكانت عند عكرمة بن أبي جهل: يا رسول الله ما ذلك المعروف الذي أمرنا الله أن لا نعصيك فيه؟ قال: لا تلطمن خدا ولا تخمشن وجها ولا تنتفن شعرا ولا تشققن جيبا ولا تسوّدن ثوبا ولا تدعين بويل فبايعهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذا فقالت يا رسول الله كيف نبايعك؟ قال إنني لا أصافح النساء فدعا بقدح من ماء فأدخل يده ثم أخرجها فقال ادخلن أيديكن في هذا الماء فهي البيعة).[7] وفي ذلك روايات اخرى في كتب الفريقين.

فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ... جواب الشرط في اول الآية. ولعل في الامر بالاستغفار اشارة الى ما مضى منهنّ من ارتكاب الآثام وفيه مزيد اطمئنان لهنّ في ايمانهنّ وأن الله تعالى يغفر لهنّ ما سلف لانه غفور رحيم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ... عود على ما بدأ به السورة المباركة من اجتناب تولّي أعداء الله وأعداء الامة الاسلامية وتعميم للحكم ليشمل غير المشركين من الأعداء وفي مقدّمتهم اليهود فقد مرّ في تفسير سورة المجادلة أن القوم المغضوب عليهم هم اليهود ولا شكّ أن المراد بهم هنا غير المشركين لتشبيه يأسهم من الآخرة بيأس الكفار من أصحاب القبور والمراد بالكفار المشركون وكل من ينكر المعاد ومن هنا عبّر عنهم بالكفار ويأسهم من اصحاب القبور اي الاموات واضح لانهم ينكرون الحياة بعد الموت والتشبيه ليس في هذه الجهة لان هؤلاء قوم لا ينكرون المعاد فيأسهم من الآخرة ليس بمعنى الانكار كما هو الحال في المشركين بل بمعنى يأسهم من ثوابها فالغرض من الآية التنبيه على أن هؤلاء مع ايمانهم بالآخرة يشاركون الكفار في اليأس من ثوابها وهذا لا يحدث الا اذا ارتكب الانسان من الفظائع والكبائر ما يوجب اليأس وهذا اليأس اكبر من كل تلك الكبائر وهذا العنوان لا يختص باليهود وان كانوا مشمولين بذلك فان في طواغيت هذه الامة من هم أشد يأسا منهم وأحق بغضب الله تعالى حيث ارتكبوا اكبر الفظائع وقتلوا خيار الناس وائمتهم ومنعوا من تعظيم شعائر الله تعالى وفرقوا الامة ونشروا الفسق والفجور في المجتمع والى الله المشتكى.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله الطاهرين

 


[1] النور: 2

[2] البقرة: 105

[3] البينة: 1

[4] المائدة: 5

[5] الكافي ج5 ص358 باب نكاح الذمية

[6] الكافي ج5 ص327 باب من وفق له الزوجة الصالحة

[7] الكافي ج5 ص527 باب مبايعة النبي ص للنساء