مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ هذا تذكير للانسان بمبدأ نشوئه وخلقه وهو أول ما أنعم الله عليه حيث أوجده من العدم ليتنعم بهذه النعم وأولها بل أهمها معرفته تعالى وعبادته فهو الغرض الاسمى من خلقه قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).[1]

وهل المراد بالانسان جنسه باعتبار أن كل انسان مخلوق من التراب بمعنى أن المواد التي خلق منها تعود كلها الى التراب وما فيه من العناصر أم ان المراد به ابوالبشر وهو آدم عليه السلام فهو الذي خلقه الله تعالى من تراب واما سائر البشر فقد خلقوا من نطفة أمشاج؟

اختلف المفسرون في ذلك في هذه الآية وفي غيرها والصحيح هو التفصيل بين الآيات الكريمة فهناك عدّة آيات ظاهرها أن جنس الانسان مخلوق من تراب كقوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا..)[2] وهناك ما ظاهرها الاختصاص بأبي البشر كقوله تعالى (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ).[3] والظاهر أن المراد بالانسان في هذه الآية بالذات آدم عليه السلام لأن نسل الانسان وان صح أن يقال أنهم من تراب ولكن ليسوا مخلوقين من صلصال كالفخار.

والصلصال في الاصل تكرر امتداد الصوت لأن الصليل بمعنى امتداد الصوت قال الخليل رحمه الله (صلّ اللجام اذا توهمت في صوته مدّا وان توهمت ترجيعا قلت صلصل). وهذا شأن كل كلمة يتكرر فيه الاصل الثنائي كدمدم وزلزل وغير ذلك. والمراد به هنا الطين اليابس لانه اذا حرك يخرج منه صوت متكرر. والفخار هو الخزف والطين المطبوخ فقوله تعالى (كالفخار) اي انه يشبه الخزف في الصلابة وان لم يكن مطبوخا.

وقد ورد التعبير بالصلصال في خلق أبي البشر في مورد آخر قال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون‏)[4] وكرر ذلك ايضا بعدها فقال (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون‏)[5] ومرة اخرى في حكاية قول ابليس (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون‏)[6] والحمأ: الطين الاسود المنتن كما في العين وفيه أن المسنون المصبوب وقال غيره المسنون المتغير ومنه قوله تعالى (فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ)[7] والظاهر أن هذه إحدى مراحل تكوّن الانسان فلعلّه ابتدأ من تراب ثم تحوّل الى طين ثم الى حمأ مسنون ثم الى طين يابس عبّر عنه بالصلصال ثم أصبح صلبا كالفخار ثم تحول الى كائن حيّ ثم نفخ الله فيه من روحه. ومهما كان فهذه المراحل ليست من تطورات النسل البشري.

وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ... الجانّ واحد الجنّة لقوله تعالى (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)[8] وهم نوع من ذوي العقول بدليل التكليف وهم مستترون عن حواسّنا لا نراهم ولا نسمع كلامهم ولا نحسّ بهم قال تعالى (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ..)[9] والكلمة مأخوذة من جنّ الشيء اذا استتر ومنه الجُنّة بالضم اي الترس للاستتار به في الحرب.

وقيل انّ الجانّ اسم أبي الجنّة ولم نجد في القرآن ما يدلّ عليه ولا نعلم عن حقيقة الجنّ شيئا الا ما حكاه لنا القرآن او ورد في الروايات المعتبرة ولذلك لا يمكننا الحكم بأن الخلق من النار هل هو خاصّ بأبيهم او انّ كل أفرادهم خلقوا من مارج من نار. والمارج من مرج بمعنى خلط فهو اسم فاعل بمعنى المفعول اي نار مختلطة وقال ابن فارس اصل المرج الاضطراب وعليه فالمراد به نار مضطربة اي متحركة فينطبق على لهب النار ومن هنا قال بعضهم انها النار الخالصة والا فالمرج ليس بمعنى الخلوص بل الاختلاط وهو ضده.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ... النعمة التي يراد الاشارة اليها هنا اصل الخلق والتكوين لا خصوص خلق الانسان من طين والجان من نار والايجاد اصل النعم فكأنّ الآية تخاطب الثقلين ان الله تعالى خلقكم لينعم عليكم كل هذه النعم فأي نعمه تنكرون؟!

ولا نعيد تفسير هذه الآية الا اذا كان له معنى خاص في مورد آخر.

رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ... خبر آخر عن الرحمن كما هو الحال في الآيات السابقة. والغرض من هذا التعبير التأكيد على سعة الربوبية بعد التنبيه على كونه تعالى هو الخالق ليؤكّد للانسان أنه لا يكفي الايمان بالخالقية بل لا بد من الايمان بكونه تعالى رب العالمين فالمشركون ايضا كانوا يعترفون بأنه الخالق قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ..).[10]  

والمشهور أن المراد بهما مشرق الصيف والشتاء ومغربهما وما بينهما مشارق ومغارب ولذلك قال تعالى في موضع آخر (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ..)[11] وروي ذلك مرسلا عن أميرالمؤمنين عليه السلام. ولعل تخصيصهما بالذكر هنا من جهة أن الغرض في هذه السورة عدّ الآلاء وهناك نعم كثيرة تتقوم بها الحياة على هذا الكوكب وتترتب على اختلاف مشرق الصيف ومشرق الشتاء. مضافا الى ما مرّ من تبنّي السورة للتثنية والازدواجية. ولكن النعم لا تترتب على اختلاف المشارق والمغارب زمانا او مكانا وانما تترتب على نفس وجود الفصلين بل الفصول. وقيل المراد مشرق الشمس والقمر ومغربهما وهو بعيد.

ويمكن أن يقال ان التعبير يصوّر حقيقة أوسع فالمراد بالمشرق والمغرب كل ما يبلغه البصر ويحيط به الانسان من آفاق الكون ولعل التثنية لمجرد التكرار والتعدد كما مر ففي اي مكان تمد البصر له مشرق ومغرب مضافا الى كون التثنية سمة السورة كما مر ايضا. فالغرض التنبيه على سعة الربوبية وأنها تشمل كل جوانب الكون.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ...

 


 الذاريات: 56[1]

 غافر: 67[2]

 السجدة: 7- 8[3]

 الحجر: 26[4]

 الحجر: 28[5]

 الحجر: 33[6]

 البقرة: 259[7]

 الرحمن: 56[8]

 الاعراف: 27[9]

 لقمان: 25[10]

 المعارج: 40[11]