مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ... من هنا يبدأ السياق تدريجيا بالانتقال الى نعم الآخرة فأول مرحلة منها مرحلة الموت وهذه الآية تنبّه الانسان على حقيقة واضحة يعرفها الجميع ويغفل عنها الجميع وهي عمومية الموت (كل من عليها فان) والضمير يعود الى الارض اما باعتبار ذكرها قبل آيات او باعتبار أن سياق الآيات يدل عليها. و(فانٍ) اسم فاعل من الفناء والمراد به الموت. والتعبير مبني على الظاهر حيث يفقد شخص الانسان والا فالموت ليس فناءا للانسان حقيقة. وليس معناه أنه متحقق بالفعل كما يظنّ بعضهم وستأتي الاشارة اليه في تفسير الوجه بل المراد تحققه في المستقبل كقوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)[1] و(مَن) لذوي العقول وان كان الموت يشمل كل حيّ ولكن الغرض يتعلق بالثقلين.

وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ... الوجه كناية عن الذات كما في أكثر التفاسير باعتبار أن هويّة الانسان في وجهه فيعبّر به عنه وبهذا الاعتبار يعبّر به عن كل ذات وان لم يكن له وجه كما هو الحال في محل الكلام.

وقد ذكروا في تفسيره وجوها اخرى:

منها ما في تفسير الميزان من أن المراد به صفاته التي يعرف بها كما يعرف الانسان بوجهه فانا نعرف الله تعالى بصفاته كالخالقية والرازقية ونحو ذلك.

ومنها أن المراد به الاعمال التي يقصد بها التقرب اليه تعالى اما باعتبار أن المراد بالوجه القصد بمعنى المقصود اي ما يقصد بها الله سبحانه او باعتبار أننا انما اُمرنا بها للتوجه اليه تعالى والتقرب لديه.

ومنها أنه الجهة التي يليها الحق أي يتولاها بفضله ويفيضها على الشي‏ء من عنده فهو الباقي دون الشي‏ء في حدّ ذاته فإنه فان في كل وقت. ومن هنا يقال بأن قوله تعالى (فانٍ) اي هو فانٍ بالفعل لا أنه سيفنى في ما بعد. وقد مرّ آنفا.‏

ومنها أنه حيثية ارتباط الشيء وانتسابه إلى الله تعالى. وغير ذلك.

ولا يصح شيء مما ذكر بدليل توصيف الوجه في الآية الكريمة بالرفع (ذو الجلال) فلو كان بأيّ معنى آخر غير الذات لزم كون الصفة مجرورة لتكون صفة للربّ فلا يصح الرفع الا باعتبار أن المضاف هو المضاف اليه بعينه بخلاف الآية الاخيرة (تبارك اسم ربّك ذي الجلال والاكرام) فأتى بالوصف مجرورا لانّ الاسم غير المسمّى وهذا واضح.

وفي الميزان أن الصفة مقطوعة عن الوصفية فالتقدير هو ذو الجلال والاكرام ولكن لا موجب لهذا التقدير. وذكر وجها آخر أبعد منه.

وهنا سؤال وهو أنه لماذا ذكر الوجه فكان يكفي أن يقال (ويبقى ربك) ولعل الوجه فيه هو التأكيد على أنه لا يبقى غيره جل وعلا نظير التأكيد بالنفس والعين تقول رأيت زيدا نفسه. وفي تفسير التبيان للشيخ الطوسي قدس سره أن الوجه فيه التنبيه على أنه تعالى ظاهر بأدلته وآياته كظهور الانسان في وجهه. ولا يخفى لطفه.

وهذه الآية ان كانت ناظرة الى الآية السابقة فتكون كالاستثناء المنقطع منها باعتبار أن عنوان من على الارض لا ينطبق عليه تعالى فلا تدل حينئذ على أن الموت يشمل كل الاحياء حتى من في السماوات وفي عالم البرزخ نعم يؤكد عدم استثناء أحد ممن على الارض. وهذا هو الظاهر.

ولكن يمكن ان يقال انها تختلف موضوعا عن الآية السابقة فالفناء في تلك الآية لمن على الارض وهذه الآية تدل على أنه لا يبقى أحد في السماوات والارض حيا الا الله تعالى ومقتضى ذلك أن الموت يشمل جميع الملائكة ايضا وكذلك من كان حيّا في عالم البرزخ كالانبياء والاوصياء والشهداء وقد صرح القرآن بأنهم أحياء عند ربّهم يرزقون وهذا ربما ينافي الاستثناء في قوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّه‏..)[2] الا اذا قلنا بان هذه الآية لا تدل على الحصر وانما تفيد بقاء وجهه تعالى ولا تنافي بقاء الانبياء والشهداء والصالحين والملائكة الكرام او بعضهم. ولكن لا يبعد أن يستفاد الحصر من التأكيد على أن الباقي هو وجهه تعالى كما مر. كما يمكن أن يستفاد الحصر من السياق وقرينة المقام وهو مقام بيان اختصاص البقاء بالذات المتعالية.

ومن هنا قيل ان من استثني في الآية المذكورة وان كانوا لا يصعقون بالنفخة ولكنهم يموتون ايضا كما يظهر من قوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)[3] وقوله تعالى (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ..)[4] ووردت عدة من الروايات بهذا المعنى بل يظهر من بعض الآيات أن كل شيء ينعدم ويبدأ الله الخلق من جديد منها قوله تعالى (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)[5] والله العالم. 

واضافة الربّ الى الكاف وهو خطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لاكرامه من جهة تخصيص الربّ به في مقام بيان عظمته تعالى. والجلال والجلالة: العظمة. والجلال بدون التاء مختص بالله تعالى ــ كما في المفردات ــ فذو الجلال اي صاحب الجلال لا يطلق على غيره تعالى. وباعتبار ان فيه معنى الترفّع يطلق على تنزيهه تعالى عن الصفات التي لا تليق بساحة قدسه ومن هذا الباب يعبّر عن الصفات السلبية بصفات الجلال.

والاكرام يطلق تارة ويراد به التعظيم والتقدير فان اريد به ذلك فالمعنى أنه تعالى أهل لأن يكرم ويجلّ فلا يعصى بل يعبد ويتقرب اليه ويطلق اخرى ويراد به تنزيه النفس من القبائح يقال أكرم نفسه أي ترفّع عن الرذائل والمعاصي فان اريد به هذا فالمعنى أنه أهل للتنزيه والتقديس مما لا يليق بشأنه. ومهما كان فذو الاكرام بمعنى أنه أهل لأن يكرم ومثله قوله تعالى (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)[6] اي هو أهل لأن يتقى.  

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ... استغرب بعضهم كيف يعدّ الفناء نعمة يمنّ بها الله تعالى على عباده؟! وحاول بعضهم أن يثبت أن بقاء وجه الربّ هو النعمة. والصحيح أنّ الفناء ليس انعداما بل المراد به الموت وهو انتقال من عالم الى عالم آخر بل هو تطور وتكامل في النفس الانسانية وأهم منه أن الانسان بالموت يحظى بلقاء ربّه قال تعالى (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآت‏..)[7] وهو من أعظم النعم. ونقرأ في دعاء ابي حمزة (اللهم حبب الي لقاءك وأحبب لقائي واجعل لي في لقائك الراحة والفرج والكرامة) وفي زيارة امين الله (اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك... مشتاقة الى فرحة لقائك). مضافا الى أن الموت أول مرحلة للوصول الى ما كتب للمتقين الصالحين من الثواب. ومضافا الى أن الموت من أعظم النعم على المجتمع البشري بل على ساكني الكرة الارضية جميعا ولولاه لم يبق لهم مكان على الارض ولا ما يحتاجونه من طعام وشراب.

يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ... هذا العنوان يشمل الانس والجن والملائكة فهم جميعا يسألونه حاجاتهم باستمرار وهم فقراء الى الله تعالى في وجودهم واستمرار وجودهم وكل شؤونهم. والسؤال لا يختص بالطلب لفظا او قلبا بل يشمل وجود الحاجة بصورة طبيعية فيعتبر ذلك ايضا سؤالا. ومن هنا فالعنوان يشمل الكفار والملحدين ايضا. بل يمكن أن يشمل الحيوانات لان (من) وان اختص بذوي العقول الا أنه يصح أن يراد به ما يشمل غيرهم. والحاصل أن الحاجات لا يقضيها الا هو تعالى فالكل يصمدون اليه بحاجاتهم.

والشأن في الاصل بمعنى الطلب وبهذا الاعتبار يطلق على كل مطلب ومقصد مهم وكل أمر وحال وخطب. واليوم بمعنى مطلق الزمان فهو تعالى في كل لحظة في شأن حسب حاجات الخلائق واليوم ظرف لفعله تعالى والتنكير يفيد أنه في شأن جديد غير الشأن السابق فهو يبدع الحوادث في كل لحظة. والغرض من ذلك التنبيه على أن كل ما يحدث من الامور جليلها وحقيرها من ابداعاته تعالى وأنه لم يفوّض تدبير الكون الى أحد ولا الى جهاز وآلة. والكون ليس كجهاز منظّم متروك لحاله فيكون مستمرا في السير على ما خطط له كما يتوهم بل التدبير الالهي يشمل كل حركة وسكون في الكون.

ولكن بعض المفسرين خصّ الشأن بأعمال خاصّة ورووا في ذلك حديثا مفاده (أن من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرّج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين) وزاد بعضهم (ويجيب داعيا) وهذا مجرد سرد للامثلة والا فتدبيره تعالى يشمل كل صغيرة وكبيرة في الكون بأجمعه فما من ذرّة الا وأمرها بيده وكل شيء في تحوّل وتغيّر وكل ذلك من صنعه تعالى وابداعه.

وهذا هو ما يعبّر عنه بالبداء وهذا التعبير ورد في أحاديث ائمة اهل البيت عليهم السلام وفي حديث صحيح عن الامام الصادق عليه السلام (ما بعث الله نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال الاقرار له بالعبودية وخلع الانداد وأن الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء). والجملة الاخيرة في الحديث تبين معنى البداء والكلام فيه طويل والصحيح في تفسيره أن الله تعالى ليس محكوما بما قدّره وقضاه فيمكن أن يغير ما يشاء وان كان لا يغيّر في بعض الموارد لمصلحة يراها كما لو اخبر النبي او الوصي بأمر وفقا لما اُخبر به عن طريق الوحي فان الله تعالى لا يغير الامر لانه يوجب عدم الوثوق بالمعجزات.

والظاهر أنه هو المراد بقوله تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ..)[8] فهم كانوا يعتقدون أنه تعالى لا يمكنه أن يغيّر شيئا مما قدّره في الازل والآية الكريمة ترد عليهم. ومن هنا قال بعضهم في هذه الآية انها نزلت في اليهود حين قالوا إنّ اللّه لا يقضي يوم السبت شيئا.

والتعبير عن هذه الحقيقة بالبداء مع انه بمعنى الظهور من جهة ان من يعلم مقتضيات الحوادث ولا يعلم بما يغير تاثيرها يتصور ان الامر سيتم حسب ما تقتضيه العلل الاولية ولما يغير الله الامر بمقتض اخر يبدو له خلاف ما كان يعلم. ومن هنا حكي عن بعض العلماء في جواب من سأله عن الجمع بين هذه الآية وما صح من أن القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة أنه قال: شؤون يبديها لا شؤون يبتديها. 

والجملتان في الآية الكريمة قد لا تكون بينهما صلة بمعنى أن كل واحدة منهما تنبئ عن شأن من شؤونه تعالى ليعرفه الناس فالاولى تبين أن كل حاجات الكون منتهية اليه وهو الذي يقضيها ولا تقضى من جهة اخرى ابدا والثانية تبين أن ابداعاته تعالى لا تنتهي ولا تتوقف والكون لا يسير الا بامره وارادته ويمكن ان تكون بينهما صلة ايضا باعتبار أن الجملة الثانية تبيّن ابداعه المستمر في قضاء حوائج المحتاجين وان كان الابداع لا يختص به.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ... لا يمكن أن تحصى آلاؤه تعالى التي نشعر بها طيلة حياتنا مما نسأله ومما لا نسأله. ولكن الانسان كفور فلا يعدّ ما استجيب له من دعاء وما قضي له من حاجة وانما يعدّ ما لم يصل فيه الى بغيته مع أنه ربما لا يكون صالحا له وهو لا يعلم.

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ... الفراغ بمعنى الخلو والتجرّد وهذا التعبير يطلق عادة في ما اذا كان القائل مشغولا بامر او امور فيخبر عن انه سيفرغ منها ويتركها ويشتغل بغيرها. ويُفهم منه في الغالب التهديد وان لم يختص به. هذا في غيره تعالى واما فيه فلا يمكن التعبير بما يوهم الانشغال فانه تعالى لا يشغله شأن عن شأن فالصحيح أن هذا التعبير في هذا المقام كناية عن التهديد بلحاظ أنه يستعمل في غيره تعالى تعبيرا عنه. ويفهم ذلك من سياق الآيات حيث وردت هذه الآية بعد قوله تعالى (كل يوم هو في شأن) مما يوجب توهم الانسان الجهول بأنه تعالى مشغول عن محاسبته فالتعبير بالفراغ بعد ما يوهم الانشغال يفهم منه التهديد. ويمكن أن يكون التعبير بالفراغ كناية عن انتهاء النشأة الاولى والاشتغال بما تستلزمه النشأة الاخرى من المحاسبة والجزاء والمعنى الاول اولى.

والثقلان الجن والانس. والثقل بفتحتين الشيء الثقيل كالحمل والمتاع ويطلق على كل شيء نفيس ايضا بهذه المناسبة ومنه حديث الثقلين الوارد في القرآن الكريم والعترة الطاهرة. ولعل اطلاقه على الجن والانس من جهة انهما يعقلان بخلاف سائر الحيوانات. وخاطبهما بضمير الجمع باعتبار الافراد.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ... الظاهر أن هذا الخطاب وما سيأتي في هذا السياق تهديد لهم بعد التنبيه على الفراغ لمحاسبتهم واعلام لهم بأنهم يُحاسَبون على تكذيب الآلاء ويُعذَّبون عليه فهو استنكار لتكذيب يستتبع ذلك.

 


 الزمر: 30[1]

 الزمر: 68[2]

 القصص: 88[3]

 الحديد: 3[4]

 الانبياء: 104[5]

 المدّثّر: 56[6]

 العنكبوت: 5[7]

 المائدة: 64[8]