مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

 

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ... يبدأ من هنا بذكر بعض الاخبار عن الانبياء والمرسلين والاقوام الذين بعثوا اليهم ليكون تأكيدا على ما مر من أن وعد الله حق وابتدأ بذكر قوم لوط وما نزل عليهم من العذاب وقدّم على ذلك قصة نزول الملائكة على ابراهيم عليه السلام كما تكرر ذلك في القرآن الكريم وفي ذلك اشارة الى أمر مهم ينبغي التنبه له وهو عظمة مقام الرسول صاحب الشريعة حيث كان لوط يتبع شريعة ابراهيم عليهما السلام وكان ممن آمن به كما في قوله تعالى (فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ..)[1] ثم اُرسل الى هذا القوم ليبلغهم شريعة ابراهيم عليه السلام فلما قضى الله عليهم العذاب أرسل الملائكة اولا الى ابراهيم ليخبروه بذلك ويبدو منه أن من سننه تعالى أنه لا يعذب قوما حتى يخبر الرسول صاحب الشريعة ولعل تلطيف الجو هو السبب في تبشيره بالولد مقدمة لاخباره بذلك.

ويلاحظ غاية شفقته عليه السلام على امته حيث جادل الرسل في ذلك وطلب لهم الامهال كما قال تعالى (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)[2] ويلاحظ أن الله تعالى مدحه على ذلك ثم طلب منه الملائكة أن يعرض عن ذلك لان الامر فيه محسوم من قبله تعالى شأنه.

ويتبين مما ورد في سورة العنكبوت أنه جدّد المحاولة بحجة أنّ لوطا في المدينة قال تعالى (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ)[3] فيتبين من هذه الآية ان هذه المحاولة غير ما ذكره في سورة هود لان التعبير هناك انه يجادلهم في قوم لوط وهنا أتى بعذر آخر وهو وجود لوط بينهم.

وهذه الشفقة بادية بوضوح في دعائه عليه السلام المحكي في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[4] حيث انه لم يدع على الذي يعصيه في عبادة الاصنام بل طلب له المغفرة مع أنه امام الموحدين وما كان يهتم بامر كاهتمامه بنشر التوحيد. فانظر الفرق بين ما يدعو اليه هذا الرسول العظيم وما ينشره المتشددون في هذا العصر من التحريض على قتل المسلمين الموحدين باتهامهم بالشرك.

والاستفهام هنا بقوله (هل أتاك..) ينبه على أهمية الحديث كما تقول لمن تريد أن تخبره بواقعة مهمة هل سمعت بكذا وكذا.. والضيف يطلق على المفرد والجمع لكونه في الاصل مصدرا ومعناه في الاصل الميل والعطف ومنه اضافة الشيء الى الشيء اطلق عليه لميله وانعطافه الى القوم او لاضافته اليهم فكأنه أصبح واحدا منهم. والظاهر أن توصيف الضيف بكونهم مكرمين اشارة الى اكرام ابراهيم عليه السلام لهم قبل ان يعرفهم ولذلك لم يرد الوصف في سورة الحجر حيث لم يرد ذكر لاكرامه اياهم قال تعالى (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ)[5] وهذا الوجه أقرب من القول بأن التوصيف بلحاظ كونهم مكرمين عند الله لقوله تعالى (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ).[6]

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ... الظرف متعلق بالحديث او بالمكرمين بناءا على ما مر من أن المراد اكرام ابراهيم عليه السلام لهم. والآيات تدل بوضوح على أنهم تمثلوا بصورة بشر ودخلوا عليه وهو أمر ممكن ولا نعرف كيفيته وما يقال في هذا الشأن تخرص على الغيب.

وقوله تعالى (سلاما) مقول قول الرسل وهو مفعول مطلق اي نسلم سلاما. وقوله عليه السلام في الجواب (سلام) بتقدير عليكم. قالوا انه أتى بالجملة الاسمية في الجواب ليكون أحسن من تحيتهم فان الجملة الفعلية كقولهم (نسلم سلاما) تدل على الحدوث والاسمية تدل على الثبوت والاستمرار. وهذا ايضا جزء من اكرامه عليه السلام لضيفه وورد مثله ايضا في قوله تعالى (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ..).[7]

وأما قوله (قوم منكرون) فلا ينافي الاكرام بل يؤكده لانه يدل على أنه أكرمهم بالرغم من اعلانه لهم أنه لا يعرفهم. ولكن المفسرين أولوا ذلك بأنه لم يخاطبهم بذلك بل قاله لمن حوله وهو خلاف الظاهر ولا وجه للتأويل وكثيرا ما يستفهم الانسان من يحييه بعد رد التحية بافضل ما يكون ويسأله من هو وأنه لا يتذكره.

والسلام والسلم والسلامة بمعنى واحد وهو ما يقابل الابتلاء بالآفات والعاهات الظاهرة والباطنة والظاهر أنه انما عدّي بـ (على) باعتبار أن السلامة من الله تعالى فكأنه يوقع السلامة عليه فيشمله ويكتنفه. واذا نسب السلام اليه تعالى فهو نفس ايقاع الأمن والسلامة وقد لا يكون سلامة جسمية بل سلامة في الدين كقوله تعالى (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)[8] واذا نسب الى غيره تعالى فهو دعاء الا ما يصدر من الملائكة عليهم السلام بأمر منه تعالى كما ورد في قوله تعالى (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)[9] فانه ايضا ايقاع للأمن والسلامة.

ولكن الذي يصدر من غيره تعالى لا يقصد به الدعاء غالبا بل يراد به التحية كما أن الصلاة على النبي وآله يقصد بها الاحترام واعلان الولاء فلا مانع من كون المعنى في الاصل هو الدعاء ولكن يقصد به التحية او الوداع او الاحترام ونحو ذلك.

فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ... الرَوَغان الميل الى الشيء في خفاء فالمعنى أنه عليه السلام انتهز فرصة غفلتهم حسب ظنه ليدخل على أهله ويأتيهم بطعام وهذا ايضا من اكرامه عليه السلام حيث أخفى ذلك عنهم. ثم انه جاءهم بعجل سمين ووصفه في سورة هود الآية 69 بالحنيذ اي المشوي ويبدو من الآية أن الطعام كان أكثر من حاجتهم الظاهرية حيث أكد على انه اتى بعجل سمين وفي الروايات انهم كانوا ثلاثة وفي بعضها اربعة وهذا ايضا من كرمه واكرامه عليه السلام لضيفه ويدل على جواز ذلك في اكرام الضيف وهو قطعا مشروط بان لا يستوجب التبذير واهدار المال. 

فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ... وهذا ايضا من اكرامه لهم حيث قرّب الطعام اليهم ولم يدعهم الى مكان الطعام ولكنه فوجئ بامتناعهم من الاكل فسألهم مستغربا: ألا تأكلون؟ والحاصل أن في الآيات الكريمة بيان لوجوه من الاكرام: جوابه في التحية والروغان وكثرة الطعام وتعجيله في احضاره وعرضه عليهم. والفاء في هذه الافعال المتتالية للعطف وتفيد تتابعها والتعجل باحضار الطعام اليهم وفي ذلك ايضا اكرام للضيف.

فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ... الوجس: الصوت الخفيّ فالمراد بالايجاس الشعور الخفي اي شعر في قرارة نفسه بخوف ضعيف خفي فلم يظهره فكأنه شعر بنوع من عدم الارتياح لامتناعهم من الاكل والظاهر أن السبب فيه هو احتمال قصد الشر فيهم فان الضيف اذا أكل من طعام مضيفه لا يضمر له الشر غالبا ومع أنه أخفى خوفه الا أنه لا يخفى على الملائكة فقالوا له لا تخف فعرف أنهم ملائكة ربه ولم يكتفوا ببثّ روح الطمأنينة فيه بل بشروه بغلام عليم.

والمفسرون قالوا ان معناه أنه سيكون عليما بالوحي بعد ذلك. ولكن الظاهر أن المراد كونه عليما حين كونه غلاما ولا عجب من فعل الله تعالى كما حصل في يحيى وعيسى عليهما السلام وجه الاستظهار هو ما ذكرناه في تفسير سورة الصافات في توصيف اسماعيل عليه السلام بالغلام الحليم وهو أن الانسان يمر بمراحل قبل الغلمة وبعدها فان كان المراد التوصيف بالعلم والحلم في الكبر فلا وجه لذكر الغلمة معه فالظاهر أن المراد بذلك الاشارة الى انه عليم في ايام غلمته وهي ايام الطيش والجهالة في عامة الناس كما أن اسماعيل عليه السلام وصف بالحلم في ايام غلمته وهي ايام ثوران الشهوة والتسرع والاندفاع.

والمراد به اسحاق عليه السلام كما هو واضح في قوله تعالى (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)[10] والقصة واحدة ومن الغريب ما حكي عن بعضهم من أن المراد به اسماعيل عليه السلام.

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ... الظاهر أن المراد باقبالها أنها أقبلت على الرسل حينما سمعت كلامهم وقيل أقبلت على أهلها. والظاهر ايضا أن المراد بالصرة الصياح او شدته كما هو أحد معاني الكلمة ولعل الاصل في معناها هو الشدة يقال ريح صرصر اي شديد وقيل معناها الجماعة اي أقبلت في جماعة من نسائها وهو بعيد لا يناسب المقام. وصكت اي لطمت وضربت وجهها بقوة وصوت وهو معنى الصك والمناسب للفظه وانما عبّر به عن الصكّ الذي يدفع حين العقد والمبايعة لانهم كانوا يضربون بايديهم بعضا ببعض تعبيرا عن شدة التزامهم بالعقد ولذلك ايضا يعبرون عن البيع بالصفقة.

والحاصل أن سارة عليها السلام أقبلت الى الرسل وهي تصيح وتضرب وجهها لشدة استغرابها للخبر حيث كانت كبيرة في السن وعقيمة لا تلد وزوجها ايضا كبير في السن ولم يولد له الى ذلك اليوم الا اسماعيل عليه السلام بعد لأيٍ من الزمان. وقالت عجوز عقيم أي أنا عجوز عقيم.

والعجوز: فعول بمعنى الفاعل اي العاجزة وهي المرأة الشيخة اطلق عليها ذلك لانها تعجز عن كثير من الامور وندر التعبير عنها بالعجوزة ولا يطلق العجوز على الرجل الهرم. والعقيم: المرأة التي لا تلد والرجل الذي لا يولد له وهو فعيل بمعنى المفعول اي عقمه الله كما قال تعالى (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا)[11] وسيأتي البحث عن معنى العقم ان شاء الله في تفسير قوله تعالى (وفي عاد اذ ارسلنا عليهم الريح العقيم) في نفس السورة.

قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ... (كذلك) اي كما أخبرناك قال ربك فليس هذا كلاما من عندنا والله تعالى حكيم لا يفعل شيئا الا لحكمة فلحكمة أخّر هذه الولادة ولحكمة يهب هذا المولود المبارك في هذه الظروف الغريبة وهو عليم بالحال فلا يخفى عليه حالك وحال زوجك. وفي سورة الحجر حكي نظير هذه المحادثة بين الرسل وابراهيم عليه السلام قال تعالى (قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)[12] وطبقا لهذه الحكاية كان ابراهيم عليه السلام هو الذي أبدى استغرابه من البشارة ولا مانع من تكرر الواقعة فأجاب الرسل تارة عن استغراب ابراهيم وتارة عن استغراب زوجته عليهما السلام.

 


[1] العنكبوت: 26

[2] هود: 74- 76

[3] العنكبوت: 31- 32

[4] ابرهيم: 35- 36

[5] الحجر: 51- 52

[6] الانبياء: 26

[7] هود: 69

[8] مريم: 15

[9] الزمر: 73

[10] هود: 71

[11] الشورى: 50

[12] الحجر: 53- 56