مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ... يعود السياق الى مخاطبة الذين آمنوا والى حثّهم على الجهاد في سبيل الله تعالى. والاستفهام للعرض كأنه يريد أن يعرض عليهم متاعا ينفعهم ويسمي ما يعرضه عليهم تجارة فهم يدفعون ثمنا ويكسبون به ربحا عظيما لا يقدّر بقدر والتنكير للتعظيم وقوله (تنجيكم..) جملة وصفية للتجارة فهي مضافا الى النفع العظيم تنجيهم من عذاب أليم. والعرض من الله تعالى فما أعظم النعمة في نفس الخطاب فضلا عما وعدهم به لو كانوا يعلمون؟!

تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ... جملة استينافية تفيد الامر وتفسّر التجارة المذكورة. قيل حيث كان الخطاب للذين آمنوا فالأمر بالايمان قبل الجهاد بمعنى الجمع بينهما لان الايمان حاصل بالفرض. وهو غير صحيح بل المراد بالايمان المفيد في التجارة مرحلة اخرى من الايمان فلا يفيد في التجارة مجرد التشهد بالشهادتين وتسجيل الاسم في ديوان المؤمنين بل الثمن اللازم للجنّة الايمان الكامل والشامل والعميق الذي يستلزم التضحية بالنفس والنفيس بكل رحابة صدر واطمئنان. ثم لا يكفي الايمان بالله تعالى بل لا بد من الايمان برسوله وهو التسليم لامره بكل خضوع بحيث لا يشعر الانسان بحرج في صدره من امتثال أوامره والتسليم لها مهما كانت وفي أي مجال كما قال تعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).[1]

والجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في محاربة العدو وهوى النفس. واصله من الجهد وهو الطاقة فكأنه يفرغ كل طاقته في بذل المال والنفس فيبذل كل ما لديه من مال او جلّه بحيث لا يبقى له الا القليل ويبذل نفسه بمعنى أنه يوقعها في الاخطار ويصارع الموت ولا يهتم بنفسه في هذا السبيل ولا يخاف القتل وهذا في غاية الصعوبة. وكون الجهاد في سبيل الله تعالى يحدّد النية والهدف فهناك من يبذل نفسه وماله ولكن في سبيل الوطن او الدفاع عن النفس او الاهل او العشيرة ونحو ذلك فهذا وان كان مطلوبا بل ربما يكون واجبا الا انه خارج عن حدود هذه التجارة وليس ثمنا للجنة ان لم يقصد به التقرب الى الله تعالى.

ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ... هناك بحث وخلاف في معنى هذه الشرطية ونظائرها. واحسن ما قيل في ذلك ان الجزاء هو العلم بالخيرية لا نفسها فجملة (ذلكم خير لكم) تامة وقوله (ان كنتم تعلمون) جملة شرطية مستقلة ان كنتم تعلمون ذلك لكنتم تعلمون ان الجهاد خير لكم. ولا شكّ أن الجهاد خير للانسان ان كان مؤمنا بالله واليوم الآخر لأن البقاء في الدنيا للمؤمن لا قيمة له حتى لو لم يكن هناك ما يدعو الى الجهاد فهو يعلم أن الحياة الدنيا انما هي مزرعة والفائدة منها ما يحصده ويحصل عليه يوم القيامة فكل ما يصرفه في سبيل عمران الدنيا واطالة بقائه فيها والتنعم بنعمها خسارة لا يعرف حدّها الا بعد الموت وانما يربح في ما يصرفه في هذه الحياة من مال وجاه وطاقة جسمية للحصول على الربح والغنيمة في الحياة الآخرة. وهذا الايمان هو المراد بالعلم في هذه الجملة فيكون محصلها أنكم ان علمتم وآمنتم بأن الآخرة هي الحياة وأن الدنيا لا قيمة لها لولا الوصول بالعمل فيها الى ثواب الآخرة لعلمتم أن الجهاد خير لكم مطلقا او خير من البقاء في الدنيا. 

يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ... جزاء شرط محذوف تدل عليه الجملة السابقة اي ان آمنتم وجاهدتم يغفر لكم.. وغفران الذنوب: سترها. ولا شك أن ستر الذنوب هو الشرط الاول للسعادة والتنعم بالجنة في تلك الحياة فلولاه لكان الانسان ناكس الرأس أمام من يعرفه وان فاز بالجنة بل الظاهر أن الغفران يشمل الستر عن نفسه ايضا فان من أعظم العقوبات هو تذكر الاعمال السيئة. ولعل ذكر المساكن الطيبة بمناسبة أن المجاهد ترك بيته ومسكنه وحضر ميادين القتال. و(عدن) بمعنى الثبات والاستقرار ومنه المعدن فالمعنى أن تلك الجنات محل استقرار وثبات لا يخرجون منها ولا يبغون عنها حولا. والفوز هو الظفر بما هو المطلوب في اي نشاط يمارسه الانسان فقد يفوز الانسان في الحرب او في مسابقة او في تجارة وأعظم ما يفوز به هو الجنة ولذلك عبر عن ذلك بما يدل على الحصر.

وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ... اي ونعمة اخرى تحبونها و(تحبونها) وصف آخر للنعمة المقدرة. وفي هذا التوصيف تعريض لان المفروض أن المؤمن يرجّح الآخرة على الدنيا ولا يهتم بالنعم العاجلة ولكن هذه طبيعة الانسان العجول مضافا الى شك خفيف يختلج القلوب فتبحث عما يوجب طمأنينتها واستقرار ايمانها. وتوصيف الفتح بالقريب لان الفتح البعيد حاصل لا محالة ولكنهم يتلهفون الى فتح قريب على الاعداء الألدّاء وهم مشركو مكة فوعدهم الله تعالى بذلك وهو من الاخبار الغيبية التي تحققت في وقت قريب كما وعده الله تعالى حيث فتحت مكة وانكسرت شوكة الاعداء وانتشر الدين في الجزيرة العربية ولله الحمد. ثم أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بأن يبشر المؤمنين بما مرّ ذكره من البشارات. 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ... لم يقل انصروا الله بل قال كونوا أنصاره بحيث تكون نصرتكم لله تعالى هي السمة التي تتسمون بها ولذلك شبه هذا العنوان بحواريي عيسى عليه السلام. وطلب النصرة مما تكرّر في القرآن الكريم مع التأكيد على أن النصر من الله تعالى فالمراد بالنصرة هنا نصرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ونصرة دينه وهو أمر يعود بالنفع الى الانسان نفسه والله تعالى غني عن عباده وهو واضح الا أن في هذا التعبير تشجيع للمجاهدين في سبيل الله تعالى وتشريفهم بوسام شرف لا يضاهيه شيء.

كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ... (ما) في (كما قال) مصدرية اي كقول عيسى.. والتشبيه ليس على ظاهره بل المراد تشبيه كونهم انصار الله بكون الحواريين انصاره وهذا نظير تشبيه الحياة الدنيا بالمطر في موارد عديدة كقوله تعالى (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ..)[2] والغرض ان المطلوب من المؤمنين ان يكونوا كالحواريين حيث قال لهم عيسى من أنصاري الى الله فقالوا نحن انصار الله فأصبحت هذه سمتهم يعرفون بها بل أرسلهم رسلا في البلدان على ما قيل. والحواريون انصار سيدنا المسيح عليه السلام واختلف في اصله اللغوي فقيل ان الاصل فيه التحوير اي تبييض الثوب وأنّ القوم كانوا قصّارين اي عملهم غسل الثياب وتبييضها وهو أمر مستبعد ولا دليل عليه. وحكي عن ابن الاعرابي أن الحواريّ: الناصح واصله الشيء الخالص وكل شيء خلُص لونه فهو حواريّ والحواريّات من النساء النقيات الالوان والجلود وعن الزجّاج ان الحواريّون خلصاء الانبياء وصفوتهم وقال ما معناه أن تاويله في اللغة الذين اُخلصوا ونُقُّوا من كل عيب وكذلك الحُوّار من الدقيق وأن اصل التحوير الترجيع فكأنّ هذا الانسان روجع في اختياره مرة بعد اخرى فوجد نقيا من العيوب. ولا باس بما قال.

ومثل هذا الحوار ورد في قوله تعالى (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّـا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[3] اي فلمّا أحسّ أن بني اسرائيل معظمهم لا يؤمنون به طلب من الحواريين وهم خواصّ أصحابه أن يكونوا أنصاره في طريقه الى الله تعالى اي في طريق أداء رسالته التي اُمر بايصالها الى الخلق. ويتبين من ذلك أن المراد بقوله تعالى هنا (كونوا أنصار الله) اي أنصار الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في أداء رسالته ونشرها.

ويلاحظ الفرق بين طلب السيد المسيح عليه السلام وجواب الحواريين والعبارة منقولة بنفس الصيغة هنا وفي سورة آل عمران فهو عليه السلام طلب منهم ان يكونوا انصاره الى الله وهم اجابوه (نحن انصار الله) ولعل السبب انه عليه السلام طلب منهم مساعدته في نشر الدعوة فيكونون انصاره في الواقع الا انه ربط هذه النصرة بالله تعالى ليثير فيهم الرغبة الى العمل وتمكن فعلا من ذلك فاجابوه بانهم انصار الله تعالى في اي مهمة سواء في نشر دعوتك او اي امر اخر تستدعيه نصرة الله تعالى اي نصرة دينه.

فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ... التأييد: التقوية. وظاهرين اي غالبين. ويبدو من السياق أن الحواريين بعد قبولهم دعوة عيسى عليه السلام انتشروا في البلدان ونشروا دعوته فآمنت طائفة وكفرت طائفة وتحوّل الامر الى صراع بين الطائفتين والله تعالى نصر المؤمنين به وأيّدهم فغلبوا على كفرة بني اسرائيل وهم المراد بعدوهم. والعدو يطلق على المفرد والجمع. والظاهر ان المراد غلبة اتباعه عليه السلام على اليهود طيلة التاريخ واليهود الى يومنا هذا من الذين كفروا بعيسى عليه السلام والا لكانوا يتبعونه فانه صاحب الشريعة الجديدة وهذا يعلم بوضوح بملاحظة ايات سورة ال عمران في هذا الموضوع حيث قال تعالى (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ..)[4] والمراد بالذين مكروا الذين كفروا به من بني اسرائيل وقوله تعالى (الى يوم القيامة) يدل على ان المراد بغلبة اتباعه هذه الغلبة المستمرة فان اتباع المسيح عليه السلام ولو بالاسم والظاهر اكثر بكثير واقوى من اليهود الكافرين برسالته.

وفي ذلك اشارة الى أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم اذا آمنوا به ايمانا كاملا وأطاعوا أمره وكانوا ثابتين في نصرته لا في خصوص ميادين الجهاد بل في سبيل نشر الدعوة فان الله تعالى سينصرهم على أعدائهم. وقد تحقق ذلك بحمد الله وفضله فآزره صلى الله عليه وآله وسلّم جمع كثير ممّن اتبعوه ونشروا الدعوة وأبلوا في ذلك بلاءا حسنا وعلى رأسهم أمير المؤمنين عليه السلام فنصرهم الله تعالى على أعدائهم ومحقهم وأخزاهم. والحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسلام على رسوله الامين وآله الميامين.

 


[1] النساء: 65

[2] الكهف: 45

[3] ال عمران: 52

[4] ال عمران: 54- 55