مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَالله مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)

 

سورة التحريم سورة مدنية كما هو واضح من مضمونها. وتتعرض لقضية خاصة بالبيت النبوي الكريم، وأنّ اثنتين من نسائه صلى الله عليه وآله وسلّم ارتكبتا ما لا ينبغي لهما بالنسبة لمقامه الشامخ، وتظاهرتا عليه، فنزلت السورة دفاعا عن كرامته صلى الله عليه وآله وسلّم، وتحذيرا لنسائه من مغبّة التعرض لما يسوءه او يسيء اليه. وفيها من التشديد في التعبير عن هذا الأمر، والتنديد بما صدر منهما ما يثير العجب كما سنبيّن إن شاء الله تعالى.

وبهذه المناسبة ورد بعد ذلك، الخطاب لعامّة المؤمنين بأن يصونوا أنفسهم وأهليهم من النار. وفي ذلك اشارة الى أنّ ما ارتكبتاه يستوجب دخول النار.

وايضا بهذه المناسبة ضرب اُنموذجين في آخر السورة المباركة للكفار مع أنّهما زوجتا رسول، وهما غاية في الكفر والعناد، للتنبيه على أنّ مجرّد زوجيّة الرّسول لا توجب عصمة، ولا تنقذ من النار.واُنموذجين للذين آمنوا، وهما ايضا من النساء، ولكنّهما في قمّة الإيمان.

وقد اختلفت الروايات في شأن نزول السورة. ولدراستها ننقل بعضها في ما يلي:

1- في صحيح البخاري في تفسير الآية الاولى (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا فَوَاطَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ قَالَ لَا وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَلَنْ أَعُودَ لَهُ وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا) [1]

وقولها (فواطيت أنا وحفصة) اي تآمرنا. والمغافير: صمغ شجر العُرفُط ــ بضمتين ــ وله رائحة رديئة.

2- وفيه ايضا (عن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ حُنَيْنٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَتْمَمْتُ كَلَامِي حَتَّى قَالَ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ) [2]

3- وفيه ايضا (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ قَالَ الله لَهُمَا { إِنْ تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فَحَجَجْتُ مَعَه فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ فَتَبَرَّزَ حَتَّى جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْإِدَاوَةِ فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا { إِنْ تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فَقَالَ وَاعَجَبِي لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ... (الى أن قال) فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي فَصَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ مَشْرُبَةً[3] لَهُ فَاعْتَزَلَ فِيهَا فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي قُلْتُ مَا يُبْكِيكِ أَوَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَا أَدْرِي هُوَ ذَا فِي الْمَشْرُبَةِ فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ الْمِنْبَرَ فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا فَقُلْتُ لِغُلَامٍ لَهُ أَسْوَدَ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَدَخَلَ فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي قَالَ أَذِنَ لَكَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... (الى أن قال) فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ وَكَانَ قَدْ قَالَ مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ الله فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا وَإِنَّا أَصْبَحْنَا لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ فَقَالَ إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا وَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ قَالَتْ قَدْ أَعْلَمُ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِكَ ثُمَّ قَالَ إِنَّ الله قَالَ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِلَى قَوْلِهِ عَظِيمًا } قُلْتُ أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ فَإِنِّي أُرِيدُ الله وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ).[4]

وروى مسلم قريبا منه في كتاب الطلاق، وفي ذيله (فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ الله مَعَكَ وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ وَأَحْمَدُ الله بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ الله يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } وَكَانَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَحَفْصَةُ تَظَاهَرَانِ عَلَى سَائِرِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... الحديث.[5]

4- وفي البخاري ايضا (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْعَسَلَ وَالْحَلْوَاءَ وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ فَغِرْتُ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ فَسَقَتْ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ شَرْبَةً فَقُلْتُ أَمَا وَالله لَنَحْتَالَنَّ لَهُ فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ إِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ فَإِذَا دَنَا مِنْكِ فَقُولِي أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ لَا فَقُولِي لَهُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ فَقُولِي لَهُ جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ وَسَأَقُولُ ذَلِكِ وَقُولِي أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ ذَاكِ قَالَتْ تَقُولُ سَوْدَةُ فَوَالله مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَامَ عَلَى الْبَابِ فَأَرَدْتُ أَنْ أُبَادِيَهُ بِمَا أَمَرْتِنِي بِهِ فَرَقًا مِنْكِ فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا قَالَتْ لَهُ سَوْدَةُ يَا رَسُولَ الله أَكَلْتَ مَغَافِيرَ قَالَ لَا قَالَتْ فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ قَالَ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ فَقَالَتْ جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ فَلَمَّا دَارَ إِلَيَّ قُلْتُ لَهُ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَمَّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا دَارَ إِلَى حَفْصَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ الله أَلَا أَسْقِيكَ مِنْهُ قَالَ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ قَالَتْ تَقُولُ سَوْدَةُ وَالله لَقَدْ حَرَمْنَاهُ قُلْتُ لَهَا اسْكُتِي) [6]

5- وفي صحيح مسلم (أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يُخْبِرُ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا قَالَتْ فَتَوَاطَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا مَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ فَنَزَلَ { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ إِلَى قَوْلِهِ إِنْ تَتُوبَا } لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا } لِقَوْلِهِ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا). [7]

وروى مسلم أيضا الحديث السابق.[8]

ونلاحظ على ما ورد في الصحيحين ــ بزعم القوم ــ في هذه القصة اٌمورا:

الاول: اختلاف الاحاديث في هذه القضية مع أنّها قضية واحدة كما هو واضح بملاحظة السورة المباركة فكيف يمكن أن يكون كل ذلك صحيحا؟! والاختلاف واضح في سرد القصة، فتارة تكون من توقف عندها النبي صلى الله عليه وآله وسلّم حفصة، وتارة زينب. ويلاحظ أنّ في سائر الروايات ورد ذكر سودة وام سلمة ايضا.

وهذه الملاحظة ليست على الصحيحين بالذات بل على اعتبارهما صحيحين فان التناقض الموجود في هذه القصة وغيرها وهو كثير جدا يمنع من القول بأنّ الكتاب بأجمعه صحيح كما هو واضح.

الثاني: أنّ القرآن يصرّح بأنّ التظاهر كان من امرأتين، والروايات تقول إنهما حفصة وعائشة، ولكنّ الرواية الرابعة المذكورة آنفا من الصحيحين تحاول إشراك سودة وصفية ايضا، الا اذا قلنا بأنّ مظاهرتهما كانت في شأن آخر. ولكنّ الروايات المذكورة او بعضها تصرّح بوحدة القضية.

الثالث: أنّ الذي يظهر من سياق سورة الأحزاب، وصرّح به جمع من المفسرين هو أنّ آية التخيير ــ وهي قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا)[9] ــ نزلت بعد غزوة بني قريظة، وأنّ نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلّم توقّعن أن يكون لهنّ نصيب من المغنم، وأبى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت الآية.

وهذه القصّة متأخّرة جدّا عن تلك الغزوة خصوصا بملاحظة ذكر صفية من بين النساء، مع أنّ بعض هذه الأحاديث ورد فيها أنّ آية التخيير نزلت بعد ذلك، كما يلاحظ في الرواية الثالثة، مع التصريح بأنّها آية سورة الاحزاب المذكورة آنفا.

وأغرب منها ما في ذيلها بنقل مسلم حيث اعتبر آية التخيير ما ورد في هذه السورة من قوله تعالى (عسى ربّه ان طلقكن...) وليس في هذه تخيير.

الرابع: أنّ هذه القصّة لا علاقة لها بسائر النساء، بل إنّ منهنّ من وقع عليها الظلم بسبب المتآمرتين او المتآمرات، فلماذا يهجر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم كل نسائه شهرا من أجل تآمر بعضهنّ؟! ولماذا تعاقب غير الآثمة بل المظلومة والمحسودة من أجل خطأ غيرها؟! لا يمكن قبول ذلك من عدل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وحسن سيرته.

الخامس: أنّ المؤامرة لو كانت مجرّد قصّة المغافير حتى لو فرض أنّ التآمر كان من جميعهنّ هل يبرّر اعتزال النبي العظيم صلى الله عليه وآله وسلّم، وبقاءه في مشربة (غرفة) وحيدا لا يأذن لأحد، حتى بقي الصحابة يبكون أسى وتحسّرا، وهو زعيم الامة؟!

وليس هذا مجرّد استبعاد، بل إنّ الشواهد القطعية الواصلة الينا من خلقه وسيرته صلى الله عليه وآله وسلّم تمنع من التصديق. ويبدو للباحث أنّ هناك أمرا خطيرا جدّا دعا الى ذلك، وغيّبه التاريخ الخاضع للسلطة.

ويبدو أنّنا في تفسير هذه السورة المباركة أمام لغز لا يمكن حلّه، مع أنّها لا تحمل مسألة فلسفية او علمية دقيقة، ولكنها مسألة تمسّ كرامة السلطة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فتعمّدوا إخفاءها. وكنت أستغرب أنّ العلامة الطباطبائي رحمه الله اكتفى بتفسير الآيات وتفنيد الروايات، وكأنّه ايضا لم يصل الى اللغز الذي فيها، او لم يتمكن من إظهاره.

السادس: أنّ سياق الآيات ايضا يأبى عن حملها على قصة المغافير، فإنّ التعبير عن التظاهر عليه لا يناسب هذه القصّة، وان كان نفس الكذب على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومحاولة خداعه جريمة، ولكن لا يعتبر تظاهرا عليه. ومن الغريب أنّ التعبير في بعض الروايات يحاول أن يغيّر مجرى التظاهر، وأنّ عائشة وحفصة كانتا متظاهرتين على سائر نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لا عليه بالذات.

وقد تكرّر التعبير بالتظاهر على سائر النساء في عدة روايات نقلنا بعضها وسيأتي بعض آخر، ومنها رواية مسلم في ذيل الرواية الثالثة ممّا مرّ. والغريب أنّه ينقل عن عمر أنّه قال ذلك بعد تلاوته الآية (وان تظاهرا عليه..) مباشرة ممّا يوحي أنّ هذا تفسير للتظاهر، مع أنّ الآية صريحة في كون التظاهر على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وفي بعض الروايات ايضا تصريح بذلك، ومنها الرواية الثانية.

وفي الروايات ملاحظات اخرى آثرنا الاعراض عنها، ولعلّنا نشير الى بعضها في تفسير الآيات التالية.

ونشير في ما يلي الى سائر الروايات التي وردت في القصة من غير الصحيحين:

في الدر المنثور (أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب من شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت اني أجد منك ريحا فدخل على حفصة فقالت اني أجد منك ريحا فقال أراه من شراب شربته عند سودة والله لا أشربه فانزل الله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ الله لَكَ.. الآية).

قال: (وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن رافع قال سألت أم سلمة عن هذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ الله لَكَ قالت كانت عندي عُكّة من عسل أبيض فكان النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم يلعق منها وكان يحبه فقالت له عائشة نحلها تجرس عرفطا فحرمها فنزلت هذه الآية)

ويلاحظ في الروايتين أنهما لا تشتملان على وجود مؤامرة، وأن التحريم وقع لمجرد إرضاء بعض الأزواج. وهو أمر غريب ومخالف للقرآن، مع أنه صرّح بأنّ الاولى سندها صحيح.

وفيه عدة روايات مضمونها أنّ السبب في النزول تحريمه صلى الله عليه وآله وسلّم مارية القبطية على نفسه إرضاءا لحفصة، وفي بعضها ارضاءا لعائشة، او لهما.

وفي تفسير القمي (عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ الله لَكَ.. الآية، قال: اطّلعت عائشة وحفصة على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وهو مع مارية، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم والله ما أقربها فأمره الله أن يكفّر يمينه).

وفي مجمع البيان (اختلف أقوال المفسرين في سبب نزول الآيات... ثم حكى قصة المغافير على اختلاف الروايات في من سقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، وأنها حفصة او سودة او زينب او ام سلمة..

ثم حكى الروايات التي تدل على أنّ موضوع التحريم هو مارية القبطية على اختلاف الروايات ايضا. وروى عن قتادة والشعبي ومسروق أنه صلى الله عليه وآله وسلّم قال لحفصة بعد ما اعترضت عليه لمواقعته مارية في بيتها: (أليس هي جاريتي قد أحلّ الله ذلك لي، اسكتي فهو حرام عليّ، ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن وهو عندك أمانة. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت: ألا أبشّرك؟ إنّ رسول الله قد حرّم عليه أمته مارية وقد أراحنا الله منها. وأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواجه فنزلت «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ» فطلّق حفصة، واعتزل سائر نسائه تسعة وعشرين يوما، وقعد في مشربة أم إبراهيم مارية حتى نزلت آية التخيير).

ثمّ قال: (و روي عن الزجّاج أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم خلا في يوم لعائشة مع جاريته أم إبراهيم مارية القبطية فوقفت حفصة على ذلك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: لا تعلمي عائشة ذلك، وحرّم مارية على نفسه، فأعلمت حفصة عائشة الخبر واستكتمتها إياه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم على ذلك، وهو قوله «وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى‏ بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً» يعني حفصة. قال: ولما حرّم مارية القبطية أخبر حفصة أنه يملك من بعده أبو بكر ثم عمر، فعرّفها بعض ما أفشت من الخبر، وأعرض عن بعض أنّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي)

ثم قال الطبرسي رحمه الله: (و قريب من ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر عليه السلام إلا أنه زاد في ذلك أنّ كل واحدة منهما حدّثت أباها بذلك، فعاتبهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في أمر مارية، وما أفشتا عليه من ذلك، وأعرض عن أن يعاتبهما في الأمر الآخر).

والظاهر أنّ الصحيح من هذه الروايات هو تحريم مارية. وذلك لأنّ الصدوق رحمه الله روى بسند صحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: (سألته عن رجل قال لامرأته: أنت عليّ حرام فقال: لو كان لي عليه سلطان لأوجعت رأسه، وقلت له: الله أحلّها فمن حرّمها عليك؟ إنّه لم يزد على أن كذب فزعم أنّ ما أحل الله له حرام، ولا يدخل عليه طلاق ولا كفارة، فقلت له: فقول الله عزّ وجلّ: (يا أيها النبيّ لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) فجعل عليه فيه الكفّارة، فقال: إنّما حرّم عليه جاريته مارية، وحلف أن لا يقربها، وإنّما جعل عليه الكفارة في الحلف، ولم يجعل عليه في التحريم)[10]

والروايات مختلفة ايضا في السرّ الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم به حفصة فقيل: إنّه تحريم مارية، وقيل: إنّه إمارة أبي بكر وعمر بعده. ولكن لا خلاف في أنّ صاحبة السرّ هي حفصة، وأنّ الذي أخبرته به عائشة. وسيأتي البحث عن ذلك ان شاء الله تعالى وأنّه هو اللغز في السورة المباركة.

ويلاحظ أنّ بعض ما ذكرناه من الملاحظات على روايات الصحيحين ترد في سائر روايات القوم، سواء ما رواه في الدر المنثور وما حكاه الطبرسي رحمه الله من المفسرين القدامى.

ويلاحظ ايضا أنّ الروايات تبيّن مدى استياء بعض نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من تعاطفه مع جاريته مارية. والغريب أن الروايات تساير هذا الاستياء فلا تجد في الصحيحين موردا واحدا يعبّر فيه عن المشربة المذكورة بمشربة ام ابراهيم وهي مارية. وقلّ ما يوجد التعبير في سائر كتب القوم مع أنها عرفت بذلك. وفي المقابل تجد إصرار روايات الشيعة على هذا التعبير، وعلى الاهتمام بهذه المشربة، وهي غرفة كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يستريح فيها.

روى في الكافي بسند صحيح عن الحلبي قال: قال أبوعبدالله عليه السلام: (هل أتيتم مسجد قباء أو مسجد الفضيخ أو مشربة ام إبراهيم؟ قلت: نعم، قال: أما إنه لم يبق من آثار رسول الله صلى الله عليه وآله شيء إلا وقد غيّر غير هذا). [11]

وليت الامام عليه السلام كان فينا فيجد أنّه لم يبق من تلك الآثار شيء ايضا الا مسجد قباء، بل حتى بعض آثار عهد الرسالة المجيدة قد اُزيلت تماما، خصوصا ما كان منها يرتبط بأهل البيت عليهم السلام اوبني هاشم.

ويظهر من الحديث الشريف غاية تألّم الأئمة عليهم السلام من إصرار أتباع الجاهلية الاولى على إزالة آثار النبوّة. ويظهر أنّ ما نجده حاليا سيرة قديمة فيهم.

ومن ذلك ما يقال بأنّ بني اميّة أزالوا آثار حجرات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم حول المسجد النبويّ الشريف، حيث كان زوّار المدينة يتبرّكون ويعتبرون بها. ولعلّ بني امية كانوا يغتاظون من ذلك لأنّ المسلمين كانوا يقارنون بين بذخهم وزهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، فيستغربون: كيف يكون هؤلاء خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم؟!

روى السيوطي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)[12] الاخبار التالية:

(أخرج ابن سعد، والبخاري في الأدب، وابن أبي الدنيا، والبيهقي في شعب الايمان عن الحسن رضي الله عنه قال: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه فأتناول سقفها بيدي.

وأخرج البخاري في الأدب، وابن أبي الدنيا والبيهقي عن داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل مغشّى من خارج بمسوح الشعر وأظن عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحوا من ستة أو سبعة اذرع، واحزر البيت الداخل عشرة أذرع، وأظنّ سمكه بين الثمان والسبع.

وأخرج ابن سعد عن عطاء الخراساني قال: أدركت حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود فحضرت كتاب الوليد بن عبدالملك يقرأ يأمر بإدخال حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت يوما أكثر باكيا من ذلك اليوم، فسمعت سعيد بن المسيب رضي الله عنه يقول: يومئذ والله لوددت أنّهم تركوها على حالها ينشأ ناس من أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله في حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها. وقال يومئذ أبو أمامة بن سهل بن حنيف: ليتها تركت فلم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء، ويرون ما رضي الله لنبيه ومفاتيح خزائن الدنيا بيده).

وفي ما يلي نحاول تفسير الآيات ولعلّنا نقترب من كشف اللغز فيها:

يا أيّها النبيّ لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغي مرضاة ازواجك... لا شكّ في أنّ المراد بالتحريم في الآية المباركة ليس الحكم بحرمة ما أحلّه الله تعالى فإنّه إثم كبير. والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم معصوم لا يمكن إسناد ذلك اليه. بل قال بعضهم: إنّ تحريم ما أحلّ الله تعالى كفر. وربما يستفاد من الآيات أنّ ذلك نوع من الشرك، فإنّ الحكم والتشريع من شؤون الربوبية. وقد قال تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ..).[13]

فالمراد إذن أحد أمرين: إمّا العزم على الترك وحرمان النفس منه، لا على أساس أنّه حرام شرعا كقوله تعالى (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ)[14]  وقوله تعالى (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ..).[15]  

وإمّا الحلف على الترك فانه يوجب الحرمة شرعا مع اجتماع شروط الحلف. وهناك خلاف في أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم حلف على حرمان نفسه أم لا. وظاهر الآية التالية هو الحلف كما هو واضح.

والظاهر أنّ الآية انما نزلت لتأييد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في مواجهة مظاهرة بعض نسائه وكيدهنّ له. وليس مفاد الآية توبيخا له صلى الله عليه وآله وسلّم، كما توهّمه بعضهم. فهو نظير قوله تعالى (عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ).[16]

وما فعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في الموضعين كان مقتضى دماثة خلقه الكريم وتسامحه مع الناس خصوصا مع نسائه، بل كان هو الصحيح والمناسب لمقامه الرفيع، الا أنّ الله تعالى أراد أن يرفع عنه الحرج فأعلم نساءه صلى الله عليه وآله وسلّم أنّ هذا التحريم او الحلف لا يوجب حرمانه من ذلك. وأنّه يمكنه دفع الكفارة في الحلف، وسيأتي بيان أنّ الكفّارة ايضا لم تكن واجبة عليه.

وقوله (تبتغي).. جملة حالية تبيّن السبب الداعي الى التحريم. و(مرضاة) مصدر ميميّ بمعنى الرضا.          

والله غفور رحيم... تمسّك بعضهم بهذا التذييل كقرينة على أنّ ما فعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كان في حد ذاته موجبا للمؤاخذة لولا مغفرته تعالى ورحمته. [17]

وهذا كلام باطل. ومن الغريب ان يصدر ذلك ممن يؤمن بالله ورسوله، فلو كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ممن تصدر منه الذنوب الموجبة للمؤاخذة ــ لولا مغفرة الله تعالى ــ فما هو الموجب للاعتماد على قوله وفعله وتقريره؟!

وظنّ بعضهم أنّ هذا من ترك الأولى، وأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم عوتب على ذلك، وأنّ مغفرته تعالى وعفوه عن ذلك تعظيم لشأنه. فهو يسلّم أنّ ما فعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كان خطأ وان لم يكن محرّما. [18] 

وأقبح من الكل ما قاله الزمخشري بوقاحة بالغة (لا غفر الله له) حيث قال: (وكان هذا زلّة منه لأنه ليس لأحد أن يحرّم ما أحلّ الله، لأنّ الله عزّ وجلّ إنّما أحلّ ما أحلّ لحكمة ومصلحة عرفها في إحلاله، فإذا حرّم كان ذلك قلب المصلحة مفسدة. وَالله غَفُورٌ قد غفر لك ما زللت فيه، رَحِيمٌ قد رحمك فلم يؤاخذك به).

وهذا كلام غريب يفنّد كل ما بني عليه الدين، فنحن لا نعرف الدين الا من قبله صلى الله عليه وآله وسلّم. ولو ثبت أنّه حرّم على نفسه شيئا من الحلال، كان ذلك دليلا على جوازه، وكان لزاما علينا تأويل ما يدلّ على خلافه، فالشرع هو ما يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ويفعله ويقرره.

والصحيح ــ كما قلنا ــ هو أنّ ما فعله صلى الله عليه وآله وسلّم هو الصحيح، ولكنّ الله تعالى أراد أن يرفع عنه الحرج، فقال له صلى الله عليه وآله وسلّم بلسان الاستفهام ما معناه (لا تحرّم على نفسك ما أحلّه الله لك ولا تهتمّ بمرضاة أزواجك). وليس في ذلك عتاب، ولا توبيخ، ولا تقبيح. وهو صلى الله عليه وآله وسلّم لم يحرّم على نفسه حلالا، وانما حرّم نفسه من أمر حلال، وهو مقتضى حلّيته فإنّ الحلال لا يجب ارتكابه. وكان صلى الله عليه وآله وسلّم يمتنع من كثير من الحلال زهدا وتواضعا.

ففي محاسن البرقي عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسجد قباء فاُتي باناء فيه لبن حليب مخيض بعسل فشرب منه حسوة او حسوتين ثم وضعه، فقيل: يا رسول الله أتدعه محرِّما ؟ فقال: اللهم إني أتركه تواضعا لله. [19]

وممّا يحزّ في النفس أنّ الأقلامالأثيمة تحاول أن تبرّئ من ندّد به الله تعالى في هذه السورة، وأشار الى تظاهره ومؤامرته ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. وفي المقابل تحاول أن تفسّر الآيات بما يدلّ على أن ما فعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إثم ــ والعياذ بالله ــ يستوجب العقاب والمؤاخذة لولا غفرانه تعالى ورحمته!!!

والصحيح أنّ الغفران لا يدلّ على وجود ذنب حتى بالمعنى المناسب لمقام الانبياء عليهم السلام كما ذكرنا في تفسير قوله تعالى (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[20]  فإنّ موسى عليه السلام أتى بما هو واجب عليه من الدفاع عن المؤمن في مقابل الكافر الظالم، ولذلك أصرّ على موقفه بعد ما غفر له كما قال تعالى (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ).[21]

بل الغفران بمعناه اللغوي وهو الستر، فإنّ موسى عليه السلام كان يعلم أنّ ما حدث سيسبّب له مشاكل مع الأقباط والحكومة، فسأل الله تعالى أن يستر عليه فجاءه الجواب فورا بأنه تعالى قد غفر له. وهكذا كان، فإنّ القوم لم يصلوا اليه.

وبمثل ذلك قلنا في تفسير قوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ..)[22]   وهذا ما ورد في بعض رواياتنا عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.

روى الصدوق رحمه الله حديث مناظرة الامام الرضا عليه السلام مع المأمون حول عصمة الانبياء وهو حديث طويل وفيه:

(فقال المأمون: لله درّك يا أباالحسن فأخبرني قول الله عز وجل: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) قال الرضا عليه السلام: لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمأة وستين صنما فلما جاءهم صلى الله عليه وآله وسلّم بالدعوة إلى كلمة الاخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ)[23]  فلما فتح الله عزّ وجلّ على نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم مكة قال له يا محمد: (انا فتحنا لك) مكة (فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر لأنّ مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ومن بقي منهم لم يقدر على انكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم ذلك مغفورا بظهوره عليهم).[24]

وعليه فلعلّ الغفران هنا بمعنى أنّ الله تعالى لا يرتّب على هذا التحريم أثرا، فلا يحرم عليك ما حرمت نفسك منه ولو بالحلف، فإنه ايضا قابل للحلّ كما يأتي في الآية التالية.

وقد ذكرنا في موارد من التفسير بأنّ الله تعالى ربما يعلّل عدم التشديد في التكليف وعدم المؤاخذة بالخطأ والنسيان بالغفران والرحمة، كقوله تعالى (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا).[25]

قد فرض الله لكم تحلّة أيمانكم... الفرض بمعنى التقدير وليس بمعنى الوجوب كما يتوهّم. وعليه فيختلف المعنى بالتعدية، فان عُدّي الفرض بـ (على) أفاد الوجوب وان عُدّي بـاللام كان معناه الجواز كما هنا، فمعنى الجملة أنّه تعالى قدّر وجعل لكم طريقا لحلّ اليمين وهو دفع الكفّارة. و(تحلّة) كتذكرة مصدر بمعنى التحليل.

ومن هنا يتبيّن الجواب عن ما توهّمه بعض الكتّاب من أنّ ايجاب دفع الكفارة عليه صلى الله عليه وآله وسلّم يدلّ ايضا على أنّ ما فعله كان إثما، والعياذ بالله.

وذلك ــ أوّلا ــ لأنّ مفاد الآية ليس وجوب الكفّارة بل معناها أنّ بامكانه مخالفة اليمين ودفع الكفارة، و ــ ثانيا ــ لأنّ الكفّارة لا تجب عليه بالتحريم، بل انما تجب بمخالفة اليمين.

وهذا هو ما ورد في الصحيحة السابقة عن الامام الباقر عليه السلام حيث قال (وإنّما جعل عليه الكفارة في الحلف، ولم يجعل عليه في التحريم).

هذا على فرض وجوب الكفّارة، والظاهر أنّها لم تجب عليه صلى الله عليه وآله وسلّم حتى بمخالفة اليمين. وذلك لأنّ اليمين المذكورة لم تكن واجدة لشروط الايجاب، اذ لو كانت كذلك وجب الالتزام بها، لقوله تعالى (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ..).[26]

والمستفاد من النصوص أنّها لا توجب تكليفا اذا كان متعلقها مرجوحا شرعا، ومتعلّق اليمين هنا على ما هو الصحيح هو هجر مارية طلبا لرضا الازواج، ورضاهنّ وان كان راجحا شرعا في حدّ ذاته، الا أنّ هجر تلك المرأة المسكينة المحسودة مرجوح قطعا.

فالظاهر أنّ الأمر بالكفارة هنا كالأمر بالأخذ ضغثا والضّرب به في قصّة أيّوب عليه السلام، قال تعالى (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ..)[27]  فإنّ الظاهر من الآية أنّه عليه السلام كان قد حلف أن يضرب أحدا بعدد خاص، وتحرّج من حنث اليمين فجاءه الوحي بأن يأخذ مجموعة من الأعواد بنفس العدد ويضرب به ولا يحنث، مع أنّ العمل به لم يكن واجبا عليه والا لم يفده ذلك، ولكنّ الله تعالى رأفة بعباده المخلصين قبل منه ذلك لئلا يبقى في نفسه حرج من الحنث.

ومثل ذلك أمره تعالى هنا بدفع الكفارة ومخالفة اليمين ــ مع أنّها ليست ملزمة ــ لئلا يقع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في حرج نفسي من مخالفة اليمين، فرضي الله تعالى منه بدفع الكفارة والمخالفة.

والله مولاكم... الخطاب هنا للمؤمنين كما هو الحال في الجملة السابقة. والله تعالى مولى الكون ومولى البشر جميعا كما قال تعالى (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى الله مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ..)[28] ولكنه مولى المؤمنين بوجه خاص كما قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ)[29] وذلك لأنّه تعالى يتولّى امورهم ويهديهم ويصلح بالهم.

والتنبيه على هذا الأمر هنا لتعليل الحكم السابق، وهو تحلّة اليمين بالكفارة، فالامور كلها راجعة اليه تعالى، وهو بما أنّه مولى المؤمنين يمهّد لهم الطريق، ويسهّل الأحكام، ليبلغوا المقصد الأسمى من دون حرج وتكلّف.

وهو العليم الحكيم... فيعلم ما تقتضيه المصالح والمفاسد، وبحكمته يشرّع ما يزيل عنكم الحرج، من دون تفويت للمصالح المهمّة.

وإذ أسرّ النبيّ الى بعض أزواجه حديثا... اي واذكر إذ أسرّ.. والخطاب لمن يتلو القرآن او يسمعه اذ لا يصحّ أن يخاطب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم بذلك. والمراد بالذكر في هذه الموارد ليس هو التذكّر لما سبق العلم به بل هو بمعنى التنبّه له.  

وتقديم هذا الأمر للاهتمام بالخبر، ويظهر منه أنّ هذه قصّة اخرى غير قصّة التحريم، والروايات غالبا تصرّ على وحدة القضية، ولكنها مخالفة للقرآن كما لاحظنا في ما سبق ونلاحظ في ما يأتي ايضا. ولكن لا يبعد أن تكون هذه القصّة مترتّبة على تلك، فلعلّ الإخبار بهذا السرّ كان من ضمن ما أراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلّم تطييب خاطر زوجته كما يظهر من بعض الروايات.  

و(أسرّ) بمعنى أخفى في مقابل الإجهار بالشيء. والإسرار قد يكون من الشخص لنفسه بمعنى أنّه يكتم شيئا ولا يعلنه كقوله تعالى (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ..)[30] وقد يكون من الشخص لغيره بمعنى أنّه يخبره بأمر سرّا ويأمره بكتمانه، وحينئذ يتعدّى بـ (الى) كما ورد هنا. وهذا ما حصل بين النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وبعض أزواجه وهي حفصة على ما اتّفقت عليه الأخبار المشهورة بين الفريقين. وفي بعض الروايات أنّها عائشة ولا يعتمد عليها.

فلمّا نبّأت به... اي إنّ تلك الزّوجة خالفت أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بكتمان الحديث، فأفشت السرّ ونبّأت به أحدا. والمشهور في التفسير والحديث والتاريخ أنّ حفصة بنت عمر بن الخطاب صاحبة السّرّ، وأنّها أخبرت بذلك عائشة بنت أبي بكر. وورد في بعض الروايات أنّ السرّ انتقل منهما الى أبويهما ايضا.

وأظهره الله عليه... اي وأظهر الله تعالى رسوله على إفشاء المرأة السرّ الى غيرها. والإظهار بمعنى جعله ظاهرا اي مطّلعا عليه. وإنّما عُدّي بـ (على) لأنّ الإطّلاع يكون من فوق. والحاصل أنّ الله تعالى أخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلّم بما حدث في الخفاء.

عرّف بعضه وأعرض عن بعض... جواب (فلمّا نبّأت..) والمراد أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عاتبها بإفشائها السرّ الذي كان بينهما.

ويقع الكلام هنا في مرجع الضمير في قوله (بعضه) بعد وضوح أنّ الضمير السابق في قوله تعالى (وأظهره الله عليه) لا يعود الى الحديث بل الى الإفشاء، فهل هذا الضمير يعود الى الحديث كما في بعض التفاسير ومنها تفسير الميزان أم يعود الى ما أظهره الله عليه؟

فبناءا على الاول يكون المعنى أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أخبرها عن بعض السرّ الذي أفشته من الحديث الذي كان بينهما وترك بعضا، بمعنى أنّ الحديث الذي كان بينهما ينقسم الى قسمين وحفصة أفشت بهما، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم تعرّض لواحد منهما حين عاتبها.

وعلى الثاني يكون المعنى أنّ هناك أمرا آخر أظهره الله تعالى عليه وهو مترتّب على الافشاء او مرتبط بالحديث، وليس جزءا من السرّ الذي أسرّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم بل هو سرّ بين المرأتين أو بينهما وبين غيرهما ايضا، والرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أعرض عن ذكر ذلك اي لم يبيّن لها أنّه يعلم به ايضا.

ويلاحظ أوّلا أنّ الله تعالى لم يعبّر عمّا حدث بينهما في هذه المصارحة بالذكر او الاخبار، ولم يقل (أخبرها ببعضه) او (ذكر بعضه) بل قال (عرّف بعضه..) والتعريف لا يكون الا في شيء يجهله المخاطب من الأساس. والأمر الذي تجهله حفصة من الأساس هو إطّلاعه صلى الله عليه وآله وسلّم على كل ما دار في الخفاء حيث أظهره الله عليه. ومعنى ذلك أنّ الضمير يعود الى ما أظهره الله عليه وأما الحديث فكان سرّا بينهما يعلمان به فلا يصحّ أن يقال إنّه صلى الله عليه وآله وسلّم عرّف بعضه وأعرض عن بعض، لأنها تعرفه بأجمعه.

وثانيا أنّ الغرض من هذه المصارحة هو العتاب على إفشاء السر وإعلامها بعلمه صلى الله عليه وآله وسلّم بذلك، ويكفي في ذلك إعلامها بأصل الإفشاء، ولا أثر لبيان كلّ الحديث فلا أثر لإعراضه صلى الله عليه وآله وسلّم عن بعضه، كما لا أثر لذكره ايضا لأنّه كان معلوما بينهما، فلو كان الضمير يعود الى الحديث لم يكن وجه للتركيز على ذكر بعضه والاعراض عن بعض آخر منه.

وثالثا أنّ السرّ الذي أخبرها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لا يمكن أن يكون حلفه على ترك العسل او هجر مارية، لأنّ ذلك لن يبقى سرّا، فإنه اذا نفّذ ذلك علمت به نساؤه ولا يمكن إخفاؤه عنهنّ، مع أنّه ليس سرّا أساسا. فما ورد في الروايات ومنها ما في الصحيحين من أنّ ذلك هو السرّ لا يمكن تصديقه كما هو واضح.

فلعلّ السرّ هو ما ورد في بعض الأحاديث من إمارة أبي بكر وعمر بعده صلى الله عليه وآله وسلّم. [31] وهذا أمر واحد لا يقبل التبعيض، فلا يصح أن يقال عرّف بعضه وأعرض عن بعض، فلا بد من إرجاع الضمير الى ما أظهره الله عليه لا الى السر الذي دار بينهما.

ومن هنا يظهر أنه لا يصح ما ورد ايضا في بعض الروايات من أنّ ما عرّفه صلى الله عليه وآله وسلّم من السر هو الحلف على هجر مارية، وما أعرض عنه هو الإمارة، لما ذكرناه من أنّ الأوّل لا يمكن أن يكون هو السرّ أساسا، وأنّ الأمر الذي أعرض عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ليس من السرّ الذي كان بينه وبين حفصة، فلا بدّ من أن يكون السرّ الذي عرّفه هو الإمارة، والجزء المعرض عنه ــ مما أخبره الله تعالى به ــ سرّا بينها وبين عائشة، او بينهما وبين غيرهما ايضا، ولا بدّ من أن يكون ذلك سرّا خطيرا جدّا، يستحقّ أن يعبّر عنه بأنّه مظاهرة ومؤامرة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بالذات، وأنّه أعرض عن إعلامهم باطّلاعه على نواياهم ترفّعا منه ورحمة بهم، كما هو ديدنه صلى الله عليه وآله وسلّم.

فلمّا نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير... اي فلمّا نبّأ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم زوجته بأنه يعلم أنّها أفشت سرّه.. فالضمير في قوله (به) يعود الى علمه صلى الله عليه وآله وسلّم بالإفشاء اذ لا يصحّ أن يعود الى نفس الإفشاء لأنها تعلم به طبعا.

والمرأة لم تسمع منه السرّ الخطير الذي كان بينها وبين من أفشت اليه سرّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم، وانّما سمعت بأصل قضية الإفشاء، ونفس هذا الإفشاء كان سرّا بالطبع بينها وبين من أفشت اليه، فاستغربت من علم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وخافت أن تكون عائشة قد أخبرته بذلك، فاستفسرته (من أنبأك هذا؟) اي من أخبرك بأني أفشيت السر؟ فأخبرها النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بأنّ الذي أنبأه بذلك هو الله تعالى.

ووصفه تعالى بالعليم الخبير لعله بمعنى أنه عليم بكل شيء وخبير بكل الأسرار بناءا على ما ذكره بعض اللغويين من أن الخبير العالم ببواطن الامور فهو أخص من العليم.

وقيل: الفرق هو أنّ الخبر: العلم بالشيء عن طريق الأخبار. ولكن ذلك لا يصح في صفاته تعالى. وقيل: لا فرق بينهما.

ومهما كان فالتعبير بذلك فيه تعريض بأنّه صلى الله عليه وآله وسلّم يعلم كلّ ما جرى بينهما او بينهم، فإنّ ذكر الوصفين للتأكيد على أنّه تعالى خبير بكلّ الأسرار، وحيث أخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلّم بالجزء المعرّف فقد أخبره بالجزء الآخر ايضا، لتعلم المرأة أنّ إعراضه عن التعرّض لذلك لرأفته بهما او بهم.

والمفسّرون يفسّرون الآية وفقا للأخبار الواردة، وحيث إنّها مختلفة اختلافا عظيما فينتخب كل مفسّر ما يعجبه منها. وهناك من يقول لا يهمّنا معرفة هذا السّرّ ولا معرفة الجزء الذي أعرض عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، بناءا على أنّه لو كان دخيلا في الغرض من الآية لصرّح به.

ولكن يبقى السؤال عن الغرض من سرد كل هذه التفاصيل، ومن هذا الهجوم اللاذع، ومن هذا التهديد والوعيد، ومن هذا الاهتمام بالدفاع عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم؟

ثم إنّه لا فرق بين التعبيرين (نبّأ) و(أنبأ) وانما اختلف التعبير لعدم التكرار.

إن تتوبا الى الله فقد صغت قلوبكما... (صغى) اي مال. وجواب الشرط محذوف تدل عليه الجملة المذكورة اي إن تتوبا فانه واجب عليكما. والجملة المذكورة بيان للسبب. اي قد مالت قلوبكما عن الحق الى الباطل. ومعنى ذلك أنّ ما صدر منهما لم يكن من قبيل الهفوات العابرة، او متابعة الهوى، او بتأثير من الغيرة بين النساء، بل كان مرجعه الى انحراف في القلب وفي ما يرتبط به من العقيدة والإيمان.

وقال بعضهم: إنّ الجملة المذكورة بنفسها جواب الشرط، وأنّ معناها فقد صغت قلوبكما الى الحق فيكون المعنى: ان تتوبا كان ذلك ميلا منكما الى ما هو الحقّ.

ولكنّه غير صحيح، لأنّ الشرط في هذا الحال لا بدّ من أن يكون بالفعل المضارع كقولك إن أكرمتني اُكرمك، او بالماضي بدون الفاء كقولك إن أكرمتني أكرمتك، فإن قلت فقد أكرمتك كان معناه أنّ ذلك من حقّي لأنّي قد أكرمتك من قبل.

والإتيان بالجمع في القلوب مع أنّ المصداق قلبان هو المتبع في البيان العربي في الموارد المشابهة كما ورد في كتب النحو. والخطاب لعائشة وحفصة من دون خلاف.

ويقع الكلام هنا في أنّ حفصة مالت قلبها لإفشائها السرّ فما بال عائشة؟ وكيف مال قلبها عن الحق الى الباطل؟

قيل: إنّ السبب في ذلك أنّها استمعت الى السرّ، أو أنّها لم تخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بإفشاء حفصة سرّه.

وهذا غير صحيح، فإنّ الإستماع الى السرّ ليس محرّما، فضلا عن أن يكون ناشئا من انحراف القلب الى الباطل، خصوصا اذا كانت لا تعلم أنّه سرّ بينهما، وأمّا إخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بإفشائها فلا يبعد أن يكون محرّما في حدّ ذاته، لأنّه يوجب الفتنة بين الزوجين، خصوصا اذا لم يكن في ذلك الإفشاء خطرا أو ضررا بناءا على ما في الروايات من أنّ السرّ هو تحريم العسل أو الجارية أو إمارة أبويهما.

ويمكن أن يقال: إنّها ايضا أفشت السّرّ بناءا على أنّ السرّ هو إمارة أبويهما حيث إنّ كلا منهما أخبرت أباها بذلك فيشملها ميل القلب بهذا الاعتبار.

ولكنّ هذا ايضا ليس محرّما عليها فضلا أن يكون من صغو القلب، وذلك لأنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إنّما أسرّ بذلك الى حفصة فلم يحرّم الإخبار على عائشة.

وهذا أيضا يؤكّد ما ذكرناه من أنّ الأمر أخطر من إفشاء السرّ، خصوصا ما ورد في الروايات المذكورة من تعيين السرّ في العسل ومارية.

وإن تظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير... تظاهرا اي تتظاهرا. والتظاهر مأخوذ من الظهر العضو المعروف، ومعناه التعاون باعتبار أنّ كل متعاونين في أمر يشدّ بعضهما ظهر الآخر أي يحفظه من ورائه. والأصل فيه التعاون في الحرب لحاجة كل محارب الى الصون من الخلف، ثم اُطلق على كل تعاون بين اثنين او أكثر، ثم إنّه إذا عُدّي بـ (على) كان معناه التآمر والتعاون ضدّ أحد وفي ما يضرّه بالذّات.

وقد جعل في الآية التظاهر ضدّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في مقابل التوبة فأمر المرأتين يدور بين اثنين إمّا أن تتوبا فتنقطع المؤامرة أو تستمرّا على التآمر ضدّه صلى الله عليه وآله وسلّم فتلاقيان نصرة الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلّم واستنكار المؤمنين والملائكة. ومعنى ذلك أنّ التظاهر والمؤامرة أمر قائم فلا ينطبق على الافشاء السابق.

وهذا أيضا يؤكّد ما ذكرناه في القصّة وأنّ التظاهر لم يكن مجرّد إفشاء للسرّ لأنّه ليس أمرا مستمرّا، فلو كان المراد بالتوبة إظهار الندم على الإفشاء فالذي يقابله عدم التوبة لا التظاهر، فإن الإفشاء وان كان محرّما إلا أنّه أمر قد تحقّق ومضى وليس له استمرار.

وجواب الشرط هنا ايضا محذوف وهو (فلا تضرّانه شيئا) او ما بمعناه. والجملة المذكورة تدلّ على السبب وهو أنّ الله تعالى هو مولاه اي ناصره، وحسبه ناصرا. والضمير (هو) للتأكيد على أنّه تعالى بذاته يتعهد نصرته، اي من دون أن يعهد بذلك الى أحد.

ومع أنّ هذا غاية النصرة والقوة ولا حاجة الى أيّ نصرة بعد ذلك الا أنّ الغرض من ذكر الآخرين بيان عظمة المؤامرة، وبيان استنكار الجميع لها، فأوّل من يستنكرها بعد الله تعالى جبرئيل وهو سيّد الملائكة، ثم صالح المؤمنين اي كل من يصلح منهم لأن يكون ظهيرا له، ثم جموع الملائكة أجمعين التي ملأت السماوات والأرضين. يا له من تظاهر واستنكار!

ولكن لماذا؟ وفي مقابلة من؟ امرأتين ضعيفتين! ويقابلهما النبي العظيم الذي ملأ العالم صيته، والذي سخّر جبابرة العرب، وأخضعهم وأرغم اُنوفهم؟! حقا إنّ ذلك لمدهش! والذي يثير الغرابة أكثر وأكثر إصرار المفسرين على أنّ الأمر لم يتجاوز قصة العسل والجارية. فأين التظاهر على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم؟!

يقول بعضهم: (ومن هذه الحملة الضخمة الهائلة ندرك عمق الحادث وأثره في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احتاج الأمر إلى إعلان موالاة الله وجبريل وصالح المؤمنين. والملائكة بعد ذلك ظهير! ليطيب خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم ويحسّ بالطمأنينة والراحة من ذلك الأمر الخطير! ولا بد أنّ الموقف في حسّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي محيطه كان من الضخامة والعمق والتأثير إلى الحدّ الذي يتناسب مع هذه الحملة..) [32]

ولكن ما هو ذلك الأمر الخطير؟ وما الذي أزال الطمأنينة من قلب الرسول العظيم صلى الله عليه وآله وسلّم؟ وهل كان حسّه أرهف من المتعارف كما يبدو من عبارة هذا الكاتب بمعنى أنّ الموقف بذاته ليس ضخما ولا عميقا ولا مؤثرا وانما كان كذلك في حسّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم؟!

وأغرب من ذلك ما ورد في تفسير الأمثل حيث قال: (ويتّضح من هذا كم تركت هذه الحادثة من أثر مؤلم في قلب الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وروحه العظيمة، ورغم قدرة الرّسول المتكاملة نشاهد أنّ الله يدافع عنه إذ يعلن حماية جبرائيل والمؤمنين له..)

كيف يمكن أن يصدّق أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بكل عظمته كان يتأثر من افشاء هذا السرّ الى هذا الحدّ؟! بل أقول: إنّ أيّ رجل لا يتوقّع من زوجته أن يحتفظ بمثل هذا السرّ فإفشاؤه يعدّ أمرا طبيعيّا متوقّعا، وان كان ذلك مما لا ينبغي من اُمّهات المؤمنين.

ثم إنّ المذكور في كثير من التفاسير أنّ جبرئيل وصالح المؤمنين معطوفان على اسم الجلالة، فالله مولاه وجبريل وصالح المؤمنين. والمولى بمعنى الناصر خبر للجميع. والجملة التالية (والملائكة بعد ذلك ظهير) من عطف الجملة على الجملة.

ولكنّ الصحيح او الاولى على الاقل أن (ظهير) خبر لجبرئيل وما بعده، لئلا يذكر مع الله تعالى ناصر له، خصوصا مع هذا التأكيد أنّه هو بذاته المتعالية مولاه. والظهير بمعنى من يحفظ الظهر كما مرّ فكل هؤلاء معه ويؤيّدونه ويستنكرون المؤامرة ضدّه، ولكنّه لا يحتاج الى نصرتهم فإنّ الله تعالى حسبه.

ولا يضرّ كون الخبر مفردا لانه بمعنى الجمع اي ظهراء له، او أنّ المراد إفادة أنّ كلهم بمنزلة ظهير واحد، او أنه خبر لجبريل، ويقدر لصالح المؤمنين والملائكة خبر آخر بنفس المعنى يناسب المبتدأ لفظا. ولذلك نظائر في الادب العربي.

وهناك قرينة اخرى على صحة ما قوّيناه، وهي أنّه بناءا على القول الاول يكون دور الملائكة في نصرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بعد صالح المؤمنين لقوله تعالى (بعد ذلك) فان البعدية وان لم تكن بمعنى البعدية الزمانية او الرتبية الا أنّ نفس هذا التعبير يوحي بأنّ تأثيرهم متأخر عن صالح المؤمنين، وهو بعيد.

وأما بناءا على القول الثاني فتأخر الملائكة ليس الا في الذكر، لأنّهم معطوفون على جبريل وصالح المؤمنين فهم كلهم ظهراء له صلى الله عليه وآله وسلّم في مرتبة واحدة، وقوله (بعد ذلك) ظرف لمظاهرتهم جميعا، والمولى الناصر هو الله تعالى وحده.

ويمكن أن يكون السبب في تأخير ذكر الملائكة أنّ تأثيرهم غير مشهود، وان كان يشاركهم في ذلك جبرئيل عليه السلام الا أنّه لمكانته العليا في السماء قُدّم ذكره.

ومهما كان فالمراد بصالح المؤمنين من كان منهم يصلح أن يكون ظهيرا للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، لأنّ الصلوح يختلف حسب الموارد، فالصالحين في قوله تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ..)[33] لا يراد بهم المؤمنون الملتزمون بل من يصلح من العبيد والإماء للزواج.

والظاهر بحسب اللفظ أن يراد به كل مؤمن يصلح لذلك وان كان الصالح بلفظ المفرد، لأنّ إضافته الى الجمع تفيد كونه بمعنى الجمع فهو بمعنى الصالح من المؤمنين. ولكن وردت في روايات متعددة أنّ المراد به أمير المؤمنين عليه السلام. ويمكن حملها على ذكر أوضح المصاديق اذ لا يشكّ أحد أنّ ظهير الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في جميع المواقف هو أميرالمؤمنين عليه السلام. ولا يمكن لأحد أن يدّعي منافسا له في ذلك.

والعامّة رووا في ذلك روايات اخرى يذكر فيها غيره عليه السلام منفردين او معه عليه السلام. ويبدو عليها محاولة جبر ما في هذه الآيات من التعريض، ولذلك قال الآلوسي: (ان بيان مظاهرتهما له عليه السلام أشدّ تأثيرا في قلوب بنتيهما وتوهينا لأمرهما)!!!

وينبغي أن ننبّه هنا على ما علّقه الآلوسي على ما ورد في أنّ السرّ المذكور هو إخباره صلى الله عليه وآله وسلّم بإمارة الشيخين بعده، حيث قال ما لفظه: (و إذا سلّم الشيعة صحة هذا لزمهم أن يقولوا بصحّة خلافة الشيخين لظهوره فيها كما لا يخفى).

والجواب أنّ هذه الروايات تدلّ على العكس لأنّ ذلك لو كان عن استحقاق فلماذا أسرّ به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم؟ ولماذا لم يصرّح بذلك أمام الملأ؟ ولماذا عاتب حفصة وعائشة على إفشائه؟!

عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ... في هذه الجملة تحذير لامهات المؤمنين بأنّ المؤامرة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم قد تجرّ الى تطليقهنّ، وحينئذ يبدله الله أزواجا خيرا منهنّ.

ويلاحظ أنّ الخطاب موجّه في هذه الآية الى كل زوجات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم مع أنّ الذنب من اثنتين منهنّ، ولم تشاركهما سائر اُمّهات المؤمنين، ولا يحتمل في بعضهنّ على الأقلّ الموافقة، او حتّى السكوت عن المؤامرة ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، فلماذا هذا العتاب الجماعيّ؟!

الجواب أنّ هذا ليس عتابا جماعيّا، ولا ينقص من فضلهنّ شيئا، وانّما هو تصحيح لخطأ ربما يحدث لهنّ، او للمؤمنين بالنسبة اليهنّ، وهو أنّ مجرّد زوجيّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فضيلة توجب العصمة او ما يقرب منها، فاذا اشتبه الأمر على إحداهنّ فإنّها ربما تعجب بنفسها، وتخرج من طورها، ولا تحاسب نفسها على أعمالها، اعتمادا على هذه الفضيلة والميزة، وتتصوّر أنّ لها كرامة عند الله تعالى يبرّر لها كل أمر ممّا لا يجوز لغيرها.

واذا حدث هذا الخطأ لغيرهنّ فالأمر أخطر، فإنّ المجتمع المسلم ربّما ينحرف الى الباطل بسبب انحراف إحداهنّ، وتحدث فتنة عظيمة بين المسلمين تجرّ عليهم الويلات الى يوم الدين، فلا بدّ من توضيح الأمر للمجتمع ولامّهات المؤمنين، لتتمّ الحجّة على الجميع فان انحرف أحد بعد ذلك كان عن بيّنة، فيصدق قوله تعالى (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ..).[34]

والحاصل أنّ هذه الآية وآيات اخرى في السورة تبيّن هذه الحقيقة أنّ مجرّد زوجيّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لا توجب مناعة ضدّ الشيطان، وضدّ الانحراف الى الميول والأهواء وحتى الشرك والكفر، كما سيأتي في التمثيل بزوجتي نوح ولوط عليهما السلام.

وقوله تعالى (عسى..) ليس بمعنى الترجّي كما يقال بالنسبة الى هذه الكلمة، بل بمعنى أنّ ذلك محتمل. والاحتمال ايضا لا يسند الى الله تعالى، بل المراد أنّ الوضع القائم يجعل ذلك أمرا محتملا في حدّ ذاته كما يحتمل خلافه، والغرض عدم الإعلام بما سيقع جزما، لتكون كل واحدة من اُمّهات المؤمنين متوقّعة ذلك.

وقوله (خيرا منكنّ) يشتمل على حكم جزمي، وهو وجود من هي خير منهنّ ممّن يمكن أن يتزوّجها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. وهذه نقطة مهمّة يجب ان ينتبه لها المسلمون، وهي مقصودة بالذات. فالامر المتوقّع او المحتمل هو الابدال، وأمّا وجود من هي خير منهنّ فهو أمر قطعيّ، خصوصا بملاحظة ذكر الصفات في ما يلي واعتبار اجتماعها.

مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيّبات وأبكارا... ذكر الأوصاف من دون عطف دليل على أنّ المراد اجتماعها، ولذلك أتى بواو العطف في الأخيرتين، اي قسم منهنّ ثيبات وقسم أبكار.

والظاهر أنّ ذكر هذه الأوصاف للتعريض بمن أساء الى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بأيّ وجه كان، فالمراد أنّ من هي خير منهنّ تجتمع فيها هذه الصفات بخلاف من أساء الى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.

وعليه فالتعبير بكونهنّ مسلمات فيه تعريض بأنّ ما صدر من بعض نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ينافي الاسلام او يمكن أن ينتهي الى ما ينافيه. وفيه تنديد شديد جدّا.

والاسلام بالمعنى العامّ هو ما يتمّ بالتشهّد بالشّهادتين فيشمل ما كان عليه المنافقون والذين في قلوبهم مرض، وانتفاؤه يستلزم الكفر الصريح.

والإيمان أخصّ منه مصداقا ومفهوما، فالمؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا، قال الله تعالى (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..)[35] ويظهر من هذه الآية أنّ الايمان هو ما يدخل في القلب، والاسلام هو الاستسلام للحكم الاسلامي.

والتعبير بالمؤمنين في القرآن الكريم قد يأتي في مقابل الكفار فيشمل المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وقد يأتي في مقابل المنافقين فيراد به هذا المعنى الخاص.

وتبيّن بما ذكرناه وجه الجمع بين الصفتين الاسلام والايمان، فالتوصيف بالاسلام فيه تعريض بأنّ ما حدث ينافي الاسلام، والتوصيف بالايمان للدلالة على أنّ هذه النساء يتصفن بالايمان فضلا عن الاسلام.

والقنوت هو الطاعة في خضوع. فلا يصدق على الطاعة عن إكراه. وفيه ايضا تعريض بأنّ ما ارتكب في حقّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم خروج عن طاعة الله تعالى في حقّه، وأنّ النساء اللاتي هنّ خير منهنّ طائعات للّه تعالى في هذا الامر بخضوع وتذلّل لا عن إكراه.

والتوبة انما ذكرت وصفا لهنّ باعتبار أنّ التعايش لا يخلو من تقصير في حقّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم سواء من أزواجه أم من غيرهنّ من المؤمنين. وهذا أمر طبيعيّ فالإنسان معرّض للخطأ والنسيان بل ربّما يغلب على الإنسان هواه فيرتكب ما لا يجوز متعمّدا أيضا ولكنّه سرعان ما يعود الى رشده ويتوب.

وفي هذا ايضا تعريض بمن طاوعته نفسه في مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بل المؤامرة ضدّه من دون توبة ورجوع الى أن نزل الوحي وكشف المؤامرة. ومن الواضح أنّ التوبة بعد ذلك ليست كالتوبة قبله. فالمطلوب هو التوبة قبل هذا الهجوم اللاذع. وهذه هي الصفة التي ينبغي أن تتصف بها اُمّهات المؤمنين.

والعبادة: التذلّل. ولعلّ المراد بها هنا تعبّدهنّ لله تعالى بطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ورعاية مقامه الكريم، فإنّ في ذلك من عبادة الله تعالى ما لا يدانيه شيء.

وأما السياحة فقد اختلفوا في تفسيرها قال الطبرسي في مجمع البيان: (سائحات أي ماضيات في طاعة الله تعالى. وقيل: صائمات، عن ابن عباس وقتادة والضحاك. وقيل: مهاجرات، عن ابن زيد وأبيه زيد بن أسلم والجبائي. وإنما قيل للصائم سائح لأنّه يستمر في الإمساك عن الطعام، كما يستمر السائح في الأرض).

والسياحة من السيح وهي في الاصل بمعنى السير في الأرض بطلاقة، من دون تقيّد وتكلّف وتحديد بمكان دون مكان. وأصله من سيح الماء على وجه الارض، اي جريانه من دون تقيّد بمجرى خاص كالنهر ونحوه. قال ابن الاثير في النهاية (وأصلهُ من السَّيْح وهو الماءُ الجارِي المنْبَسِطُ على وجْه الأرض). وهذا يذكر في باب الزكاة وأنّ ما يسقى سيحا من دون علاج فزكاته العشر وما يسقى بعلاج فزكاته نصفه.

وقد اتّخذ النصارى السياحة والرهبنة شعارا لهم للانقطاع عن الخلق والتوجّه الى الله تعالى، ونسبوا ذلك الى المسيح عليه السلام. ولكن الظاهر كما ورد في بعض التواريخ أنّ ذلك ابتدع بعد عصره عليه السلام بقرن او أكثر، وإن نسبه بعضهم الى شريعته عليه السلام.

قال المجلسي قدس سره: (كان من شرايع عيسى عليه السلام السياحة في الأرض للاطلاع على عجائب قدرة الله وهداية عباد الله، والفرار من أعدائه، وملاقاة أوليائه، فنسخ ذلك في شرعنا..). [36]

ومهما كان فقد اتّخذ جمع من المتصوفة السياحة مسلكا لهم، فكان بعضهم يتقلّد كشكوله ويخرج منفردا يسيح في البلاد، لا يستقرّ له قرار، ولا يتزوّج، ولا يتوطّن، ولا يتكسّب، بل يعيش بالتسوّل. وهناك من يعتبر ذلك مشروعا، ويظنّ أنّ النهي الوارد لا يقصد به ذلك.

وقد ورد ذكر هذه اللفظة في القرآن الكريم في ثلاثة موارد: احدها قوله تعالى خطابا للمشركين (بَرَاءَةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله..)[37] والمراد هنا معناها الحقيقي، اي سيروا في الارض أينما شئتم هذه المدة فقط. وقد عُرفت هذه المدة بأشهر السياحة.

والمورد الثاني في نفس السورة حيث قال تعالى(التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله..) وقد وردت هذه الصفات في حقّ من ذكروا في الآية السابقة بقوله تعالى (إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ..).[38]

وكما اختلف المفسرون هنا اختلفوا هناك. ومن الغريب أنّ العلامة الطباطبائي فسّر السياحة في سورة التوبة بالسير الى المساجد ونحوها، واستبعد تفسيرها بالصيام لعدم تناسب المعنيين، ولكنه هنا فسرها بالصيام من دون الاشارة الى خلاف!!

ولا شكّ في أنّه لا يمكن حمل السياحة على معناها المتبادر اي السير في الارض بطلاقة في الموردين لانّه ليس من مميّزات المؤمنين، خصوصا في هذا المورد حيث يراد ذكر مميزات زوجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم امّهات المؤمنين، والسياحة حتى عند من يعتبرها مشروعة لا تستحب من المرأة، فما هو المراد بها في الآيتين؟

قيل: إنّ المراد بها فيهما الصيام. ولعل هذا هو أشهر الأقوال قديما وحديثا. وورد بذلك بعض الروايات.

روى في الكافي حديثا طويلا عن الامام الصادق عليه السلام في الجهاد وفيه كلام حول الآية المذكورة الى أن قال عليه السلام: (السائحون وهم الصائمون). [39] 

ولكن السند ضعيف والمتن لا يشبه أحاديث الأئمة عليهم السلام وان كان الظاهر أنّ بعض مطالبه مأخوذة من الأحاديث، فالظاهر أنّ بعض ما يشتمل عليه من التوضيح والتعليق من بعض الرواة. ومن ذلك الجملة السابقة وهي مأخوذة من الروايات الآتية.

وقد ورد في كتب العامة روايات كثيرة بعضها تفسّر السائحين في سورة التوبة بالصائمين وبعضها بلسان (سياحة أمتي الصيام) والظاهر أنّ هذه العبارة مشهورة ومنقولة في كتبنا ايضا وان كانت مستندة الى رواياتهم.

قال المجلسي في البحار (أقول: إنما فسّر السياحة بالصيام لقول النبي صلى الله عليه وآله: سياحة أمتي الصيام. شبّه بها لأنه يعوق عن الشهوات أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على خفايا الملك والملكوت، وقيل: السائحون للجهاد أو لطلب العلم..) [40]

وقال ابن الاثير في النهاية (قيل للصائم سائِحٌ لأنّ الذي يَسِيح في الأرض مُتَعبِّد يَسِيح ولا زَادَ له ولا ماء فحين يَجِد يَطْعَم. والصَّائِم يُمْضِي نَهاره لا يأكُل ولا يشرب شيئاً فشُبِّه به).

ولكن هذا التفسير بعيد جدّا بل غير صحيح وذلك أوّلا لانه لا يوجد وجه لتبديل التعبير عن الصوم بالسياحة بل يعتبر ذلك أمرا غريبا جدّا حتى لو فرض كونه صحيحا بعناية وتجوّز، اذ لا شكّ في أنّ هذا التعبير موهم وليس فيه أيّ ميزة على التعبير بالصائم، وقد ورد التعبير به في قوله تعالى (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ..)[41] فما هو الموجب للعدول عنه في هذين الموردين؟!

وثانيا أنه لا وجه لهذا التشبيه اذ لا ملازمة بين السياحة وما ذكر من الوجوه فقد لا يكون السائح جائعا او عطشانا.

وثالثا أنّ التجوز في التعبير على أساس التشبيه انما يصحّ في ما اذا كان وجه الشبه صفة واضحة في المشبّه به بحيث يتبادر الى الذهن من اطلاقه كالشجاعة في الاسد. ولذلك قالوا لا يصح تشبيه الأبخر به، وهو مَن رائحة فمه نتنة، حيث قالوا إنّ الاسد كذلك.

ورابعا أنّ الرواية المشهورة المنسوبة الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم (سياحة اُمتي الصيام) ليست بصدد تفسير الآية وبيان المراد من هذه الكلمة فيها، وانما وردت في بيان أنّ السياحة التي تتخذ في بعض الأديان والأعراف وسيلة للزهد والتقرب الى الله تعالى ليست مشروعة في الاسلام وأنّه استبدل عنها بالصوم.

فقد ورد في عدة روايات في كتب الفريقين أنّ بعض الصحابة همّوا أن يحرّموا على أنفسهم ما أحلّه الله تعالى زهدا في الدنيا ورغبة في الآخرة وتقرّبا الى الله تعالى، فمنعهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وخطب على ما في بعض الروايات وقال (ما بال قوم حرّموا النساء والطيب والنوم وشهوات الدنيا! وأمّا أنا فلست آمركم أن تكونوا قسسة ورهبانا، إنه ليس في ديني ترك النساء واللحم، واتّخاذ الصوامع، إنّ سياحة أمتي في الصوم، ورهبانيتها الجهاد) الحديث.. [42]    

ولذلك ورد تفسير السياحة بغير الصوم ايضا، فقد روى الشيخ في التهذيب عن عثمان بن مظعون قال: (قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّ نفسي تحدّثني بالسياحة وأن ألحق بالجبال فقال: يا عثمان لا تفعل فان سياحة أمتي الغزو والجهاد) [43]     

وفي دعائم الاسلام عن علي عليه السلام أنّه قال: (جاء عثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله قد غلبني حديث النفس ولم أحدث شيئا حتى استأمرتك قال: بم حدّثتك نفسك يا عثمان؟ قال: هممت أن أسيح في الأرض قال: فلا تسح فيها فإن سياحة أمتي المساجد..) الحديث. [44] 

وفي بعض الروايات (سياحة أمتي لزوم المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة..) [45]

مع أنّه من الواضح أنّ الذهاب الى المساجد لا يصدق عليه السياحة، وليس معنى السياحة مطلق السير على الارض لتنطبق على السير في الطريق من البيت الى المسجد، كما ورد في تفسير الميزان، وقد تبين ذلك بما ذكرناه من اصلها في اللغة. هذا مع أنّ التعبير الوارد في الرواية الأخيرة لا ينطبق على السير ايضا، وهو لزوم المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة.

فالمراد بهذه الروايات نفي مشروعية السياحة بالمعنى الذي عكف عليه النصارى، واتّخذه بعض المتصوّفة مسلكا، وأنّ الدين الاسلامي استبدل بذلك بما يقرّب الانسان الى الله تعالى ويزهّده في الدنيا من دون ترك المجتمع والابتعاد عن الناس، وهو الصوم والجهاد والذهاب الى المساجد، مضافا الى ما تشتمل عليه السياحة المذكورة من الاتّـكال على الناس في المعيشة والتسوّل واجتناب النساء ومنع التناسل وغير ذلك مما يرفضه الدين.

ومن هنا يتبين أنّ تفسير السياحة بالجهاد والذهاب الى المساجد والهجرة والسير في البلاد لطلب العلم ونحوه.. لا يصح ايضا. ويأتي فيها ايضا ما ذكرناه من وجوه الاشكال في تفسيرها بالصوم.

ويضاف الى ذلك أنّ تفسيرها بالجهاد لا يمكن في سورة التحريم، مع قطع النظر عما ذكر، لأنّ الآية وردت بشأن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، والجهاد مرفوع عن المرأة.

كما لا يصحّ تفسيرها بالهجرة ايضا، لأنّ الهجرة من بلاد الكفر في ذلك العهد وان كان واجبا الا أنّ ما ورد في الآيتين لا يختص بالمهاجرين والمهاجرات، فالمجاهدون الذين باعوا أنفسهم وأموالهم بالجنة أكثرهم في ذلك العصر من الأنصار، والزوجات الّلاتي يمكن للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أن يتزوجهنّ قد لا يكنّ من المهاجرات.

وأما السير في البلاد لطلب العلم فهو أمر مستحدث ولا يشمل من كانوا في المدينة، فإنّ العلم كان فيها في ذلك العصر.

والذي يخطر بالبال أنّ المراد بها ليس هو السياحة بالفعل، بل الاستعداد للسياحة اذا اقتضاها الواجب. فالمجاهد في سبيل الله الذي باع نفسه للّه تعالى يجب أن لا يتقيّد بالبقاء في بلده اذا اقتضى الجهاد أن يغترب لحفظ الثغور، او لمجاهدة الأعداء، أو لأيّ أمر آخر يقتضيه التكليف. وان أصررت على التجوز في التعبير فأقرب معنى مجازي الى السياحة هو أن يكون الانسان كمن بيته معه لا يستقرّ له قرار ولا يتقيد بالبقاء في بلد. وهذا هو شأن المجاهد.

وكذلك في ما نحن فيه فإنّ زوجة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في معرض أن يطلب منها المهاجرة، او السفر مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في غزوة او غيرها، فعليها أن لا تتعلّق بالبلد كما هو طبيعة المرأة غالبا، وخصوصا في ذلك العهد.

بل هو كذلك حتى في غير أزواج الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، فالمرأة يجب عليها اذا تزوّجت أن تستعدّ لكل ما تقتضيه الحياة الزوجية الا اذا اشترطت عدم الهجرة بها عن بلدها، ولعل الآية الكريمة تريد أن تبيّن أنّ زوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لا يحقّ لها أن تشترط ذلك.

والثيّبات جمع ثيّبة ويصح ان يقال ثيّب وهو من الثوب اي الرجوع يطلق على المرأة المتزوجة اذا رجعت الى بيت اهلها بعد الطلاق او موت زوجها.

وأبكار جمع بكر يطلق على الاول من الشيء والمراد هنا الفتاة قبل ان تتزوج ويدخل بها زوجها فمن تزوجها فقد اخذ بكارتها.

ولعل في ذكر الوصفين تعريضا بمن يتصور فيها أنّ لها امتنانا على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث انه لم يتزوج بكرا غيرها.



[1] صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن باب يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّه لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ                                      العودة

[2] نفس المصدر                                                                                                                                      العودة

[3] المشربة بفتح الراء وضمها : الغرفة                                                                                                            العودة

[4] صحيح البخاري كتاب المظالم والغصب باب الْغُرْفَةِ وَالْعُلِّيَّةِ الْمُشْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا                                العودة

[5] صحيح مسلم كتاب الطلاق بَاب الْإِيلَاءِ وَاعْتِزَالِ النِّسَاءِ وَتَخْيِيرِهِنَّ ح 2704                                                                العودة

[6] صحيح البخاري كتاب الطلاق بَاب { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّه لَكَ }                                                                                العودة

[7] صحيح مسلم كتاب الطلاق بَاب وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ حَرَّمَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ ح 2694                                            العودة

[8] المصدر السابق ح 2695                                                                                                                        العودة

[9] الاحزاب: 28                                                                                                                                     العودة

[10] وسائل الشيعة ج22 ص38 ب 15 من الطلاق ورواه في الكافي ايضا ج6 ص135 ولكن في سنده اشكال                             العودة

[11] الكافي ج4 باب اتيان مقابر الشهداء                                                                                                            العودة

[12] الحجرات: 4                                                                                                                                     العودة

[13] الانعام: 57                                                                                                                                       العودة

[14] آل عمران: 93                                                                                                                                   العودة

[15] القصص: 12                                                                                                                                    العودة

[16] التوبة: 43                                                                                                                                        العودة

[17] قال في ظلال القرآن: (والتعقيب: «وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. يوحي بأن هذا الحرمان من شأنه أن يستوجب المؤاخذة، وأن تتداركه مغفرة اللّه ورحمته)                             العودة

[18] قال في روح المعاني ( وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ.. فيه تعظيم لشأنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم بأن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي الكريم يعدّ كالذنب وإن لم يكن في نفسه كذلك، وأنّ عتابه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم ليس إلا لمزيد الاعتناء به)                                                                                                  العودة

[19] وسائل الشيعة ب80 من ابواب آداب المائدة ح2 ج24 ص388                                                                              العودة

[20] القصص: 16                                                                                                                                      العودة

[21] القصص: 17                                                                                                                                      العودة

[22] الفتح: 2                                                                                                                                            العودة

[23] ص: 5-7                                                                                                                                          العودة

[24] عيون اخبار الرضا ج1 ص180                                                                                                                 العودة

[25] الاحزاب: 5                                                                                                                                         العودة

[26] المائدة: 89                                                                                                                                         العودة

[27] ص: 44                                                                                                                                            العودة

[28] الانعام: 62                                                                                                                                         العودة

[29] محمد: 11                                                                                                                                           العودة

[30] يوسف: 77                                                                                                                                          العودة

[31]  راجع تفسير الدر المنثور ذيل الآية الكريمة                                                                                                       العودة

[32] في ظلال القرآن تفسير الآية الكريمة                                                                                                               العودة

[33] النور: 32                                                                                                                                            العودة

[34] الانفال: 42                                                                                                                                           العودة

[35] الحجرات: 14                                                                                                                                        العودة

[36] بحار الانوار ج 70 ص 245                                                                                                                       العودة

[37] الاوبة: 1- 2                                                                                                                                          العودة

[38] التوبة: 111- 112                                                                                                                                   العودة

[39] الكافي ج5 ص15                                                                                                                                    العودة

[40] بحار الانوار ج66 ص 356                                                                                                                        العودة

[41] الاحزاب: 35                                                                                                                                          العودة

[42] مستدرك الوسائل ج 16 ص 55                                                                                                                     العودة

[43] وسائل الشيعة ج 15 ص 17                                                                                                                         العودة

[44] مستدرك الوسائل ج 7 ص 507                                                                                                                     العودة

[45] جامع الاحاديث ج 16 ص 372                                                                                                                     العودة

 &l