مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ... اُشير في الآيات السابقة الى عدّة المطلّقة وان لم يُبيّن مقدارها لذكرها قبل ذلك في سورة البقرة (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ..)[1]  والظاهر أن سورة البقرة نزلت قبل سورة الطلاق. وقد اختلف في كتب الفقه واللغة في معنى القرء هل هو الطهر أم الحيض؟ ولكنه حسب روايات اهل البيت عليهم السلام بمعنى الطهر.

والروايات كثيرة منها ما رواه الكليني بسند صحيح عن زرارة قال (قلت لابي عبدالله عليه السلام سمعت ربيعة الرأي يقول من رأيي أن الاقراء التي سمى الله عز وجل في القرآن انما هو الطهر فيما بين الحيضتين فقال كذب لم يقله برأيه ولكنه انما بلغه عن علي عليه السلام فقلت أصلحك الله أكان علي عليه السلام يقول ذلك فقال نعم انما الطهر يقري فيه الدم فيجمعه فاذا جاء المحيض دفقه).[2]

 

وفي معجم مقاييس اللغة ايضا ان القرء بمعنى الجمع والاجتماع ومهما كان فلم يرد في هذه الآيات ذكر لعدّة المطلقة اذا لم تر الدم لحمل او كبر او صغر او مرض، فهذه الآية تعرّضت لذكر عدّتهنّ بالتفصيل.

والكلام هنا فيما هو المراد باليأس من المحيض وبقوله (ان ارتبتم) فان اليأس يحصل بعدم رؤية الدم مدّة طويلة ولكن لا يرتاب حينئذ في الحمل عادة فان اليائسة لا تحمل بصورة طبيعية فما هو المراد بالجمع بين الامرين؟

ذهب فقهاء السنة ومفسروهم الى أنّ المراد بلوغها سنّ اليأس التامّ حيث لا ترى الدم بعد ذلك أصلا. واختلفوا في تحديده فقيل: ستين وقيل: خمس وخمسين وقيل غير ذلك. واختلفوا ايضا في المراد بقوله تعالى (ان ارتبتم) فقال الأكثر: إنّ المراد به الجهل بحكم العدّة في اليائسة حيث لم يرد في الكتاب، ورووا في ذلك روايات تدلّ على أنّ بعض الصحابة تساءلوا فيما بينهم او سألوا الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بعد نزول آية العدّة عن حكم العدّة في من لا ترى الدم فنزلت هذه الآية.

وعليه فلا مفهوم لهذه الجملة الشرطية لان معناها اذا شككتم في حكمها فهذا حكمها وعلى هذا الأساس حكموا بوجوب العدّة لليائسة وان بلغت ما بلغت.

وقال بعضهم: إن المراد بالارتياب الشك في حال المرأة إمّا من جهة كون الدم النازل حيضا او استحاضة او أنّها بلغت سنّ اليأس ام لم تبلغ ونحو ذلك. ولكنهم اصطدموا بلزوم المفهوم في الجملة الشرطية ومقتضاه عدم ثبوت هذه العدّة مع عدم الارتياب والحال أنّهم متّفقون على ثبوت هذه العدة على اليائسة مطلقا وإن نسب الخلاف الى بعض فقهائهم وأما فقهاؤنا فقالوا بعدم ثبوت العدة عليها الا من شذّ ومنهم السيد المرتضى قدس سره.

والظاهر أنّ المراد باليأس ليس هو اليأس من الحيض المصطلح في الفقه اي التي لا تحيض نهائيا بل عدم رؤيته مدة يوجب اليأس ولكن لا تعلم هل كان ذلك من جهة بلوغها سن اليأس او لعارض فتحتمل كونه لحمل. ومنه يعلم أنّ المراد بالارتياب الشك في كون عدم الحيض لحمل او مرض او يأس. ولا شكّ أنّه هو ظاهر اللفظ في اليأس وفي الارتياب وانما اضطرّ القوم الى حمله على الجهل بالحكم تهرّبا من مفهوم الشرط ونحن نقول به، وبأنّ اليائسة غير المسترابة لا عدّة عليها كما ورد في عدة من الروايات، والمراد بالمسترابة من لا تحيض وهي في سن من تحيض لانقطاع حيضها بمرض ونحوه.

ومن هنا يتبين انه لا حاجة الى تأويل في الآية وارتكاب لما هو خلاف الظاهر بل لا يصح ما ذكروه من التأويل اولا لان الارتياب بمعنى الشك لا الجهل بالحكم. وثانيا أن قوله تعالى (ان ارتبتم) معناه الاشتراط مع أن الجهل حسب الفرض كان حاصلا فلا معنى لاشتراطه. ولذلك قالوا ان (ان) هنا بمعنى (اذ) ولم يرد ذلك في اللغة وكان المفروض بناءا على هذا الرأي ان يقول (اذ ارتبتم) فلماذا التغيير لو صح ان (ان) بمعنى (اذ)؟! هذا مضافا الى ان حمل الارتياب على حالة انتظار نزول الحكم من السماء امر غريب جدا.

وربّما يقال: لو كان كذلك لقال (إن ارتبن) فتوجيه الخطاب للرجال يناسب ما ذكروه من الجهل بالحكم. والجواب أنّ احتساب العدّة من وظائف المجتمع، وفيها تكليف للزوج والزوجة وسائر الرجال. ولذلك يخاطب به بالضمير المذكر. ويظهر ذلك بوضوح في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا..).[3]   

فتبين أن منطوق هذه الجملة تدلّ على حكم اليائسة المسترابة وأنّ عدتها بالشهور، ومفهومها تدل على حكم اليائسة القطعية وأنها لا عدّة لها وذلك لان معنى قوله (ان ارتبتم) انه ان لم يكن ريب في عدم الحمل من جهة اليأس من الحيض فلا تعتدّ هذه العدة اي ثلاثة اشهر والا لم يكن وجه للاشتراط وليست هناك عدة اخرى غيرها.

وأمّا أنّ اليأس التامّ متى يحصل فهناك اختلاف بين فقهائنا لاختلاف الروايات فذهب بعضهم الى أنّـه في القرشية ستين وفي غيرها خمسين. وذهب سيدنا الاستاد [4] حفظه اللّه تعالى الى أنّه يحصل بانقطاع دم الحيض وعدم رجاء عوده لكبر سنّ المرأة ببلوغها خمسين سنة قمرية سواء في ذلك القرشية وغيرها. وتمام الكلام في الفقه.

ثم ان المراد بالاشهر، الهلالية لانها هي المتعارفة لدى العرب المخاطبين وهناك بحث فقهي في كيفية احتساب الثلاث اذا وقع الطلاق في غير الساعة الاخيرة من الشهر كما هو الغالب حيث انه اذا وقع في الساعة الاخيرة تكون العدة ثلاثة اشهر هلالية كاملة اما اذا وقع قبل ذلك فهناك شهران كاملان وتكمل العدة بتلفيق ايام من الشهر الرابع ليكتمل الشهر الاول الا ان الكلام في ان اللازم اكمالها ثلاثين يوما او بمقدار ما مضى منه قبل الطلاق فلو كان الشهر تسعا وعشرين يوما ووقع الطلاق في العشرين من الشهر فهل تنتهي العدة باكمال تسعة ايام من الشهر الرابع او عشرة ليكون ثلاثين يوما وحيث لم يرد دليل قاطع من الشرع في ذلك احتاط سيدنا المرجع باكماله ثلاثين يوما.    

وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ... عطف على اللائي يئسن فيلحقه الشرط ايضا ويكون التقدير واللائي لم يحضن ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة اشهر وعليه فالمراد بهن من لم تحض أصلا مع كونها في سنّ من تحيض ليتحقق الارتياب. والتقييد بكونها في سن الحيض لإخراج الصغيرة اي التي لم تبلغ التسع فإنّها حتى لو رأت دما لا يعتبر حيضا في الشرع فاذا دخل بها زوجها خطأ او على وجه محرّم ثم طلّقها فلا عدّة عليها أصلا لان الشرط وهو الارتياب لا ياتي فيها. والخلاف السابق في عدة اليائسة يأتي هنا ايضا.

وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ... معنى الآية واضح وأنّ عدّة الحامل وضع الحمل، وان اختلف الفقهاء في بعض الجزئيات كإسقاط العلقة والمضغة. وظاهر الآية اختصاص هذه العدّة بالمطلّقة لأنّها هي موضوع الكلام وبيان الأحكام ولا علاقة لها بالحامل المتوفّى عنها زوجها. وأصحابنا يقولون فيها تبعا للروايات أنها تعتدّ بأبعد الأجلين من العدّة ووضع الحمل. والعدّة ما ورد في قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا..).[5]  

وذهب فقهاء العامة تبعا لما رووه من الصحابة بأنّ آية سورة البقرة تخصّص بهذه الآية فعدّة الشهور خاصة بغير الحامل واما هي فتنتهي عدّتها بالوضع حتى لو كان زوجها ملقى على سرير الموت او المغتسل. وقال بعضهم في توجيه ذلك: إنّه لا وجه للحكم ببقاء عدّتها بعد الوضع لعدم احتمال الحمل الا الحزن على الزوج وهو منهيّ في السنّة. وهذا كلام غريب فإنّ الحكم بالحداد على الزوج مسلّم في الشريعة.

وما ذكروه مبني على تعارض الآيتين بالعموم من وجه فالموضوع في آية سورة البقرة المتوفى عنها زوجها وهو يشمل الحامل وغيرها، والموضوع في هذه الآية الحامل ويشمل المطلقة والمتوفى عنها زوجها فتتعارض الآيتان في الحامل المتوفى عنها زوجها ولا بدّ من تقديم الآية الثانية لتأخّرها فهي تنسخ حكم الاولى او تخصّصها.

والصحيح أنّه لا تعارض بينهما كما أشرنا اليه لاختصاص هذه الآية بالمطلّقة فانها هي موضوع الاحكام من بداية السورة وعلى فرض كون الارملة الحامل موردا للآيتين فلا تعارض في الحكم ايضا لإمكان الجمع بينهما والحكم بأبعد الأجلين. ويمكن أن يقال مع قطع النظر عن الروايات: إنّ هذه حكمها الاعتداد عدة الوفاة حسب آية البقرة الا أنّها اذا بقيت حاملا فلا يمكنها الزواج الى ان تضع حملها.

وقد روى القوم عن أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس القول بأبعد الأجلين ولكن رجّحوا عليه قول عبداللّه بن مسعود وغيره. ونحن لا نقارن بقول أمير المؤمنين سلام اللّه عليه قولا من أحد لأنه لا يقول الا ما أخبره به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم وقد قال هو بنفسه: (لا يقاس بآل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلّم من هذه الامة أحد).[6]

وَمَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْـرًا... مرّ بعض الكلام في نظيرتها آنفا. واليسر خلاف العسر، ومعناه السهولة واللين والانقياد. والمراد بتقوى اللّه تعالى في هذا المجال هو رعاية حدوده في تعيين العدّة والالتزام بها وبأحكامها فعلى الزوج أن ينفق على المرأة ويسكنها في فترة العدة ولا يحاول الاضرار بها بعد انتهائها بمنعها من الزواج. قال تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). [7] وعلى المرأة أن لا تخرج قبل انتهاء العدّة ولا تتزوج ولا تتبرّج ولا تظهر زينتها لغيره. وعلى سائر الرجال ايضا عدم التعريض بالخطبة في فترة العدة.

والمراد بأمره ما تعسّر عليه من شؤون حياته. وفي تيسير العسير احتمالان: احدهما أن يغيّر الله تعالى حاله ويسهّل أمره ويرفع الاشكال، والآخر أن يقوّي إرادته وايمانه وعزيمته فتذلّ له الصّعاب من دون تغيّر فيها. ولعل الثاني هو الاكثر في مورد الآية وهو رعاية حدود اللّه تعالى فإنّها في حدّ ذاتها أمر ممكن وانما يصعب على بعض الناس الالتزام بها لضعف الايمان ولمتابعة الاهواء ومن الطبيعي أن المتّقي يسهل عليه ذلك.

ذَلِكَ أَمْرُ اللّه أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ... إشارة الى ما مرّ من الأحكام. والأمر بمعنى التكليف. وهذا تأكيد على أنّ ما مرّ من الأحكام ليست اوامر ندبية ولا ارشادية ولا اخلاقية بل هي تكاليف وواجبات مهمّة من صلب الشّريعة الالهية. والتأكيد على أنّ هذه الاحكام من أمر الله تعالى يضفي عليها اهتماما خاصا. والتعبير بالانزال من جهة أن الاحكام تصدر من مقام الربوبية فالمراد بالعلوّ المفهوم من الانزال رفعة المقام. وقد مرّ أنّ سبب هذا التأكيد المتكرّر في هذا الباب بالخصوص اي أحكام الاسرة هو تهاون المجتمع آنذاك والى يومنا هذا بهذه الشؤون وبكلّ ما يرتبط بالمرأة استعلاءا من الرجل، واللّه تعالى لا يختلف لديه الرجل والمرأة.

وَمَنْ يَتَّقِ اللّه يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا... تكفير السيّئة محوها وسترها. والظاهر أنّ مضمون الآية حكم عامّ طبّق هنا لمزيد التأكيد على هذه الاحكام. ولا يبعد أن يكون المراد بالتقوى الموجب لتكفير السيّئات اجتناب الكبائر ــ كما ذكره العلامة الطباطبائي قدّس سرّه ــ لتتّفق الآية مضمونا مع قوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ..)[8]  فيكون المراد بالسيئات خصوص الصغائر.

توضيح ذلك أن المراد بالتقوى إن كان ترك الكبائر والصغائر لم يبق مورد للتكفير والستر، وإن اُريد بالسيئات ما يشمل الكبائر ــ كما ظنّ بعضهم ــ كان معنى الآية كفاية أن يتّقي المكلف في كبيرة واحدة فيغفر الله له سائر الكبائر وان لم يتب، وهو بعيد جدا خصوصا على ما ذهب اليه ذلك البعض من ان مخالفة احكام العدة والطلاق ليست من الكبائر ولا شك ان المراد بالتقوى هنا ما يشمل مورد الآية اي مخالفة احكام الطلاق والعدة. والنتيجة أن يقال بكفاية ترك صغيرة في تكفير الكبائر.

ثم إنّ ظاهر الآيتين كما أشرنا اليه أنّ اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر حتى لو لم يتب منها، اذ مع التوبة يكفّر الكبائر ايضا. وقد مرّ بعض الكلام حول الكبائر والصغائر في تفسير قوله تعالى (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ..)[9]

وتبيّن من خلال البحث أنّ المستفاد من هذه الآية ــ كما قال العلامة ــ هو أنّ مخالفة هذه الاحكام من الكبائر ولا وجه للاستبعاد. وقد قلنا سابقا أنّ الغالب من المخالفة فيها هو ما ينشأ من استعلاء الرجل وهو نحو من الطغيان.

ثم إنّ التقوى واجتناب الكبائر أمر وجودي فلا يقصد بهما مجرد الترك ليصدق حتى مع عدم وجود الدافع النفسي او وجود مانع طبيعي او عدم تهيؤ الاسباب والارضية المناسبة. ولا بدّ هنا من تنبيه الشباب بأن لا يمنّوا أنفسهم بمراعاة التقوى بعد الكبر والكهولة فإنّا وجدنا الغالب من الناس الذين لم يتّقوا في شبابهم لم يتّقوا ايضا في الكبر وانما اختلف المجال، مضافا الى أنّ التقوى بعد فقدان دوافع الاثم او ضعفها لا أثر له بل ربما لا يصدق التقوى.

والظاهر أنّ المراد بإعظام الاجر للمتّقي أنّ ما يعمله من الاعمال الصالحة كالعبادات والصدقات ونحوها يتعاظم ويتضاعف أجرها اذا اتّقى الانسان ربّه عند مواجهة الكبائر فهذا ايضا ميزة خاصّة للمتّقين الذين تلبّسوا بالتّقوى إيجابا. وفي تنكير الاجر ايضا نوع من التفخيم.

أَسْكِنُـوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْـدِكُمْ... الضمير يعود الى المطلّقات الرّجعيّات فان كل من سبق ذكره من النساء في الآيات السابقة منهن بناءا على ما ذكرناه. والجملة مستأنفة من دون واو لأنها تفصّل كيفية التّقوى المأمور بها في الجملة السابقة وفي خصوص مورد الآية، كأنّ سائلا يسأل كيف نتّقي في حقّ المطلّقة الرجعيّة؟ فالآية تجيب: أسكنوهنّ.. ويمكن اعتبارها تفصيلا لقوله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن..) واختلف فقهاء العامة في وجوب السكنى والنفقة للمطلقة البائنة لاختلاف رواياتهم وقال بعضهم: إنّ ظاهر الآية هو العموم. ولكنه غير ظاهر لأنّ مورد الآيات هو الطلاق الاول وهو رجعيّ في من تجب عليها العدة. ولذلك ورد ضمن الآيات الحكم بجواز الرجوع في قوله تعالى (فأمسكوهن بمعروف..).

ومهما كان فلا خلاف عندنا في اختصاص السكنى والنفقة بالرجعية، ورواياتنا تصرّح بذلك. وهم ايضا يروون قصة فاطمة بنت قيس وهي على ما في صحيح مسلم هكذا: (عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً)[10] والروايات في قصتها كثيرة ومروية في الصحاح والمسانيد وفي صحيح مسلم فقط اربعة عشر حديثا في ذلك.

ولكنّ المروي أن بعضهم رفضوا قبول روايتها وحكي ذلك عن عائشة وعمر بن الخطاب ومروان بن الحكم وغيرهم. ولم يظهر من كلام عائشة تكذيبها ولكنها قالت:لا خير لها (اي لفاطمة) في ذكر هذا الحديث، ويبدو من بعض ما حكي عن عائشة أنها كانت ترى أنّ ما حكم به الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم في مورد فاطمة بنت قيس خاصّ بها لخصوصية فيها.

والظاهر أنّ (من) في (من حيث) زائدة اي أسكنوهن حيث سكنتم اي في نفس البيت. ولكن المعروف انها تبعيضية اي اسكنوهن بعض ما سكنتم. والوجد (بفتح الواو وكسرها وضمّها) بمعنى القدرة المالية اي ليكن البيت مناسبا لها حسب قدرتكم على الموسع قدره وعلى المقتر قدره. ويلاحظ أنّ الآية تذكر قيدين لمسكنها: أحدها أن يكون مسكن الزوج فلا يفصلها عن مسكنه والآخر أن يكون مناسبا لها حسب قدرة الزوج.

وَلَا تُضَارُّوهُـنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ... المضارّة مفاعلة من الضرر والمعنى واحد قال في الصحاح (وقد ضرّه وضارّه بمعنى والاسم الضرر) اي لا تضرّوا بهنّ لغرض التضييق عليهنّ في المسكن او النفقة او غيرهما حيث كان بعضهم يضيّق عليها في المسكن او النفقة لتخرج من بيته او للتشفّي والانتقام. والتعليل للاشارة الى ما هو الغرض غالبا وليس تقييدا للحكم فان الاضرار بهن حرام مطلقا وان لم يكن لغرض التضييق.

وَإِنْ كُـنَّ أُولَاتِ حَمْـلٍ فَأَنْفِقُـوا عَلَيْهِـنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْـلَهُنَّ... الظاهر أنّ تخصيصها بالذكر من جهة أنّ بعض النفوس الخسيسة تستعجل في الخلاص من نفقة المطلقة فربما يتشبّث بعضهم بما مرّ من تحديد العدّة بالأشهر فيمتنع من الانفاق والاسكان بعد ذلك فورد التأكيد على الحوامل بلزوم الانفاق الى الوضع مع أنه معلوم مما سبق لان عدتها لا تنتهي الا بالوضع والنفقة واجبة ما دامت في العدة كما مر.

فَــإِنْ أَرْضَعْــنَ لَكُمْ فَآتُـوهُنَّ أُجُـورَهُـنَّ... اي اجور الارضاع. ويستفاد من الآية أنّ الاُمّ أولى بإرضاع ولدها اذا اتفق الوالدان على الاجرة او طالبت باجرة مساوية لغيرها او اقل. واستحقاق الاُم للاجرة لا يختص بحال الطلاق في مذهبنا وكذا قال بعض فقهاء العامة. وقال بعضهم: إنّ الزوجة لا تستحق شيئا زائدا على نفقة الزوجية. ويظهر من الآية أنّ الانفاق على الولد من حقوقه على الاب فمن هنا وجب عليه أن يدفع اُجرة الإرضاع لاُمّه.

وَأْتَـمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْـرُوفٍ... الائتمار: المشاورة، مأخوذ من الامر بمعنى الطلب حيث يطلب كل واحد من الآخر شيئا الى أن يصل الأطراف الى حد مقبول للجميع. وقوله (بمعروف) اي بأجر معروف اي متعارف فلا يبخل الرجل بأن يدفع لها المقدار المتعارف ولا تطالب المرأة بأكثر منه ولكن كل ذلك على فرض الاتفاق فلا تجبر المرأة على القبول كما لا يجبر الرجل على دفع الزائد الا أنّ الاولوية للام كما يستفاد من الجملة السابقة وقد مر.

وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَـهُ أُخْـرَى... التعاسر تفاعل من العسر اي الصعوبة والشدة فمعناه ان كل واحد من الوالدين المتفارقين يحاول تشديد الامر على الاخر في الاستئجار لرضاع طفلهما فالام تطالب باجرة اكثر من المتعارف اوالاب يرفض دفع المتعارف ويطالب باقل منه فلا يحصل الاتفاق.

والغرض من هذه الجملة المحافظة على حق الولد في الرضاع، والتأكيد على أن التعاسر لا يسقط حق نفقة الولد على الوالد بل عليه أن يستأجر مرضعا غيرها تقبل باجرة اقل وانما لم يذكر الحكم بصورة الامر بل بالاخبار عن المستقبل للتأكيد على انه امر لا بد منه كما يقال لمن اتى بما يبطل الصلاة (يعيد صلاته) وهذا التعبير أقوى في الدلالة على الوجوب من الامر مضافا الى ان في هذا الاخبار تحذير للوالدين من التعاسر لانه يستلزم استرضاع غير الام وهو بالطبع غير مطلوب لهما.

لِيُنْفِـقْ ذُو سَعَـةٍ مِنْ سَعَتِـهِ وَمَنْ قُـدِرَ عَلَيْـهِ رِزْقُـهُ فَلْيُنْفِـقْ مِمَّا آتَاهُ اللّه... السعة: الزيادة على مقدار الحاجة فالسعة في المكان بأن لا يكون محدودا بمقدار ما هو متمكن فيه، والسعة في الحال بأن لا تكون القدرة الاقتصادية محدودة بمقدار حاجته، وهي أوسع من الغنى فان الغنى يصدق في ما اذا ملك مقدار حاجته فحسب، والسعة في المال تدلّ على أكثر من ذلك. والقدر: الحد والمبلغ والنهاية. والذي قدر عليه رزقه أي كان رزقه محدودا بمقدار حاجته فهو أحسن حالا من الفقير. وآتاه الله: اي أعطاه الله.  

 ومعنى الآية واضح وهو عدم تحديد النفقة الواجبة بحدّ معيّن كما يحدّه بعض المحاكم في هذا العصر فهي كما تختلف حسب حاجات الشخص المنفق عليه من رجل وامرأة وطفل، وصحيح ومريض ومعاق، وغير ذلك، وكما تختلف ايضا باختلاف الازمنة والامكنة، وما يعتبر من النفقة المتعارفة حسب المستوى الاقتصادي للمجتمع، كذلك تختلف حسب تمكّن المنفق الذي كلّف بالانفاق، فان كان ذو سعة وغنى فلا يجوز ان يبخل على المنفق عليه بل يوسّع عليه في النفقة، وان كان فقيرا او متوسّطا فالواجب عليه أن ينفق بمقدار طاقته فلا يحقّ للمنفق عليه المطالبة بأكثر منه.

وبذلك يتبيّن أنّ هذا ليس أمرا ندبيّا أو أخلاقيّا وليس المطلوب من المنفق أن يتفضّل على المنفق عليه بالتوسعة بل هو أمر واجب وحقّ للمنفق عليه ثابت في ذمّة المنفق مضافا الى وضوح الأمر بملاحظة الجملة التالية.

وقال بعض المفسرين: إنّ الآية خاصة بالمطلّقة المرضعة لأنّها هي التي سبق القول عليها في الآية السابقة. ولكن لا وجه للتخصيص فلا شكّ في أنّ الحكم يشمل كلّ من سبق ذكرها من المطلّقات. بل لا يبعد أن يكون هذا حكما عامّا يشمل جميع موارد النفقة الواجبة. والظاهر أنّ المراد بالضيق في قوله تعالى (قدر عليه رزقه) ليس ما يحصل من كسل المكلّف، فالانفاق الكامل واجب عليه مع تمكّنه من التحصيل وان لم يكن غنيّا بالفعل كما سيأتي.

لَا يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلَّا مَا آتَـاهَـا... اي لا يكلّفها الا بمقدار ما أعطاها من طاقة ومال. وهذا قانون عامّ طبّق على هذا المورد ومثله قوله تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا..).[11] وهذه الجملة تعليل للحكم السابق أي عدم الوجوب على المنفق أكثر من طاقته وهي كالصريحة في أنّ الحكم السابق تكليف على المنفق وليس أمرا مستحبّا فحسب. وتدل ايضا على ما ذكرناه آنفا من وجوب تحصيل النفقة على المتمكن منه وان لم يملك مالا بالفعل لان قدرته على التحصيل مما آتاه الله فيشمله التكليف.

سَيَجْعَلُ اللّه بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا... بشارة لمن قدر عليه رزقه وترغيب له في أن لا يبخل خوفا من الفقر فالسنة الالهية في الكون تقتضي أن تتحول حالات الانسان من عسر الى يسر وبالعكس فلا ينبغي للمؤمن أن ييأس من تبدّل فقره الى غنى. والعسر: الضيق والشدة والفقر. واليسر خلافه.

وورد في التفاسير أنّ هذه الجملة اشارة الى تبدّل حالة المسلمين الى السعة والغنى نتيجة للفتوحات. وانما أوّلوا الآية الى هذا المعنى الضيّق لأنّ المشهود في حالات بعض الناس عدم تبدّل فقرهم الى غنى وعسرهم الى يسر فلا يمكن حمل الآية على ظاهرها خصوصا بملاحظة الوعد القطعي فيها من دون الاشارة الى ما يقتضي أنّه محتمل ومرجوّ كما قال تعالى في آية سابقة (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا).

والصحيح أنّ هذه الجملة ليست الا بيانا للحالة الطبيعية في تبدّل المستوى المعيشي للبشر فإنّ المجتمع البشري لا يبقى على حال واحد بل هو دائما في تطوّر وتكامل. ومن نجده اليوم فقيرا فهو في حال أحسن بكثير من بعض الاغنياء في القرن السابق. مضافا الى تبدّل حالات كل انسان في حدّ ذاته.

ومن جهة اخرى لم تذكر الآية أنّ اليسر والعسر يتعاقبان من جهة واحدة، بل ورد التعبير بهما نكرة مما يدلّ على أن بعض من هو في عسر من جهة من جهات الحياة قد يكون بعده في يسر ورخاء ولو من جهة اخرى وفي مجال آخر، فيمكن أن يكون العسر من جهة المال مثلا واليسر من جهة العافية بل في سورة الانشراح ان كل عسر ينطوي فيه يسر في نفس الوقت قال تعالى (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[12] وليس ذلك الا مع اختلاف الجهة. والجملة مع ذلك تبعث الأمل والرجاء في نفوس المخاطبين.

 


[1] البقرة: 228

[2] الكافي ج6 ص89 باب معنى الاقراء وليس في النسخة المطبوعة قال قلت لابي عبدالله عليه السلام وانما ورد في الوسائل

[3] الاحزاب: 49

[4] مرجع الامة وقائدها سماحة السيد السيستاني أدام الله عزّه

[5] البقرة: 234

[6] نهج البلاغة الخطبة الثانية

[7] البقرة: 232

[8] النساء: 31

[9] النجم: 32

[10] صحيح مسلم ج7 ص460 على ما في المكتبة الشاملة

[11] البقرة: 286

[12] الانشراح: 5- 6<