مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ... استفهام انكاري. والافتراء اختلاق الكذب. وجملة (وهو يدعى الى الاسلام) حالية اي ليس هناك من هو أظلم من هذا حيث انه يفتري على ربه من دون عذر اذ لا يدعوه الى ذلك الا عدم التسليم لامر الله تعالى. والمراد بالاسلام الدين او التسليم. والظاهر أن الآيات الثلاث استمرار للسياق وتعقيب على ما سبق من التعرض لموقف بني اسرائيل من الرسولين الكريمين موسى وعيسى عليهما السلام وتحذير لهذه الامة من اتباع نفس المنهج. وعبّر عن تكذيب الرسول بانه يفتري على الله الكذب وذلك لأنه حينما يكذّب الرسول في ما جاء به من الله تعالى وهو لا يعلم ما أرسله الله من معارف وأحكام فينسب اليه خلاف ما جاء به الرسول فيكون بذلك مفتريا على الله تعالى. والانكار يدل على أنه ليس هناك من هو أظلم من هذا المفتري وهو مبالغة يدل على عظم ظلمه حيث ان الواجب عليه عندما يدعى الى الاسلام أن يسلّم الامر الى الله والى الرسول ويرضى بكل ما يحكم به ربه ويبلغه رسوله ولكنه يواجه هذه الدعوة الواضحة بالافتراء على الله تعالى. فمثل هذا أظلم الناس. وقد مرّ أن الظلم يتحقق من دون مظلوم فلا حاجة الى توجيه أن الظلم يقع على نفسه او على مجتمعه او على ربه كما قيل فان الظلم ليس الا وضع الشيء في غير موضعه ولذلك كان الشرك ظلما عظيما.

وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ... لعله اشارة الى تطوّر حال هذا الشخص الى ان بلغ الى حد كونه أظلم الناس وهو أنه ظلم في أول مواجهة له لحكم الله تعالى وامر رسوله وخالف عنادا واستكبارا فتركه الله في ظلمات الجهل والوهم لانه لا يهدي القوم الظالمين فبلغ به الحال الى ان صار أظلم الناس.

يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ... الظاهر أن ضمير الفاعل في قوله (يريدون) يرجع الى كل من كان يفتري على الله الكذب بعدم تصديق الرسول بعد قيام الحجة ومجيء البينات سواء في الامم السابقة ام في هذه الامة وسواء من كان منهم معتنقا الدين في الظاهر ومن بقي في معسكر الاعداء فكل هؤلاء يحاولون بمعاداتهم للرسل اطفاء نور الله تعالى الذي جعله منارا لهداية البشر في الاجيال المتلاحقة. وهذا تعبير يحتوي على استهزاء بهم فان اضافة النور الى الله تعالى للاشارة الى أنه أعظم منبع للنور على وجه الارض بل في الكون أجمع وهو تشبيه لهدايات الرسل بالنور الحسي فهو يشبه الشمس مثلا في ما نراه من الانوار المحسوسة وهم مع هزالهم وضعفهم يحاولون اطفاء هذا النور العظيم بالنفخ بأفواههم وكأن الشمس يتراءى لهم كشمعة مع أن نوره تعالى لا ينطفئ باي شيء فكيف بالنفخ بالافواه؟!

وهناك خلاف بين النحاة في اللام في قوله (ليطفئوا) ومر بعض الكلام حوله في تفسير قوله تعالى (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)[1] وملخصه أن هذه اللام التي تأتي بعد الامر او الارادة تفيد معنى (أن) بحيث لو ابدلتها بها لم يختلف المعنى ويتبين ذلك بوضوح بملاحظة موارد استعمالها في القرآن الكريم وقياسها بمثيلاتها التي استعملت فيها (ان) منها هذه الآية مع قوله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ..)[2] ومنها قوله تعالى (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..)[3] مع قوله (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا..).[4] فلا نجد فرقا بينهما.

وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ... هذه الجملة ترد على محاولتهم اليائسة فهم يريدون اطفاء نوره تعالى ولكنه سيتم نوره وأتى بالجملة الاسمية للتأكيد على أنه واقع لا محالة. والمراد باتمام النور ابقاؤه واكماله الى أن يبلغ حد الكمال المطلوب له وهو ما يبينه في الآية التالية. ومعنى (ولو كره..) أنه تعالى سيتم نوره بالرغم من كراهة الكافرين فانهم لا يمكنهم مقابلة ما أراده الله تعالى وهو واضح وما قيمة هذا الموجود الضعيف الجاهل في مواجهة الكون وخالقه؟! والمراد بالكافرين كل من يكفر بالدين الالهي الذي نزل في زمانه فيشمل في زمان النزول المشركين واهل الكتاب وغيرهم ممن كفر بالرسالة كما يشمل الكفار من الامم السالفة فان هذه الآية عامة والقصد منها اتمام النور الالهي في النهاية.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ... هذه الآية تطبيق للاية السابقة حيث كانت عامة لجميع الاعصار وهذه الآية تخص الرسالة الاخيرة والمراد برسوله هو الرسول الاكرم صلى الله عليه واله وسلم وتقديم الضمير المنفصل للتأكيد على أن الرسالة منه تعالى فهو المتعهد لنصره على مناوئيه وغلبة دينه على الدين كله والمراد بالدين المغلوب هنا جنسه. وهذه الآية تبيّن الحد المطلوب في رسالة السماء من حيث تكاملها وانتشارها ولا تبيّن الغرض من نفس الارسال فانه ليس الا هداية الانسان الى ما يوجب سعادته الابدية بتحصيل رضا الله تعالى فاللام في قوله (ليظهره..) لام العاقبة اي لبيان ما سيؤول اليه الامر وليست للتعليل وبيان سبب الارسال كما قيل.

والباء في قوله (بالهدى) للمصاحبة اي ارسله ومعه الهدى ودين الحق فيمكن أن يكون المراد بالهدى القرآن وبالدين الشريعة او يكون المراد بالهدى ما تضمنه الكتاب وسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من الآيات والمعاجز التي توجب هداية الناس ومعرفتهم بربّهم او يكون المراد هداية الله تعالى له في جميع اموره مما يكون هو الاصلح له ولدينه ولامته. والاضافة في دين الحق بيانية اي الدين الذي هو الحق. وخص الكراهة هنا بالمشركين مع أن الكراهة لا تختص بهم لانهم هم المناوئون للرسول صلى الله عليه واله وسلم وهم اول من يكره انتصاره وغلبته. والظهور: الغلبة والظاهر أن المراد بها الغلبة الظاهرية اما بأن يكون هذا الدين هو دين الاغلب من الناس فلا يعتنق غيره الا النادر او بمعنى بسط القدرة على الكرة الارضية فيكون أتباع سائر الأديان تحت سلطة هذا الدين. وليس معناه زوال سائر الاديان بل ظاهر الآية أن سائر الاديان باقية ولكنها مغلوبة على أمرها.

ولكن كثيرا من المفسرين فسروا الظهور بالغلبة في مقام الاحتجاج فقط. والظاهر أن الموجب لهذا التأويل استبعادهم غلبة هذا الدين على الكون كله ولكن الله على كل شيء قدير وهذا وعده وهو ما بشّر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم طيلة حياته وكذا من بعده من الأئمة المعصومين عليهم السلام وهو يتحقق بفضل الله وارادته على يد المهدي المنتظر سلام الله عليه وعجل الله فرجه رغم انف الحاقدين.

ويلاحظ أن هذه البشارة وردت في موارد عديدة من الكتاب العزيز ومنها ثلاث آيات بهذا النص في حين أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لم يفتح مكة ولم تتجاوز سلطته المدينة وما حولها فهذا من الاخبار الغيبية التي يشتمل عليها القرآن الكريم.

ومن الناس من يقول ان البشارة في طريقها الى التحقق وأن هذا الدين آخذ بالتوسع والسيطرة على أفكار البشر وأنه يزيد تألقا يوما فيوما بالرغم من مقابلة الاعداء بكل الوسائل وبكل شراسة. ولكن لا يبدو هذا الكلام دقيقا فالعالم من جهة تقبله للثقافة الاسلامية بل للثقافة الدينية ككل في حال كرّ وفرّ والتوجّه الديني وان تحسّن في بعض الازمنة الا أنه سرعان ما يتقهقر وخصوصا في هذا العصر حيث ازدادت المعوّقات عن فهم الدين وتقبّله وأصبح الانسان مشغولا لاهيا بالتكنولوجيا بعيدا عن ادراك الحقائق الغيبية ومعرفة الله تعالى فضلا عن تقبل الدين الاسلامي فالصحيح كما ذكرنا أن البشارة المذكورة تنظر الى الغلبة النهائية التي تحصل بظهور الامام المهدي عليه السلام.

 


[1] الشورى: 15

[2] التوبة: 32

[3] التوبة: 55

[4] التوبة: 85<