مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّه إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ...يعود سياق السورة في ثلاث آيات من نهايتها الى ما ابتدأ به من الكلام عن الوحي. وفي هذه الآية يحدّد إمكان تلقّي البشر الكلام من اللّه تعالى في ثلاثة أوجه.

وقوله تعالى (وما كان لبشر..) يدلّ على أنّ البشر لا يتحمل غير ذلك والا فالامر ليس مستحيلا في حد ذاته واللّه تعالى قادر على كل شيء فالنقص في القابل. ولذلك لم يقل ما كان لله أن يكلّم البشر كما قال تعالى (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ..)[1] لأنّ ذلك أمر مستحيل في حد ذاته. وقوله (وحيا) بتقدير (ان يوحي وحيا) كما أن قوله (يرسل رسولا) بتقدير (ان).

والتكليم هو إلقاء الكلام على أحد مع الوصول اليه، ولا يختص بالتحدّث باللسان، وإخراج الصوت من الفم، ومن مقاطع الحروف، بل يصدق ايضا مع ايجاد الكلام بآلة او بدونها، مع وصول الصوت الى المخاطب، بحيث يعلم أنّ مصدر الكلام هو المتكلم بالذات. وهذا الامر يتحقق في زماننا هذا بالأجهزة الالكترونية الحديثة كالأجهزة المنصوبة على الهواتف تتحدث اليك اذا اتصلت بالرقم، ويعلمك بما اُودع فيه من المعلومات المختلفة. فهذا ايضا نوع من التكليم، والصوت من الجهاز وليس تسجيلا لصوت انسان، ولكن هناك من يتحمل مسؤولية هذا الكلام، وإن كان ربما لا يعلم بوصول الكلام اليك بالخصوص.

والحاصل أنّه لا مانع من التعبير عن ما يخلقه اللّه من صوت ويحدّث به بشرا كموسى عليه السلام بالتكليم، وهو تعبير على الحقيقة لا المجاز، وإن كان التكليم المتعارف لا يحدث بهذا النحو، ولكن الكيفية المتعارفة ليست دخيلة في مفهوم التكليم. ومثله كل ما ينسب الى اللّه تعالى من صفات تحمل في كيفيتها المتعارفة ما لا يليق به تعالى كالسمع والبصر والعلم وغير ذلك.

ولا وجه لتأويل تكليم اللّه تعالى بإلقاء العلم في روع الانسان، فإنّه ليس من التكليم في شيء، والا لم يختصّ الأمر بموسى عليه السلام، بل كان كل البشر ممّن كلّمه اللّه تعالى لأنّ كل ما لدينا من علم فانما هو منه تعالى شأنه.

والصور الثلاث التي يمكن أن يتحقق بها تكليم اللّه تعالى للبشر حسب هذه الآية هي:

1- الوحي. وهو في اللغة الاشارة والكتابة والإلهام، وكل إعلام بخفاء. ويبدو أنّ المقصود هنا هو المعنى الاخير، اي الإعلام بخفاء، سواء في اليقظة او المنام، فيشمل ما اُلقي على إبراهيم عليه السلام في الرؤيا من الامر بذبح ابنه وكل إلقاء في القلب يشعر الانسان به أنّه من اللّه تعالى وتطمئنّ له نفسه، ولا يشمل الإلهامات التكوينية او ما يسمى بالغريزة كقوله تعالى (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا..)[2] فان هذا ليس من تكليم اللّه تعالى. وبذلك يتبين أن الوحي من الله تعالى أعم من تكليمه. والظاهر ان منه قوله تعالى بشأن يوسف عليه السلام (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)[3] وقوله تعالى (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ..)[4] ونحو ذلك، وهو كثير، كما يمكن أن يكون المراد بالوحي في هذه الموارد محادثة الملك فيكون التعبير بالايحاء باعتبار أن الملك يوحي الى الرسول كما ورد في القسم الثالث.

والاحتمالان يأتيان في قوله تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ..)[5] فيحتمل أن يكون من قبيل الالهام ويحتمل أن يكون من قبيل محادثة الملك كما حدث لمريم عليها السلام ومهما كان فلا شك في أن ام موسى عليهما السلام كانت تعلم أنه من اللّه جل شأنه ولذلك قال تعالى (فَرَدَدْناهُ إِلى‏ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ..)[6] مما يدل على أنها كانت تعتبره وعدا منه تعالى.

ومن هذا القبيل ايضا ما ورد من المقاولة بين اللّه تعالى وبعض الرسل فيحتمل فيها الامران كقوله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي..)[7] وغير ذلك، وهو كثير ايضا بناءا على ما سيأتي من اختصاص التكليم المباشر بموسى عليه السلام.

2- أن يكون من وراء حجاب، اي يكلمه اللّه تعالى من وراء حجاب. ومعنى ذلك انه يسمع الكلام ولا يجد احدا فهذا في الواقع تكليم من اللّه تعالى مباشرة وليس وحيا وإلقاءا للعلم في خفاء ولا يتوسط بين الرسول وربه ملك. ومنه خطاب موسى عليه السلام في الطور. ولا اعلم موضعا صرح فيه بمثل هذا التكليم غيره.

ويظهر الاختصاص بوضوح من قوله تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيمًا)[8] حيث يلاحظ أنّه تعالى عبّر عن رسالة كل الانبياء بالوحي وأشار الى مجموعة منهم وذكر فيهم اولي العزم الا موسى عليه السلام فافرده بالقول (وكلّم موسى تكليما) ويتبين منه أنّ كل ما ورد من القول بين اللّه تعالى وسائر الانبياء عليهم السلام ليس من التكليم المباشر كما مرّ.

ويدل عليه ايضا قوله تعالى (قالَ يا مُوسى‏ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتي‏ وَبِكَلامي..)[9] فانه يفيد اختصاصه من بين الناس باجتماع الامرين الرسالة والكلام بخلاف غيره من الرسل.

3- أن يكون بواسطة ملك. وهو المراد بقوله تعالى (او يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء) ولعل هذا هو الغالب في ارسال الرسالات. والمراد بالرسول الملك. وقوله (فيوحي) فاعله الملك، فالمعنى أنّه تعالى يرسل الملك، وهو يوحي الى الرسول ما يشاء اللّه إبلاغه به وذلك باذن منه تعالى.

والتعبير عن إلقاء الملك بالوحي لعله من جهة انه ايضا ليس من قبيل المحادثات بين البشر. ونحن لا نعلم كيفية تلقي الانسان الرسول ما أوحى اللّه تعالى من الملك الرسول. والوارد في بعض الروايات أنّ الرسول صلى اللّه عليه واله وسلم كان يعرض عليه شبه الغشوة حين تلقي الوحي وأنّه كان يثقل حتى لو كان على دابّة لم تتحمّل ثقله ولصقت بالارض وان لم يثبت ذلك ولم يرد في الروايات المعتبرة.

وقال العلامة الطباطبائي قدس سره في تفسير قوله تعالى (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)[10] (وقد كان ثقله مشهودا من حال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم بما كان يأخذه من البُرَحاء وشبه الإغماء على ما وردت به الأخبار المستفيضة) والبُرَحاء: الحمى الشديدة.

ولعله يقصد بذلك أحاديث العامّة اذ لم يرد في كتبنا المعتبرة بل في بعض رواياتنا ما ينافي ذلك وان لم يثبت ذلك ايضا عن طريق معتبر وقد ورد في الروايات أنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يخبر عما يأتي به جبرئيل عليه السلام وهو في وضع طبيعي ويقول (هذا جبرئيل يأمرني بكذا وكذا او يخبرني بكذا وكذا) وهو مقبل على الناس يحدثهم، ولكن لا نعلم كيف كان جبرئيل عليه السلام يخبره صلى اللّه عليه وآله وسلّم فلعله ايضا بالايحاء اي الاعلام بخفاء.

منها ما رواه الكليني بسند صحيح عن ابي عبد اللّه عليه السلام في حديث طويل عن حج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم وفيه (فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ سَعْيِهِ وَ هُوَ عَلَى الْمَرْوَةِ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ فَحَمِدَ اللّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ هَذَا جَبْرَئِيلُ ــ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى خَلْفِهِ ــ يَأْمُرُنِي أَنْ آمُرَ مَنْ لَمْ يَسُقْ هَدْياً أَنْ يُحِلَّ وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا أَمَرْتُكُمْ...)[11]   

وهناك موارد تحدث فيها الملك مع الانسان مواجهة كما تتحادث البشر بعضها مع بعض وليس ذلك من الايحاء كما ورد في قصة لوط عليه السلام ان الملائكة نزلت عليه بصورة انسان وانه اشتبه عليه الامر فقال (هذا يوم عصيب) حيث خاف عليهم من اعتداء اهل المدينة عليهم وهم شباب حسان الوجوه. وكذلك نزلوا بانفسهم قبل ذلك على ابراهيم عليه السلام بصورة ضيوف واتى اليهم بعجل حنيذ بل كلموا زوجته وبشروها باسحاق عليه السلام. وايضا تمثل الملك لمريم عليها السلام بشرا سويا وتحدث اليها وخافت منه حيث ظنته بشرا.

ولعل الثقل الذي كان يظهر على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ــ لو صح النقل ــ لم يكن من جهة محادثة الملك بل من جهة ثقل الكلام كما قال تعالى (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)[12] ولعله لذلك ايضا ما كان الوحي الرسالي ينزل على مسامعه بل ينزل على قلبه كما قال تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّه)[13] وقال تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)[14].

فلا يبعد القول بأن هناك فرقا بين رسالة السماء التي يبعثها اللّه تعالى الى اهل الارض عن طريق الرسول وبين ما تتحدث به الملائكة مع الرسل او غيرهم في مختلف الامور فالاول كلام ثقيل لا ينتقل من الملك الى الرسول الا عن طريق الايحاء الى القلب والثاني يحدث بصورة محادثة عادية بين الانسان والملك المتمثل في صورة انسان او غير المتمثل كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم: (هذا اخي جبرئيل يخبرني بكذا وكذا).

ومهما كان فمن الواضح ان المراد بالرسول في هذه الآية الملك. ومن الغريب ما ورد في تفسير الكشاف من ان المراد به الرسول الانسان فيكون عنوان البشر في قوله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه اللّه..) يشمل من يلقي الرسول عليهم رسالة السماء من الامة.

وهذا غير صحيح قطعا لان هذا لا يعتبر تكليما من اللّه تعالى وانما هو إرسال رسالة وايصال علم وليس من قبيل إرسال الملك الى الرسل فانه رابط غيبي يوصل الوحي من اللّه تعالى ولذلك كان يحدث بارتباطه مع الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ما يحدث حين نزول الوحي ــ لو صحّ النقل ــ لان الملك ليس الا واسطة لانتقال تكلم اللّه مع البشر وليس ناقلا للكلام كما ربما يتوهم.

وقوله تعالى (فيوحي باذنه ما يشاء..) تأكيد على ان الملك لا يوحي من قبله شيئا وانما يوحي ما يشاؤه اللّه تعالى مشيئة تكوينية وباذن وعناية خاصة منه. ولذلك اعتبر هذا الوحي والرسالة تكليما من اللّه تعالى.

إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ... الظاهر انه تعليل لما سبق فاللّه تعالى لعلوه ونزاهة ساحته لا يكلّم البشر مباشرة بمعنى ان البشر لا يستطيع ان يتلقى من ربه مباشرة في هذه الحياة الدنيا الا باحد هذه الوجوه مهما كان رفيع الدرجة عند ربه. وهو تعالى لحكمته اختار لكل احد وفي كل موضع ما يناسبه من كيفية الالقاء وايصال الرسالة.

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا... ظاهر لفظ الآية أن المراد بالروح القرآن او الشريعة وأن الاشارة في قوله (وكذلك) الى ما مر من طرق التكليم أي وبمثل هذه الطرق اوحينا اليك القرآن. والظاهر انه اشارة الى مطلق الطرق المذكورة لا الى كلها كما قيل، بناءا على ما مرّ من ان الظاهر ان التكلم من وراء حجاب كان خاصا بسيدنا موسى عليه السلام. واللّه العالم.

ولعله عبّر عن القرآن بالروح لانه منشأ الحياة المعنوية للانسان كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ..)[15] ومثل هذا التعبير ورد في قوله تعالى (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ)[16] وايضا في قوله تعالى (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ)[17] والظاهر أن (من) في قوله تعالى (من أمرنا) بيانية اي الامر الالهي الذي يبعث بالروح ويحيي الانسان فحياته المعنوية تحصل بمتابعة الاوامر الالهية، ويحتمل أن يراد بالامر ما يعم النهي. وعليه فالمراد بالامر شريعة السماء. وكذلك قوله تعالى (من أمره) في سورتي النحل وغافر. وقيل المراد بالامر قضاؤه تعالى فالمعنى الروح الذي نشأ من قضائه وارادته تعالى. وهو بعيد اذ لا يختص ذلك بالشريعة.

هذا هو الظاهر من الآيات ولكن هناك اختلاف كثير في تفسير الروح وكونه من الامر في المواضع الثلاث ومن المفسرين من أهمل كلمة الامر ولم يفسرها واكتفى بتفسير الروح وانه القرآن او الوحي او الشريعة او النبوة ومن هؤلاء الشيخ الطوسي قدس سره في التبيان والطبرسي في مجمع البيان ومنهم من فسره بجبرئيل عليه السلام لقوله تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ..)[18] وهناك روايات تدل على انه خلق آخر اعظم من جبرئيل وميكائيل ويظهر منها أنه ليس من الملائكة.

روى الكليني قدس سره في باب (الروح التي يسدّد اللّه بها الأئمة عليهم السلام) عدة روايات تدل على ذلك ولكن لا يصح منها الا رواية ابي بصير وقد رواها بثلاث وجوه وبثلاث طرق كلها معتبرة قال في احداها: (سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن قول اللّه تبارك وتعالى "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان" قال: خلق من خلق اللّه عز وجل أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم يخبره ويسدّده وهو مع الأئمة من بعده) وأضاف في اخرى (وهو من الملكوت) وفي الثالثة (لم يكن مع أحد ممن مضى غير محمد صلى اللّه عليه وآله وسلّم وهو مع الأئمة يسدّدهم وليس كل ما طلب وجد).[19]

وفي بصائر الدرجات اكثر من ثلاثين حديثا كلها بهذا المضمون.[20]

وظاهر هذه الروايات وغيرها ان هذا الروح ليس من الملائكة وان قورن بجبرئيل وميكائيل حيث عبر عنه انه خلق من خلق اللّه مضافا الى انه لا يناسب التعبير عن الملك بأنه اُوحي الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بل صرح بذلك في بعض الروايات كما سيأتي وان لم يصح السند.

ويبدو ممن فسر الروح في الآية الكريمة بالقرآن من علمائنا أنهم لم يقبلوا هذه الروايات مع انها كانت بمرأى منهم.[21] ولعل الوجه في ذلك أن هناك بعض الملاحظات عليها مما يوجب عدم الوثوق بصدورها وان صح السند:

الملاحظة الاولى: أن ظاهر هذه الروايات وصريح بعضها أن هذا الروح بقي مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم والائمة من بعده عليهم السلام فهذا مقتضى المعية الواردة في كل هذه الروايات وقد صرح في عدة من روايات بصائر الدرجات انه لم يصعد الى السماء منذ هبط الى الارض وهذا الامر مخالف لقوله تعالى (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)[22] حيث تدل على أن الروح ينزل في ليلة القدر كل عام.

ويمكن ان يدفع الاشكال بأن الروح في هذه الآية غير الروح في الآيات الثلاث وان ورد الاستدلال بهذه الآية ايضا في ان الروح غير الملائكة في بعض الروايات وسيأتي ذكرها الا انها ضعيفة سندا.

الملاحظة الثانية: ما ورد في النص الثالث من الروايات المذكورة عن ابي بصير وسنده معتبر ايضا من أن هذا الروح لم يكن لاحد قبل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم مع أن ظاهر الآيات أنه تعالى يلقيه على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق او ينذر أنه لا اله الا هو ومعنى ذلك أن هذا الروح كان مع جميع الرسل عليهم السلام. ولكن هذه الملاحظة تختص بهذه الرواية او بهذا النقل في رواية ابي بصير بناء على ان كل ما روي عنه في هذا الموضوع باجمعها رواية واحدة.

الملاحظة الثالثة: أن هذه الروايات مخالفة للقرآن الكريم فان صريح الآيات أن القرآن أتى به جبرئيل عليه السلام وهو الذي كان يخبر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بالشريعة وبغيرها بل عبر في سورة التكوير ان القرآن من قوله عليه السلام كما سيأتي بل هو الروح الذي أيد اللّه به عيسى عليه السلام ايضا كما قال تعالى (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ..)[23] فان المراد به جبرئيل بقرينة قوله تعالى (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ..).[24] بضميمة ما دل على أنه هو الذي أنزل القرآن كقوله تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّه ..).[25] ولعله ايضا هو الملك الذي وكّل بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم منذ صغره على ما ورد في نهج البلاغة من قول امير المؤمنين عليه السلام في بيان اوصاف الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم (وَلَقَدْ قَرَنَ اللّه بِهِ مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ) فان الظاهر أن جبرئيل هو أعظم الملائكة لقوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ).[26]

ولكن يمكن أن يقال ان هذا الروح شيء آخر كان مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والأئمة عليهم السلام يسدّدهم ويخبرهم ولعل جبرئيل عليه السلام أتى به كما يدل عليه قوله تعالى (ينزّل الملائكة بالروح من امره..).

الملاحظة الرابعة: أنّ الروايات تدل على أنّ الروح أعظم من جبرئيل وقد مرّ آنفا أنه عليه السلام أعظم الملائكة. وهذا انما يصح لو فرض كون الروح من الملائكة وقد بيّـنّا أنّ ظاهر الروايات أنه ليس منها فلا مانع من كونه أعظم من جميعهم حتى جبرئيل عليه السلام وقد صرح بذلك في بعض الروايات فقد روى الكليني في حديث طويل عن ابي بصير عن ابي عبداللّه عليه السلام (قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ الرُّوحُ لَيْسَ هُوَ جَبْرَئِيلَ قَالَ الرُّوحُ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ جَبْرَئِيلَ إِنَّ جَبْرَئِيلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّ الرُّوحَ هُوَ خَلْقٌ أَعْظَمُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَلَيْسَ يَقُولُ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوح‏..).[27]

وروى ايضا عن سعد الاسكاف قال (أَتَى رَجُلٌ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يَسْأَلُهُ عَنِ الرُّوحِ أَلَيْسَ هُوَ جَبْرَئِيلَ؟ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام جَبْرَئِيلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحُ غَيْرُ جَبْرَئِيلَ. فَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ فَقَالَ لَهُ لَقَدْ قُلْتَ عَظِيماً مِنَ الْقَوْلِ مَا أَحَدٌ يَزْعُمُ أَنَّ الرُّوحَ غَيْرُ جَبْرَئِيلَ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام إِنَّكَ ضَالٌّ تَرْوِي عَنْ أَهْلِ الضَّلَالِ يَقُولُ اللّه تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى اللّه عليه وآله وسلّم "أَتى‏ أَمْرُ اللّه فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ" وَالرُّوحُ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِمْ).[28]

ولكن الاستدلال الوارد في الروايتين ضعيف لان العطف لا يدل على التغاير لامكان عطف الخاص على العام لميزة في الخاص كما أن الروح في آية سورة النحل قد يكون بمعنى الوحي او الشريعة كما هو محل البحث هنا. والروايتان ضعيفتان سندا.

ويمكن ان يستدل بقوله تعالى (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّه هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ).[29] أنه أعظم موجود من الخلائق يدافع عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فينافي ما تدل عليه الروايات الا اذا كان المراد بالعظمة امرا آخر.

الملاحظة الخامسة: أن التعبير بالايحاء لا يناسب أن يكون المراد بالروح حقيقة عينية كما يظهر من التعبير بكونه أعظم من جبرئيل وميكائيل وأنه يسدّد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والأئمة من بعده عليهم السلام بل يخبرهم بالحقائق فالايحاء لا يصح الا في المفاهيم والاوامر والنواهي التي تلقى الى الرسل. والغريب أن الروايات وردت في تفسير هذه الآية بالخصوص والا لأمكن القول بأن المراد بالروح في هذه الآية يختلف عن المراد به في سورتي النحل وغافر ولم يعبر فيهما بالايحاء.

وأجاب العلامة عن الاشكال فقال (ويمكن أن يوجه التعبير عن الإنزال بالإيحاء بأن أمره تعالى على ما يُعرّفه في قوله "إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ"[30] هو كلمته، والروح من أمره كما قال "قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي"[31] فهو كلمته، ويُصدّق ذلك قوله في عيسى بن مريم عليه السلام "إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّه وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ"[32] وإنزال الكلمة تكليم فلا ضير في التعبير عن إنزال الروح بإيحائه، والأنبياء مؤيدون بالروح في أعمالهم كما أنهم يوحى إليهم الشرائع به قال تعالى "وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ..).[33]

ولكن لا دليل على كون المراد بالروح في قوله تعالى (ويسألونك عن الروح قل الروح من امر ربي) هو نفس المراد بالروح في قوله تعالى (روحا من امرنا) فان الروح الذي وقع مورد السؤال من قبل المشركين هو روح الانسان قطعا اذ لا يعلمون للروح معنى غيره. والجواب الوارد في الآية لا يطابق السؤال اذ لم يبين لهم حقيقة الروح وانما بيّن أنه مخلوق بأمره تعالى ولعل الجواب الحقيقي هو قوله تعالى بعد ذلك (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).

وليس معنى قوله تعالى (من امر ربي) انه من جنس الامر كما قال العلامة قدس سره في عدّة موارد اذ الامر ليس الا قولا كما قال تعالى (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[34] مع أنه تعالى قال (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[35] فالمراد بالامر هو هذا القول بل ليس قولا باللفظ وانما هو ارادة ولعله اشارة الى أن خلق الروح لا يمر بمراحل طبيعية وانما تتكوّن حقيقته بمجرد الارادة كما قال تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[36]. ولهذا عبّر عنه عليه السلام بكلمته التي القاها الى مريم في الآية التي تمسك بها العلامة وليس هذا من التكليم في شيء ولا يصدق عليه الايحاء بل هو مجرد ارادة. فقوله تعالى (من امر ربي) بمعنى أنه نشأ ووجد من الامر لا انه من جنس الامر.

وقد ذكرنا في مقدمة هذا التفسير أن من الأخطاء المتداولة في ما يدعى بالتفسير القرآني للقرآن محاولة فهم معنى الآية بملاحظة نفس الكلمة في سائر الموارد من دون الالتفات الى احتمال الاختلاف في المعنى وكون اللفظ مشتركا.

والواقع أن هذه الملاحظة على الروايات يصعب الجواب عنها فلا بد من ردّ علمها اليهم عليهم السلام على فرض الصدور ولكن مع ذلك لا يسعنا الجزم بمعنى الروح في الآيات الثلاث الا أن الظاهر منها هو القرآن كما مر ذكره وهو المذكور في أكثر التفاسير.

والجدير بالذكر أن هذا الاشكال لا يختص بالروايات بل يرد على كل من فسّر الروح في الآية الكريمة بجبرئيل عليه السلام وقد نسبه القرطبي الى الربيع. وفي تفسير الآلوسي (وعليه فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى أرسلناه بالوحي إليك لأنه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله..) ولكن هذا التأويل بعيد جدا.

وفي تفسير ابي السعود (ومَعْنى إيحائِه إليهِ عليهما السَّلامُ إرسالُه إليهِ بالوحي). وهو ايضا تأويل بعيد ينزّه عنه تعبير القرآن الكريم الا أن هذا القول نادر لم يذكر عن غير الربيع بل لم ينقل عنه في سائر الكتب. نعم ورد في التفسير المنسوب الى ابن عباس (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا.. يَعْنِي جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ) والنسبة غير ثابتة والمنقول عنه في التفاسير هو تفسيره بالنبوة.

ويمكن أن يكون ما ورد في الروايات من باطن القرآن كما ينبئ عنه تكرار المركب المذكور ــ اي الروح مع كونه من امر اللّه تعالى ــ في هذه الموارد مما يدل على عناية خاصة به مع كونه مبهما يتوقف معرفته على مراجعة اهل بيت الوحي عليهم السلام ولا ينافي ان يكون المعنى الظاهر مرادا ايضا. وهذا من عجائب هذا الكتاب العظيم الذي لا تنقضي عجائبه فكثيرا ما يرد فيه بيان حقيقة بلغة مبهمة يمكن حملها على معنى ظاهري وهو مراد ايضا ولكن الحقيقة التي تخفى وراء هذا الابهام والاجمال يبقى لغزا لا يحله الا اهله.

ولكن العلامة الطباطبائي قدس سره حاول أن يثبت نفس المعنى عن طريق الآيات نفسها بالطريقة التي اشرنا اليها آنفا ومن الغريب أنه هنا تردّد في تأويل التعبير بالايحاء وتكلّف في ذلك كما نقلنا بعض كلامه مع أن هذه الآية هي مورد الروايات ولكنه في تفسير سورة النحل جزم بأن الروح هو هذا المعنى اي المخلوق الامري بل استشهد بهذه الآية أن مقتضى التعبير بالايحاء هو ذلك قال قدس سره (فتحصل أن الروح كلمة الحياة التي يلقيها اللّه سبحانه إلى الأشياء فيحييها بمشيئته، ولذلك سماه وحيا وعدّ إلقاءه وإنزاله على نبيه إيحاء في قوله «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا»[37] فإن الوحي هو الكلام الخفي والتفهيم بطريق الإشارة والإيماء فيكون إلقاء كلمته تعالى ــ كلمة الحياة ــ إلى قلب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم وحيا للروح إليه، فافهم ذلك). وبأدنى تأمل يتبين أن الروح ليس كلمة الحياة بل مخلوق بكلمة الحياة.

مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ... خطاب للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم اي انك كنت جاهلا قبل الوحي بالكتاب والايمان فليست هذه الرسالة من إبداعك ولا من علمك بل لم تكن تعلم منها شيئا قبل الوحي الالهي اما عدم علمه بالكتاب فواضح لانه لم يخاطب به بعد ولم ينزل عليه الوحي. والرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كغيره من الخلائق لا يعلم شيئا الا ما علّمه اللّه تعالى.

واما عدم الايمان فقد أشكل الامر على بعضهم انه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان مؤمنا قبل الرسالة ايضا فلابد من تأويل الآية فذكروا فيها وجوها من التأويل، فقيل: ان المراد نفي ايمانه بالكتاب. وقيل: المراد هو التصديق والعمل، ولم يكن لديه قبل ذلك برامج عملية. وقيل: المراد الايمان بالرسالة، ولم يكن قبل ذلك رسولا. وقيل: المراد الايمان بالمعارف الاعتقادية التي لا تحصل الا عن طريق الوحي كبعض خصوصيات يوم القيامة. وقيل غير ذلك. واقوى ما ذكر هو الاخير.

ولكن يمكن ان يقال ان المراد انه لم يكن يعلم شيئا من الكتاب ولا الايمان قبل تعليم اللّه اياه والهامه التوحيد لا قبل نزول القرآن وهذا الالهام ايضا جزء من الروح الذي اوحي اليه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بناء على ما ذكرناه من التفسير وأما بناء على الروايات فواضح.

وقد ورد في رواية الاشارة الى ذلك فقد روى الكليني قدس سره بسند ضعيف فيه محمد بن الفضيل وهو الازدي الصيرفي (الذي ضعفه الشيخ وقال يرمى بالغلو) عن ابي حمزة قال (سالت ابا عبداللّه عليه السلام عن العلم أهو علم يتعلمه العالم من أفواه الرجال أم في الكتاب عندكم تقرأونه فتعلمون منه؟ قال: الأمر أعظم من ذلك وأوجب أما سمعت قول اللّه عز وجل "وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان" ثم قال: أي شيء يقول أصحابكم في هذه الآية أيقرّون أنّه كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الايمان؟ فقلت لا أدري ــ جعلت فداك ــ ما يقولون. فقال: بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الايمان حتى بعث اللّه تعالى الروح التي ذكر في الكتاب فلما أوحاها اليه علم بها العلم والفهم وهي الروح التي يعطيها اللّه تعالى من شاء فاذا أعطاها عبدا علمه الفهم).[38] 

فالآية نظير قوله تعالى (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)[39] والرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يكن ضالّا في يوم من الايام ولكن حيث كانت هدايته بتأييد والهام من اللّه تعالى فهو ضالّ لولا هدايته تعالى. وفي نهج البلاغة (وَلَقَدْ قَرَنَ اللّه بِهِ صلى اللّه عليه وآله وسلّم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ).

وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا... اي ليس القرآن من ابداعك وعلمك بل ارسلناه اليك وجعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا. وهناك من الناس من يسمع القرآن او يقرأه ولا يستضيء بنوره ولا يهتدي به بل يزيده القرآن ضلالا وعتوّا كما قال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)[40] والسبب ان عدم ايمانه ليس لشك فيه بل لمكابرته مع الحق وعناده. وكلما تكررت مواجهة الآيات الواضحة والبراهين الساطعة تضاعفت عليه الحجة، وهو مصرّ على عناده فيزيده ذلك خسرانا.

و قد تكرر في الكتاب العزيز تعليق الهداية على المشيئة الالهية، وقلنا ان ذلك لا يعني ان الانسان مسيّر في ضلاله وهدايته وأنّه ليس له ان ينتخب المسير، بل معناه ان الانسان بسوء اختياره يسلك طريق الضلال ويصرّ عليه ويعاند الحق فتحقّ عليه كلمة الضلال ويختم اللّه على قلبه فلا يمكنه العود. وهذا الختم والطبع والاضلال نتيجة طبيعية لمعاندة الحق بعد وضوحه، وكلّ ما هو نتيجة طبيعية فهو مستند الى اللّه تعالى كما قال: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )[41].

وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ... من لطيف التعبير انه تعالى جمع في آية واحدة نفي الهداية والعلم من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وأثبت له بكل تأكيد انه يهدي الى صراط مستقيم فالمراد أنه لا يتم ذلك الا بفضل من اللّه تعالى حيث جعل الانسان الامي الذي لا يقرأ ولا يكتب ولم يكن حاملا لعلم ولم يظهر منه نبوغ ومعرفة ولم يقل شعرا ولم يخطب خطابة طيلة اربعين عاما جعله في لحظة واحدة هاديا لجميع البشر الى صراط مستقيم.

والصراط: الطريق الواضح. وأصله السراط وانما ابدلت السين صادا في التلفظ لتناسب الطاء وتجوز القراءة بالوجهين والسراط في اصل اللغة الابتلاع واطلق على الطريق باعتبار أن المسافر يغيب فيه فكأنه ابتلعه.

والمراد باستقامة الصراط انه طريق لا ينحرف عن الحق وليس بمعنى كونه خطّا مستقيما في مقابل الخطوط المنحنية. وهذا تعبير متعارف يقصد به عدم الانحراف الى الاهواء والآراء الفاسدة. ومثله قول امير المؤمنين عليه السلام (الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ) فكل ما عدا الصراط المستقيم منحرف عن الطريق الحق وينتهي بالانسان الى الضلال والهلكة.

ولكن ورد في الميزان في تفسير قوله تعالى في سورة الفاتحة (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) معنى آخر للاستقامة قال رحمه اللّه:

(ان اللّه سبحانه قرر في كلامه لنوع الإنسان بل لجميع من سواه سبيلا يسلكون به إليه سبحانه فقال تعالى: "يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ" الإنشقاق: 6 وقال تعالى: "وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ" التغابن: 3 وقال: "أَلا إِلَى اللّه تَصِيرُ الْأُمُورُ" الشورى: 53، إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة الدلالة على أن الجميع سالكو سبيل، وأنهم سائرون إلى اللّه سبحانه. ثم بيّن أن السبيل ليس سبيلا واحدا ذا نعت واحد بل هو منشعب إلى شعبتين منقسم إلى طريقين، فقال: "أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ" يس: 60-61، فهناك طريق مستقيم وطريق آخر وراءه، وقال تعالى "فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" البقرة: 186، وقال تعالى: "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ" غافر: 60، فبيّن تعالى أنه قريب من عباده وأن الطريق الأقرب إليه تعالى طريق عبادته ودعائه، ثم قال تعالى في وصف الذين لا يؤمنون "أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ" فصلت: 44، فبيّن أن غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم وسبيلهم بعيدة. فتبين أن السبيل إلى اللّه سبيلان: سبيل قريب وهو سبيل المؤمنين وسبيل بعيد وهو سبيل غيرهم...).

وحاصل ما ذكره أنّ الصراط المستقيم اقرب الطرق الى اللّه تعالى وسائر الطرق بعيدة ولكنها بأجمعها تنتهي اليه تعالى وكل الناس بل كل المخلوقات سائرة اليه فالصراط المستقيم هو الصراط القريب في مسير البشر الى اللّه والآخرون يتعبون أنفسهم في سلوك الطرق البعيدة المنحنية. واستدل على سير عامة البشر الى اللّه سبحانه بقوله تعالى (يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه) حيث إن الخطاب لنوع الانسان وليس للمؤمنين خاصة.

ولكن الصحيح أن الآية لا تنظر الى سلوك السبل الى اللّه تعالى بل المراد أن الانسان مهما كان وفي اي طريق فانه سينتهي الى اللّه تعالى ويحاسبه على اعماله كما فصّل بعد ذلك بقوله (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)[42] فاللقاء يتم قسرا وقهرا وليس بسلوك الانسان في سبيل ينتهي اليه فالمراد بالسبيل الذي ينتهي اليه تعالى الصراط المستقيم بالذات والمراد بانتهائه الى اللّه الانتهاء الى تحصيل رضاه والتقرب لديه تعالى وليس هذا سبيل غير المؤمنين كما يبدو من عبارته رحمه اللّه.

وقد ذكر هو بنفسه في تفسير الآية في سورة الانشقاق (أن المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلا حكمه من غير أن يحجبه عن ربه حاجب) وهذا ينافي ما يبدو من كلامه في سورة الفاتحة من أن سير الانسان الى اللّه كسير سائر المخلوقات. كما ان استدلاله على سير سائر المخلوقات الى اللّه بقوله تعالى (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ينافي ما ذكره بنفسه في تفسيره من أن المراد به البعث وهو خاص بالانسان. واما قوله تعالى (أَلا إِلَى اللّه تَصِيرُ الْأُمُورُ) فليس بمعنى السير الى اللّه كما سيأتي البحث عنه ان شاء اللّه تعالى.  

وأما قوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ..) حيث استدل به على قربه تعالى من عباده اذا توجهوا اليه بالدعاء فيكون هو الطريق الاقرب فيردّه أنه لا شك في أن القرب في هذه الآية ليس بمعنى قرب الطريق من جهة الانسان ليدل على أن الدعاء أقرب الطرق بل بمعنى أنه محيط بكل شيء وقريب الى كل شيء فيسمع كل دعاء ويجيب كل داع حتى لو لم يكن في الصراط المستقيم فهذا القرب من جهته تعالى وليس من جهة الانسان والخطاب فيه عام لكل العباد.

وأغرب من كل ذلك استدلاله على بعد سبيل الكافرين بقوله تعالى (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وقد قال رحمه اللّه تعالى في تفسير الآية: (أي فلا يسمعون الصوت ولا يرون الشخص وهو تمثيل لحالهم حيث لا يقبلون العظة ولا يعقلون الحجة) وأين هذا من قرب الطريق الى اللّه وبعده؟!!!

فالحاصل أن ما صدر منه في تفسير الصراط المستقيم ليس دقيقا ومناسبا لعلو مقامه العلمي قدس سره. واللّه العاصم.

صِرَاطِ اللّه... بدل عن الصراط المستقيم اي إنّ الصراط المستقيم الذي تهدي اليه ليس أمرا من إبداعك وإنشائك بل هو صراط اللّه فانت الهادي الى صراطه تعالى. وإضافة الصراط اليه تعالى باعتبار أنه ينتهي اليه اي الى معرفته وتحصيل مرضاته او باعتبار انه هو الطريق الذي رسمه اللّه لعباده. وصراط اللّه هو كل ما يشتمل عليه الكتاب والسنة من العقائد والأحكام والمعارف.

الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ... (ما في السماوات وما في الارض) تعبير عن الكون بكامله فالكون كله له اي مضاف اليه تعالى وملك له ملكية حقيقية بمعنى انه في كيانه ووجوده مفتقر ومستند اليه تعالى.

ولعل هذا التوصيف في هذا المقام للاشارة الى أنّ الاحكام والاوامر والنواهي التي هي عبارة عن الصراط والطريق الحق حيث كانت صادرة من اللّه الذي له ملك السماوات والارض فالواجب امتثالها والالتزام بها وان لم يعلم الانسان وجه الحكمة فيها بل حتى لو وجدها منافية للحكمة حسب ظنه فان الذي امره بها هو المالك له ولكل شيء ولا يحق لاحد ان يعترض على امره او يسأل عن وجه الحكمة في اوامره ليتوقف الامتثال على فهمها والاعتراف بها بل يجب عقلا على كل احد ان يتعبد باوامره تعالى ونواهيه لا لشيء الا لانه المالك لكل شيء.

ولذلك قلنا في اصول الفقه ان وجوب اطاعته تعالى عقلا في الاحكام المولوية لا يتوقف على وجوب دفع الضرر وهو العقاب بل هو واجب حتى لو لم يشتمل الحكم المولوي على حكم جزائي وان كان الداعي النفسي للاطاعة لا يتحقق في الانسان غالبا من دون خوف من العقاب او طمع في الثواب.

أَلَا إِلَى اللّه تَصِيرُ الْأُمُورُ... (ألا) أداة تنبيه تتقدم الجملة التي يهتم بها. وتقديم الجار والمجرور (الى اللّه) على الفعل لافادة الحصر اي لا تنتهي الامور الا اليه بمعنى ان الامور كلها صائرة اليه تعالى باستمرار فتدل الجملة الاولى اي (له ما في السماوات وما في الارض) على انه مبدأ كل شيء والثانية على انه المنتهى. والثانية بمنزلة النتيجة للاولى لانه اذا كان كل شيء ملكه ومفتقرا اليه في كيانه فامره في النهاية ايضا بيده.

توضيح ذلك ان الشيء اذا كان علة لوجود شيء فقط ولم يستند اليه في البقاء فليس نهايته مرتبطة به اما الكون بتمامه حيث انه مفتقر حدوثا وبقاءا وبكل كيانه اليه تعالى فنهايته ايضا بيده فيكون مفاد الجملة الثانية نتيجة الاولى واللّه العالم. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين ونسأل اللّه التوفيق في الاستمرار.

 


[1] مريم: 35

[2] النحل: 68

[3] يوسف: 15

[4] الشعراء: 63

[5] القصص: 7

[6] القصص: 13

[7] البقرة: 260

[8] النساء: 163- 164

[9] الاعراف: 144

[10] المزّمّل: 5

[11] الكافي ج4 ص246

[12] المزمل: 5

[13] البقرة: 97

[14] الشعراء: 192- 193

[15] الانفال: 24

[16] النحل: 2

[17] غافر: 15

[18] الشعراء: 193- 194

[19] الكافي ج1 ص273

[20] بصائر الدرجات ص475

[21] كما في تصحيح اعتقادات المفيد ص80 وتفسير التبيان ومجمع البيان وغيرها

[22] القدر: 4

[23] البقرة: 87

[24] النحل: 102

[25] البقرة: 97

[26] التكوير: 19- 21

[27] الكافي ج1 ص387 والآية في سورة القدر: 4

[28] الكافي ج1 ص274 والآية في سورة النحل: 2

[29] التحريم: 4

[30] يس: 82

[31] اسراء: 85

[32] النساء: 171

[33] البقرة: 87

[34] النحل: 40

[35] يس: 82

[36] ال عمران: 59

[37] الشورى: 52

[38] الكافي ج1 ص 273

[39] الضحى: 7

[40] الاسراء: 82

[41] الانعام: 110

[42] الانشسقاق: 7