مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا... تعليل لانتصار المؤمنين على الباغي كما ورد في الآية السابقة فهو نظير قوله تعالى (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ..).[1] حيث رتّب الامر بالاعتداء والمعاملة بالمثل على كون الحرمات قصاصا. وتسمية الجزاء سيئة إمّا للمجاراة في التعبير كتسميته اعتداء في الآية الثانية، وإمّا من جهة أنّه يسوء المعتدي فهو سيّـئة بالنسبة اليه وان لم يكن في حد ذاته أمرا سيئا. والمراد بالمماثلة عدم تجاوز المتعارف في مثله لا المماثلة التامة فانه غير ميسور غالبا فالقاتل يقتل ولكن لا يجب ان يكون القتل بنفس الطريقة.

فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّه... الحكم بالمجازاة هو القاعدة الاساسية، وعليه يبتني تحكيم العدل والقانون في المجتمع. ولذلك قال تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[2] فلا بدّ من مجازاة المعتدي لئلا يستشري الظلم والعدوان.

ولكن هناك استثناءات، فربّما يجد وليّ الدم من المعتدي الندم الشديد، ويتيقن منه أنّه لن يعود الى مثل ذلك، وأنّ العفو عنه لا يجرّئ الآخرين على ارتكاب الجريمة بعد أن قبضت عليه العدالة، واُدين بمقتضى القانون، واُطلق يد الوليّ ليقتصّ منه، فإنّ العفو والمسامحة في هذا الظرف ترسيخ للاُخوّة في الدين، وتقوية لأواصر الحبّ والوداد بين شرائح المجتمع. ولذلك ندب اليه الشرع بأبلغ بيان حيث جعل أجره على اللّه تعالى، وهو إجمال له من التعظيم ما لا يسعه البيان. ويكفي العبد عزّا وفخرا أن يضمن اللّه تعالى أجره. ولعل إضافة الاصلاح الى العفو للاشارة الى أنّ العفو ربما يستتبع إذلالا وقطيعة فليس هو الموضوع لهذا الاجر العظيم، بل العفو المستتبع لإصلاح ما فسد بين الفريقين هو موضوع الاجر المضمون.  

إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ... الظاهر أنّه تعليل للجملة الاولى حيث قيّد مجازاة السيئة بسيئة مثلها، بحيث لا يتجاوز عنها كمّا وكيفا، فإنّ التجاوز عنها ظلم، وإن كان هو بادئا بالعدوان. وعليه فذكر حكم العفو جملة معترضة قدمها للتعجيل في التحريض على العفو.

وقيل: إنّه تعليل لما قبله، اي إنّ أجر العافي المصلح على اللّه تعالى، لأنّ الانتقام وإن كان حقّا له، الا أنّه ربما يتجاوز عن المقدار المجاز فإنّه عرضة له، خصوصا مع كونه في حال الغضب، فالعفو أصلح له لأنّ اللّه لا يحب الظالمين. والاول أقرب.

وقيل: إنّه إشارة الى أنّ الترغيب في العفو ليس للإبقاء على الظالم وتفضّلا عليه فإنّ اللّه لا يحب الظالمين، وإنّما هو تفضل على وليّ الدم لينال بعفوه الجزاء. وهذا بعيد جدّا عن اللفظ.

وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ... اللام لام الابتداء ويؤكّد مضمون الجملة. و(مَن) شرطية والفاء للجزاء. وقوله (ظلمه) من إضافة المصدر الى المفعول، اي من انتصر على الظالم بعد وقوع الظلم عليه فلا سبيل عليه، اي لا يؤاخذ اذا انتقم من الظالم. و(مِن) زائدة تؤكّد نفي السبيل. وهو في الاصل الطريق، ويكنّى به عن كل ما يتوصل به الى شيء والمراد هنا ما يتوصل به الى الانتقام. وهذه الجملة للتأكيد على ما ورد في الآيات السابقة من جواز معاملة السيئة بالسيئة، والانتصار على الباغي. واتى بضمير المفرد في (ظلمه) للرجوع الى لفظ الموصول وعبر بالجمع في جملة الجزاء باعتبار المصاديق.

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ... (إنّما) تفيد الحصر إمّا مطلقا او اذا اقتضى المقام كما هنا لورود هذه الجملة بعد نفي السبيل. اي إنّ الإدانة تختصّ بمن يظلم الناس ابتداءا ويتجاوز عن حدّه. والجملة التالية عطف تفسير. والبغي في الاصل بمعنى الطلب، الا أنّه يستعمل غالبا في خصوص ما اذا طلب الانسان ما لا يحقّ له، وقوله (بغير الحقّ) ليس قيدا بل هو تأكيد لما يفهم من البغي مطلقا. ويفهم من قوله (في الارض) أنّ بغيهم لا يختص بقوم ومكان وزمان وظروف خاصّة فهم يطلبون ما يتمكنون منه من حق الناس في الارض اينما كان.

أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ... الظاهر أنّ المراد به عذاب الآخرة. وهذا غير ما يدانون به من السبيل، والمعاملة بالمثل، والانتقام في الدنيا.

وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ... تكرار لام الابتداء في هذه الجملة وتصدير الجملة الثانية بحرف (إنّ) للتاكيد. والمضمون في نفسه تكرار لآية العفو السابقة للتاكيد ايضا. وأضاف هنا الاشارة الى أنّ العفو لا يكون الا مع الصبر، فإنّ ترك الانتقام بعد الظفر بالباغي مما يشقّ على الانسان.

ثم إنّه أبدل العفو بالغفران تاكيدا على نسيان الامر والستر عليه. والعزم ــ على ما في مفردات الراغب ــ هو عقد القلب على إمضاء الامر. وعليه فالمعنى أنّ ذلك من الامور التي تتوقّف على العزم والجدّ.

 


[1] البقرة: 194

[2] البقرة: 179