مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللّه وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ (157)

 

فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون... تتعرض الآيات لنوع من الفكر الوثني الجاهلي حيث كانت عرب الجزيرة تعتقد أنّ الملائكة بنات الله، فهم من جهة يثبتون للّه تعالى اولادا، ومن جهة اخرى يزعمون انّ الملائكة اناث. وقد ندّد القرآن بالفكرتين في مواضع عديدة، وردّ عليهم هنا بوجوه خمسة حسبما أعلم وبلغه فهمي القاصر.

الوجه الاول: ماتفيده هذه الآية. والاستفتاء طلب الفتوى اي الرأي. والاستفهام في ذلك تقريري. والتقرير هو أن يُسأل المدّعِي لامر سؤالا اذا أجاب عنه سقطتحجته، بمعنى أنه يلزم حسب السؤال بان يقرّ بامر ينافي ما يعتقده، فالسؤال هنا مع الجواب يستلزم بطلان العقيدة. والضمير يعود الى المشركين وان لم يذكروا.

والجملة (ألربك البنات ولهم البنون) مصروفة عن الخطاب الذي هو مورد الاستفتاء، فالمفروض أن يقال: أتعتقدون أن للّه البنات ولكم البنون؟ ما هذه القسمة الظالمة؟ وذلك لان العرب كانت تفرط في الحدّ من كرامة المرأة قـال تعالى (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ...) النحل: 58-59 فالله تعالى يقول لهم: اذا كانت هذه منزلة البنات عندكم فكيف ترضون بهذه القسمة ان يكون لكم البنون وللّه البنات؟!

وانما صرف عن الخطاب تحقيرا لهم واهمالا لأمرهم حيث يقول (ألربك) ولم يقل للّه او لربهم ايذانا بانهم لا يستحقون ان يخاطبوا من قبل الله تعالى فيخاطب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، ثم يخصص الربوبية به كأنه تعالى أهمل تربيتهم، وليس كذلك والله تعالى ربّ العالمين لا يهمل شيئا، ولكن التعبير بما يوهم ذلك ليفيد التحقير والاستهانة.

أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون... وهذا هو الوجه الثاني. والاساس في هذا الوجه استنكار ما يزعمونه من كون الملائكة اناثا مع انهم لم يشاهدوهم ولا يمكن ان يشاهدوهم لانهم غائبون عن اعين البشر، فلا يكون حكمهم بذلك الا تخرّصا على الغيب من دون مستند.

و(أم) منقطعة تفيد معنى الاضراب والاستفهام، اي بل أشهدوا خلق الملائكة فعلموا أنهم إناث. والاضراب اضراب عن استفتائهم الى الاستغراب عنهم بما لا يمكنهم أن يدّعوه. وجملة (وهم شاهدون) حالية اي هل خلقنا الملائكة اناثا حال كون هؤلاء يشهدون ذلك؟!

ألا انهم من افكهم ليقولون * ولد الله وانهم لكاذبون... وهذا هو الوجه الثالث.  والافك هو صرف الشيء عن واقعه وحقيقته، ومن هنا يطلق الافك على الكذب يعني انهم بقولهم هذا يبتعدون عن الحقيقة. والجملة مؤكدة بوجوه: فابتدأها باداة التنبيه (ألا) ايذانا بان ما بعده كلام مهم، ثم بـ (إنّ) التي تؤكد ما بعدها، ثم بلام القسم، ثم أكّد المضمون بتكرار القول مؤكّدا ايضا (وانهم لكاذبون).

وخلاصة القول أن هذه الفكرة تستند الى فكرة خاطئة من الاساس وهو نسبة الولادة الى الله تعالى. والولادة معناها ان ينفصل من الشيء جزء ثم ينمو حتى يكون مثله بفضل الجينات الناقلة للصفات الوراثية. هذه هي الولادة في الانسان والحيوان والنبات. وهذا غير ممكن في الله تعالى لانه ليس جسما، وليس له اجزاء لينفصل منه بعضها، وليس له جينات، وليس له شبيه ونظير، فلا يمكن ان يكون له ولد.

والغرض من الآيات التي تتعرض لنفي الولد والشريك والنّدّ ونحو ذلك هو تبديد الافكار الخاطئة السائدة بين البشر حول معرفة الله تعالى. وهذه مرحلة مهمة في ترسيخ الايمان الصحيح، والمعرفة الصحيحة عن الله سبحانه، فالخطوة الاولى في هذا المجال هي تبديد الافكار الجاهلية الخاطئة، سواء في ذلك توهّم أنّ الله تعالى يولد من شيء، او أنّه يولّد شيئا، او أنّه ينزل ليلة الجمعة على حمار، او أنّه جسم كبير جالس على العرش، او أنّه يوم القيامة يضع رجله في النار لتسكن ولا تطالب بالمزيد، الى غير ذلك من الافكار الساذجة في معرفة الله تعالى.

أصطفى البنات على البنين... وهذا هو الوجه الرابع ولكن ذكر المفسرون أنّ هذا تكرار للجملة الاولى تاكيدا لمضمونها. والصحيح أنّهما مختلفتان مضمونا فالجملة الاولى تندّد بهذه القسمة، وبفكرة أن يكون للّه البنات، ثم بفكرة ان يولد له ولد حقيقة، سواء كان ابنا ام بنتا. وهذه الجملة تنفي أن يتخذ الله الملائكة بنات وان لم يكن له ولد حقيقة، ولذلك أخّره عن نفي الولد بصورة عامة.

وهناك محاولة لتوجيه قول النصارى أنّ عيسى ابن الله على اساس انّ المسيحية لا تقول انّ للّه ولدا حقيقة، وانما تقول انّه اتّخذه ولدا. والآيات الكريمة تنفي هذا القول بشدّة، وفي مواضع عديدة، قال تعالى (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا) مريم: 92.

والدليل على ذلك انّ اتّخاذ الولد ليس الا للحاجة فالانسان الذي لا يولد له ولد يتّخذ ولدا ويتبنّى ليملأ فراغا... فهو يملأ به فراغ البيت، وفراغه النفسي والعاطفي، وغير ذلك. وبعض الناس يحتاج اليه لمساعدته في شؤون الحياة. والله تعالى لا يحتاج الى شيء بتاتا.

فهذه الآيات تقول: انّه لو فرضنا جدلا أنّ الله تعالى اتّخذ ولدا فلماذا يختار البنات؟ أصطفى البنات على البنين؟ أصطفى اي هل اصطفى البنات واختارهنّ على البنين، حيث انّهم كانوا يعتقدون ان الملائكة بنات، ولو كان الله متخذا ولدا لاصطفى البنين، خصوصا انّ الملائكة قد اوكل الله اليهم تدبير الامور كما قال تعالى (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) النازعات: 5.

ومثل هذه الآيات ما ورد في سورة الزخرف: 15-19 ومنها قوله تعالى (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) فاستدل على سخافة ترجيح الاناث على الذكور في مثل هذا الموضع بأن المرأة تنشأ وتتربّى في الزينة ولا يتبيّن منها إقدام وشجاعة في الحروب فكيف يرجّح الله سبحانه اختيارها لو فرض انه اتّخذ ولدا؟!

وهذا بالطبع مبنيّ على الجدل والا فالملائكة ليسوا اناثا ولا ذكورا فهم ليسوا من جنس الانسان او الحيوان حتى يكونوا من احد النوعين.

ما لكم كيف تحكمون... اي ما الذي حلّ بكم فتحكمون بما هو خطأ واضح فالاستفهام الثاني انكاري معناه أنّ حكمكم باطل بيّن البطلان.

أفلا تذكّرون... اي هذا الامر من الوضوح بمكان لا يحتاج الى تكلّف استدلال ولا مراجعة مصادر، بل ولا تأمّل وتفكير، بل يكفي فيه التذكّر والرجوع الى الوجدان والضمير. ومن الغريب انّ هناك حالات للانسان ينسى فيها ضميره ووجدانه، وربما يستمرّ به ذلك الى آخر حياته اذا ركض وراء الشعارات الجوفاء والصور الخادعة.

أم لكم سلطان مبين * فأتوا بكتابكم ان كنتم صادقين... وهذا هو الوجه الخامس. فبعد التنديد المتكرّر بهذه الفكرة السخيفة التي كانت سائدة بين العرب وغيرهم من انّ الملائكة اناث، والاشارة في الوجه الثاني الى انّ حقيقة الملائكة امر غيبي لا يصل اليها الفكر البشري، عاد هنا وأكّد على انّ هذا الامر لا يمكن ان يصل اليه البشر الا عن طريق الوحي، لانه من خبر السماء وليس من شؤون الارض حتى تحسّونه بابصاركم او حواسكم او اجهزتكم، فان كان لكم مستند من الوحي فاْتوا بكتابكم ان كنتم صادقين.

والسلطان مصدر بمعنى السلطة، والمراد به الحجة الموجبة لتسلّط صاحبها وغلبته على الخصم من حيث الاستدلال. والمبين بمعنى الواضح او الموضح للحقيقة. ومن المعلوم انّ العرب ليس لهم كتاب فالغرض إيقاظ ضمائرهم حتى لا يتقوّلوا على الغيب بدون استناد الى الوحي الالهي.