مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ... ثمود ثالث الاقوام البائدة التي تعرض لهم في هذه السورة المباركة للاشارة الى احوالهم كشواهد على الانباء التي فيها مزدجر ولم يعتبر بها المشركون في مكة والجزيرة العربية. والظاهر ان ثمود هم اصحاب الحجر الوارد ذكرهم في سورة الحجر وهي مدينة قديمة يقال ان ذكرها ورد في اقدم التواريخ والآثار وقيل انها المعروفة حاليا باسم مدائن صالح بين المدينة وتبوك ولم يثبت ذلك والله العالم.

والنذر جمع نذير وقد مر انه اسم مصدر بمعنى الانذار ويمكن أن يكون هنا بمعنى المنذر اي كذبوا المرسلين كما ورد في سورة الحجر (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ)[1] ولذلك قيل انهم بعث اليهم اكثر من رسول ولكن يمكن أن يكون التعبير بذلك بلحاظ أن تكذيبهم لرسولهم لم يكن من جهة شكهم في رسالته شخصيا وانما كذّبوه باعتبار كون رسالته امتدادا لرسالات السماء وهم كانوا يسمعون أخبار الرسل.

فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ... الاستفهام للانكار. وقد استنكروا أن يتبعوا بشرا مثلهم كما استنكروا ان يتبعوا واحدا منهم وهذان امران مختلفان ولو قدّم التوصيف بالواحد على قوله (منا) لم يفد هذا المعنى بل كان المعنى أنه واحد منهم ولكن هذا الترتيب يفيد أنهم يستنكرون أمرين متابعة بشر منهم اي مثلهم وهذا الامر ورد في آيات كثيرة نقلا عن الاقوام السابقة. والآخر أنه واحد والظاهر ان المراد بالوحدة انه يعدّ من عامتهم ليس له أتباع وجنود فلا ينافي ذلك ايمان بعض الفقراء والضعفاء به كما قال قوم نوح عليه السلام (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ..).[2]

إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ... اي اذا اتبعنا بشرا منفردا من عامة الناس فنحن اذا لفي ضلال وسعر. قيل: ان سعر بمعنى الجنون يقال ناقة مسعورة اذا كانت مسرعة فكأن بها جنونا. ولكن الذي يظهر من موارد استعمال هذا اللفظ أنه بمعنى الشر المستطير كلهب النار ولذلك يطلق ايضا على مواضع الجرب في الابل والسعرة بكسر السين السعال الحادّ ولعلّ السعر بمعنى قيمة البضائع في السوق ايضا من هذا الباب لانها ترتفع فيوقع عامة الناس في حرج شديد.

فالصحيح أن السعر جمع سعير بمعنى النار المشتعلة وعليه فالظاهر أنهم بذلك يردون على ما جاءت به الرسل من أن متابعة الأهواء والكبراء والآباء تجرّهم الى ضلال بعيد والى عذاب السعير فقابلوه بأن متابعة انسان واحد من عامة الناس أقرب الى الضلال والسعر وأتوا بلفظ الجمع تأكيدا على أن متابعته يستلزم أنواعا من عذاب الدنيا فهم بذلك يفقدون اموالهم وسلطانهم ويتحولون الى أمة ضعيفة متخلفة نظير ما يقوله المهرّجون في عصرنا في مواجهة الدين بوجه عام.

أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا... الاستفهام للانكار ايضا والمراد بالذكر رسالات السماء لانها تُذكّر الانسان بما تمليه عليه الفطرة من الايمان بالله. وتسميتهم لرسالة السماء بالذكر قد يكون من باب المماشاة مع الخصم او من باب التهكم والاستهزاء ويمكن ان تكون التسمية من القرآن وليست من تعبيرهم. والالقاء يستعمل في الخطاب قال تعالى (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ)[3] وقال (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)[4] وقال في خصوص الوحي (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)[5] وقوله (من بيننا) اي دوننا والظاهر انه بتضمين الالقاء معنى الاختيار او بتقدير الاختيار اي واختير من بيننا.

وهذا ايضا من الاعذار المتكررة ويبتني على استبعاد أن يختار الله تعالى لرسالته بشرا من عامّة الناس ليست له ميزة على الباقين فلا يملك مالا كثيرا ولا جاها عريضا ولا سلطة وهيمنة وليست له ميزة ذاتية ايضا كالحكمة والدهاء كما قالت العرب (لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظيمٍ).[6] ونقصد بالحكمة ما يفهمونه من هذا اللفظ. ويمكن أن يكون المراد بيان أنهم يتوقّعون أن ينزل الوحي من السماء على كل واحد منهم كما قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)[7] وقال تعالى: (بَلْ يُريدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً).[8]

ويلاحظ أن أعذارهم مترتبة فهم يرفضون أولا أن يبعث الله بشرا رسولا ثم يرفضون ثانيا أن يتبعوا غير الكبراء والامراء ثم يرفضون ثالثا ــ وعلى تقدير أن الوحي ينزل على بشر من عامة الناس ــ أن يختار الله تعالى من لا ميزة له من مال وبنين ودهاء وحكمة ونحو ذلك فاما ان يختار انسانا مميزا او يرسل الوحي الى كل واحد منهم.

بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ... (بل) للاضراب اي لم يلق عليه الذكر بل هو كذّاب أشر والكذّاب صيغة المبالغة وتوصيفه بذلك لانه بزعمهم كذب على الله تعالى. و(أشر) صفة مشبّهة من الأشر ــ بفتحتين ــ وهو شدة البطر. والبطر الطغيان بسبب النعمة ويتضمن معنى الكبر وحب الرئاسة فالمراد أنه بدعوى الرسالة يريد السيطرة علينا. وهذا الاتهام من قوم صالح عليه السلام مما تكرر ايضا في مواجهة اصحاب السلطة للانبياء عليهم السلام قال تعالى حكاية عن قوم فرعون (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنينَ).[9]

سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ... تهديد واضح لهم بالعذاب والمراد بالغد المستقبل القريب او المؤكد. وهذا حكاية للخطاب الموجه الى صالح عليه السلام اي قلنا له سيعلمون.. وقرئ (ستعلمون) وهو اما حكاية لخطاب من الله تعالى لهم واما حكاية لما امر به صالح عليه السلام ان يقول لهم.

إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ... خطاب لصالح عليه السلام وبيان تفصيلي نوعا ما للتهديد المبطن في الجملة السابقة ومنه يظهر بوضوح أن العذاب الموعود عذاب دنيوي فلا وجه لما قيل من ان المراد بالغد يوم القيامة. ويظهر ايضا أن التهديد والعزم على العذاب اتخذ مسبقا قبل نزول الآية وانما أخر لتتم الحجة عليهم. ويتبين ايضا أن ارسال المعجزات والآيات فتنة وامتحان شديد بحيث تظهر به كوامن النوايا. والفتنة في الاصل الاحراق او الاذابة بالنار وحيث ان الاذابة تظهر خلوص الذهب والمعادن اعتبر كل ما يبتلى به الانسان في الحياة الدنيا من خير وشر فتنة ومنها الآيات والمعاجز التي كانت تؤيد بها رسالات الرسل.

والناقة انما ارسلت لهم آية بطلبهم كما قال تعالى حكاية عنهم: (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)[10] وفي بعض الروايات أنهم طلبوا ناقة تخرج من الجبل فخرجت باذن الله تعالى. ولكن ذلك غير ثابت والرواية تشتمل على مناكير والسند لا يخلو عن ارسال والظاهر أنه محاولة لاثبات كونها آية كما أن بعضهم روى أنهم سألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء تضع ثم ترد ماءهم فتشربه ثم تعود عليهم بمثله لبنا. ولكن الذي يظهر من الآيات الكريمة أنها كانت آية من جهة أنها كانت تشرب كل ما يشربه اهل القرية وحيواناتهم في يوم واحد. ومن هنا كانت فتنة لهم لانهم لم يتحملوا ذلك فعقروها.

والارتقاب بمعنى الانتظار كما ورد في كتاب العين او الترصد كما يظهر من موارد الاستعمال وهما مختلفان فالترصد يشتمل على معنى المراقبة وحيث انه تعلق بذواتهم فلا بد من تقدير فعل مناسب ولعله ما يصدر منهم بالنسبة للناقة. وبذلك يتبين بعض وظائف الرسول في المجتمع ودوره في تربيتهم وفي بلوغهم مرحلة استحقاق العذاب.

والاصطبار قيل انه تأكيد في الصبر ولكن الظاهر من مفاد الصيغة التلبس بالصبر ومعنى ذلك أنه حتى لو وصل الامر الى موقف يصعب فيه الصبر او ربما يتوهم انه لا ينبغي فلابد من تكلف الصبر. والمراد الصبر على أذاهم كما هو المعروف بين المفسرين او الصبر في هذه المراقبة فان مراقبة الجهلة مما يشق على الحكيم ويمكن أن يكون المراد التأكيد على أن العذاب نازل لا محالة فاذا تأخر بعضا من الوقت فلا تيأس واصبر وترقب.

وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ... قسمة مصدر بمعنى المفعول اي إن الماء مقسوم بينهم اي بين القوم والناقة. وظاهر اطلاق التقسيم من دون قيد هو التنصيف وقد بيّنه في الآية التي نقلناها آنفا من سورة الشعراء (لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ). والشرب بكسر الشين النصيب من ماء الشرب واحتضر بمعنى حضر والمحتضر اي الذي يحضره صاحبه والغرض أن كل نصيب من الماء يحضره صاحبه ولا يحضره غيره ولعل المراد أن من عجيب أمر الناقة مضافا الى شربها كل الماء أنها تعرف موعد نصيبها فتحضر الماء في وقته.

فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ... لم يتحمل القوم ناقة الله وسقياها ولم يصدّقوا تحذير الرسول حيث نهاهم أن يمسّوها بسوء ويبدو من الآية أنهم اتّفقوا على قتلها ولكنهم لم يجرأوا على المباشرة. الا أن هناك دائما من بين الناس من هو أشقاهم وأجرأهم على الله تعالى او على ارتكاب العظائم وهؤلاء يعتبرون ذلك ميزة لهم وشجاعة ويفتخرون به ولذلك لم يتقدم للاجهاز على سيد الشهداء عليه السلام احد من الاشقياء حتى بادر اليه أشقاهم وهو شمر. ومنهم عاقر ناقة صالح عليه السلام وهو المراد بصاحبهم في الآية وقد وصمه الله تعالى بأنه أشقاها اي أشقى قوم ثمود في قوله (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا)[11] ولكنهم جميعا أشقياء حيث نادوه وطلبوا منه قتلها ولذلك نسب العقر اليهم جميعا في قوله تعالى (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).[12]

والتعاطي ــ على ما في كتاب العين ــ تناول ما لا يحق وأصله من العطو اي التناول والظاهر أنه من جهة أن باب التفاعل يأتي ايضا بمعنى التلبس بأمر لا يستحقه كالتفعل فتقول تعاظم وتعالى اي اعتبر نفسه عظيما وعليا كما تقول تكبر بنفس المعنى. والمفعول محذوف اي تعاطى العقر او السيف او الناقة وفي العين ايضا أنه بمعنى التجري. والعقر الجرح والقطع، وعقر الفرس او البعير قطع قوائمه، ويطلق على النحر ايضا لانهم كانوا يعقرون الابل ثم ينحرونها مستمكنين منها فاطلق العقر على النحر.

فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ... مر تفسيرها وهذه اشارة اجمالية تفصيلها في الآية التالية والاستفهام هنا للتعجيب او للحث على الاعتبار بما حدث للقوم او مقدمة للجواب الآتي.

إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ... جواب عن الاستفهام في الآية السابقة والصيحة الصوت العالي. وقد عبّر عن عذابهم في سورة الاعراف: 78 بالرجفة وفي سورة هود: 67 بالصيحة كما هنا وفي سورة  فصلت: 13و17 وكذا في الذاريات: 44 بالصاعقة وفي سورة الحاقة: 5 بالطاغية. فالصاعقة كل ماله صوت شديد ويعبّر بها عن مطلق الهلاك ايضا فهي متحدة مع الصيحة كما يعبر بالصيحة ايضا عن كل عذاب ينزل فجأة ويعبّر بها ايضا عن الغارة. واما التعبير بالرجفة فباعتبار أن الصوت الهائل يوجبها. والطاغية بمعنى ما تجاوز الحد المألوف.

فيظهر من كل ذلك أن العذاب المرسل عليهم كان صوتا شديدا غير مألوف للبشر تسبّب في رجفة عظيمة وانفجار قوي فأهلكهم فجأة بحيث لم يتمكنوا من أي حركة فظلوا جاثمين كما ورد به التعبير في سورتي الاعراف وهود. والتحطيم الذي يحدثه الصوت الهائل معروف في عصرنا وهو يصدر من انفجار يصنعه البشر فكيف بما يصنعه جبار السماوات والارض لغضبه؟! وتوصيف الصيحة بالوحدة للتعبير عن كونه غير طبيعي اولا وعن سرعة أخذهم واهلاكهم ثانيا ثم سهولة ذلك وبساطته فلم يكن الامر بحاجة الى جنود ومقدمات وفي ذلك استهانة بالكفرة وتحقير لهم.

وقوله (فكانوا) اي فصاروا. والهشيم ما هشّم وحطّم من الاعشاب والاعواد والقصب. والمحتظر صانع الحظيرة او صاحبها وهي ما تصنع من الحشيش ونحوه لحفظ الماشية ــ والحظر: المنع ــ فتمنع الماشية فيها من الهرب والضياع او تمنعها وتحفظها من بعض السباع. وهشيم المحتظر ما كان يصنعه من الحشائش المحطمة لتعليف الحيوان او ما كان يصنع منه الحظيرة والغرض تشبيههم بقطع صغار من الحشيش. كما عبّر عنهم في سورة هود (فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)[13] اي كأنهم لم يكونوا هناك اذ لم يبق لهم أثر.

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ... مر تفسير الآية وانما تكرّر ذكرها بعد التعرض لما جرى على كل قوم للتنبيه على أن ذكر هذه الحوادث ليس لبيان القصص او التواريخ بل للاعتبار فهل من مدّكر؟

 


[1] الحجر: 80

[2] هود: 27

[3] النحل: 86

[4] النساء: 94

[5] المزمل: 5

[6] الزخرف: 31

[7] الانعام: 124

[8] المدثر: 52

[9] يونس: 78

[10] الشعراء: 154- 155

[11] الشمس: 12

[12] الاعراف: 77

[13] هود: 67- 68