مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ... اي مرج الله البحرين حال كونهما يلتقيان. والمرج هو الخلط كما مر ولكن حيث ان قوله (يلتقيان) يدلّ على عدم الاختلاط الكامل كما تدل عليه الآية التالية ايضا حمله المفسرون على الارسال مع أنه لم يرد بهذا المعنى في اللغة وانما استعمل مرج الدابة او امرجها ارسلها في المرعى وذلك لان المرج بمعنى المرعى وهو ايضا من جهة اختلاط الدواب فليس الارسال احد معانيه. وفي العين: (لاقى بينهما) وكأنه من جهة كونه لازما للاختلاط فيمكن أن يراد به ذلك مجازا.

والبحر في الاصل بمعنى السعة ويطلق على الماء الكثير سواء كان عذبا او مالحا ولا شك أن المراد به هنا البحر المالح والعذب لقوله تعالى (وَهُوَ الَّذي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً)[1] فهذه الآية تشبه ما نحن بصدد تفسيرها تماما. والقول بان المراد به بحران من الماء المالح بعيد جدا لا يصغى اليه. والبرزخ: الحائل بين الشيئين. والبغي في الاصل الطلب ويطلق على التجاوز والطغيان لانه طلب ما لا يستحقه.

والكلام في المراد بالبحرين فقيل ان المراد بهما التيارات المائية المختلفة في المحيطات ومنها ما يدعى بتيار الخليج او (Gulf Stream) وهو تيار المياه الدافئة في المحيط الاطلسي الذي يؤثر كثيرا في تدفئة الاجواء في اوروبا ويقال ان هذا التيار مع عمقه وعرضه وشدة جريانه لا يختلط بمياه المحيط.

ولكن هذا الاحتمال بعيد من جهة أن هذه المياه ليست عذبة. الا أن يدعى أنه لا وجه لحمل البحرين على المالح والعذب فيكفي كونهما نوعين من الماء ولكنه لا يوافق الآية التي في سورة الفرقان.

وقيل ان المراد بهما مطلق الماء المالح والعذب على وجه الارض وأن البرزخ بينهما هو الحالة الطبيعية المانعة من اختلاطهما بحيث يطغى المالح على عذوبة الماء العذب او العذب على ملوحة المحيطات فلكل منهما فوائده حيث ان المحيطات والبحار انزل سطحا فلا تطغى على الانهار والبحيرات العذبة. والانهار لا تصب رأسا في البحار بل تجري على وجه الارض مساحات كثيرة فتصب قليلا من الماء فيها وتبقى ملوحة البحار بالمقدار اللازم لتنقية الجو من التلوث الذي يسببه الانسان والحيوان. وبعض الانهار تصب في البحيرات العذبة وهي لا ترتبط بالمحيطات. والمراد بالتقائهما صب الانهار في البحار.

واختار العلامة الطباطبائي رحمه الله هذا القول وهو في حد ذاته لا بأس به اذا ثبت وجود اللؤلؤ والمرجان في الانهار والمياه العذبة كما قيل.

وقيل ان المراد بهما ما يعرفه العرب في عهد النزول من هذين النوعين وهما نهر الفرات وبحر العجم المسمّى اليوم بالخليج الفارسي. والتقاؤهما انصباب ماء الفرات في الخليج الفارسي في شاطى‏ء البصرة ومن هنا كانت البلاد التي على الشاطئ العربي من الخليج الفارسي تعرف عند العرب ببلاد البحرين. والمراد بالبرزخ الذي بينهما الفاصل بين الماءين الحلو والملح بحيث لا يغيّر أحد البحرين طعم الآخر بجواره وذلك بما في كل ماء منهما من اختلاف درجة الكثافة فتمنع اختلاط الآخر به ويشاهد اختلاف لون الماءين خصوصا لمن يشاهد من الجو. ويقال ان هذا الامر اي عدم الاختلاط يستفيد منه المزارعون على حافة الخليج في ايران حيث يصل اليهم الماء العذب بالمد فيرتفع الماء ويسقي أراضيهم.

ولعل هذا القول هو الصحيح من جهة احتمال وجود اللؤلؤ والمرجان في هذه المياه العذبة على حافة البحار كما سيأتي ولكن يبعد اختصاص الآية بهذا الموضع فهناك مواضع كثيرة من هذا القبيل في البحار ولا وجه للتخصيص.  

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ... تبيّن ضمن ما ذكر من الاحتمالات وجه كون البحرين وعدم اختلاطهما من الآلاء.

يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ... اللؤلؤ درّ يتكوّن في الصدف وهو حيوان بحري وكان يقال قديما أن اللؤلؤ يتكون من تقاطر المطر في الصدف وتبيّن أخيرا أنه يتكون من دخول أيّ جسم غريب داخل جسمه حيث يسارع الحيوان إلى إفراز مادةٍ لزجةٍ يغطيه بها، ثم تتجمد هذه المادة لتكون لؤلؤةً، ويكون حجم اللؤلؤة بحسب حجم المادة الغريبة الواصلة الى داخل الصدف. والمرجان يطلق في زماننا على حيوان بحري تؤخذ منه مادة للزينة مختلف ألوانها. ولكن الذي يظهر من كتب اللغة وما حكي عن قدامى المفسرين أن المرجان نوع من اللؤلؤ فالاكثر منهم قال انه صغاره وهو الصحيح على ما يبدو وقال بعضهم انه الكبار منه ومنهم من قال انه جيد اللؤلؤ.

وقد وقع الكلام في التفاسير في تأويل هذه الآية ومثلها قوله تعالى (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها..)[2] وذلك لأنهم لم يجدوا اللؤلؤ والمرجان الا في البحر المالح والآيتان تدلان على وجودهما في المياه العذبة وهذا الاشكال مما حاول دفعه قدماء المفسرين وليس أمرا مستحدثا.

وهناك عدة محاولات لدفع الاشكال:

فمنها تفسير البحرين في هذه الآية ببحرين مالحين وهما البحران المعروفان للعرب: البحر الأحمر الذي عليه شطوط تهامة مثل جدّة وينبع النخل وبحر عمان وهو بحر العرب الذي عليه حضرموت وعدن. والبرزخ الذي بين هذين البحرين هو مضيق باب المندب‏.

وقد مرّ أن هذا القول ضعيف جدا وأن آية سورة الفرقان قرينة واضحة على أن المراد بهما في هذه الآية البحر العذب والمالح، مع أنه لا يحل الاشكال بالنسبة الى الآية التي في سورة فاطر فان الظاهر أن جملة (وتستخرجون) معطوفة على (تأكلون) وقوله (ومن كلّ) اي من كل منهما فالنتيجة أن الحلية تتّخذ من المياه المالحة والعذبة. نعم يمكن أن يراد بالحلية في هذه الآية ما يؤخذ من الذهب من شواطئ الانهار حيث ان الماء يأتي به من الجبال او غيرها وقد راينا باعيننا مجموعة من الناس يبحثون عنه في شواطئ دجلة.

ومنها انه بحذف المضاف والتقدير (يخرج من أحدهما) وهذا التأويل على فرض صحته لا يفيد في سورة فاطر ايضا كما بيّنّاه مع أنه في نفسه بعيد جدا.

ومنها انه من قبيل قوله تعالى (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا)[3] والضمير يعود الى السماوات مع أن القمر في واحدة منها وهي السماء الدنيا فكذلك اللؤلؤ والمرجان يصح أن يقال يخرج منهما اذا خرج من أحدهما.  

ولكن الظاهر أن هناك فرقا بين الموردين فالقول بأن القمر فيهن مع كونه في احداهن انما يصح باعتبار أنه في حيّزهن اي في مجموعة السماوات بخلاف استخراج اللؤلؤ فانه لا موجب لضمّ ما لا يستخرج منه الى ما يستخرج منه وليس هنا مجموعة تسمى البحران بل هما امران مختلفان.

وقال في الكشاف: (لما التقيا وصارا كالشي‏ء الواحد جاز أن يقال يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه وتقول خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله بل من دار واحدة من دوره). وهذا يصح لو صحّ أن الالتقاء جعلهما كالشيء الواحد ولكنه ليس كذلك فان صبّ الانهار في البحار لا يوجب صدق اتحادهما كما هو واضح.

ومنها ما قيل من أن العرب اذا ذكروا أمرين وتعلق شيء بأحدهما نسبوه اليهما وأن من ذلك قوله تعالى (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي‏..)[4] قالوا ومن المعلوم أن الرسل من البشر. ولكن لم يثبت ما نسب الى العرب ولو صح في مورد فهو من التسامح والآية المذكورة ليست من هذا القبيل اذ لا يبعد أن يكون للجن رسل منهم بل لابد من الالتزام به ليتم التكليف وذلك لا يستوجب وجود شريعة خاصة بهم ويظهر بوضوح من سورة الاحقاف أن الله تعالى صرف من الجن من استمع القرآن وبلغه الى قومه قال تعالى (وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى‏ قَوْمِهِمْ مُنْذِرينَ).[5]

ومنها ما ذكره بعض المفسرين المتأخرين من أنهما يوجدان في بعض الانهار وفي تفسير الميزان نقلا عن دائرة المعارف للبستاني أن هناك عدة أنهار في امريكا واوروبا وآسيا يستخرج منها اللؤلؤ. وأكد لي صحة ذلك بعض من أثق به نقلا عن مواقع الكترونية الا أن ذلك يخص اللؤلؤ ولم نجد من يدعي وجود المرجان في المياه العذبة، ولكن ذلك لا يضرّ بهذا الوجه لما ذكرناه من أن المرجان لدى العرب الاوائل يطلق على نوع من اللؤلؤ. ومن هنا لا يبعد الالتزام بالوجه الاول في تفسير البحرين وهو أن المراد ببحر الماء العذب الانهار والبحيرات لاشتمالها على اللؤلؤ والمرجان بهذا المعنى وهذا التفسير للبحرين اولى من غيره.

نعم لو لم يتم ذلك فالاقرب أن المراد بهما مواضع التقاء الانهار والبحار والظاهر اشتمالها على اللؤلؤ والمرجان بالمعنى المعروف عندنا مع أن ماءها عذب فيصدق أنه يخرج منهما حقيقة.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ... اللؤلؤ والمرجان يستفاد منهما للزينة والحلي. والتزين جانب مهم في حياة الانسان. والشريعة ايضا لم يهمله وانما منع من الافراط فيه كغيره من ملذات الحياة قال تعالى (يا بَني‏ آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُواري سَوْآتِكُمْ وَريشا..)[6] والريش لباس الزينة وقال (يا بَني‏ آدَمَ خُذُوا زينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي‏ أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ).[7] هذا مضافا الى ما يقال من استخدامهما في علاج بعض الامراض.

وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ... (الجوار) حذفت منه الياء في الكتابة تبعا للّفظ حين الوصل بما بعده والجواري جمع جارية صفة للسفن مقدرة اي وله السفن الجواري. و(المنشآت) يمكن أن تكون من الانشاء بمعنى الايجاد وهذا الوصف اشارة الى أنها من صنع البشر ولكنها ككل ما في الكون ملك لله تعالى ملكا حقيقيا لأنه كسائر ما في الكون متقوّم في ذاته ووجوده وبقائه به وبارادته تعالى مضافا الى أنه خالق موادّها وصانعها وهو من خلق في الموادّ هذه القابليّات وفي الانسان هذا الفهم والادراك وألهمه صنعها بل الظاهر أن صنع السفن مما نزل به وحي السماء على سيدنا نوح عليه السلام. ثم انّها كسائر ما في الكون مسخّر لارادته تعالى وتجري في البحر بأمره فكلّ حركة وسكون في الكون خاضع لارادته. ويمكن أن تكون المنشآت من الانشاء بمعنى الرفع فتكون اشارة الى رفع شُرُعها وهذا أنسب بالتشبيه بالاعلام اي الجبال. و(في البحر) متعلق بالجوار. 

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ... وقد تكرّر في القرآن التنبيه على هذه النعمة العظيمة فالسفن أكبر وأرخص وسيلة لنقل الاحمال والاشخاص قديما وحديثا.

 


 الفرقان: 53[1]

 فاطر: 12[2]

 نوح: 16[3]

 الانعام: 130[4]

 الاحقاف: 29[5]

 الاعراف: 26[6]

 الاعراف: 31- 32[7]