مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

بسم الله الرحمن الرحيم

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)

ن والقلم وما يسطرون... (ن) من الحروف المقطعة، وقد مرّ الكلام فيها. وهذا الحرف لم يرد الا في هذه السورة المباركة. واذا قلنا بأن أحد وجوه التفسير لهذه الحروف هو الاشارة بها الى بعض ما في السورة من المقاصد فلا يبعد أن يكون هذا الحرف اشارة الى أن هذه السورة تشتمل على التعرض ولو جزئيا لقصة يونس عليه السلام. وذلك لأن (نون) بمعنى الحوت وهو عليه السلام موصوف هنا بصاحب الحوت وفي سورة الانبياء بذي النون قال تعالى (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا..).[1]

ثم أقسم بالقلم وهو ما يكتب به. قيل: المراد به قلم التقدير وأنه أول ما خلق الله تعالى. ولكن لم يرد في الكتاب العزيز ذكر لهذا القلم. ولو صحّ فيه حديث فالمراد به نفس التقدير الذي هو عبارة عن علمه تعالى بما هو كائن، ولا علاقة له بما يسطرون، ان كان الضمير يرجع الكتّاب من البشر كما هو الظاهر.

فالظاهر أنّ المراد بالقلم قلم الكتابة، كما أن المراد بـ (ما يسطرون) نفس الكتابة، بناءا على أن (ما) مصدرية، او المكتوب اذا كانت موصولة، اي ما يسطرونه. وعليه فهذه الآية قسم بآلة الكتابة ونفس الكتابة او ما خطّ وسطّر.

وكون (ما) مصدرية أولى، لأنّ كل ما يكتب لا يستحق الاكرام والحلف به، وانما الاكرام للقلم، ولأصل الكتابة، لأنّ انتشار العلم والدين، والثقافة البشرية، وبقاءها في الاجيال المتعاقبة بفضل الكتابة والثبت. وأفضل دور للقلم والكتابة في تاريخنا تسجيل آيات الله تعالى وسنة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلّم وأحاديث الائمة المعصومين عليهم السلام وسيرتهم وتاريخهم.

والسطر بمعنى صفّ الاشياء. ويطلق على الكتابة لأنها صفّ الحروف. وفاعل (يسطرون) الكتّاب وهو معلوم بالمناسبة من ذكر القلم. وقيل: المراد بهم الملائكة لأنهم يكتبون التقدير، او يكتبون أعمال الانسان. وهو بعيد لا يناسب معنى القلم.

وحقيقة القسم كما قلنا سابقا انشاء ربط اعتباري بين كرامة المقسم به وما يتعهد به الحالف، فاذا قيل: (والله لأفعلنّ كذا) فمعناه أنّه كما أنّي أهتمّ بالخضوع لعظمة الله تعالى كذلك أهتمّ بالتزامي بهذا التعهّد.

وكذلك اذا حلف بما يهمّه شخصيا كحياته وحياة ابيه او ابنه. وكذلك ايضا الحلف على صحة ما يقوله وصدقه في بيان أمر مّا فان ذلك ايضا نوع من التعهد، كأنّه يتعهّد للسامع صدق ما يخبر به ويربطه اعتبارا باهتمامه بما يقسم به.

والله تعالى يقسم بكثير من مخلوقاته كالشمس والقمر والليل والنهار وغيرها. وربما تبدو كرامة بعض ما يحلف به غريبا لنا. ولعل الوجه في ذلك أنّ نسبة الخلائق اليه تعالى من حيث التكوين نسبة واحدة، وكرامتها ليست الا من جهة استنادها اليه تعالى، وانما يختار من بينها ما يناسب المقسم عليه.

ما أنت بنعمة ربك بمجنون... هذا هو المقسم عليه، وتناسبه واضح مع القلم وما يسطره الكاتبون، فانهم يسطّرون القرآن الذي أتى به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وكلامه القيّم، وهو أكبر دليل على مقامه العلمي، وأنه أكبر من أن يقاس بعقلاء البشر، وهم بأجمعهم لو جمعت عقولهم في واحد لكان دونه في الفضل والعلم والحكمة.

ومن الغريب جدّا اتّهامه كسائر الانبياء بالجنون، وما ذلك الا من تعاسة المشركين وغاية جهلهم وغبائهم، ومن ضيق السبل عليهم، فلم يجدوا عذرا للامتناع من متابعته وترك دين السلف الا مثل هذه التهم التي لا تليق الا بأنفسهم. ومن الواضح والمعلوم من تعاملهم معه صلى الله عليه وآله وسلّم أنّهم ما كانوا يعتقدون ذلك حتى بعد دعواه الرسالة وتسفيهه لعقولهم ونبذه لآلهتهم وتحقيره لكبرائهم.

ومن غاية غرابة هذا القول لجأ بعض الكتّاب الى تأويله بأنهم إنّما قصدوا بهذا التعبير تدخّل الجنّ في ما يقوله. ولكنّه غير صحيح فهم كانوا يعتقدون أنّ الخبال انما يحدث من إصابة الجنّ. وأما تدخّل الشياطين في القرآن حين نزوله فهو اتّهام آخر يردّ عليه القرآن الكريم ايضا في موارد عديدة.

وقوله تعالى (بنعمة ربك) اي بسبب نعمة ربك عليك، حيث أنعم عليك من رجاحة العقل وقوة المنطق وغزارة العلم بما لا يدركه بشر.

وإنّ لك لأجرا غير ممنون... المنّ هو القطع، فالمعنى أنّ أجرك لا ينقطع كما قال تعالى (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).[2] وأجره لا ينقطع لقيامه بمهمّة الرسالة بأحسن وجه كما أراد الله منه، ولتحمّله ايذاء المشركين، ومنه هذه التهمة وغيرها.

وقيل: اي لا يمنّ الله عليك بالأجر لأنّك تستحقّه بعملك.

وهو كلام باطل فلا أحد يستحقّ على الله شيئا، والمنّة لله على الجميع، والرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لا يختلف عن غيره في ذلك، بل المنّة عليه أكثر لأنّ نعمه أفضل وأكبر. وقد منّ الله تعالى عليه في مواضع كثيرة من القرآن كقوله تعالى (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا)[3] وقوله تعالى (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى)[4] وغير ذلك وهي كثيرة جدا.

بل منّته تعالى وذكر نعمه على الانسان ايضا فضل آخر منه على الانسان. ومن شرف الانسان وكرامته أن يمنّ الله تعالى عليه، لا فرق في ذلك بين أشرفهم وأدناهم. وانما نشأ هذا الخلط من اعتقاد بعض المدّعين وجوب الجزاء على الله تعالى. وهذا خطأ فادح فالله تعالى لا يجب عليه شيء، وكل ما يصدر منه نعمة وفضل.

وإنّك لعلى خلق عظيم... ثناء عظيم من الربّ العظيم لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، ولو لم يكن له من الفضل الا ذلك لكفاه فخرا على البشر كلّهم. ومناسبة هذا الثناء هو تحمّله صلى الله عليه وآله وسلّم لما يقوله المشركون، وعدم مقابلتهم حتى بالدعاء عليهم. ولو كان يدعو عليهم لاستجاب الله تعالى دعاءه ولأفناهم عن آخرهم، ولكنه رسول الرحمة وصاحب الخلق العظيم.

وحقا إنّه صلى الله عليه وآله وسلّم بمثابة من العظمة بحيث لا يعرف قدره الا الله تعالى. والتاريخ يذكر لنا جانبا من سيرته العطرة فيستغرب الانسان كيف تجتمع هذه الخصال في انسان، خصوصا اذا لوحظ المجتمع الذي نشأ فيه وعاداتهم وسجاياهم.

وقد جمع بعض العلماء ــ كما في مناقب ابن شهراشوب ــ بعض خصاله صلى الله عليه وآله وسلّم ونحن نذكر مختصرا منها:

(كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحكم الناس وأحلمهم وأشجعهم وأعدلهم وأعطفهم، لا يأخذ مما آتاه الله إِلاّ قوت عامه فقط من يسير ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، ولا يُسأل شيئاً إِلاّ أعطاه، وكان يجلس على الأرض وينام عليها ويأكل عليها، وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويفتح الباب، ويحلب الشاة، ويعقل البعير ويحلّه، ويطحن مع الخادم إِذا أعيى، ولا يجلس متكئاً، ويخدم في مهنة أهله، وإِذا جلس على الطعام جلس محقّراً، وكان يلطع أصابعه، ولم يتجشّأ قطّ. ويجيب دعوة الحرّ والعبد، ويقبل الهدية ولو أنّها جرعة لبن، ويأكلها ولا يأكل الصدقة، لا يثبت بصره في وجه أحد، يغضب لربّه ولا يغضب لنفسه، ويردف خلفه عبده أو غيره، ويركب ما أمكنه من فرس أو بغلة أو حمار، ويركب الحمار بلا سرج، ويمشي راجلا وحافياً بلا رداء ولا عمامة ولا قلنسوة، ويشيّع الجنائز، ويعود المرضى في أقصى المدينة، يجالس الفقراء ويؤاكل المساكين ويناولهم بيده، ويكرم أهل الفضل، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على غيرهم إِلاّ بما أمر الله، ولا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إِليه، وكان أكثر الناس تبسّماً ما لم ينزل عليه قرآن ولم تجر عظة، وربّما ضحك من غير قهقهة، لا يرتفع على عبيده وإِمائه في مأكل ولا في ملبس، ما شتم أحداً بشتمة، ولا لعن امرأة ولا خادماً بلعنة، ولا لاموا أحداً إِلاّ قال: دعوه، ولا يأتيه أحد ــ حرّ أو عبد أو أمةٌ ــ إِلاّ قام معه في حاجته، لافظّ ولا غليظ، ولا يجزي بالسيّئة السيّئة ولكن يغفر ويصفح، ويبدأ من لقيه بالسلام، ومن رامه بحاجة صابره حتّى يكون هو المنصرف، وما أخذ أحد يده فيرسل يده حتى يرسلها، وإِذا لقي مسلماً بدأه بالمصافحة، وكان لا يقوم ولا يجلس إِلاّ على ذكر الله، وكان لا يجلس إِليه أحد وهو يصلّي إِلاّ خفّف صلاته وأقبل عليه وقال: ألك حاجة؟ وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس، وكان أكثر ما يجلس مستقبل القبلة، وكان يكرم من يدخل عليه حتّى ربّما بسط ثوبه، ويؤثر الداخل بالوسادة التي تحته، وكان في الرضا والغضب لا يقول إِلاّ حقّاً...) [5]

وفي أصول الكافي بسنده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: (إِنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي باليهودية التي سمّت الشاة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت: إِن كان نبيّاً لم يضرّه، وإِن كان ملكاً أرحت الناس منه. قال: فعفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها) [6]

وفي حديث عن امير المؤمنين عليه السلام في وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (...أكرم الناس عشرة، وألينهم عريكة، وأجودهم كفّا، من خالطه بمعرفة أحبّه، ومن رآه بديهة هابه، غرّة بين عينيه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله) [7]

وفي الخصال بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (خمس لا أدعهن حتى الممات: الاكل على الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار موكفا، وحلب العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان لتكون سنّة من بعدي). [8]

وفي الكافي بسنده عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقسم لحظاته بين أصحابه فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية، قال: ولم يبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم رجليه بين أصحابه قطّ، وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يده من يده حتى يكون هو التارك، فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه قال بيده[9] فنزعها من يده). [10]

وعن مكارم الأخلاق عن أنس بن مالك قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره، وإن كان مريضا عاده) [11]

الى غير ذلك من الروايات وهي كثيرة جدا.

فستبصر ويبصرون بأيّكم المفتون... هذا تهديد للمشركين وتطييب لنفس الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بأن الحق سيظهر بانتصارك وغلبتك عليهم، وسيتبين في المستقبل من هو المفتون من الفريقين؟

والمفتون قيل: إنّه بمعنى المجنون لأنّ المجنون مبتلى، والفتنة: الابتلاء. ولكن يبدو من الآية التالية التي هي بمنزلة التعليل أنّ المراد به هو الضلال والانحراف عن الحق. والمفتون: المخدوع، ويشمل من أضلّه الشيطان وأضلّه المضلّون.

والباء قد تكون زائدة فالمعنى تبصر أيَّكم المفتون ــ بفتح الياء ــ ليكون مفعولا، ويمكن ان تكون بمعنى (في) ويكون المفتون مصدرا اي تبصر في أيّكم الفتنة.

والتعبير بالإبصار بدلا عن العلم لبيان أنّ ذلك سيكون واضحا للطرفين ولكل ناظر. وقد تحقق ذلك بوضوح فآمن أكثر القوم بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ظاهرا او ظاهرا وباطنا.

ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين... تعليل لمفاد الجملة السابقة وهو الاخبار عن ظهور من هو مفتون من الفريقين بوضوح. والسبب واضح، لأن المُخبِرَ به هو الله تعالى، وهو أعلم بالمهتدي الى سبيله والضالّ عنه.

وفي التعبير إشارة الى أنّ الانسان كثيرا مّا يخطئ في هذا الامر، فيعتبر الضلال هداية والهداية ضلالا. ونحن نجد هذا الخطأ في كثير من مدّعي العلم والثقافة، فلا بدّ من التأمّل والدّقّة، وعدم الاغترار بمقالات السابقين، والدعايات المتكررة، فالحق ليس واضحا كل الوضوح في كثير من المسائل. والمغريات من الجانبين كثيرة جدا.



[1] الانبياء: 87

[2] هود: 108

[3] الاسراء: 87

[4] الضحى: 6- 8

[5] مناقب ابن شهراشوب ج1 ص 126

[6] الكافي ج2 ص 108

[7] أمالي الطوسي: 341

[8] خصال الصدوق: 271

[9] قال ابن الاثير فی النهایة مادة قول (العرب تجعل‏ القول‏ عبارة عن جميع الأفعال، وتطلقه على غير الكلام  واللسان، فتقول: قال‏ بيده: أي أخذ: وقال‏ برجله: أي مشى. قال الشاعر: وقالت‏ له العينان سمعا وطاعة أي أومأت. وقال‏ بالماء على يده: أي قلب. وقال‏ بثوبه: أي رفعه. وكلّ ذلك على المجاز والاتّساع)‏

 [10] الكافي ج2 ص671

[11] مكارم الاخلاق ص19