مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

اختلفوا في كون السورة مكية او مدنية وحكي عن ابن عباس أنّها مكية الا الآيات الثلاثة الاخيرة. وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله إنّ سياقها تشهد على كونها مدنية وقيل بالعكس نظرا الى أنّ آياتها الاولى أوفق بمخاطبة المشركين.

ولكن الظاهر أنّها مدنية لأنّ الغرض الاساس منها ــ على ما يبدو ــ هو الحثّ على الانفاق في سبيل الله وإطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وتبدأ بالتسبيح والتمجيد لبيان استغنائه تعالى عن خلقه وعباده في إنفاقهم وطاعتهم. ولم يرد فيها ما يناسب الخطاب للمشركين وإنّما ورد فيها التنبيه على الاعتبار بما نزل على الامم السالفة من العذاب وأنّ ذلك انما كانت نتيجة عدم إطاعتهم لرسلهم وهذا ممّا يؤكّد كونها مدنية وأنّ الخطاب للمؤمنين كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ... مرّ مثل هذه الجملة في أوّل سورة الجمعة ومرّ تفسير التسبيح الكوني في أوّل سورة الحديد ونضيف هنا أنّ بعضهم توهّم أنّ التعبير لا يشمل نفس السماوات والارض فذكر أنّهما مقدّران.

ويمكن القول بأنّه لا حاجة الى تقدير وأنّ هناك فرقا بين موارد تكرار (ما) الموصولة كهذه الآية وما لم تتكرر. فاذا لم تتكرر (ما) يمكن أن يقال إنّ السماوات والارض كناية عن الكون كله فمعنى الجملة يسبّح له تعالى كل ما في الكون اي الوجود فيشمل نفس السماوات والارض وأمّا اذا تكرّرت فمعنى الجملة يسبّح له كل ما في السماوات وكل ما في الارض وحينئذ فيمكن تفسير السماوات بالعوالم العلوية الخارجة عن نطاق المادة وتفسير الارض بالعوالم السفلية المادية لتشمل كل الكون ايضا فإنّ السماوات بناءا على ما ذكرنا لا يراد بها مكان خاص بل عالم خاص وهو جامع اعتباري وكذلك الارض.

لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ... تقديم الجار والمجرور لافادة الحصر فالملك ليس الا له تعالى، والحمد والثناء ايضا خاصّ به. فمن يملك شيئا او يتسلط على شيء فانما هو بتمليكه وتسليطه تعالى وليس ذلك تفويضا بل الملك والسلطة كأيّ أمر آخر متقوّم بقاءا ايضا بإرادته تعالى مع أنّ سلطة غيره تعالى محدودة وخاصة فالسلطة الذاتية العامة المطلقة ليست الا لله تعالى والملك ــ كما مرّ في تفسير سورة الحديد ــ هو التمكّن من التصرف وقد تعارف التعبير عن السلطة العامة بالملك بضم الميم، وعن السلطة الشخصية على ما تحت اليد بكسره وكل منهما قد تكون سلطة تكوينية، وقد تكون اعتبارية وقانونية.

والحمد كل الحمد ايضا له تعالى فكل ثناء لغيره يعود اليه لأنّ الثناء والحمد لا يكون الا لصفة حسنة او لفعل حسن ولا يكون ذلك الا بإيجاده تعالى. ويقصد بالطبع الحمد في مورد الاستحقاق وأمّا ما يصدر من الثناء لمن لا يستحقه ــ وهو أكثر موارده ــ فليس في الواقع الا كذبا وتزويرا.

وحصر الملك والحمد فيه تعالى وبيان عموم قدرته على كل شيء مقدمة للامر بالإطاعة والإنفاق. والغرض أن لا يتوهم المخاطب أنّه تعالى يحتاج الى إطاعة الانسان او عبادته او إنفاقه فهو المالك المطلق وهو قادر على كل شيء فإنفاق العباد وطاعتهم انما تنفعهم فحسب والحمد والثناء له اذا وفق الانسان لصلاة او زكاة او غيرهما.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ... الخطاب للبشر وهو امتنان عليهم بالخلق والايجاد. والخلق في الاصل هو الصنع وقيل: التقدير. والتعبير يفيد الحصر وأنّه تعالى هو الخالق لا غيره حيث أتى بالضمير واسم الموصول. وفيه إشارة الى استغراب الكفر من اكثر الناس وتوجههم الى عبادة غيره تعالى. والفاء لبيان اصل تفرّع الايمان والكفر على الخلق ولا يفيد شمول الخلق للايمان والكفر وإن كانا كغيرهما مخلوقين لله تعالى الا أنّ الآية لا يقصد بها إفادة ذلك فلا وجه لما أطال بعضهم في تأويل الآية فرارا من القول بالجبر.

ونظيره قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)[1] فإن الفاء لا تدلّ هنا على أنّ السبب في الانقسام الى مهتد وفاسق هو جعل النبوة والكتاب في الذرّيّة وإنّما تدلّ على أنّ الانقسام حصل فيهم بعد هذا الجعل.

و(من) للتبعيض اي بعضكم كافر وبعضكم مؤمن. والغرض من بيان ذلك التنديد بمن كفر من البشر فإنّ المتوقّع منهم جميعا أن يؤمنوا بخالقهم. وفي التنبيه على كفر الانسان بعد بيان أن كل الكون يسبح لله استنكار شديد لتعنت هذا المخلوق وعناده امام الحق الذي انصاع له الكون كله.

وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ... تحذير للانسان بأنّ الذي خلقه لم يغفل عنه بل يشرف على كل أعماله ونواياه وإشرافه بالمباشرة فهو يبصر كل أعماله. وقد مرّ أنّ الابصار لا يراد به العلم بالمبصرات ــ كما قالوا ــ فإنّه لا يؤثر التأثير النفسي المقصود وهو الاحساس بمباشرة الإشراف والرقابة الالهية على كل صغيرة وكبيرة وعلى كل ما يخطر بالبال بل المراد به نفس الإبصار بحقيقته الا أنّ الإبصار لا يجب أن يتمّ دائما بالعين فهو تعالى يبصر بغير آلة لانه محيط بكل شيء.

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ... الظاهر أنّ المراد بالسماوات والارض كل الكون بجميع عوالمه سواء الطبيعة او ماوراءها. والحق: الامر الثابت. وفي المراد بالخلق بالحق احتمالان:

الاول: أنّ الكون يسير على سنّة ثابتة وقانون دائم متناسق لا تغيير فيه ولا تبديل كما قال تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)[2] ولعل الغرض من التنبيه على ذلك في هذا المقام إثبات كون الانسان مراقبا بجميع أعماله فان مقتضى سلطة القوانين الصارمة الكونية أن لا يشذّ شيء ــ مهما كان حقيرا او صغيرا ــ عن الرقابة الكونية الالهية وعن المحاسبة وترتب الآثار إمّا في هذه الحياة وإمّا في حياة اخرى.

والثاني: أنّ الكون لم يخلق عبثا ولعبا بل لهدف مهمّ وهو ترتّب الجزاء على أعمال الانسان كما قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ)[3] وعلى كلا التقديرين تكون هذه الآيات مقدمة للتنبيه على البعث. ولذلك نبّه قبل هذه الآية على انقسام الناس الى مؤمن وكافر. 

وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ... عطف على (خلقكم). والصورة: الشكل والهيئة. وصوّركم: اي منحكم الصورة كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ)[4] وقوله تعالى (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ).[5]

والمعروف في التفاسير أنّ المراد بالصورة، الصورة الانسانية العامة وأنّ الحسن فيها انما يلاحظ بالنسبة الى سائر الحيوانات سواء في ذلك صورته الجسمية وصورته المعنوية. فالإنسان هو أكمل الأحياء في الأرض جسما وروحا وعقلا وادراكا ومن ثَمّ جعله الله خليفته في الارض وهو من جهة الجسم يجمع بين الكمال والجمال وان اختلف الافراد في الامرين الا ان الشكل البشري العام جميل جدا وفي غاية الجمال والكمال وكل اجزاء جسمه وروحه وادراكه بوجه عام متناسقة وكل منها يكمل الآخر ولذلك كانت باجمعها وافية بكل ما يراد منها في سبيل تكامل الانسان وبلوغه الهدف الاسمى من خلقه.

ولكن الظاهر من الآية أنّ المراد بالصورة الهيئة التي يمتاز بها كل شخص عن غيره، لا الصورة العامة لجسم الانسان وروحه وذلك لانه لو كان المراد هذا المعنى لكان الاولى بل الصحيح ان يقال فاحسن صورتكم لان المفروض انها صورة واحدة في جميع افراد البشر فهذه القرينة تدل على ان المراد الصور المختلفة التي يمتاز كل انسان بها عن غيره. فالغرض أنّه تعالى هو الخالق المباشر لكل جزئية وخصوصية.

وكم في هذا التصوير من أسرار وآيات؟! فلكل إنسان هويّته البارزة في ملامح وجهه لا يشاركه فيها أحد، ولكل أحد هويّته الخاصّة به ايضا في خطوط بنانه. ناهيك عن أسرار كل عضو داخلي وخارجي وخصائصه الغريبة، وأغرب منها خصوصياته النفسية والعقلية فكل ذلك من عظمة التصوير. وكثير ممّا في الانسان من خصائص إنما هي من صورته الشخصية الخاصّة به فإنّها هي التي تحكي عن الكيان الشخصي، والمادّة هي الامر المشترك.

وعليه فالمراد بالحسن هو حسن صورة كل إنسان في نفسها فالمعنى على الظاهر تناسب أعضاء كل إنسان بعضها مع بعض، وتناسب طبيعته مع البيئة التي يعيش فيها من حيث اللون والشكل والحجم، وتوافقها مع الغرض المنشود من خلقه، سواء في الطبيعة او في النظام الكوني بوجه عام ومنه خلافته في الارض ورجوعه الى الله تعالى الذي يشير اليه في الجملة التالية. وليس المراد من الحسن، الجمال وصباحة المنظر فإنّه إنّما يُدرك ويُلاحظ بالقياس الى غيره.

وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ... المصير: النهاية. والظاهر أن الالف واللام بدل عن ضمير الخطاب اي واليه مصيركم. وربما يُتساءل: وهل بَعُد الانسان عن ربه حتى يرجع اليه؟! فإنّ الواقع أنّه ــ كغيره من الموجودات ــ يستمدّ دائما وأبدا من لطفه وعنايته ويعيش تحت عينه ورقابته فما هو معنى الانتهاء اليه تعالى؟

والجواب: أنّ هناك خصوصية في الانسان تدعوه الى الشعور بالاستقلال والانفراد، وتلك الخصوصية سلطته على ما يريد وكونه مختارا. وهذا الامر هو الذي استوجب له الخلافة الالهية في الارض فمعنى رجوعه الى الله تعالى سلب هذا الاختيار منه في عالم لا تحكمه القوانين الطبيعية فيزول عنه الشعور بالاستقلال وحيث إنّ الانسان لا يشعر بسلب الاستقلال في هذه الحياة فلا بدّ من عالم آخر ينتهي فيه اليه تعالى شعورا واحساسا، ويحضر لديه فقد يكون مقربا مثابا، وقد يكون ملعونا معذبا.

يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ... لا شك أنّه تعالى عالم بكل صغيرة وكبيرة في الكون، لأنّ شيئا لا يحدث الا بامره وارادته وتحت سلطانه وتقديره. ولكنّ الغرض من التنبيه على عموم العلم هنا التنبيه على شمول علمه لكل ما يعمله الانسان، وما يخطر بباله، وما ينويه في أعماله. فهذه الجملة مقدّمة لما يتلوها فإنّ علمه الشامل لكل شيء ولكل ذرّة وأصغر منها يشمل ايضا ما يسرّه الانسان من أعمال ويخفيها عن أعين الآخرين كما أنّه تعالى عليم بالنوايا وما يختلج في الافئدة، والدوافع التي قد لا يلتفت اليها الانسان بنفسه.

والمراد بالصدور القلوب تسمية للحالّ باسم المحلّ. ولا نقصد بالقلب العضو الخاص كما هو واضح بل النفس الانسانية. و(ذات) مؤنث (ذو) بمعنى صاحب فالمراد بذات الصدور الاسرار الكامنة في النفس التي تصاحبها ولا تفارقها، حيث لا يبوح بها الانسان لأحد بل ربما يغفل عنها بنفسه او لا يعلم بها أساسا.

 


[1] الحديد: 26

[2] الاحزاب: 62

[3] الدخان: 38 -40

[4] ال عمران: 6

[5] الانفطار: 8