مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ... المعشر كل جماعة أمرهم واحد كمعشر المسلمين ومعشر المشركين والظاهر أنه مأخوذ من المعاشرة بمعنى المخالطة وهو اسم جمع ولا مفرد له. والنفاذ والنفوذ: الجواز والمضي والخرق. والاقطار: الجوانب. والسماوات والارض عبارة عن الكون كله. والمعنى ان استطعتم ان تخرجوا من جوانب الكون لتخرجوا من سلطة الله تعالى فاخرجوا.

وهذا أمر تعجيزي واضح بل هو أمر بالمستحيل اذ لا شيء وراء الكون فالغرض تنبيه الانسان على استحالة خروجه من تحت سلطان الله تعالى وانه لا يستطيع الا بسلطان اي بقوة. والسلطان مصدر بمعنى السلطة والمراد بها القوة. ومن اين للانسان وغير الانسان القوة والقوة كلها لله تعالى؟! وهذا ايضا واضح فالغرض تنبيه الانسان وتذكيره بما يغفل عنه او يتغافل. ولا يبعد بقرينة السياق أن يكون المراد بهذا التحدّي عدم التمكن من الفرار من عذاب يوم القيامة ويحتمل أن يكون عاما من هذه الجهة فيشمل عذاب الدنيا ايضا ولكن الخطاب على كل حال موجّه للثقلين في هذه النشأة.

وفي الميزان أن هذا من خطابات يوم القيامة. وقال بذلك ايضا جمع من مفسري العامة وورد في بعض الروايات أن الله تعالى يجمعهم يوم القيامة وتحيط بهم الملائكة ويأتيهم هذا الخطاب. والروايات ضعيفة.

وهذا الاحتمال بعيد جدا لأن التحدّي يناسب هذه النشأة فان هناك من البشر من يتوهم أنه غير ملاحق وغير مأخوذ بل هناك من الفراعنة والجبابرة من يقارن ملكه وجبروته بملكه تعالى كما قال فرعون (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى)[1] وأما يوم القيامة فان الانسان يكشف عن بصره ويرى الحقائق بعينه بل بكل وجوده فلا يمكنه أن يتصور أنه يمكنه الفرار من حكومته تعالى. مضافا الى أن التعبير بالخروج من السماوات والارض اي الكون كله لا يناسب حالهم في الآخرة بل المناسب هناك أن يتحدون بعدم تمكنهم من الخروج من النار لا من الكون.

ومن الغريب ما قاله بعضهم من أن الآية تتعرض لسفر الانسان الى الفضاء وأن ذلك لا يمكنه الا بسلطان وهو العلم وقد زوّد الانسان بأجهزة تمكّنه من السفر وأن الآية لا تنفي ذلك.

وهذا كلام باطل من جهة أن الآية تخاطب الجن والانس، والجنّ يتمكنون من السير في الفضاء مضافا الى أن النفوذ اذا تعدّى بـ(في) يدلّ على الدخول واذا تعدّى بـ(من) يدل على الخروج تقول نفذ الرمح في الهدف اذا دخل فيه وثبت واذا قلت نفذ من الهدف كان معناه أنه دخل فيه وخرج منه. ومضافا الى أن الآية تدلّ على عدم تمكن الثقلين من الوصول الى ذلك كما في الآية التالية.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ... خطاب تهديد كما مر.

يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ... الشواظ: اللهب من دون دخان. والنحاس: الصفر. وقيل الدخان بدون نار. ولكنه لو صح فلا يناسب المقام فالظاهر أن المراد القاء لهب النار والصفر المذاب عليهم. والانتصار: الامتناع اي لا تقدران على المواجهة ودفع العذاب. وقيل بمعنى التناصر اي لا ينصر بعضكم بعضا وهو غير مناسب.

والكلام في موقع هذه الجملة فان الظاهر أنها لبيان عدم تمكنهم من النفوذ وأنهم ليس لهم سلطان على ذلك. ولكن ينشأ من ذلك تساؤل لم أجد من تعرض له وهو أن مفاد الآيتين سيكون حينئذ أنكم لا تستطيعون الخروج من أقطار الكون بسبب هذا العذاب فلو فرض عدم نزول العذاب لكان بامكانهم ذلك مع أنه مستحيل بذاته. فما هو المراد بهذه الآية؟؟

ومن قال بأن الآية من خطابات يوم القيامة كما في الميزان فلا يهمه هذا السؤال لان التعجيز هناك بالنار والعذاب ولعله لذلك رجّحه في الميزان. فالمعنى على هذا الفرض ان من يحاول الفرار والخروج من النار فانه يلاقي ذلك وقيل ان الملائكة التي تحيط بهم يلقون ذلك على من يحاول الفرار.

وفي المجمع أن هذا مجرد فرض فالمعنى أنه لو فرض أن أحدا حاول الفرار من حكومة الله تعالى في هذه النشأة فانه يلقى عليه العذاب. وهو بعيد عن مفاد الآية مع أنه فرض للمحال ولا حاجة فيه الى العذاب والى أين يحاول الفرار؟!

والظاهر أن المراد بهذه الآية نزول العذاب عليهم بسبب أنهم انما طلبوا وتمنوا الخروج من أقطار السماوات والارض ليتسنّى لهم العصيان والطغيان على ربهم ومثل ذلك ما روي في حديث عن الامام الحسين عليه السلام ان رجلا قال له: اني رجل عاص ولا أصبر عن المعصية فعظني بموعظة فقال: (افعل خمسة أشياء واذنب ما شئت فأول ذلك لا تأكل رزق الله واذنب ما شئت والثاني اخرج من ولاية الله واذنب ما شئت والثالث اطلب موضعا لا يراك الله واذنب ما شئت والرابع اذا جاء ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك واذنب ما شئت والخامس اذا أدخلك مالك النار فلا تدخل في النار واذنب ما شئت).[2]

والغرض من ذلك بيان أن وجوب الاطاعة في غيره تعالى يستند الى أمره فكل رسول تجب اطاعته لانه تعالى أمر بها وكذلك اولي الامر بمعنى المعصومين عليهم السلام وأما وجوب اطاعته تعالى فهو حكم عقلي يستند الى أحد أمرين فاما أن يكون الانسان عارفا بحقه تعالى فيطيعه لمعرفته ولشكر نعمائه ولعل قوله عليه السلام (لا تأكل رزق الله...) اشارة الى ذلك واما أنه يتبنّى اطاعته خوفا من عقابه فاذا أراد المعصية فعليه أن يبحث عن طريق للفرار من عقابه وهذا ما ورد في الآية الكريمة والحديث الشريف. فمعنى الاية بناءا على ذلك أن من يحاول الفرار من حكومته تعالى بطغيانه على ربه وعصيانه لاوامره فانه وان وجد في الحياة الدنيا مجالا وفسحة الا أنه لن يفلت من عذاب يوم القيامة فلا ينتصر الطغاة من الثقلين في النهاية وعليه فالمراد بشواظ النار والنحاس عذاب يوم القيامة.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ... الكلام فيها كسابقتها.

 


 طه: 71[1]

 بحار الانوار ج75 ص126[2]