مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا... الاشارة في قوله (وكذلك) الى الايحاء بالقرآن. وقد مرّ الكلام في هذا النوع من التشبيه في اول السورة. والقرآن مصدر بمعنى القراءة ويراد به المفعول اي المقروء وهو الكتاب ووصفه بكونه عربيا اي نازلا بلغة العرب. وقوله (لتنذر..) تعليل لكون القرآن عربيا ومعناه أن اختيار هذه اللغة من جهة أن موضع الرسالة بلاد العرب.

وذكر الانذار كوظيفة للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم مع أن الرسول بصورة عامة منذر ومبشّر من جهة أن الاهتمام انما هو بإنذاره وكأنه هو الهدف الاساس، لانّ دور الرسول هو إتمام الحجّة، وهو يتمّ بالإنذار، ولأنّ دفع الضرر أهمّ من جلب المنفعة.

واُمّ القرى مكة. كانت تعرف بذلك لدى العرب. وفي كتاب العين: (اعلم أن كل شيء يضم اليه سائر ما يليه فان العرب تسمي ذلك الشيء اُمّا فمن ذلك اُمّ الرأس وهو الدماغ) الى ان قال (واُمّ القرى مكة وكل مدينة هي اُمّ ما حولها من القرى). وفي الاسناد تجوز او تقدير اي لتنذر أهل ام القرى.  

وربما يقال: إنّ الآية تدلّ على أنّ الدعوة خاصة بالجزيرة العربية (مكة وما حولها) فما هو الدليل على كونها عامّة للناس؟ وقد اُجيب عنه بأنّ كل البلدان تعتبر حول مكة فهي مركز للكرة الارضية. واستدلوا على ذلك بما ورد من أنّ اللّه تعالى دحا الارض من تحت مكة فهي أصل الارض. وكل البلاد حولها.

وهذا الجواب غير صحيح أوّلا لأنّ البلاد كلّها لا تعتبر عرفا حول مكة. وثانيا لأنّه لو صحّ ذلك لصحّ لكل بلد، اذ لا أثر لدحو الارض من تحت الكعبة في صدق كونها حولها وعدمه. وثالثا لأنّ هذا التقرير لو صحّ لصحّ في ما اذا كان التعبير (وما حولها) ليشمل البلاد التي دحيت من تحت الكعبة المشرّفة بناءا على الرواية، وأمّا (من حولها) لا يشمل البلاد بل الناس الذين يسكنون حول مكة.

والجواب الصحيح أنّ الدعوة حين نزول الآية لم تكن عامّة لجميع العالم كما أنّها في بدء الامر كانت خاصة بالأقربين قال تعالى (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[1]. ثمّ تعمّمت للجزيرة العربية في هذه الآية ونظائرها كقوله تعالى (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا..) [2]ومثلها قوله تعالى (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)[3] وما يشابهها. ثمّ تعمّمت الدعوة للعالمين كقوله تعالى (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) [4] وقوله تعالى في مطلع سورة الفرقان (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) وغيرهما من الآيات وهي كثيرة.

وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ... اي تنذر الناس باليوم الذي يُجمعون فيه، وهو يوم القيامة، حيث يُجمع فيه بين جميع الأجيال البشرية منذ أقدم العصور الى من تقوم عليهم الساعة. وهو أمر عجيب جدّا. كما يجمع ايضا بين مختلف الأديان والمذاهب، وبين الظالم والمظلوم، وبين الأنبياء واُممهم، وهكذا. ولعل التعبير بالجمع ليناسب التفريق بين الفريقين في الجملة التالية فاللّه تعالى يجمعهم ثم يفرّق بينهم ومثله قوله تعالى (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ). [5]

وتكرار كلمة الانذار من جهة انه في الاولى ذكر المنذَرين ــ بفتح الذال ــ وفي الثانية ذكر مورد الانذار. وقوله تعالى (لا ريب فيه) تأكيد للوعد الالهي، والريب: الشك. ولعلّ القصد من مثل هذه التأكيدات المتكرّرة في الكتاب العزيز دفع توهّم أنّ ما يقال في هذا الباب مجرّد تهديد وتخويف. والتعبير بالانذار دون التبشير ودون الجمع بينهما مع أن فريقا من الناس في الجنة لأن الاهتمام في الرسالات بتخويف الناس من المستقبل الغامض ومن نتائج الاعمال.

فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ... من لطيف التعبير الجمع بين اجتماع البشر بأجمعهم في ذلك اليوم وافتراقهم في آية واحدة، ففريق يدخل الجنة وفريق في السعير. والسعير: النار الملتهبة. وهذا التفرّق نتيجة التفرّق في الحياة الدنيا، وهو ما حصل بعد نزول الوحي عليهم، فمن اتّبع الهدى النازل من عند ربّه دخل الجنة، ومن خالفه دخل النار.

وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً... تبيّن من الآية السابقة أنّ الوحي هو الذي يفرّق الناس ويصنّـفهم الى فريق الجنة وفريق السعير، فيتّضح به المراد بهذه الآية وهو أنّ اللّه تعالى لو شاء أن يجعلهم اُمّة واحدة لا تختلف الى فريقين لم ينزل الوحي، فكانوا كلهم في سياق واحد بمعنى أنه لا تتمّ الحجة عليهم فلا يحاسبون على أعمالهم وعقائدهم وان كان بعضهم يتبع فطرة التوحيد وبعضهم يتبع هواه.

وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ... اي ولكنه تعالى لم يشأ جعلهم اُمّة واحدة بترك إرسال الحجة فانه مناف لحكمة الخلق، بل شاء أن يرسل الحجة ويبعث الرسول لهداية الخلق ثم يدخل من يشاء في رحمته وهم غير الظالمين بقرينة قوله: والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير. فمن لم يظلم اي اتبع الهدى والرسالة يدخله اللّه في رحمته ان شاء. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، والمراد بالظالمين هنا من أعرض عن هدايات اللّه تعالى.

والتعليق بالمشيئة للتنبيه على أنّ اللّه تعالى لا يُغلب على إرادته، وليس مقهورا للقوانين والسنن التي وضعها. وهذا من الامور الاساسية في العقيدة الالهية، ولذلك يصرّ عليه القرآن ويكرره في كل موضع. وهذا هو حقيقة البداء الذي يعتبره الناس مما تختص به الامامية جهلا من بعضهم وعنادا من آخرين. وقد ورد في رواياتنا انه لم يبعث نبي الا مع الاعتقاد بأنّ اللّه تعالى يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء.

روى الكليني بسند صحيح عن محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: (ما بعث اللّه نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الاقرار له بالعبودية وخلع الأنداد وأنّ اللّه يُقدّم ما يشاء ويُؤخّر ما يشاء). [6]

والفرق بين الولي والنصير من جهتين: الأول: أنّ الوليّ يتولى أمر المولّى عليه حتى لو لم يطلب، بل حتى لو لم يعلم ما هو صالح له، والثاني: أنّ الوليّ يكفيه فلا حاجة الى أن يقوم هو ايضا بالدفاع عن نفسه. والنصير بخلاف ذلك في الامرين فهو أوّلا يجيب استنصاره فقط وثانيا لا يكفيه الامر بل يساعده.

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ... (أم) منقطعة فتفيد الاضراب والاستفهام معا، والاضراب لعله باعتبار عدم الاهتمام بشأنهم. والاستفهام للاستنكار اي اتركهم ولاحظ كيف اتخذوا من دون اللّه أولياء؟! وحيث ذكر في الآية السابقة أنّ الظالمين ليس لهم ولي ولا نصير أراد أن يبين هنا أن ما اتخذوه وليا لا ينفعهم ايضا.

وفي المراد بالولاية في هذه الآية احتمالان:

الاول: المتابعة فإن الاصل في معنى اتّخاذ الوليّ: المتابعة لأنّ الولاية مأخوذة من وليه بمعنى تبعه وأتى بعده. ومن ذلك قوله تعالى (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللّه وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ). [7] ومتابعة الشياطين بمعنى العمل وفقا لإلقاءاتهم ووساوسهم وإغراءاتهم.

ومن هذا الباب الولاية التشريعية حيث يتولّى الانسان أحدا في تشريع الاحكام ويتبعه ويطيعه ويعتبر إطاعته فرضا وهو نوع من الشرك، اذ الحكم ليس الا لله تعالى. وهذا يحصل بالنسبة الى الامراء والملوك ورؤساء القبائل والزعماء والمجالس التشريعية والمنتحلين للخلافة والزعامة الدينية والولاية على الناس والفقاهة والقضاء ونحو ذلك وما أكثرهم في عصرنا. والولاية في هذه الآية إن كانت بهذا المعنى عاد الكلام الى ما مرّ من قوله تعالى (والذين اتّخذوا من دونه أولياء اللّه حفيظ عليهم..). وهو بعيد.

الاحتمال الثاني: - وهو الأقرب - أن تكون الولاية هنا بمعنى الاستنصار والاستنجاد وطلب الحاجة لأنّه يناسب الجملة السابقة (والظالمون ما لهم من وليّ ولا نصير) وعليه فالمراد بالأولياء خصوص الاصنام او كل ما يعتقدونه أربابا تؤثّر في الكون باستقلال حسب زعمهم حتى لو كانوا من البشر. ولا شكّ في جواز الاستنصار بغير اللّه، وهو تعالى اعتبر المؤمنين بعضهم أولياء بعض، اي بعضهم انصار بعض. وانما لا يجوز أن يتخذ أحد غير اللّه وليّا ان كان من دونه تعالى بأن يجعله في موضع الالوهية والربوبية، ويعتقد فيه أنّه مؤثر بذاته، كما قال تعالى عن ابليس لعنه اللّه: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) [8] فهذا الاستبدال هو الكفر، وهو محل الاستنكار هنا.

فَاللّه هُوَ الْوَلِيُّ... اي ان ارادوا اتخاذ وليّ فاللّه هو الوليّ حصرا لا وليّ غيره، بمعنى أنّ غيره تعالى لا يضرّ ولا ينفع ولا يقدر على شيء الا باذن اللّه فالولاية منحصرة فيه تعالى وفي من يعيّنه وليا فتكون ولايته تبعية، والحصر يفهم من الضمير والالف واللام.

وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ... الظاهر أنّ ذكر إحياء الموتى كمثال واضح على عموم قدرته تعالى المذكورة في الجملة الثانية. كما أنّ الظاهر أن الغرض من التأكيد على عموم القدرة هنا للتنبيه على أنّ الذي ينبغي أن يُتّخذ وليّـا هو القادر على تلبية حاجات المولّى عليه وهو اللّه فحسب، وكل قدرة من غيره تعالى تنتهي اليه وتتوقف على إرادته، بل إنّ تحقّق الإرادة من غيره ايضا متوقف على إرادته (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه رَبُّ الْعَالَمِينَ).[9] وحاصل معنى الآية أنّ الولاية بمعنى اهلية الاستنجاد والاستنصار منحصرة في الله تعالى لانه على كل شيء قدير حتى إحياء الموتى الذي هو أغرب الامور.

وذكر بعض المفسّرين أنّ التوصيف بإحياء الموتى من باب أنّ الانسان يهتمّ في اتّخاذ الوليّ بما سيلاقيه بعد الموت، فهذا من هموم الانسان، والآية تقول إنّ اللّه هو الذي يحيي الموتى فأمر المعاد بيده.

ولكنه بعيد جدّا لأمرين:

الاول: أنّ الانسان ليس بذاته مهتمّا بأمر المعاد.

الثاني: أنّ هذا الوجه انّما يصحّ لو كان التعبير بأنّ المعاد اليه تعالى وأنّهم اليه يرجعون ونحو ذلك لا أنّه يحيي الموتى فالعناية هنا ليس بالرجوع اليه بل بكونه هو المحيي للموتى.

وأغرب منه ما قيل بأنّ المراد بإحيائه الموتى أنّه هو الذي يدخلكم الجنّة او يعذّبكم بالنار فيكون حجّة على انحصار الولاية فيه تعالى. وهذا ما ورد في تفسير الميزان ومن تبعه.

ولكن يبقى السؤال ــ على هذا القول ــ عن وجه التعبير عن إدخال الجنة والنار بإحياء الموتى مع أنّه لا تلازم بينهما خارجا فضلا عن دلالة اللفظ عليه بالعناية والمجاز!!!    

وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّه... الظاهر أنّ المراد بالاختلاف اختلاف المؤمنين مع المشركين والكفار في العقيدة، فهو الاختلاف الذي يفهم من سياق الآيات السابقة. والمراد بكون الحكم الى اللّه أنّه تعالى هو الذي يحكم بين الفريقين في الدنيا والآخرة ويفصل بينهم، فهو نظير قوله تعالى (فَاللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)[10] وكذلك قوله تعالى (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ)[11] وقوله تعالى (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ)[12] وغير ذلك.

وقال العلامة الطباطبائي رحمه اللّه إنّ هذه الجملة وما قبلها أدلّة على أنّ الولاية للّه تعالى، وأنّ المراد بالولاية أعمّ من التكوينية والتشريعية. وأنّ هذه الجملة تتكفل لبيان أنّ الولاية في التشريع والقضاء ايضا للّه تعالى.

ولكن لا نجد في هذه الجملة استدلالا على أنّ الولاية التشريعية خاصة به تعالى وان كان هو الحق. وإنّما تنبّه الآية على أنّ اللّه تعالى هو الذي يرفع الاختلاف، والولاية التشريعية لا تختص بموارد الاختلاف، والا لكان للناس أن يتفقوا على أمر مخالف لما شرّعه اللّه، بل مقتضى اختصاص الولاية التشريعية به تعالى أنّه لا يجوز لاحد من البشر ان يحكم على الناس، وانما الحكم للّه تعالى ولمن جعل اللّه له الحكم واوجب طاعته، ولا تجب بل قد لا تجوز إطاعة احد الا من فرض اللّه طاعته .

والحاصل أنّ الآية لا تتعرض للولاية التشريعية، وإنما تفيد أنّ اللّه تعالى سيحكم بين الكافرين والمؤمنين في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبعلوّ الكلمة وقوّة الحجة، والنصر النهائي بظهور الامام المهدي عجل اللّه فرجه وسلام اللّه عليه. وأمّا في الآخرة فبتبين الحقائق للجميع ثم افتراق الفريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، كما مرّ في الآيات السابقة.      

ذَلِكُمُ اللّه رَبِّي... اي قُل من كانت هذه صفاته هو اللّه ربي. والاشارة بالاسم الدال على البعيد للتعظيم اي ذلك الذي لا تناله الأوهام ولا تحويه الافكار. و(الله) بدل عن اسم الاشارة و(ربي) خبره. ولا يصح ما قيل ان اسم الجلالة خبر اول و(ربي) خبر ثان لأن كون هذه الصفات صفات الله تعالى مذكور قبل هذا فالقصد من هذه الجملة إعتزاز الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأن الله هو ربه في مقابل اتخاذهم غيره اولياء. وهذا اعتزاز وافتخار وتشرّف لا يبلغه ايّ مجد وفخار، والمؤمن لا يعتزّ بشيء كما يعتزّ بربه.

عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ... تقديم (عليه) لافادة الحصر اي لا أتوكل ولا أعتمد على غيره ولا أتولى أحدا من دونه كما تفعلون.

وَإِلَيْهِ أُنِيبُ... الانابة: الرجوع اي لا ارجع في جميع اموري الا اليه ولا ارجع الى غيره اذ كل ما اريده يحصل منه ولا يحصل من غيره. او المعنى اعود اليه كلما ابعدتني منه شؤون الدنيا. فالمؤمن يجب ان يكون توّابا أوّابا كما وصف اللّه بهما انبياءه المرسلين.

والتوبة والانابة لا يشترط فيهما تقدّم الذنب، فان الانبياء لا يذنبون ولكنهم يرجعون اليه تعالى باستمرار، ويرجعون اليه كلما اشتغلوا بغيره وتوجّهوا الى امور الدنيا المباحة، وان كانوا لا يتوجهون اليها الا بمقدار الضرورة. والفرق بين التوبة والانابة ــ على ما يبدو ــ أنّ التوبة بمعنى الرجوع مطلقا والانابة بمعنى معاودة الرجوع مرة بعد اخرى. وأما تفسير التوبة بالرجوع عن الذنب فغير مستقيم لانها تسند الى اللّه ايضا كما قال تعالى (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).[13]

ولعله إنّما عبّر عن التوكل بالفعل الماضي، والإنابة بالمضارع لأنّ التوكّل فعل واحد لا يتكرّر بل هو سمته العامّة الدائمة، والإنابة مستمرّة تتجدّد كلما توجّه الى شؤون الدنيا.

فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... خبر آخر لقوله (ذلكم اللّه) او لمبتدأ محذوف اي هو فاطر السماوات.. والفطر هو الشق. والسماوات والارض تعبير عن الكون كله كما ذكرنا مرارا. والمراد أنّه تعالى هو الذي أوجد الكون من العدم، فكأنّه شقّ العدم واستخرج منه الكون، اذ لم يكن قبل ذلك شيئا، ولم يوجد من مادّة او طاقة، وذلك لأنّك كلما فرضت شيئا اصلا وأساسا للكون فإنّ الكلام يعود اليه وأنّه من أيّ أصل انحدر، فلا بدّ من الوصول الى شيء لم يكن موجودا وانما اللّه تعالى أوجده بمجرد إرادته. والغرض هنا تمجيده تعالى وبيان السرّ في التوكّل عليه كما ورد في الآية السابقة فهو خالق الاشياء ومدبرها.

جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ... هذا مما يدل على التدبير الربوبي. وقوله (من أنفسكم) اي من جنسكم. والازواج: القرناء، وكل انسان من ذكر وانثى قرين لمثله. والزوج والزوجان: المثلان المتقارنان، ولا يطلق إلا إذا كان كل منهما مكمّلا للآخر بوجه، كزوجي الباب والحذاء مثلا، ويطلق على الذكر والانثى معا من الانسان والحيوان. فالخطاب في الآية للبشر لا للرجال خاصة، كما قيل.

وخلق من الانعام ايضا ازواجا، وكذلك من غيرها من الحيوان، وإنّما خصّ الانعام بالذكر لما فيها من نعمة خاصّة على البشر. وقوله (يذرؤكم فيه) اي يكثّركم بهذا التدبير كما يكثّر الانعام به ايضا. والذرء في الاصل: الزرع وإلقاء البذر، وكني به عن الخلق والتكثير. والضمير في (فيه) يعود الى الجعل، و(في) للسببية، اي يكثّركم بجعل الازواج. وفي عملية التزاوج والتناسل في البشر والحيوان من الحكمة والدقة ما يعجز عنه البيان. وهناك تخصصات متعددة في الشؤون المتعلقة بهذا الامر.

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... وهذه ايضا من اهم اسس التوحيد. وهي ان يعتقد المؤمن ان اللّه تعالى لا يشبهه شيء، فكل ما يتصوره الانسان ويصفه به تعالى يجب تنزيهه منه. وكل ما نصفه به مما وصف به نفسه فانما نعرف مفهومه اللفظي واما حقيقته وكنهه فلا تمكننا معرفته. فاذا قلنا بانه تعالى عالم فالعلم معناه ومفهومه معلوم لدينا، وأمّا حقيقة العلم فلو فرض انه حصول صورة الشيء لدى العقل كما يقال في الفلسفة فلا ينطبق على علم الباري جل وعلا كما هو واضح. واذا قلنا انه تعالى سميع بصير فليس معناه انه يسمع بآلة، ويبصر بجارحة. وهكذا سائر الاوصاف. ولقد أخطأ كثير من المؤمنين باللّه فشبّهوه تعالى بخلقه ووقعوا في الكفر وهم لا يعلمون.

والكاف في (كمثله) يقال انها زائدة فان المعنى انه ليس مثله شيء. وفيه وجه آخر لطيف ذكره الزمخشري في الكشاف وهو أنّ هذا من قبيل ما يقال إنّ مثل فلان لا يعمل كذا، والمقصود هو بذاته، وانما يقال مثله لا يفعل كذا للتنبيه على أنّ الامتناع منه مقتضى شأنه الذاتي او الاجتماعي. أقول: وهذا كقول الامام الحسين عليه السلام مشيرا الى يزيد لعنه اللّه (مثلي لا يبايع مثله). فالمراد هنا أنّ اللّه تعالى بما له من الصفات الحسنى لا يمكن أن يشبهه شيء.

وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ... قلنا إن هذه الآية في مقام التعليل للتوكل عليه تعالى ومن هنا ورد ذكر هذين الوصفين فانه تعالى سميع يسمع دعوات المتوكلين وان اخفتوا في طلبهم بل هو بصير بشؤونهم وحوائجهم وان لم يتلفظوا بها.

وربما فسر بعضهم هذين الوصفين بانه تعالى عالم بالمسموعات والمبصرات. ولكن الظاهر أنّهما يختلفان مفهوما عن مفهوم العلم، ويختلفان معا ايضا، فمعنى السمع هو الاحساس بالصوت، ومعنى البصر هو الاحساس بالاحجام والالوان. والاحساس عندنا انما يكون بآلة، وهو مستحيل على اللّه تعالى، ولكن حيث إنّ الموجودات كلها حاضرة عند اللّه بتمام وجودها، ولا يغيب عنه شيء، فالسمع والابصار بمفهومهما منطبق عليه تعالى، وان كانت حقيقتهما تختلف عن السمع والبصر لدينا.

لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... المقاليد جمع مقلاد او إقليد بمعنى المفتاح. والظاهر أنه معرب (كليد) بالفارسية. وفي العين انه المفتاح بلغة اهل اليمن ومهما كان فالمعنى أنّ مفاتيح السماوات والارض لله تعالى. والمراد مفاتيح خزائن الكون. والقرآن يذكر للكون خزائن قال تعالى (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..).[14] والسماوات والارض تعبير عن الكون كما قلنا مرارا وخزائنهما تعبير عن كل ما في الكون مما تحتاجه المخلوقات وكون مفاتيحها لله تعالى بمعنى أن أمرها بيده. وقيل ان (مقاليد) بمعنى الخزائن نفسها في اللغة. ومهما كان فهذه الجملة مقدمة للجملة التالية.

يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ... الرزق هو العطاء والإنعام، وبسط الرزق: توسعته. والقدر والتقدير: التضييق. وقد يطلق الرزق على ما يُرزق ويُعطى وهو ما يحتاجه الانسان في معيشته في الحياة الدنيا، وإن كان الرزق بعنوانه لا يختصّ بالدنيا كما أنه لا يختص بالانسان. والرزق يزيد وينقص بتأثير عوامل طبيعية، كما قد تؤثّر فيهما عوامل غيبية، وكلها بيد اللّه تعالى، ولا تؤثّر الا بمشيئته، ومشيئته تتبع الحكمة، فلا يبسط الرزق على أحد ولا يضيّقه عليه الا لحكمة. والرزق ــ كسائر ما يقضي اللّه ويقدّر ــ لا يحتم على الانسان أمرا بحيث لا يكون لنشاطه دخل فيه، ولكن هناك اُمور خارجة عن اختيار الانسان ودخيلة في الرزق والاجل وسائر ما يقضي اللّه ويقدر، ولذلك نجد أنّ السعي ربما لا يفيد بل ربما يضرّ أحيانا.

وليس معنى ذلك أن يترك الانسان نشاطه الطبيعي لبلوغ مآربه، بل لابد من متابعة الأسباب الطبيعية للوصول الى ما يقصده ولتجنّب ما يضرّه، وهو ايضا جزء من القضاء والقدر، فاذا مارس التجارة وربح ينكشف أنّ المقضي هو نجاحه في التجارة، وليس هو حصوله على هذا الربح سواء عمل بالتجارة ام جلس في البيت. وربما يحصل الانسان على ربح من دون تعب فالمقضيّ هو ذاك. وينبغي التنبه الى أن القدر المذكور مع القضاء غير القدر المذكور في الآية الذي هو بمعنى التضييق كما مر.

إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ... هو عليم بعوامل استحقاق الرزق وعوامل عدمه وبما هو الاصلح للانسان، لانه عليم بكل شيء. وهو ايضا عليم بالأسباب المؤثرة في توسعة الرزق وتضييقه فيدبّر للانسان ما يوصله الى التوسعة او التضييق كما قدّر من دون أن يشعر. والجملة في مقام التعليل لتعليق البسط والتقدير على مشيئته تعالى فهو لا يشاء أمرا جزافا بل لعلمه بما هو الاصلح. ولعل ذكر هذه المجموعة من أوصافه تعالى وأفعاله للتأكيد على أنه هو الولي فحسب ومن يتولّ غيره فقد خسر الدنيا والآخرة كما قال تعالى في مطلع هذه المجموعة (أم اتخذوا من دونه أولياء فاللّه هو الولي..).

 


[1] الشعراء: 214

[2] الانعام: 22

[3] يس: 16

[4] الانعام: 90

[5] سبأ: 26

[6] الكافي ج1 ص147 باب البداء ح3

[7] الاعراف: 30

[8] الكهف: 50

[9] التكوير: 29

[10] النساء: 141

[11] سبأ: 26

[12] الاعراف: 89

[13] التوبة: 118

[14] المنافقون: 7