مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ... اي واذكروا اذ قال موسى.. والخطاب للذين آمنوا والغرض الاستشهاد بتعامل بني اسرائيل مع الرسولين موسى وعيسى عليهما السلام وأن تخلفهم عن اطاعتهما بل مباشرتهم لايذائهما تسبب في انحراف بني اسرائيل عن دينهم وعن موضعهم الاجتماعي الذي أراده الله تعالى لهم في العالمين بأن يكونوا حاملي الرسالة الالهية وفضّلهم بذلك على العالمين كما في آيات عديدة. والظاهر أن المراد تحذير الامة الاسلامية من سلوك نفس المسلك حيث بدت بوادره في مخالفتهم لامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في غزوة احد مما أدّى الى هزيمتهم واستشهاد خيارهم فأراد الله تعالى أن يتمّ عليهم الحجة بتحذيرهم من تبعات الاستخفاف بأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ونهيه. ليكونوا على بيّنة من أمرهم ومما يفضي الى هلاكهم وزوال ما وهبهم الله تعالى من النعم المادية والمعنوية ببركة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم.

والواقع أن كل هذه التحذيرات المتكررة في الكتاب العزيز لم تحل بين بعض من سوّلت له نفسه وبين الركض وراء الاهواء فانتهت الامور الى ما انتهت اليه من تفرّق الامة وتشتّت احزابها وابتعادها عن المسلك الحق الذي وضعه الله لها وتحقّق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من أن هذه الامة تسير على ما سارت عليه الامم السالفة حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلوه. وقد ورد هذا المضمون في عدة روايات في كتب الفريقين وقد خصص له البخاري في صحيحه بابا بعنوان (بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَتْبَعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) فروى عن ابي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلّم انه قال (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسَ وَالرُّومِ فَقَالَ وَمَن النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ) وروى ايضا عن ابي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم انه قال (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ؟!)[1]

وهذا ما أشار اليه الكتاب العزيز في مواضع عديدة حيث ذكر الاقوام المتتالية وعبّر عن مواقفهم تجاه الرسل بقول واحد وجملة متكررة مما يوحي بتوافق البشر طيلة التاريخ على فكرة واحدة بل صرح به في قوله تعالى (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)[2] فكأنّ كل سلف يوصي الى خلفه باتباع نفس الطريقة والاجابة بنفس الجواب. بل هناك آيات عديدة تشير الى اختلاف الامم السابقة بعد رسلهم وبعد اتمام الحجة عليهم وبعد ايمانهم بالرسالات وأنهم ما اختلفوا الا بغيا بينهم وفي كل ذلك اشارة الى ما سيحدث في هذه الامة.

فمنها قوله تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).[3] وقوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ[4]) وقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[5] وغيرها من الآيات.

والحاصل أن الاستشهاد هنا بما مرّ على قوم موسى وعيسى عليهما السلام يأتي في سياق الآيات التي تندّد بتقاعس القوم عن الجهاد ومخالفتهم لاوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. والمراد بايذاء قوم موسى عليه السلام على ما يبدو من السياق هو مخالفتهم لاوامره وخصوصا في مورد جهاد الاعداء حيث قالوا (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)[6] وفي عبادتهم للعجل ونحو ذلك.

وقيل ان المراد به ما أشار اليه تعالى في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا)[7] وقد مرّ الكلام في تفسير الآية وأن المراد بالاذية فيها خصوص اتهامه عليه السلام بأمر لا يناسب وجاهته عند الله بقرينة ذيل الآية وهذه القرينة مفقودة هنا وليس هناك وجه مشترك بين الآيتين الا التعبير بالايذاء.

وقوله (وقد تعلمون) جملة حالية اي لماذا تؤذونني وأنتم تعلمون بما رأيتم من الآيات أنّي رسول الله اليكم؟! وكيف يمكن للمؤمن بالله تعالى أن لا يحترم ويوقّر رسول ربّه فهذا ينافي الايمان بالله والتذلل له؟! و(قد) لتحقيق الحال وليس للتقليل والاتيان بالفعل المضارع للاشارة الى استمرار ما يوجب العلم بذلك اي الآيات والمعاجز. وقوله (يا قوم) بحذف ياء المتكلم اي يا قومي وفيه نوع من التودد والتعاطف وهكذا في كل العبارة المحكية حيث يستفسر عن سبب الايذاء مع كونه رسولهم من عند ربهم فكأنه يبرئ ذمته عن كل ما يبرر الايذاء فهو لم يرتكب اثما ولم يظلم منهم أحدا فبماذا يستحلون ايذاءه عليه السلام؟!

فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ... الزيغ: الميل الى جانب والمراد انحرافهم عن الطريق الذي عيّنه الله تعالى لهم والنتيجة أن الله تعالى جازاهم بأن أمال قلوبهم فلا يرون الحق ولا يهتدون السبيل. وهذه نتيجة طبيعية للانحراف عن الحق بعد معرفته وانما ينسب اليه تعالى لان كل امر طبيعي مستند الى ارادته التكوينية. وقد وردت الاشارة الى هذه الحقيقة في موارد عديدة من القرآن.

وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ... جملة تعليلية فالقوم فسقوا باختيارهم فأتاهم الجزاء من ربهم بتركهم في ظلمات والانسان لا يهتدي ان لم يهده الله كما قال تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)[8] وهذا هو الزيغ وميل القلب الحاصل بالطبع من انحراف الانسان عمليا عن هدايات ربه. والحاصل أنه تعالى لا يضلّ أحدا ابتداءا بل هو يهدي الجميع الا أن الانسان بسوء اختياره يسلك سبيل الباطل ويصرّ على مخالفة ربه وايذاء رسوله فيقلب قلبه وتمحى بصيرته.

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ... تذكير برسالة عيسى عليه السلام وتعامل بني اسرائيل معه وهو رسول اليهم من أنفسهم وقد أبلغهم أنه ليس بدعا من الرسل وانما جاءهم مصدّقا للرسالة السابقة ومبشرا بالرسالة اللاحقة فالرسالات كلها من عند الله وعلى أساس واحد ودين واحد وانما تختلف الشرائع في ما تقتضيه المرحلة التي وصلت اليها البشرية من فهم الدين ومعرفة الله سبحانه ولا تختلف الاحكام بتطور الحضارات كما يتوهم. والفرق بين الخطابين أن موسى ناداهم يا قومي وعيسى ناداهم يا بني اسرائيل والسبب أنه كان لموسى عليه السلام يد عليهم حيث جمعهم تحت لواء واحد وأنجاهم من فرعون وجنوده وتشكلوا أمة واحدة بامامته ومن هنا كان أشبه الرسل برسولنا صلى الله عليه وآله وسلّم وأما عيسى عليه السلام فلم يتمكن من ذلك في حياته وانما آمن به جمع قليل منهم.

وكون عيسى عليه السلام مصدّقا بالتوراة ورد في الاناجيل الموجودة لدينا ايضا فقد ورد فيها انه عليه السلام أمرهم بالعمل بما في الناموس والمراد به التوراة كما ورد في كتبهم منها ما ورد في انجيل متى (لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ)[9] والقرآن ايضا يصرّح بأنه عليه السلام انما رفع عنهم بعض ما كلّفهم الله تعالى لبغيهم قال تعالى (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ..)[10] وهناك أحكام شرّعت على اليهود جزاءا كما في قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ..)[11] وقوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ..).[12]

وأما بشارته بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فقد ورد ايضا في مواضع اخرى من القرآن قال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ..)[13]  بل ورد ذكر الذين معه ايضا كما في آخر سورة الفتح.

ويظهر من شعر ابي طالب عليه السلام أن البشارة كانت موجودة في ما وجده العرب من الكتب السابقة مع أن أهل الكتاب كانوا يمتنعون من نشر هذه الحقائق قال عليه السلام:

(ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا - نبيا كموسى خط في أول الكتب)

ويقال ان هناك مواضع في الاناجيل الموجودة بأيدينا يظهر منها البشارة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وهي مجموعة في كتب الّفت لهذا الغرض. ونذكر هنا خصوص ما ذكر بشأن هذه البشارة اي التعبير بهذا الاسم الكريم (احمد). ففي تفسير الفرقان أن في انجيل يوحنا ما ترجمته بالعربية وهو من اصل يوناني (وأنا أطلب من الآب (الخالق) فيعطيكم (بيركلتوس) آخر ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم).

وفي موضع آخر منه (ومتى جاء (بيركلتوس) الذي سأرسله أنا إليكم من الآب (الخالق) روح الحق من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء).

وفي موضع آخر ايضا (لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن انطلق. لأنه إن لم انطلق لا يأتيكم (البيركلتوس) ولكني ان ذهبت أرسله إليكم).

ويقول المؤلف ما خلاصته (ان ترجمة الآب بالخالق هو الموافق للغة اليونانية وقد حرّفت الكلمة الى الأب ليطابق ما توهموه من أن المسيح ابن الله سبحانه واما كلمة بيركلتوس فهو في اللغة اليونانية بمعنى الاكثر حمدا وهو مطابق لاسم احمد ولكن المحرفين حرّفوا هذه الكلمة الى باراكلتوس وبالحروف العربية فاراقليط حتى يعني (المسلّي) وفسّروه بروح القدس الذي كان مع المسيح عليه السلام يسلّيه ويؤيّده وزعموا أن هذا الروح مع قساوستهم بموجب هذا النص فهم ايضا كالمسيح عليه السلام يوحى اليهم).

هذا ولكن بعض العبارات المنقولة آنفا لا تحتمل هذا الحمل حتى لو وافقنا هذا التحريف لانه يقول في الموضع الاخير انه خير لكم ان انطلق لانه ان لم انطلق لا يأتيكم البيركلتوس وهل كان روح القدس ينافي وجود المسيح عليه السلام فلا ينزل الا بعد ذهابه من بينهم؟! ويؤيد ذلك اعتراف بعض الخبراء ففي التفسير المذكور ينقل عن فتحي عثمان في كتابه (مع المسيح في الأناجيل الأربعة ص 348) قلت له (اي الدكتور كارلونلينو): (ما معنى بيركلتوس؟ فأجابني: ان القسس يقولون معناها المعزي، فقلت: إني اسأل الدكتور (كارلونلينو) الحاصل على شهادة الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة فقال: ان معناه الذي له حمد كثير، فقلت: هل ذلك يوافق أفعل التفضيل أحمد؟ فقال: نعم، فقلت ان رسول الإسلام من أسمائه احمد!) ويؤيده ايضا عدم اعتراض علماء اليهود والنصارى على هذه الدعوى ومنهم من آمن بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولم ينقل عنهم تشكيك في وجود هذه البشارات في العهدين.

وقد اعترض بعض المؤلفين على الآية الكريمة بأن البشارة انما كانت بأحمد والرسول صلى الله عليه وآله وسلّم اسمه محمد ولم نسمع له هذا الاسم. ولكن الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلّم كان يسمى بالاسمين وذلك يظهر بوضوح بملاحظة أشعار ابي طالب عليه السلام فقد تكرر فيها تسميته بأحمد.

فمنها قوله عليه السلام في لاميته المعروفة:

لعمري لقد كُلِّفْتُ وجدا بأحمد – وأحببته حب الحبيب المواصل

ومنها قوله يخاطب حمزة عليهما السلام:

فصبرا أبا يعلى على دين أحمد – وكن مظهرا للدين وفقت صابرا

نبي أتى بالدين من عند ربه – بصدق وحق لا تكن حمز كافرا

فقد سرني اذ قلت لبيك مؤمنا – فكن لرسول الله في الدين ناصرا

وناد قريشا بالذي قد أتيته – جهارا وقل ما كان أحمد ساحرا

الى غير ذلك بل ورد ايضا في شعر غيره مما لا حاجة الى ذكره.

فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ... الظاهر أن الفاعل ضمير غائب يعود الى عيسى عليه السلام والضمير المنصوب يعود الى بني اسرائيل والمراد بالبينات المعاجز والآيات الباهرة كاحياء الموتى وابراء الاكمه والابرص. والغرض من الآية كما مر تنبيه المسلمين على أن لا يكونوا كبني اسرائيل حيث انهم عاملوا رسولهم بالايذاء والتكذيب واتهامه بالسحر وكان بين من آمنوا بالرسول صلى الله عليه واله وسلم في الظاهر من بقي على اعتقاده ايام الجاهلية بل لعل بعضهم لمّا رأى بعض ما لا يروقه من الاحكام او سمع بعض ما لا يعجبه من كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في تفضيل بعض على بعض ساوره الشك والاتهام بالسحر وغير ذلك. وهناك مما ينقل في الروايات والتاريخ ما يقرّب هذا الاحتمال حيث نجد ان بعض الاقربين لدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وبعض الصحابة تفوّهوا بكلمات في لحظات حساسة ينمّ عمّا في الصدور فكيف بغيرهم؟! ومن هذا القبيل قول من قال (أرى ربك يسارع في هواك) ومن قال (اعدل يا محمد) او (ان الرجل ليهجر) ونحوها.

ولكن كثيرا من المفسرين اعتبر الضمير عائدا الى (رسول ياتي من بعدي اسمه احمد) صلى الله عليه وآله وسلّم والضمير المنصوب الى بني اسرائيل او هم مع غيرهم وأن التفريع من جهة أن عيسى عليه السلام أخبرهم بمجيء الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وبشّرهم به ثم جاءهم بالآيات ومع ذلك لم يؤمنوا به بل اتهموه بالسحر. وقالوا ان السياق لا يساعد على الاحتمال الاول.

وهذا وان لم يبعد في نفسه الا أنه يوجب عدم تناسق الآيات اذ لا يكون حينئذ للاستشهاد بقصة عيسى عليه السلام وجه يناسب الخطاب الموجّه الى الذين آمنوا حيث ان المذكور من قصته عليه السلام مجرد القول بأنه مكمّل للشريعة السابقة ومبشّر بالرسالة اللاحقة ولا يبقى ما يكون موردا لتشبيه الحالتين وتحذير هذه الامة من متابعة نفس الطريق. وانما التزموا بذلك وادعوا انه مقتضى السياق لانهم رأوا أن الآيات التالية تتعرض لحال الكفرة من بني اسرائيل وأنهم لا يؤمنون بالاسلام مع وجود البينات والمعاجز وأنهم يريدون اطفاء نور الله تعالى فيكون مورد هذه الآيات كفرة اهل الكتاب المعاصرين للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كما هو كذلك في مورد آخر نزل فيه مثل ذلك في سورة التوبة (29-33) فبحثوا عن جملة تبحث عن هؤلاء ليصح ارجاع الضمائر اليهم ولم يجدوا الا هذه الجملة فقطعوها عمّا قبلها ليتناسب السياق.

ولكن الظاهر أن السياق يتعرض للكفرة الذين خرجوا من نفس المجتمع المؤمن في عهد موسى وعيسى عليهما السلام وهم المذكورون في الآيتين السابقتين كما يتبين بملاحظة خطاب موسى عليه السلام (يا قوم) وايضا خطاب عيسى عليه السلام لهم بأنه لم يأت بجديد وانما هو مكمل للرسالة التي آمنوا بها ومبشر بما يأتي بعدها فهم مؤمنون ظاهرا ولكنهم كفروا برسولهم وخالفوا أوامره. وهذا هو الذي يناسب سياق الآيات السابقة التي تخاطب الذين آمنوا.

 


[1] راجع صحيح البخاري ج22 ص298 على ما في المكتبة الشاملة

[2] الذاريات: 52- 53

[3] البقرة: 213

[4] ال عمران : 19

[5] الجاثية: 16- 17

[6] المائدة: 24

[7] الاحزاب: 69

[8] الجاثية: 23

[9] انجيل متى الاصحاح الخامس 17 و18

[10] آل عمران: 50

[11] الانعام: 146

[12] النساء: 160

[13] الاعراف: 157