مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا... السياق يبدأ من هنا تعميم التعرض والتنديد لمن يكون مؤمنا في الظاهر ولكنه غير متأثر بهدايات السماء فلا تختص الآيات بالمشركين كما سنبينه ان شاء الله تعالى.

والفاء في قوله (فأعرض) للتفريع فتدل على أن هذا الحكم متـفرع على ما قبله وهو قوة برهان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ووضوح حجته ورؤيته ونفاذ بصيرته حيث انه لا ينطق عن الهوى بل عن الوحي ولا يخبر الا عن ما يراه ويدركه بأقوى وسائل الادراك ومن جهة اخرى فان مناوئيه لا يستندون في دعاواهم الا الى العقائد الموروثة الخرافية والاوهام فالذي يتحصل من ذلك هو لزوم الاعراض عن هؤلاء ولكنه لم يذكرهم بالضمير بل بالصفة ليتبين السبب وليحدد الموضوع ويعممه ايضا فانه لا يختص بالمشركين كما يتوهم.

والمطلوب في هذه الآية هو الاعراض عن من يجتمع فيه امران: التولي والاعراض عن ذكر الله تعالى، والاخلاد الى الدنيا وعدم التجاوز عن حدودها الضيقة بحيث لا يقصد باعماله رضا الله تعالى والنجاة في الآخرة فهذا هو السبب في لزوم الاعراض. وهذا الحكم يخص من كان من المشركين بهذه الصفة وربما يكون فيهم من لا يعرض عن ذكر الله تعالى اذا ذُكّر به ويعم غيرهم ان وجدت فيه الخصلتان حتى لو كان من المؤمنين بحسب الظاهر فكم من منافق بينهم؟! وكم من ضعيف الايمان؟! وكم من مريض القلب؟! وكم من معجب بالدنيا يهتم بها اكثر من الآخرة؟!

والاعراض عن الشيء بمعنى صرف الوجه عنه. والمراد به عدم الاهتمام بشأنهم بعد أن رفضوا قبول الهداية الالهية. ولا يعني الاعراض ترك مواجهتهم ومقابلتهم او محاربتهم في ظروف خاصة تستدعي ذلك ليقال انه منسوخ بآيات القتال. واما التولي عن الذكر فالتولي هو الاعراض ايضا واصله ولي يلي اي قرب فاذا عدّي بنفسه أفاد معنى الاقبال كقوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ..)[1] واذا عدّي بـ (عن) انعكس وأفاد معنى الاعراض.

واختلفوا في المراد بالذكر فقيل انه القرآن وقيل انه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والظاهر أنه لا حاجة الى تأويل فالذكر مضاف الى الله تعالى والاعراض عن ذكره معناه أنه لا يذكر الله تعالى ولا يحب أن يذكر عنده بل ربما تشمئز نفسه اذا دعي الله وحده كما قال تعالى (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ...)[2] ولا يختص بالاعراض عن ذكره تعالى باللفظ بل ربما يجتمع مع ذكره لفظا فقد يكون الانسان مؤمنا في الظاهر ويذكر الله تعالى بلسانه وهو معرض عنه بقلبه فهو منافق وهو شر من المشرك.

وقد فسر جمع من المفسرين الاعراض هنا بعدم اهلاك النفس من اجل هدايتهم فتكون الآية من قبيل قوله تعالى (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)[3] وقوله تعالى (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[4] والبخع قتل النفس غمّا كما في المفردات وقوله تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ..)[5] ونحوها مما يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتأسف كثيرا من عدم هدايتهم ويؤثر ذلك على قلبه الشريف والله سبحانه وتعالى يسلّي خاطره بهذه الآيات.

ويبدو أن القوم اعتبروا قوله تعالى (ان ربك هو اعلم بمن ضلّ عن سبيله..) قرينة على ذلك على أساس أن هذه الجملة كقوله تعالى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)[6] ولكن الصحيح أنّها لا تفيد هذا المعنى وانما تدل على أن الضلال والهداية أمران نسبيان ولذلك ربما تخفى الحقيقة على كثير من الناس ــ كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى ــ ولا تعني أن الهداية والضلال بيد الله تعالى وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شأنه التبليغ والارشاد فحسب فهذا أمر آخر مذكور في موارد من الكتاب العزيز.

ثم إن ما ذكروه متفرع على افتراض أن الاعراض هنا يخص المشركين والكفار وأنهم هم الذين تولوا عن ذكر الله تعالى وانحصرت ارادتهم في الحياة الدنيا ولكن تبين بما ذكرنا ان الحكم عام فهناك من الناس من يعتقد ولو في الظاهر بالآخرة ومع ذلك فهو لا يريد الا الحياة الدنيا وما أكثرهم بيننا حتى من الذين يدّعون الايمان فتجد كثيرا منهم لا يهتمون بالآخرة أصلا وكل همهم جمع المال وصرفه في تحسين ظروف الحياة والله تعالى ينقل عنهم الدعاء من ربّهم أن يزيدهم في الدنيا قال تعالى (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[7] والغريب أنه تعالى يذكر هذا التصنيف في المخاطبين المؤمنين وهم في حال حج بيت الله الحرام مما يدل على أن من الناس من يدعو ربه هناك ايضا لخير الدنيا ولا يهتم بشأن الآخرة.

ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ... المبلغ اسم مكان اي الموضع الذي بلغوه ولم يتجاوزوه فالمعنى أن الحياة الدنيا هي غاية ما يبلغون اليه من العلم فهم لا يعلمون شيئا عما وراءها ومنهم من يُعتبر من العلماء بل ربما تأبى الثقافة البشرية عن اطلاق لفظ العلماء الا عليهم ومن المؤسف أنا نجد بعض من يدّعون الاسلام بل يدّعون التحقيق في المسائل الدينية والمعرفة الالهية نجدهم ينكرون بصراحة أن يطلق العلم على المعارف الدينية خلافا لكتاب الله تعالى ويرون أن العلم الحقيقي هو ما وصل اليه الغرب المنكر لوجود الله تعالى والذي أخلد الى الارض وانحصرت ثقافته بالحياة الدنيا. وقد ورد في الدعاء المروي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا).

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى... شرحه بعض المفسرين باختصار ولم يذكر اي علاقة بينه وبين ما قبله وبعضهم اعتبره تأكيدا للمضمون السابق كما في الميزان من دون بيان لوجه التأكيد وبعضهم اعتبره تعليلا للاعراض كالزمخشري والآلوسي بناءا على ان الاعراض بمعنى عدم الاهتمام بهدايتهم لانك لا تعلم من يهتدي ومن يضل وانما يعلم بهما الله تعالى فلا تتعب نفسك وانما عليك التبليغ.

والذي يخطر بالبال أن هذه الجملة تنبه على التعميم الذي أشرنا اليه وأن الامر لا يختص بالمشركين فلا يعجبنّ الانسان تصنيفه في عداد المؤمنين فقد يكون مصداقا لمن أعرض عن ذكر ربه اذا كان لا يذكر ربه حين اشتداد الغضب او الشهوة او حب المال والجاه وقد يكون ممن لا يريد الا الحياة الدنيا فكم من مؤمن لا يهتم في دعائه الا بطلب المال وطول العمر والشفاء ونحو ذلك مما يعود الى الدنيا. ومفاد هذه الجملة ان الله تعالى هو أعلم بمن ضل عن سبيله اي سبيل الله ومن اهتدى اليه فليس ذلك بمجرد الدعوى او الدخول ضمن احد الصنفين او الاصناف.

ونظيره ما سيأتي من قوله تعالى (فلا تزكوا انفسكم هو اعلم بمن اتقى) والاتيان بالضمير في قوله (هو اعلم) وتكراره في الموردين للتأكيد على الحصر ولكنه حصر للاعلمية لا لاصل العلم فربما يعلم الانسان بدخيلة نفسه كما قال تعالى (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)[8] الا انه في الغالب يخدع نفسه بالاماني كما مر في قوله تعالى (ام للانسان ما تمنى) وما قبله. هذا ما أراه أولى وأنسب والله العالم وله الحمد.

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ... (ما في السماوات وما في الارض) عبارة عن كل ما في الكون من الموجودات وكونها لله تعالى بمعنى تقومها بارادته تعالى في كينونتها وبقائها وذلك لأن اللام يدل على نوع من التعلق والارتباط سواء كان ملكية اعتبارية كمالكية الانسان لما تحت يده من اموال او ارتباطا آخر كتعلق الاعضاء بالانسان ولكن تقديم قوله (لله) يدل على الحصر. والتعلق الذي ينحصر فيه تعالى هو ما أشرنا اليه فالكون كله متعلق بارادته تعالى خلقا وبقاءا وتدبيرا.

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى... اختلفوا في أن هذه الجملة تعليل لاي جملة مما سبق فقيل انها تعليل لقوله تعالى (فاعرض عن من تولى..) والمعنى أن الامر بالاعراض ليس للاهمال بل مفاده اعرض عنهم وكِلْ أمرهم الى الله تعالى ليجزي كلا بعمله فتكون هذه الجملة مكملة للتهديد المقصود من تلك الجملة. وعليه فقوله تعالى ولله ما في السماوات... يمكن أن تكون جملة حالية والمعنى أنه كيف لا يكون اعلم بحالهم وهو مالكهم كما في الميزان ويمكن ان تكون جملة معترضة للتأكيد على عموم قدرته تعالى مقدمة لذكر الجزاء. ويظهر من العلامة الطباطبائي رحمه الله أن هذا الوجه محتمل.

ولكنه بعيد لان تقدير الامر بايكال امرهم الى الله تعالى وان لم يكن بعيدا الا ان المناسب حينئذ أن يؤكد على عذاب المشركين خاصة لا على عموم الجزاء خصوصا التعرض لجزاء المحسنين.

وقيل انها متعلقة بقوله تعالى (هو اعلم بمن ضل..) والمعنى أنه يعلم الضال من المهتدي ليجزي كلا بعمله. ومن الواضح ان كونه تعالى عالما بذلك او مطلقا لا يمكن ان يقيد بشيء اصلا وانما يترتب الجزاء على نفس الضلال والهداية او على تسجيل اعمالهم وحفظها لا على علمه تعالى وخصوصا على كونه أعلم الذي يراد به كما مر كونه امرا مخفيا على غالب الناس ولذلك أوّل هذا الوجه بعضهم بتقدير الحفظ فقال ان المعنى انه تعالى ميّز الضال عن المهتدي وحفظها عليهم ليجزيهم... وهو تأويل بعيد جدا. وهناك اقوال اخر أضعف مما ذكر.

ولعل أقرب الوجوه ما ذكره العلامة ايضا أنه لبيان الغاية من خلق السماوات والارض كما هو مضمون الجملة السابقة (ولله ما في السماوات..) وهو كونه مالك امرهم وربهم وأنه خلقهم ورباهم ليجزي كلا بعمله فالحياة الآخرة غاية هذا الكون والهدف النهائي من الخلق وقد قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ).[9]

ومثل هذه الآية قوله تعالى (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ..).[10] وقد مر في تفسيرها أن الاولى أن تكون تعليلا لمضمون الجملة السابقة (ولله جنود السماوات والارض..) حيث ان المراد بها التنبيه على ان العوامل المؤثرة في السماوات والارض كلها جنوده وانها تؤثر بارادته تعالى فهذا التعليل يدل على أن خلقه تعالى لهذا الكون وتدبير اموره انما هو من اجل حياة اخرى يجازى فيها الانسان باعماله.

ومن الغريب أن العلامة الطباطبائي قدس سره رفض هذا التفسير في سورة الفتح مع أنه قال في تفسير هذه الآية (وقوله: «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» إشارة إلى ملكه تعالى للكل ومعناه قيام الأشياء به تعالى لكونه خالقهم الموجد لهم فالملك ناشئ من الخلق وهو مع ذلك منشأ للتدبير فالجملة دالة على الخلق والتدبير كأنه قيل: ولله الخلق والتدبير. وبهذا المعنى يتعلق قوله: «لِيَجْزِيَ» إلخ واللام للغاية، والمعنى: له الخلق والتدبير وغاية ذلك والغرض منه أن يجزي الذين أساءوا إلخ). وهذا هو نفس ما مر في تفسير سورة الفتح وهما من باب واحد بل مثلهما ايضا قوله تعالى (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)[11] فان الجزاء ورد في الآية علة لبدء الخلق وإعادته لا للاعادة فقط.

وقوله (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا) يفيد أن جزاء السيئة هو السيئة نفسها يجدها الانسان حاضرة بصورتها الواقعية كما قال تعالى (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[12] هذا هو ظاهر هذه الآية وآيات اخرى وان أمكن أن يحمل بعضها على أن الجزاء بمقدار السيئة لا يزيد عليها كما قال تعالى (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا..)[13] ومعنى أساءوا أتوا بالسيئات أو أساءوا أعمالهم أي جعلوها سيئة وكذلك الذين أحسنوا اي أتوا بالحسنات او أحسنوا أعمالهم فيجزيهم بالحسنى. والحسنى مؤنث أحسن فاذا أتي مبدوا بالالف واللام فمعناه احسن الجزاء بقول مطلق فلا يتصور جزاء أحسن منه.

الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ... توصيف للذين أحسنوا ولعله قيد ايضا فيكون المعنى ان الاحسان او اتيان الاعمال الحسنة غير كاف في تحصيل أحسن الجزاء بل لابد من اجتناب الآثام ولكنه لم يقيده باجتناب كل اثم فانه لا يحصل الا للاوحدي من الناس كالمعصوم بل قيده باجتناب الكبائر. والاثم: الذنب وهو في الاصل البطء والتأخر ولعله يطلق على الاثم لانه يبطئ الخير او يؤخر الانسان عن الركب السائر في الطريق الصحيح المؤدي الى رضا الله سبحانه.

وربما يتوقف بعضهم في ثبوت الكبائر باعتبار أن كل معصية لامر الله تعالى ونهيه كبيرة او أن كل ما استصغره الانسان من معاصيه كبيرة او أن الكبر والصغر أمران نسبيان فليس هناك تحديد لمجموعتين من الآثام.

وكل ما ذكر صحيح الا أنه لا يبرر انكار وجود الكبائر لان التعبير وارد في الكتاب العزيز كما في هذه الآية وفي قوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ..)[14] ولكن وقع الكلام في مناط الكبائر. وورد في روايات عديدة عن طريق اهل البيت عليهم السلام أن الكبيرة ما وعد الله تعالى عليه النار. وفي عدة من الروايات عد الكبائر خمسا او سبعا او تسعا او اكثر من ذلك والظاهر أنه اقتصار على ذكر بعضها ولعلها مما يستعظم منها بالخصوص ولذلك وصفت في بعض الروايات بالموبقات اي المهلكات.

ونذكر هنا رواية واحدة صحيحة مما عد فيه الكبائر تيمنا وتذكرا وتذكيرا:

روى الكليني قدس سره قال: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ (اي الامام الجواد سلام الله عليه) قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَمِعْتُ أَبِي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ دَخَلَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فَلَمَّا سَلَّمَ وَجَلَسَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) ثُمَّ أَمْسَكَ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام مَا أَسْكَتَكَ قَالَ أُحِبُّ أَنْ أَعْرِفَ الْكَبَائِرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ نَعَمْ يَا عَمْرُو أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ يَقُولُ اللَّهُ «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» وَبَعْدَهُ الْإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» ثُمَّ الْأَمْنُ لِمَكْرِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ‏ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» وَمِنْهَا عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْعَاقَّ جَبَّاراً شَقِيًّا وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ «فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها» إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.. وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ «إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‏ فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» وَأَكْلُ الرِّبَا لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» وَالسِّحْرُ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ «وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» وَالزِّنَا لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً» وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ الْفَاجِرَةُ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ «الَّذِينَ يَشْتَرُونَ‏ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ» وَالْغُلُولُ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ «وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» وَمَنْعُ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ «فَتُكْوى‏ بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ» وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ «وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» وَشُرْبُ الْخَمْرِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَهَى عَنْهَا كَمَا نَهَى عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَتَرْكُ الصَّلَاةِ مُتَعَمِّداً أَوْ شَيْئاً مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم قَالَ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّداً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم وَنَقْضُ الْعَهْدِ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ «أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» قَالَ فَخَرَجَ عَمْرٌو وَلَهُ صُرَاخٌ مِنْ بُكَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ هَلَكَ مَنْ قَالَ بِرَأْيِهِ وَنَازَعَكُمْ فِي الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ).[15]

واليمين الغموس اي الحلف بالله كاذبا سميت بذلك لانها تغمس صاحبها في الاثم. والغلول: السرقة والخيانة.

والفواحش جمع فاحشة اي ما عظم قبحه من قول او فعل وهذا العنوان يختلف عن كبائر الاثم فلا وجه لاستظهار الاتحاد من الآية كما في الميزان وذلك لان الفاحشة تطلق على ما يستعظم قبحه في عرف المتشرعة او العرف العام وهو أخص من الكبائر ويدل على ذلك ما سيأتي في رواية الكافي من التمثيل للفواحش بالزنى والسرقة دون الشرك ونحوه من الكبائر الواضحة مع ان بعض الروايات التي تعد الكبائر لم يذكر فيها الزنى والسرقة وان ذكرتا في الرواية السابقة وهذا يدل على أن المناط في صدق الفاحشة الاستنكار العرفي.

واما اللمم فهو في الاصل بمعنى المقاربة ويطلق على اجتماع الناس في مكان لتقاربهم ولذلك فسر اللمم في الآية بمقاربة الذنب من دون مواقعته واعترض بعضهم على هذا التفسير بأن مثل هذا لا يستحق العقاب لانه لم يرتكب الاثم ومجرد القصد لا يوجب استحقاقا فلا وجه لتعليله بسعة المغفرة.

وهذا غير صحيح فان المقاربة تختلف عن القصد والنية المجردة حيث انه يعمل عملا في طريق الوصول الى الذنب حتى يقترب منه فيستحق العقاب ولكنه مغفور له مضافا الى أن نفس النية ايضا مما يوجب استحقاق العقاب خصوصا اذا كان الترك من دون اختيار الا أنا نعلم من الادلة ان الله تعالى لا يعاقب على النية المجردة. والحاصل أن تفسير اللمم بمقاربة الذنب تفسير وجيه في حد ذاته مع قطع النظر عن الروايات الآتية والاستثناء على هذا منقطع لان المفروض انه لم يرتكب الكبيرة.

وفسر ايضا بصغائر الذنوب وهو المشهور بين المفسرين. وفي الكشاف: (واللمم ما قل وصغر ومنه اللمم المس من الجنون واللوثة منه وألمّ بالمكان إذا قل فيه لبثه وألمّ بالطعام قلّ منه أكله). والاستثناء على هذا التفسير منقطع ايضا‏. ولكن الوارد في عدة روايات عن اهل البيت عليهم السلام وغيرهم أن المراد به ارتكاب الاثم مع التوبة وفي ازمنة متباعدة من دون اصرار وتكرار ففي اصول الكافي عن ابي عبد الله عليه السلام (في قول الله عز وجل «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ» قال: الفواحش الزنا والسرقة. واللمم الرجل يلمّ بالذنب فيستغفر الله منه..).[16]

وفيه ايضا عن محمد بن مسلم عنه عليه السلام (قال: قلت له: أرايت قول الله عز وجل: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ» قال: هو الذنب يلمّ به الرجل فيمكث ما شاء الله ثم يلم به بعد).[17]

وفيه ايضا عنه عليه السلام قال: (ما من ذنب الا وقد طبع عليه عبد مؤمن يهجره الزمان ثم يلم به وهو قول الله عز وجل: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ» قال: اللمّام العبد الذي يلم بالذنب بعد الذنب، ليس من سليقته اي من طبعه). وغير ذلك من الروايات وبعضها معتبرة سندا.

ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[18] وبناءا على هذا فمعنى الالمام الاتيان بالفعل وليس بمعنى المقاربة فان الحديث يقول يُلِمُّ بالذنب بعد الذنب وذلك اما من ألمّ بالمكان اذا نزل به او من الإلمام في الزيارة بمعنى انه زاره غِبّا قال الخليل (واللمم الالمام بالذنب الفَينة بعد الفَينة) والاستثناء على هذا متصل لانه استثناء من الاتيان بالكبائر وهو مما يؤيد هذا المعنى ايضا لان الاصل في الاستثناء ان يكون متصلا.

وقد مرّ بعض الكلام حول ذلك في تفسير سورة الشورى الآية: 37.

إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ... فيه اشارة الى أن اللمم بأي معنى فسرناه ذنب ايضا يجب أن يجتنب وأن من يرتكبه يستحق العقاب ولكن الله تعالى لسعة مغفرته يغفر للمؤمن ذلك. ومعنى سعة المغفرة انها تشمل كل انواع الذنوب. ولم يقل ان الله واسع المغفرة ولم يضف الرب الى ضمير الجمع مع أن الخطاب للناس جميعا بل اضاف الرب الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم امتنانا عليه ولعل فيه تنبيها على أن بعض هذه المغفرة والرحمة خاص بهذه الامة اكراما للرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا)[19] وهذا باب واسع في الكتاب والسنة.

هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ... (اذ) ظرفية أي هو أعلم بكم من أنفسكم حينما أنشأكم من الارض وحينما كنتم أجنة في بطون أمهاتكم والظاهر أن تخصيص هاتين الحالتين بالذكر لبيان السبب في أن الانسان لا يقدر عادة على كمال التقوى والنزاهة والله تعالى أعلم به حيث لا يتوقع منه ذلك والغرض من ذلك تعليل سعة المغفرة فهو تعالى يغفر كل ذنب لانه يعلم ما تقتضيه العوامل التي خلقها في هذا الانسان فهو تعالى يعلم منشأكم وانتم لا تعلمون وقوله (من الارض) اي ان المواد التي أنشأكم منها أرضية وهو يعلم مقتضياتها ويعلم مدى تأثيرها وتأثرها كما أنه يعلم ما طرأ عليكم في طور الجنينية من العوامل الوراثية والبيئية التي أثرت في تكوين شخصيتكم وانتم لا تعلمون ذلك ولذلك فهو يعلم أنكم لا تستطيعون مقاومة الغرائز تمام المقاومة بل تضعفون في موارد كثيرة لانه عالم بالعوامل التي تؤثر فيكم وتدفعكم الى متابعة الاهواء فهو لا يتوقع منكم كمال التقوى ولذلك قال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ..).[20]

وهكذا تبدو لي الآية واضحة في معناها وما يراد بها وهكذا كنت أفهم الآية قبل ان اراجع التفاسير ولكن المفسرين قالوا ان المعنى أنه تعالى اعلم بكم حينما أنشأكم من الارض اما بمعنى خلق النطفة التي هي اصل الانسان من مواد في الارض او بمعنى خلق آدم من التراب وهو اصل البشر فكان الله تعالى عالما بكم حينما لم تكونوا الا مواد اولية وكذلك حينما كنتم في بطون امهاتكم غائبين عن الانظار في ظلمات ثلاث فكيف لا يعلم بكم وقد خرجتم الى هذه الدنيا واعمالكم ونفسياتكم واضحة معلومة للجميع؟! فذكر هاتين الحالتين من جهة عدم وضوح معالم شخصية الانسان فيهما وأن الله تعالى هو الذي يعلم بكم وباعمالكم حتى في تلك الحالة.

وما ذكرناه هو الصحيح فان الله سبحانه يعلم بما يؤول اليه أمر الانسان وغير الانسان قبل كل ذلك اي قبل خلق السماوات والارض فلا وجه للتخصيص بالحالتين مضافا الى أن الفاء في الجملة التالية تقتضي ترتب النهي عن التزكية على هذا الامر وهو بناءا على ما ذكروه غير واضح واما بناءا على ما ذكرنا فالوجه في ترتبه هو ما اشرنا اليه من كون ضعف الانسان في مقاومة الغرائز مقتضى تكونه من مواد ارضية ومقتضى تاثير العوامل الوراثية والبيئية في تكوين شخصيته فالله تعالى بهذا البيان يعذره ويقبل منه القليل من التقوى.

فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى... التزكية بمعنى التطهير وزكاة المال تطهيره او تنميته وقوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)[21] اي طهّرها فالتزكية بهذا المعنى أمر مطلوب ومأمور به وموجب للفلاح ولا ينافي ذلك النهي الوارد هنا وكذلك التنديد الوارد في قوله تعالى بشأن اليهود (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)[22] فالتزكية المنهية عنها أن يعتبر الانسان نفسه طاهرة زكية ويشهد لنفسه بالتقوى والمأمور بها هي نفس إحداث الطهارة والتقوى فالمعنى لا تعتبروا انفسكم طاهرين متقين ولا تدعوا تزكية انفسكم فالله تعالى اعلم بكم وبما تقتضيه طبيعتكم.

وغريب أمر هذا الانسان فهو يعلم عن نفسه كم ارتكب المعاصي طول حياته ويعلم بهشاشة تقواه بل ضعف ايمانه ومع ذلك فهو يزكّي نفسه لا أمام المجتمع فحسب بل حتى بينه وبين نفسه فهو يخادع نفسه وقوله تعالى (هو أعلم بمن اتقى) تعريض بالانسان بمعنى أنك لست متقيا كما تزعم ولكنه يفيد مضافا الى ذلك أن هناك من يعلم بهذا الامر ايضا ولعل المراد به الانسان نفسه كما قال تعالى (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)[23] ولكنه تعالى أعلم به من نفسه.

 

 


[1] المائدة: 51

[2] الزمر: 45

[3] الكهف: 6

[4] الشعراء: 3

[5] فاطر: 8

[6] القصص: 56

[7] البقرة: 200- 201

[8] القيامة: 14

[9] الدخان: 38- 40

[10] الفتح: 4- 6

[11] يونس: 4

[12] الكهف: 49

[13] يونس: 27

[14] النساء: 31

[15] الكافي ج2 ص285 باب الكبائر

[16] الكافي ج2 ص278 باب الكبائر

[17] الكافي ج2 ص441 باب اللمم وكذا ما بعده

[18] العمران: 135

[19] البقرئ: 286

[20] التغابن: 16

[21] الشمس: 9

[22] النساء: 49

[23] القيامة: 14