مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَلَوْ بَسَطَ اللّه الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ... شروع في ذكر آيات اللّه تعالى الدالة على قدرته اللامتناهية وحكمته وتدبيره للكون. والرزق: العطاء، والمراد به هنا ما يحتاجه الانسان في معيشته في الحياة الدنيا. وبسطه توسعته. والبغي هو الطغيان وطلب الانسان ما ليس له والاعتداء على الآخرين.

وقوله (ينزّل بقدر) اي بتقدير ومحاسبة. ومعنى ذلك أنّ كل إنسان يحصل على نتيجة عمله حسب قانون الطبيعة والسنة الالهية. والتعبير بالتنزيل باعتبار أنّ كل حادث انما يتحقق بإذنه تعالى، وليس هناك تنزيل من علو كما هو واضح.

والتعليق بالمشيئة مما لا بد منه في كل امر يستند الى عوامل طبيعية او غيبية لئلا يتوهم أن الامور تجري في الكون حسب نظام الطبيعة او ماوراءها من دون تدبير بل كل حركة وسكون طبيعي او غير طبيعي مستند الى ارادته تعالى وتدبيره فاللّه ليس صانعا للكون كما يصنع الانسان مصنوعاته فتبقى وتستمر على حركته حتى بعد فنائه لان الانسان لا يصنع شيئا من عدم وانما يجمع بين عاملين او اكثر في الطبيعة فينتج من الجمع شيء آخر واللّه تعالى خلق الكون من لا شيء بل بارادته فقط فكل اجزاء الكون منتسبة في كينونتها ــ لا في حدوثها فحسب ــ الى ارادته تعالى ومتعلقة بها لا كيان لها نهائيا من دون ارادته تعالى.  

والجملة الاخيرة تعليل لما سبق، وتحديد للقدر الذي على أساسه ينزل الرزق، فهو يتحدّد بمقتضى عوامل طبيعية وغيبية لا يعلمها ولا يعلم مقتضياتها الا اللّه تعالى، وهو خبير بشؤون عباده وما يصلحها ويفسدها، وبصير بحاجاتهم وحالاتهم. والخبير يستعمل عادة في العلم بالامور الدقيقة والبصير في الامور المحسوسة.

وفي المراد من الآية احتمالان:

الاول: أنّ اللّه تعالى لم يبسط أسباب الرزق في الارض، بل جعلها محدودة بمقتضى قانون الطبيعة. ولو غيّر قانون الطبيعة وبسط أسباب الرزق كل البسط بحيث ينال الانسان كل مبتغاه في الحياة الدنيا لبغوا وطغوا ولم يعبدوا اللّه تعالى، فمن حكمته بل ومن رحمته ايضا لم ينزل الرزق على الارض الا بقدر يناسب الحياة الدنيا، ويتمكن الانسان من الاستمرار في الحياة من دون أن يصيبه الطغيان، ووعده بالرزق التامّ في الجنّة إن اتّبع هداياته.

الثاني: أنّه تعالى لو بسط الرزق لأيّ انسان ضمن قانون الطبيعة لبغى في الارض وطغى كما قال تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [1] فهذا قانون عام واللّه تعالى يلطف بعباده فلا يبسط اسباب الرزق لهم لئلا يصيبهم الطغيان والبغي.

ولكن هناك من البشر اُناس بسط اللّه لهم الرزق وهم فعلا يطغون ويعتدون الا القليل منهم. والسبب في ذلك أنّ اللّه تعالى أراد استدراجهم من حيث لا يعلمون او أراد امتحانهم وابتلاءهم، او أراد أن يعذبهم في الدنيا بالمال وان يستحقوا بطغيانهم أشدّ العذاب في الآخرة، كما قال تعالى (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [2]. وقال تعالى (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ). [3]

والاحتمال الاول أظهر.

وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ... التعبير بقوله (وهو الذي..) يدلّ على الحصر وأنّ هذا من رحمته تعالى ومن الرزق الذي ينزّله بقدر كما في الآية السابقة. والغرض منه التركيز على الفاعل وتنبيه المشركين على خطئهم حيث كانوا يسندون المطر الى الكواكب ويقولون (مطرنا بنوء كذا..) بل تنبيه كل من يسند الامور الطبيعية الى عواملها من دون أن يذكر اللّه مع أنه تعالى هو المؤثّر في الكون وحده كما بيناه آنفا.

والغيث: المطر. وقيل يختص بما اذا كان نافعا لأنّه مأخوذ من الإغاثة، فلا ينطبق على المطر الذي يضر بالزرع او بسائر شؤون الحياة، وكذا ما لا يضر منه ولا ينفع. وقيل يختص بما اذا كان بعد الجدب فان الناس يستغيثون به تعالى فيغيثهم به. والقنوط: اليأس. والمراد به هنا اليأس الحاصل من تتابع سنين الجدب. ولعل المراد بنشر الرحمة نفس المطر حيث ينتشر في بقاع مختلفة او ما يحصل من النفع بعد سقوط المطر من وفور الماء للسقي والزرع وتلطيف الجو وغير ذلك.

وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ... اي هو الذي يتولى شؤونهم وهو محمود في كل ما يفعل في تولّي شؤونهم، حتى لو كان بحسب الظاهر موجبا لليأس والقنوط كتأخير الغيث، لأنّه لا يفعل ذلك الا لحكمة. ومن هنا يتبيّن أنّ الوصفين معا يعتبران وصفا واحدا في هذا المجال.

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... في هذه الجملة احتمالان:

الاول: ما فهمه المفسرون من أن المراد كون السماوات والمجرّات بما فيها من النجوم والكواكب والمذنبات على كثرتها الهائلة وما يحكمها من النظام الدقيق وما بينها من البعد الشاسع وارتباط بعضها ببعض وعدم تصادمها وهي تسبح في هذا الفضاء العظيم من آيات اللّه تعالى وكذلك الارض بما فيها من نعم ينتفع بها الانسان ومنها اختلاف الليل والنهار والفصول وبما فيها من الجبال والبحار والانهار والغابات والبراري وما تشتمل عليه من العجائب من آياته تعالى فحسن التدبير ووحدة النظام الحاكم على كل أجزاء الكون من المجرات العظيمة الى جزيئات المادة وذراتها دليل واضح على تحكّم الارادة الالهية، وأنّ كل شيء تحت قدرته وسلطانه تعالى.

الاحتمال الثاني: ــ ولعله الاقوى ــ أن المراد أصل تكوين السماوات والارض وابتداعهما من العدم لا ايجاد الجزئيات التي تشتملان عليها فهناك فرق في التعبير عن الآيات بذكر أعيانها كقوله تعالى (وما بثّ فيهما..) وبين هذا التعبير فلعل المراد أن نفس الخلق وهو الاحداث من العدم من آياته تعالى بل هو من أكبر الآيات كما قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ..)[4] والمراد ابتداع الكون وخلقه من العدم حيث لم يخلق الكون من شيء وكل ما يفرض مادة اولية له ينتقل الكلام اليه ولا بد من الوصول الى أمر لم يسبق له وجود ولم يوجد الا بمحض ارادته تعالى كما قال (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[5] وهو معنى الفطر ايضا كما مر في قوله تعالى (فاطر السماوات والارض) الآية11 من هذه السورة.

وبناء على ذلك فيمكن أن يكون المراد بالسماوات والارض هنا الكون المادي فحسب كما يمكن أن يكون المراد الكون بكامله، اي ما سوى اللّه تعالى فيشمل ماوراء الطبيعة وان لم يشعر به الانسان فان المفروض أن الآية هي خلق الكون اجمالا لا نفس الجزئيات فيمكن ان يكون المراد خلق ما سوى اللّه ويمكن ارادة خلق عالم الطبيعة فحسب.

وهذه الآيات ونظائرها تدل على أن العالم حادث وأن اللّه تعالى كان ولم يكن معه شيء كما ينسب الى الحديث وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام (وَإِنَّ اللّه سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لَا شَيْ‏ءَ مَعَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا بِلَا وَقْتٍ وَلَا مَكَانٍ وَلَا حِينٍ وَلَا زَمَانٍ عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الْآجَالُ وَالْأَوْقَاتُ وَزَالَتِ السِّنُونَ وَالسَّاعَاتُ فَلَا شَيْ‏ءَ إِلَّا اللّه الْواحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الْأُمُورِ).[6] والمراد أن الاوقات والسنين والساعات والمكان والزمان تتحقق نتيجة لتحقق الطبيعة فقبل تكونها وبعد فنائها لا يوجد زمان ولا مكان.

وروى الكليني بسند صحيح عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر الباقر عليه السلام قال سمعته يقول (كان اللّه عز وجل ولا شيء غيره ولم يزل عالما بما يكون فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه).[7]

وروى الصدوق في مكاتبة لعبد الرحيم القصير عن الامام الصادق عليه السلام حيث قال في الجواب (كان اللّه عز وجل ولا شيء غير اللّه معروف ولا مجهول..).[8]

وروى الكليني والصدوق قدس سرهما عن ابي الحسن الرضا عليه السلام أنه قال (لا شي‏ء قبل اللّه ولا شي‏ء مع اللّه في بقائه وبطل قول من زعم انه كان قبله أو كان معه شي‏ء وذلك انه لو كان معه شي‏ء في بقائه لم يجز أن يكون خالقا له لأنه لم يزل معه فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه..).[9]

وهناك رأي في الفلسفة الالهية يقول بأن العالم قديم وذلك لأن حاجة العالم الى العلة بسبب امكانه لا حدوثه وقال بعضهم في إثبات قدم العالم عن طريق العقل (ان قدرته تعالى هي مبدئيته للايجاد وعليته لما سواه وهي عين الذات المتعالية ولازم ذلك دوام الفيض واستمرار الرحمة وعدم انقطاع العطية ولا يلزم من ذلك دوام عالم الطبيعة..).[10]

وهذا ــ مع أنه مردود بما مر من الآيات والروايات وغيرها وهي كثيرة ــ غير صحيح في نفسه اما استمرار الرحمة وعدم انقطاع العطية فهما من صفات الفعل وينتزعان من عنايته تعالى بما خلق ولا رحمة ولا عطية قبل الخلق ليستدل بهما على لزوم الخلق وأما دوام الفيض فلا أثر له في الآثار وما اشتهر من توصيفه تعالى بالفياض لا أساس له ولا يصح توصيفه تعالى به ــ بناء على توقيفية الاسماء والصفات ــ اذ لم يرد في الكتاب والسنة مع أن معناه في أصل اللغة ايضا لا يناسب مقام الخالق المتعال لأنه بمعنى الاناء الذي يمتلئ فيفيض ويجري منه الماء وهذا التعبير يوهم أن الوجود يسري منه تعالى الى الخلق بهذه الطريقة وهذا باطل لا يقول به مؤمن لأنه تعالى خالق مختار مريد ولا يتولد منه شيء (لم يلد ولم يولد) وقد استعمل هذا اللفظ كثير من الاعلام غفلة عن معناه الاصلي وأرادوا به كثرة نعمه تعالى فان الفيضان يستعمل بمعنى الكثرة مجازا حتى ان بعضهم صرّح بأنه من أسمائه تعالى وهو خطأ فادح.

وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ... الدابّة من الدَبّ بمعنى الحركة الخفيفة قال في العين (دَبّ القوم يدِبّون دبيبا الى العدوّ اي مشوا على هينتهم ولم يسرعوا) ثم قال (وكل شيء مما خلق اللّه يسمّى دابّة والاسم العامّ الدابّة لما يركب) ولعله يقصد بقوله (كل شيء مما خلق اللّه) اي مما يتحرك. ولذلك يصح إطلاق الدابّة على كل حيوان وعلى الانسان ايضا. والتأمّل في الحياة التي تدبّ في الأحياء بأمر إلهي يكشف عن عمق الحكمة والتدبير الحاكمين على الخلق. والحياة من أسرار الكون التي لم تكتشف حتى الآن.

والكلام هنا في أنّ الضمير في قوله تعالى (فيهما) يعود الى السماوات والارض، والبثّ: النشر، فما هو المراد بالدوابّ المنتشرة في السماوات؟

قيل: المراد بها الطير فهي تدبّ على الارض وتطير في السماء، كما قال تعالى (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ..). [11] وهو بعيد لأنّ المراد بالسماوات في هذه الآية إمّا الأجرام الفلكية أو العوالم الغيبية ويبعد جدّا إرادة ما يشمل الغلاف الجويّ المحيط بالارض وان صح التعبير عنه بالسماء مفردا.

وقيل: المراد بثّ الدوابّ في مجموع السماوات والارض وان كان البثّ في الواقع منحصرا في أحدهما. وقالوا إنّ ذلك نظير قوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) [12]، فإنّ الضمير يعود الى البحرين الحلو والمالح، مع أنّ اللؤلؤ والمرجان في المالح فقط. ومن هذا القبيل ايضا قوله تعالى (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) [13]  فإنّ الضمير يعود الى السماوات مع أن القمر في واحدة منها. 

ولكن الظاهر أنّ هناك فرقا بين الموردين فالقول بأنّ القمر في السماوات انما يصح باعتبار أنّه في مجموعة السماوات كما تقول (زيد في البلد) وهو في دار منه، وأمّا في البحرين فانه لا موجب لضمّ ما لا يستخرج منه اللؤلؤ الى ما يستخرج منه وليست هنا مجموعة يسمى البحران بل هما امران مختلفان، ومورد الكلام ايضا من هذا القبيل فالضمير في قوله (فيهما) لا يعود الى مجموعة مركبة من السماوات والارض كما في قوله تعالى (فيهنّ). وسيأتي الكلام حول وجود اللؤلؤ والمرجان في المياه العذبة في تفسير سورة الرحمن ان شاء اللّه.

وقيل: إنّ العرب اذا ذكروا أمرين وتعلق شيء بأحدهما نسبوه اليهما ومن ذلك قوله تعالى (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُم يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي..)[14] فإنّ الرسل كلهم من البشر.

ولم تثبت نسبة ما ذكر الى العرب ولو صحت فالظاهر انه نوع من التسامح وفي الآية المذكورة توجيه آخر لا يتوقف على ما ذكر وهو شمول الرسل لكل من يأتي بأخبار رسل السماء وان لم يكن هو بنفسه مرسلا من قبل اللّه تعالى. و من هذا القبيل من ورد ذكرهم في قوله تعالى (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى‏ قَوْمِهِمْ مُنْذِرينَ). [15]

وقيل: إنّ المراد بها الملائكة. وردّه العلامة الطباطبائي قدّس سرّه وغيره بعدم تعارف إطلاق الدابّة عليهم. وهو كذلك في التعبير المتعارف الا ان القرآن لا يحمل على ذلك فلو صحّ التعبير حسب اللغة فلا مانع من حمله على هذا المعنى ويبدو من عبارة العين التي نقلناها صدق الدابّة على كل ما خلق اللّه تعالى مما يتحرك بل يعبّر في اللغة عن كل ما يسري سريانا غير محسوس بالدّبّ فيقال مثلا دبّ الخوف في نفسي ودبّ السقم في الجسم فلا مانع من التعبير عن حركة الملائكة بالدبّ ولعل إطلاق الحركة ايضا على نشاطهم غير مطابق للواقع بدقة الا انه تعبير أرضي عن ذلك النشاط السماوي المجهول.  

ويمكن أن تكون في السماوات كواكب يعيش عليها أحياء. والدابّة تصدق على كلّ متحرك حيّ وان كان غاية في الصغر. وهذا ما لم يستبعده العلم الحديث. واللّه العالم.

وقد يقال بأنه لا يمكن تفسير الآية بالملائكة ولا بالموجودات الحية في الكواكب لانها لا تعتبر من آيات اللّه تعالى لان الانسان لا يشعر بها فكيف تكون آية له؟!

ويمكن دفع الاشكال بما ذكرناه من أن المقصود بالآية هنا الايجاد من العدم وهذا يعرفه الانسان إجمالا وان لم يعرف خصوصية الاشياء والدواب.

وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ... الجمع في مقابل البثّ والنشر. و(اذا) ظرفية وهي قليلا ما ترد على المضارع كما هنا. والمراد على ما يبدو أنّ هذا البثّ والتفرّق في كلّ أجزاء الكون لا يمنع من جمعهم متى شاء اللّه تعالى. وعظمة هذا الامر تظهر اذا لاحظت هذه الكرة الارضية وما انتشر فيها من دوابّ وحيوان في البرّ والبحر والجبال والجو وتحت اعماق الارض من شتى أنواع الحيوان كبيرها وصغيرها حتى ما لا ترى بالعين المجردة، فإنّ التمكن من جمعها بمجرد الإرادة يدلّ على هيمنة القدرة والتدبير على كل شيء من دون تحديد.

وقيل: إنّ الجمع بمعنى الحشر يوم القيامة. ولكن الآية لا تدل على تحقق الجمع بل على إمكانه اذا شاء اللّه تعالى.

وربما يستدلّ على ثبوت الحشر للحيوانات بقوله تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ). [16] ولا يمتنع عقلا حشر الحيوانات ومحاسبتها ايضا بمقدار ما آتاها اللّه تعالى من إدراك كما ورد في بعض الروايات الضعيفة ولكن كون هذا الحشر الى اللّه تعالى بمعنى إحيائهم يوم القيامة للجزاء ومحاسبة الاعمال كما يحشر الناس غير واضح فرجوع الاشياء اليه تعالى عام يشمل كل شيء ولكن لا يجب ان يكون بهذا المعنى. واللّه العالم.  

وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ... ظاهر الآية بمقتضى مضمونها أنّها خطاب للبشر بأجمعهم، وليس كما يتوهم خطابا لأهل عهد النزول، فضلا عن الاختصاص بالمشركين كما قيل، وذلك لأنّها تتعرّض لسنّة عامّة من السنن الالهية في المجتمع البشري. ويظهر منها أنّ كل ما يصيب الانسان من مصيبة في الدنيا انما هو عقاب من اللّه تعالى على ذنوبه، وأنّه تعالى يعفو عن كثير من الذنوب فلا يؤاخذ الانسان عليها. ولعل التعرض لهذا الامر هنا بمناسبة نزول المطر بعد القنوط للاشارة الى سبب التأخير.

وبهذا المضمون قوله تعالى (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّه النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى...) [17] وقوله تعالى (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّه النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى..). [18]

وما أكثر ما يعفو اللّه عنه من معاصينا ومخازينا حتى بلغ بنا الامر أن نأمن عقابه ولا نشعر بسخطه من عثراتنا وهفواتنا كما ورد في بعض الادعية (وآمن سخطه عند كل شر) وفي بعضها (عند كل عثرة) وكنت استشكل هذا التعبير فيما سبق وأراه مخالفا لقوله تعالى (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللّه فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّه إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[19] ولم أجد من يفسّره بما يرفع الاشكال ورأيت في صراط النجاة جوابا منسوبا الى السيد الخوئي قدس سره وهو أن الظاهر من الدعاء ارادة العذاب الفعلي فلا ينافي الآية الكريمة.

ولكن العذاب المتوقع في بعض المعاصي عذاب فعلي ولا ينبغي للمؤمن أن يستبعده ولا يتقيه. والواقع أن هذا الدعاء لا يدل ولا يبتني على أن هذا الأمان موقف صحيح في العبد حتى ينافي الآية بل المراد تمجيده تعالى في سعة رحمته وعموم عفوه بحيث وصل العبد الى هذه الدرجة من الوهم أن يرجو منه تعالى كل خير في حين أنه لا يخاف غضبه عند كل عثرة ومعصية وهذا هو الواقع الذي نشعر به ونلمسه فنحن لا نواجه عقابا في كثير من عثراتنا ونشعر بالامان من كل ما نفعله ويلاحظ أن الاشكال لو تمّ لشمل الجملة الاولى ايضا فلا ينبغي للانسان أن يتوقع كل ما يراه خيرا ويطلبه من اللّه تعالى فرجاء كل ما نظنه خيرا ايضا ليس مما ينبغي ولكننا تعوّدنا ذلك من كثرة ما نراه من الخير من ربنا سواء ما طلبناه وما لم نطلبه. والحاصل أن التعبير المذكور الوارد في بعض الادعية يقصد به تمجيده تعالى لكثرة ما أولانا من النعم وعفا عنا من الهفوات.

ومثله المقطع الوارد في عدة من الادعية المأثورة منها ما رواه الشيخ الطوسي قدس سره عن الامام الكاظم عليه السلام (اللّهمّ إنّ عفوكَ عن ذنبي وتجاوزك عن خطيئتي، وصَفحك عن ظُلمي، وسِترَكَ على قبيح عملي، وحلمَك عن كثير جُرمي، عندما كان من خطأي وعمدي، أطمعني في ان أسألك ما لا أستوجِبُه منك الذي رزقتني من رحمتك، وعرّفتني من اجابتك، وأريتني من قُدرتك، فصرت ادعوك آمناً، وأسألك مستأنساً لا خائفاً ولا وجلاً، مُدِلّاً عليك فيما قصدْتُ به اليك، فان أبطأ عني عتبتُ بجهلي عليك..)[20] وورد قريب منه في دعاء الافتتاح المعروف. ومن الواضح أن هذا الامان وعدم الخوف والوجل بل الادلال على اللّه تعالى ليس مما ينبغي من العبد فالمراد تمجيده تعالى بأن لطفه ورحمته وعفوه وصفحه أدّى الى حدوث هذه الحالة لدينا.

وقد وقع الاشكال في تفسير الآية بظاهرها من جهة شمولها للمعصومين، وما أكثر ما ابتلي به المعصومون من المصائب فكيف يمكن أن يكون السبب في ذلك ما كسبت أيديهم؟! وكذلك تشمل الآية ما يصيب الاطفال من المصائب ولا ذنب لهم.

وقد اُجيب عنه بوجوه:

الوجه الاول: ما في تفسير الميزان من أنّ الخطاب للمجتمع وليس للافراد فالمصائب التي تصيب المجتمعات كالقحط والغلاء والوباء والزلازل إنّما تصيبهم بسبب معاصيهم. وهذا نظير قوله تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [21] وقوله تعالى (إِنَّ اللّه لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ..).[22]

وما ذكره لابأس به في حدّ ذاته، ولكن لا دليل في الآية على الاختصاص بالمصائب الاجتماعية، بل يشملها ويشمل المصائب الفردية، بل لعل ظاهرها الانحلال الى خطابات موجّهة الى كل فرد، فيكون المعنى أنّ كل ما يصيب الانسان من مصيبة نتيجة عمله.

وفي الروايات الواردة عن الفريقين ما يدل على ذلك:

ففي الكافي بسند صحيح عن أبي عبداللّه عليه السلام : (أما إنّه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض الا بذنب. وذلك قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفو عن كثير". ثم قال: وما يعفو اللّه أكثر مما يؤاخذ به) [23]

وفيه بسند صحيح ايضا عن أبي جعفر عليه السلام (ما من نكبة تصيب العبد الا بذنب وما يعفو اللّه أكثر مما يؤاخذ به). [24]

وعن أبي عبداللّه عليه السلام قال: كان امير المؤمنين عليه السلام يقول: (لا تبدينّ عن واضحة وقد عملت الاعمال الفاضحة، ولا يأمن البيات من عمل السيّئات). [25]

قوله عليه السلام (لا تبدينّ عن واضحة) اي لا تضحك! والواضحة الاسنان التي تبدو عند الضحك. والبيات اي أخذ اللّه تعالى بياتا والانسان نائم او غافل.

وروى ايضا بسند معتبر عن ابي عبداللّه عليه السلام (إنّ الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل وإنّ العمل السيّئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم).[26]

وروى عنه عليه السلام أنّه قال: كان أبي يقول (إنّ اللّه قضى قضاءا حتما ألّا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إيّاه حتى يحدث العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة).[27]

وفي مجمع البيان عن علي عليه السلام أنّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم: (خير آية في كتاب اللّه هذه الآية. يا علي ما من خدش عود ولا نكبة قدم الا بذنب. وما عفى اللّه عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده). وروته العامة ايضا عنه عليه السلام بتعابير مختلفة. الى غير ذلك من الروايات وهي كثيرة جدا.

وربما يعترض على ما ذكره العلامة رحمه اللّه من أنّ المراد بالمصيبة في الآية الكريمة المصائب التي تصيب المجتمعات بأنّ المعاصي عامّة بين البشر فلماذا ينزل العذاب على بعضهم ويترك الآخرون بل ربما تترك المجتمعات المتوغلة في المعاصي والمفاسد. وهذا الاشكال كثيرا ما يتردّد على الالسنة كلما حدثت فاجعة طبيعية في بلد من بلاد المسلمين او المجتمعات الفقيرة ويقال بأن العذاب لماذا تخطّى الكفار والظلمة ونزل على المسلمين والفقراء؟!

قال العلامة في الجواب عن ذلك (هذه سنّة إلهية في المجتمعات. وربما ترد عليه سنّة إلهية اُخرى كسنّة الابتلاء والاستدراج فلا يعذّبون لا للعفو عنهم بل لإمهالهم ليستحقوا عذابا أكبر كما قال تعالى (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).[28]

وما ذكره صحيح الا أنّ هناك ملاحظة على أصل اعتبار البلايا العامّة هي المقصودة من الآية وأنّها عذاب من اللّه تعالى من جهة أنّ بعض هذه المصائب اُمور طبيعية لابدّ منها وإنّما الخطأ من الانسان حيث يسكن ويصنع مدنه في مسير السيل او في الاماكن المعرّضة للزلازل ولا يهيّئ لنفسه ما يحفظه من الحوادث الطبيعية ومن الخطأ الفادح اعتبار كل هذه الحوادث الكونية عذابا من اللّه تعالى كما اشتهر بين الناس. وبعض هذه المصائب من آثار الحروب واعتداء الآخرين، وفي هذا القسم يمكن ان لا يكون الانسان المصاب مخطئا فلا يمكن اعتبار ما أصابه مصيبة سماوية، وربما يكون من خطئه في التقدير وفي مواجهة العدوّ فلا يلومنّ الا نفسه، ولا يعتبر ما أصابه عقابا من اللّه تعالى على ذنوبه.

الوجه الثاني: ما في تفسير الميزان ايضا ولكن على تقدير انحلال الخطاب الى خطابات موجهة للجميع وأنّ المراد بالمصائب ما يصيب الفرد فقال: إنّ الآية لا تشمل من لا ذنب له لأنّ المراد بما كسبت الايدي الذنوب والمعاصي فهم خارجون من الآية تخصّصا. وقال بذلك ايضا العلامة المجلسي رحمه اللّه في مرآة العقول.

ولا بأس بهذا الجواب بالنسبة لما يصيب الاطفال خصوصا غير المميز منهم لعدم انطباق ما كسبت الايدي على ما يفعله الطفل او انصرافه عنه أما بالنسبة الى المعصومين فتمكن المناقشة فيه بأنه لا دليل على اختصاص ما كسبته الايدي بالمعاصي، بل لا يبعد شموله لكل فعل لا ينبغي أن يصدر من الانسان مما يترتّب عليه بعض التبعات غير المطلوبة بمقتضى سنن اللّه تعالى في الكون، ويتبع ذلك مكانة الانسان وقربه لدى اللّه تعالى فما لا ينبغي أن يصدر من الرسول ربما يتوقّع من غيره، بل ربما يكون حسنا من غيره كعباداتنا التي نرجو أن يثيبنا اللّه تعالى عليها فإنّها لو صدرت من نبي او إمام فإنّه يعتبر ذنبا له تبعاته. ومن هنا قيل (حسنات الأبرار سيّـئـات المقرّبين) كما أنّ ما يتوقّع من العالم ليس كما يتوقّع من الجاهل، ولا يتسامح من الكهل ما يتسامح فيه من الشاب، والمتوقع ممن يعيش في بيئة مؤمنة ليس كما يتوقع ممن يعيش في بلاد الكفر ويتربى في بيئة كافرة.

والحاصل أنّ الآية تشمل ما يعد تركا للاولى صادرا من معصوم كما حدث لسيدنا يونس عليه السلام. والمعصوم ليس معصوما عن كل ما لا يتوقّع من المعصوم، وإنّما عصم عن الذنوب والمحرّمات.

الوجه الثالث: أنّ مقتضى الجمع بين الآيات الخاصة بهذا المعنى هو خروج المعصومين عن هذا الحكم. والفرق بين هذا الوجه والوجه السابق أنّ موضوع الآية حسب الوجه السابق لا يشمل المعصومين لأنّ الموضوع هو أصحاب المعاصي، ولكن حسب هذا الوجه لا يشملهم الحكم وان شملهم الموضوع. فالحاصل من ملاحظة مجموع الآيات أنّ ما يصيب المعصومين او بعض ما يصيبهم ليس الا لرفع درجاتهم وقربهم لدى اللّه سبحانه. وهذا ما دلت عليه بعض الروايات ايضا.

ففي الكافي بسند صحيح عن علي بن رئاب قال: (سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم" أرأيت ما أصاب عليا وأهل بيته عليهم السلام من بعده هو بما كسبت ايديهم وهم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال: إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يتوب الى اللّه ويستغفره كل يوم مائة مرة من غير ذنب إنّ اللّه يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب). [29] استشهد الامام عليه السلام في هذا الحديث باستغفار الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لبيان أنّ هذه المصائب لم تكن لذنب كما أنّ استغفاره لم يكن لذنب ايضا.

وفيه ايضا مرفوعا (لما حمل علي بن الحسين عليهما السلام الى يزيد بن معاوية فاُوقف بين يديه قال يزيد لعنه اللّه: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم" فقال علي بن الحسين عليهما السلام: ليست هذه الآية فينا إنّ فينا قول اللّه عزّ وجلّ (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ). [30]

وفي خبر ضريس الكناسي قال: (كنا عند أبي جعفر عليه السلام جماعة وفينا حمران بن أعين فقال له حمران: جعلت فداك قول اللّه عز وجل (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) أرأيت ما أصاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام وأهل بيته من المصائب بذنب؟ فقال: يا حمران أصابهم ما أصابهم من المصائب بغير ذنب ولكن يطول عليهم بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب).[31]

فالحاصل من الروايات أنّ هذه الآية لا تعمّ الجميع، وهناك كثير من المصائب لها مصالح تعود الى المصاب. والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).[32]

وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ... هناك من البشر من يتوهّم أنّه يتمكن من الغلبة على إرادة اللّه تعالى، وتخليص نفسه من تبعات أعماله، فتردّ عليه هذه الآية بأنّ البشر في الارض لا يعجز اللّه الذي بيده ملكوت السماوات والارض.

وهذا التوهّم يقوى عند البشر بعد ما يجد أنّه قد تغلب على كثير من العوامل الطبيعية، وتمكّن من تغيير بعض المسارات في الطبيعة، ومن علاج كثير من الامراض المستعصية، والتوغل في أعماق الفضاء، وتحطيم الذرة، وغير ذلك مما حصل عليه البشر بفضل العلوم الطبيعية والتكنولوجيا، فيتصور أنّه ما من شيء في الكون الا ويمكن إخضاعه للبشر، فليست هناك إرادة غالبة على إرادته، ولو كان هناك إله للكون فإنّه ايضا لا يتمكن من كبح جماح هذا العفريت المارد وهو الانسان.

وهذه الآية تبيّن له أنّه مهما بلغ من العلم، ومهما تغلّب على العوامل وتعرّف على أسرار في الكون، فإنّها كلها تتحقّق بإرادته تعالى، وأنه هو الذي سمح له بذلك، ومنحه الحرّيّــة وهو لا يتمكن من إعجاز ربه متى شاء أن يعاقبه. وقوله تعالى (في الارض) اي في اي مكان من الارض فلا يفيدكم الهرب من عذاب اللّه تعالى ولا خصوصية في الارض ولكن حيث لم يكن للانسان ان يهرب الى مكان آخر خوطب بذلك والا فهو اينما يذهب فلن يخرج عن سلطة خالق الكون تعالى.

وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ... (من دون اللّه) اي بدلا عن اللّه تعالى وفي موضع الربوبية. وذلك لأنّ كل من ينتصر به فهو ايضا مخلوق لله تعالى داخل تحت سلطانه. وبما ذكرناه من معنى (من دونه) يتبيّن أنّ ذلك لا ينافي وجود أولياء تحت ولاية اللّه تعالى كولاية الاب والرسول والامام. وقد مرّ في تفسير الآية 8 بيان الفرق بين الولي والنصير.     

 


[1] العلق: 6-7

[2] التوبة: 55

[3] آل عمران: 178

[4] غافر: 57

[5] البقرة: 117

[6] نهج البلاغة الخطبة: 186

[7] الكافي ج1 ص107

[8] التوحيد ص 227

[9] الكافي ج1 ص121 التوحيد ص188 والغريب ان الكليني رواه مرسلا ورواه الصدوق عنه مسندا

[10] آخر فصل من نهاية الحكمة

[11] النحل: 79

[12] الرحمن: 22

[13] نوح: 16

[14] الانعام: 130

[15] الاحقاف: 29

[16] الانعام: 38

[17] النحل: 61

[18] فاطر: 45

[19] الاعراف: 99

[20] تهذيب الاحكام ج3 ص88

[21] الروم: 41

[22] الرعد: 11

[23] الكافي ج2 ص269 باب الذنوب ح3

[24] المصدر ح4

[25] المصدر ح5

[26] الكافي ج2 ص272 باب الذنوب ح16

[27] المصدر السابق ح22

[28] الاعراف: 95

[29] الكافي ج2 ص450

[30] نفس المصدر والآية في سورة الحديد: 21

[31] مشكاة الانوار: 509

[32] البقرة: 154-157