مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ... بهذه الجملة المستقلة يبين زمان ارسال الشواظ من النار والنحاس، وهو يوم القيامة. والوردة معروفة. فيمكن أن يكون التشبيه بلحاظ اللون كما قيل. ويمكن أن يكون بلحاظ التشقّق، فإنّ الوردة أوراقها متفرقة وتفتح المجال للعبور، فيكون التشبيه من جهة أنّ السماء في ذلك اليوم ليست سدّا منيعا لا يجتازها الانسان، على الاختلاف في معنى الانشقاق كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

وقوله (كالدّهان) تشبيه آخر وخبر آخر لـقوله (كانت) اي تكون السماء بالانشقاق كالدّهان، وهو الدهن المذاب، كماقال تعالى: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ)[1] والمهل: النحاس الذائب. وقيل: ضرب من القطران سائل كالزيت. وقيل: إنّ الدهان والمهل كلاهما بمعنى خثارة الزيت. و(اذا) ظرفية تفيد معنى الشرط والمعروف ان جزاءها مقدر ليذهب الذاهب فيه كل مذهب، وتدل عليه نوعا ما الآية السابقة واللاحقة. وفي مغني اللبيب [2] أن الجواب قوله (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه انس ولا جان) وأن الآية التالية جملة معترضة. 

وفي المراد بانشقاق السماء احتمالان:

الاول: أن المراد انهدام هذا النظام الكوني كما ورد في آيات اخرى. كقوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)[3] بناءا على أن التبديل بمعنى تبديل الذات لا الوصف. ولا ينافي ذلك كون البروز لله الواحد القهار من صفات يوم القيامة، لأنّ المراد أنّ الارض يوم البروز غير الارض، ولا تدلّ الآية على أنّ ذلك اليوم ظرف التبدّل.  

واوضح منه قوله تعالى (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)[4] وذلك لدلالة الجملة الثانية أنّ هذا الخلق يزول بتمامه فلا يبقى شيء ثم يعيد الله الخلق كما بدأه. ويبعد إرادة إعادة البشر فقط.

الثاني: أنّ المراد بالسماء ليس ما يقابل كوكب الارض من أفلاك ونجوم، بل المراد عالم الغيب والتجرّد. ومعنى انشقاقها وانفطارها وانفتاحها وكشطها وانفراجها ومورها ــ كما وردت هذه التعابير في آيات مختلفة ــ هو انكشاف الغمام وزوال الابهام عن الانسان في تلك النشأة، وتمكّنه من الارتباط بالملائكة، ورؤيتهم بما يناسب تلك النشأة من الرؤية، والتحدّث اليهم. قال تعالى (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ..)[5] والتحدث معهم ورد في موارد عديدة منها قوله تعالى (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ).[6]

والدليل على هذا التفسير قوله تعالى (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا)[7] فإنّ معنى تشقّقها بالغمام اي تشقّقها عن الغمام، وهو الحجاب والستر الموجود بين الانسان وعالم الغيب. والجملة الثانية تفسر التشقّق بأنّ المراد نزول الملائكة، وليس هو النزول من مكان مرتفع الى مكان منخفض، بل هو زوال سموّهم وترفّعهم من أن ينالهم الانسان ويصل اليهم. والامر في الواقع بالعكس فالانسان هو الذي يرفع عنه الحجاب وتنكشف له الحقائق قال تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[8] والتعبير عن ذلك بنزول الملائكة من التعبير الكنائي عن احد المتلازمين بالآخر.

وهذا المعنى هو الظاهر ايضا من قوله تعالى (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا)[9] فإنّ السماء حسب هذه الآية لا تزول، وإنّما تكون واهية مسترخية، والملك على أرجائها، فيتمكن الانسان من الارتباط بهم. والارجاء جمع رجا أي الجوانب. وهو الظاهر ايضا من قوله تعالى (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا)[10] حيث فرضت السماء باقية مفتوحة، وهي كأنّها أبواب للوصول الى عالم الغيب، حيث الملائكة الكرام.     

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ...

فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ... في الجملة تقديم وتـأخير اي لا يسأل انس عن ذنبه ولا جانّ والجملة يمكن ان تكون مستأنفة او جوابا لقوله (اذا انشقت السماء) كما مر والمعنى واضح وتنكير الانس والجانّ في موضع النفي يدلّ على الشمول. وربما يتوهم أنها تنافي ما أكّد فيه عمومية السؤال كقوله تعالى (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * عَمَّا كانُوا يَعْمَلُون‏)[11] وحاول بعضهم التأويل ولكن الآية التالية قرينة واضحة على أن المراد بنفي السؤال هنا نفيه كطريق لمعرفة المجرم فليس الحال هناك كما هنا حيث لا يعرف المجرم الا ببحث وتمحيص ومع ذلك ربما يشتبه الامر على المحقق بل يعرف المجرمون هناك بسيماهم. وقيل ان مثل هذه الآية قوله تعالى (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)[12] ولكنه غير صحيح فان مورد هذه الآية عذاب الدنيا.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ...

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ... مرّ الكلام حول معنى الاجرام وقلنا انه لا يستبعد بالنظر الى جذور هذه الكلمة حيث تعني القطع أن يكون المراد به في هذا المجال الكفر والشرك بحيث يقطع الانسان صلته بربه كما أنه في مجال العلاقات الاجتماعية يراد به الجرائم العظيمة التي توجب قطع الصلة بين مرتكبها والمجتمع. والسيما والسيماء: العلامة. فالمعنى أن للمجرم علامة واضحة تميزه عن الآخرين بل كل انسان يعرف باعماله فليس هناك حجاب. والنواصي جمع ناصية وهي قصاص الشعر في مقدم الرأس. واللام بدل عن المضاف اليه اي يؤخذ بنواصيهم وأقدامهم ويلقى بهم في النار. والظاهر أن المراد بذلك الجمع بين النواصي والاقدام حين الالقاء وهو منظر مهين جدا.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ...

هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ... المعروف في تفسير الآية أن هذا خطاب تبكيت لهم ذلك اليوم. ولكنه بعيد والا لقال هذه جهنم التي كذبتم بها او كذّب بها المجرمون لا أنهم يكذبون بها فالظاهر انه خطاب في الدنيا والمخاطب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم او كل سامع وقارئ بأن هذه النار الموصوفة بالاوصاف التي عرّفها بها القرآن هي جهنم التي يكذّب بها المجرمون في الدنيا فكيف يكون حالهم حين يشاهدونها؟! وعليه فالمراد تصوير المشهد كأنه حاضر فعلا حين مخاطبة المشركين في الدنيا وكأنهم يشاهدونها ويشاهدون كيف يؤخذ بالنواصي والاقدام ويلقى المجرمون فيها وهم مع ذلك يكذبون بها وينكرونها.

يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ... الحميم الماء الحار شديد الحرارة و(آن) اسم فاعل من أنى يأني اذا بلغ الشيء غايته ومنتهاه فالمعنى أنهم يترددون بين جهنم وبين ماء مغلي شديد الحرارة قد بلغ من الحرارة منتهاها ولعله بحيث لو تجاوز هذا الحد لتبخر.

وتردد المجرمين بين الامرين مما اشير اليه في سورة الصافات ايضا قال تعالى في شأن الزقوم: (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ)[13]  ويبدو من هذه الآيات أنهم يأكلون من الزقوم فلا يشبعون وانما يمتلئون فيطلبون الماء فيذهبون الى ماء الحميم ليشربوا منه فلا يروون ايضا وهكذا يترددون بين انحاء العذاب حيارى. ومثل ذلك قوله تعالى (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا).[14]  ولعل الغرض من بيان هذه الاوصاف تهديد الانسان وتخويفه ليهتم بشأن الآخرة والمستقبل المظلم الذي سيلاقيه. ويكفي للانسان العاقل ولبعث الاهتمام فيه مجرد الاحتمال لاهمية المحتمل غاية الاهمية.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ...

 


 المعارج : 8[1]

    مغني اللبيب ج2 ص398[2]

 ابراهيم: 48[3]

 الانبياء: 104[4]

 الفرقان: 22[5]

 الزخرف: 77[6]

 الفرقان: 25[7]

 ق: 22[8]

 الحاقة: 16- 17[9]

 النبأ: 19[10]

 الحجر: 92- 93[11]

 القصص: 78[12]

 الصافات: 66- 68[13]

 الكهف: 29[14]