مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرينَ (78) سَلامٌ عَلى‏ نُوحٍ فِي الْعالَمينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرينَ (82)

 

من هذه الآيات تبدأ الاشارة الى بعض الانبياء السابقين، وذكر ما جرى على اممهم من العذاب، وأنّ الله نجّى الانبياء والمؤمنين بهم ليكون مثالا للآيات السابقة، وابتدأ بذكر نوح عليه السلام وهو اول الرسل الذين ورد ذكرهم في الكتاب، واشير نوعا مّا الى شريعته. وربما يقال له آدم الثاني باعتبار أنّ البشر الموجودين حاليا كلهم من نسله كما صرح به في الآية 77.

ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون... الظاهر انّ المراد بالنداء دعاؤه على الكفرة، وقد ورد في الكتاب العزيز قوله عليه السلام: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) نوح: 26، وقد غضب الله تعالى لعبده واستجاب دعاءه وأباد الكفرة عن آخرهم فلم يبق منهم احد. 

وقد جاهد نوح عليه السلام جهادا عظيما حيث بقي فيهم الف سنة الا خمسين عاما يدعو الناس الى التوحيد، ومن الصعب جدا ان يبقى الانسان قرونا متمادية يدعو الناس الى الايمان بالله ولا يلقى بعد كل هذه الجهود الا نفرا قليلا يؤمنون به كما قال تعالى (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) هود: 40، وانه لصبر عظيم انتهى الى التذمّر بعد هذه القرون الطويلة فدعا عليهم.   

والمجيب هو الله سبحانه، وانما اتى بصيغة الجمع تعبيرا عن العظمة فان العظماء يؤتى لهم بضمير الجمع، ولعله من جهة انهم عادة يتكلمون عن انفسهم واعوانهم وقلّما يباشرون عملا فاستعير الجمع للدلالة على العظمة. والغرض من هذا التعبير(فلنعم المجيبون) اي استجبنا دعاءه باحسن اجابة فانه دعا لقومه بالهلاك فاهلكناهم عن آخرهم واغرقناهم ولم نبق منهم اثرا.

ونجيناه واهله من الكرب العظيم... بيان لاستجابة الدعاء، فأوّل ما يذكر تنجيته وتنجية اهله من الكرب العظيم. والكرب كل ما يحزن الانسان ويقلقه، فلعلّ المراد به إيذاء قومه وتهديداتهم، ولعله الخوف من شمول العذاب. والمراد بالاهل يمكن ان يكون ما يشمل المؤمنين توسعا في مدلول الاهل فان المعنى الحقيقي هو الزوجة والاولاد. وفي الاهل احتمال آخر سيأتي في تفسير الآية التالية.

وجعلنا ذريّـته هم الباقين... الظاهر من الآية أنّ الطوفان أهلك كل من كان على وجه الارض من البشر ولم يبق الا ذرية نوح عليه السلام. ومن هنا يحتمل ان يكون المراد بالاهل في الآية السابقة ذريته، فان بقاءه زهاء الف سنة يستوجب عادة ظهور اقوام كثيرة من نسله، ولا يبعد ان يكون المؤمنون به عليه السلام كلهم من ولده.

ولكن هناك آية ربما يستظهر منها ما ينافي ذلك وهي قوله تعالى (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) الاسراء: 3، حيث تدل الآية على أنّ الذين حُملوا مع نوح كان لهم ذرية ايضا، ومن هنا ربما تأول بعضهم قوله تعالى (وجعلنا ذريته هم الباقين) بأنّ المراد أنّ الله تعالى أبقى فيهم التوحيد والنبوة والكتاب والحق و.. وورد ذلك في رواية في تفسير القمي.

وهو تأويل بعيد، وهناك روايات متعددة تدل على أنّ البشر كلهم من ذرية نوح عليه السلام، وورد ذلك ايضا في التوراة، ومن المعروف أنّ البشر ينقسمون الى ثلاثة اقسام اولاد سام وحام ويافث، وهم اولاده عليه السلام. [1]

ويقوى الاشكال في آية الاسراء من جهة اخرى ايضا، وهي أنّها وردت بشأن بني اسرائيل حيث قال تعالى (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَني‏ إِسْرائيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُوني‏ وَكيلاً * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُورا) الاسراء: 2-3 ومن المعلوم حسب التاريخ والروايات والتوراة أنّهم من ذرية نوح عليه السلام نفسه لا من حمل معه فلو فرضنا إمكان تأويل قوله تعالى (وجعلنا ذريته..) لم يرتفع الاشكال عن الآية.

وهذا الامر مع أنّه معلوم حسب التوراة والروايات، يمكن الاستدلال عليه بقوله تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمان‏...) الانعام: 84، والضمير في قوله (ومن ذريته) يعود الى نوح لا الى ابراهيم عليهما السلام لانه الاقرب، ولان بعض من وصف في الآيات بأنّهم من ذريته ليسوا من ذرية ابراهيم عليه السلام بلا ريب وهما لوط وإلياس عليهما السلام.

وجمع العلامة الطباطبائي رحمه الله بين الآيتين باحتمال أن يكون بعض من كان مع نوح أولاد بناته، فهم يعتبرون من جهة ذريته، ومن جهة اخرى أولاد اصهاره، فيصدق أنّ البشر الباقين بعده كلهم من ذريته، وفي نفس الوقت هناك من البشر من هم من ذرية من كانوا معه وهم أصهاره.

ومقتضى هذا الوجه أن يكون المراد بقوله تعالى (وجعلنا ذريته..) ما يشمل أولاد بناته ولكنه لا ينطبق على بني اسرائيل بناءا على ما يقال في التاريخ والتوراة من أنّهم من ذرية أبناء نوح عليه السلام لا بناته. نعم ما ورد في سورة الانعام لا يقتضي كونهم أبناء أبنائه لأن الذرية تصدق على أولاد البنات ايضا.

اذن فلا بد من وجه آخر يصحّح التعبير عن بني اسرائيل بانهم ذرية من حملنا مع نوح بدلا عن التعبير بانهم ذرية نوح عليه السلام، مضافا الى أن نفس العدول عن التعبير عنهم بأنّهم ذريّة نوح الى التعبير بكونهم ذرية من حملنا حتى لو كان باللحاظ المذكور يتوقف على وجود وجه مصحح فإنّ التعبير بكونهم ذرية نوح أولى بلا ريب.  

ويمكن ان تكون العناية في التعبير بذلك الاشارة الى هذه النعمة التي شملتهم اي بني اسرائيل كما شملت غيرهم من البشر، وهي أنّ الله تعالى أبقاهم بحمل آبائهم في السفينة، فهم نسل من جماعة معدودة من ذرية نوح عليه السلام وهم الذين حُملوا معه، فهذا القيد لاخراج الهالكين من ذريته، والظاهر أنّهم كثير كما هو مقتضى بقائه تلك القرون المتمادية.

وقد مرّ في سورة يس أنّ الله تعالى منّ على البشرية بالابقاء عليهم بسبب الحمل في السفينة، وأنّ هذا هو المراد من قوله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) يس: 41، و كذلك في قوله تعالى (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) الحاقة: 11، ومنّ على النبيين بقوله تعالى (وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ..) مريم: 58.

وعلى كل حال فآية سورة الاسراء ليست نصّا في وجود بشر غير ذرية نوح في السفينة فلا تقاوم التصريح الموجود في هذه الآية بأنّ الباقين من قوم نوح لم يكونوا الا من ذريته عليه السلام، خصوصا بملاحظة الحصر المستفاد من الاتيان بضمير الفصل وكون الخبر (المفعول الثاني) مع لام التعريف.

وبناءا على ذلك فهذه ايضا نعمة من الله تعالى على نوح عليه السلام حيث جعل البشر الباقي كله من نسله. ولذلك يعبر عنه بـ (آدم الثاني).

وبذلك استجاب الله دعاءه حيث دعا على الكافرين، وأبدى تخوفه من بقاء نسلهم حيث إنّهم لا يلدون الا فاجرا كفارا، فأبادهم الله تعالى وأباد نسلهم، ولم يبق على وجه الارض الا نوحا والمؤمنين من ذريته.

هذا ولكن يمكن أن يقال: إنّ قوله تعالى (وجعلنا ذرّيّته هم الباقين) ليس صريحا في عدم بقاء البشر الا ذريته عليه السلام لاحتمال أن يكون المراد الباقون من قوم نوح عليه السلام لا الباقون من البشر، ولا دليل على أنّ البشرية كانت منحصرة في قومه كما هو المعروف، بل الاعتبار يقتضي خلافه، فإنّ الفاصل الزمني بين آدم ونوح عليهما السلام غير معلوم وان قيل إنّه الف سنة، وحتى لو كان كذلك فهو يقتضي حسب العادة انتشار نسل كثير من البشر.

ويبعد جدا حسب مقتضيات الحياة البدائية أن يبقى كل هذا البشر في منطقة واحدة، وطبيعة الحال تقتضي تفرقهم لتأسيس مرافق الحياة بالزراعة والرعي ونحو ذلك.

ومما يشهد لذلك قوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) نوح: 1-2. فالظاهر من التعبير بقومه وقومك وقومي أنّهم جمع خاص من البشر، وإلّا لكانت الآية إنّا أرسلنا نوحا الى الناس أن أنذرهم ولكان المناسب أن يخاطبهم أيّها الناس.

ولكن الصحيح أن المراد الباقون على الارض بقرينة قوله تعالى في حكاية دعائه عليه السلام (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) نوح: 26، ومن البعيد جدّا أن يحكي الله تعالى دعاء رسوله ان لم يستجب له.

وربما يقال: إنّ المراد بالارض في هذه الآية أرض تلك المنطقة فحسب. وهو احتمال ضعيف جدّا من حيث ظاهر اللفظ ومن حيث السياق. فالنتيجة أنّ البشر كلهم هلكوا الا من كان في السفينة. وبموجب الآية السابقة لم يبق منهم الا ذرية نوح عليه السلام. 

وتركنا عليه في الآخرين... المراد بالترك الابقاء اي أبقينا على ذكره في الآخرين، فاعتبر ابقاء الذكر كأنه ابقاء على الشخص نفسه. والمراد بالآخرين الامم المتأخرة عنه. وربما قيل ان هذه الجملة تتعلق بالجملة التالية اي تركنا عليه هذا القول (سلام على نوح في العالمين). وهو بعيد وتكلف لا حاجة اليه.

هذا وابقاء الذكر في الدنيا ليس مهما في حد ذاته ولا ينتفع به الانسان الغابر فكم من فاجر يثنى عليه على المنابر طيلة القرون وهو معذب باعماله، وكم من مؤمن صالح مقرب عند الله لا يعرفه أحد، فلا ينتفع الاول بالثناء ولا يضر الثاني خفاء ذكره. ولكن الابقاء على ذكر الانبياء والمرسلين وكل من له هدف صالح في المجتمع البشري فيه أثر حميد له لان إبقاء ذكره إبقاء لطريقته وسنته. ومن هنا دعا ابراهيم عليه السلام ربه بقوله (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) الشعراء: 84.  

سلام على نوح في العالمين... هذا انشاء سلام من الله تعالى عليه. والاصل في السلام دعاء بالسلامة، والقصد الجدّيّ فيه انشاء ما يلازمه من التحيّة والاكرام.

وقوله (في العالمين) اما بمعنى انه موضع اجلال واكرام في شتى العوالم: عالم الدنيا والبرزخ والآخرة، وفي كل ازمنة الحياة الدنيا، واما بمعنى كل الناس، فان العالمين يطلق على كل البشر باعتبار تقسيمهم بحسب الطوائف والازمنة والامكنة الى عوالم، وان كانت كلمة (عالم) تشمل جميع ما سوى الله تعالى. ولذلك يقال ان (عالمين) ليس جمعا للعالم لانه اكثر منه شمولا، بل لا يمكن ان يجمع العالم اذ لا يمكن ان يكون له اكثر من مصداق، ولكن حيث انه باعتبار آخر يطلق على كل مجموعة من الاشياء يصح الجمع. وعليه فالمراد أن السلام عليه في جميع المجتمعات المختلفة البشرية.

وقيل: المراد عوالم الملائكة والجن والانس.

ولم يرد هذا التعبير في غيره، وذلك لانه أقدم الانبياء عليهم السلام فكل من اتّبع دينا من الأديان السماوية يقرّ برسالته عليه السلام.

انا كذلك نجزي المحسنين... تعليل لما مرّ من النعم التي خصّ الله بها نوحا عليه السلام. وليس المراد بالطبع انه تعالى يجزي كل محسن بكل ما جزى به نوحا كما هو واضح بل المراد انه يجزي كل محسن حسب احسانه. والمراد بالمحسنين اما كل من احسن عمله وأتقنها فكل عمل يعمله يأتي به باحسن وجه، واما كل من كثر احسانه واعماله الصالحة وان لم يتقن كل عمل. والانبياء عليهم السلام محسنون بكلا المعنيين فنوح عليه السلام صبر احسن صبر وجاهد احسن جهاد ودعا الى الله تعالى باحسن وجه.

انه من عبادنا المؤمنين... هذا تعليل لما قبله ولعله تعليل لكونه من المحسنين فهو اشارة الى ان المناط في الاحسان هو العبودية والايمان، فكلما كمل هذان الوصفان كمل الاحسان فاذا راينا في انفسنا دعوى العبودية والايمان ولم نجد الاحسان في اعمالنا فهو دليل على عدم الواقعية في تلك الدعوى فان العبودية والايمان يستتبعان الاحسان في العمل.

وهاتان الآيتان تحققان الهدف من ذكر قصص الانبياء عليهم السلام، وذلك بتعميم النتائج على كل المحسنين وعباد الله المؤمنين، ليتم بذلك تسلية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين به ليصبروا على أذى المشركين، ويتم بذلك ايضا تحذير المشركين بأن الله تعالى ينصر انبياءه واولياءه.

ثم أغرقنا الآخرين... السبب في تاخير ذكره مع انه حدوثا ليس متاخرا عن كل ما سبق كما هو واضح بلحاظ ان الانسب بالسياق ان يذكر ما انعم الله به على نبيه ثم يذكر نزول العذاب ونحوه لما ذكرنا من ان الظاهر ان القصد من سرد حكايات الانبياء هنا بيان ما انعم الله به عليهم تسلية للرسول صلى الله عليه واله و سلم وللمؤمنين به. فالتراخي المستفاد من (ثم) انما هو في الذكر لا في ظرف الحدوث. وحيث لم يتقدم في الذكر الا نوح عليه السلام واهله وذريته فالآخرون كل من لا يدخل في هذه المجموعة ويؤيد ذلك ما تقدم من ان المؤمنين به كلهم كانوا من ذريته.

 

[1]في التوراة سفر التكوين الاصحاح التاسع (وَكَانَ بَنُو نُوحٍ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْفُلْكِ سَامًا وَحَامًا وَيَافَثَ. وَحَامٌ هُوَ أَبُو كَنْعَانَ.هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ بَنُو نُوحٍ. وَمِنْ هؤُلاَءِ تَشَعَّبَتْ كُلُّ الأَرْضِ).