مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ... (لولا) للتحضيض أي الحث على التصديق الا أن الكلام وقع في أنه حثّ على تصديق أي شيء فان الحثّ ورد بعد قوله (خلقناكم) والمعروف أن المخاطبين وهم مشركو مكة والجزيرة العربية يقرّون بأن الله تعالى هو الخالق كما قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ..)[1] وغيرها من الآيات؟ ولذلك اضطر بعضهم ومنهم العلامة الطباطبائي رحمه الله الى القول بأن المراد حثّهم على تصديق البعث والحياة الآخرة بدليل أن هذا هو ما كانوا ينكرونه. ومنهم من أوّل ذلك بأنه لما لم يحقق تصديقهم عملهم حيث لم يقترن بالطاعة والأعمال الصالحة بل اقترن بما ينبئ عن خلافه من الشرك والعصيان نزّل منزلة العدم والإنكار فحثهم على التصديق بذلك‏ اي التصديق العملي.

ولكن الظاهر أنه حث على تصديق أن الله تعالى هو الخالق المدبّر وهو ربّ الكون وهم كانوا ينكرون الربوبية والمطلوب التصديق بالخلق المستتبع للربوبية ولعلّهم كانوا يرون أنّ الله تعالى ابتدأ الخلق وترك ما خلق وأن الذي يستمر في التأثير على الكون الاسباب الطبيعية او الآلهة. وأما التصديق بالبعث فهو بعيد عن السياق خصوصا بملاحظة الآيات التالية.

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ... يبدأ بذكر شواهد على الربوبية المطلقة فأولها خلق كل فرد من البشر ثم إماتته. ولعل الاتيان بالفاء من جهة أن ما بعدها يبين وجه الاستغراب من عدم تصديقهم حيث انهم يرون هذه الشواهد على الربوبية فكيف ينكرونها؟! ولكن المعروف في التفاسير أن هذه الآيات لاثبات قدرته تعالى على اعادة الخلق والبعث وهو بعيد جدا بالنسبة للشواهد الآتية من تطوير الزرع وانزال الماء وايقاد النار. وانما قالوا بذلك لانهم حملوا التصديق في الآية السابقة على تصديق المعاد كما مر وقد تبين ما هو المراد منه.

والمراد بهذا الاستفهام فرض موضوع ليحكم عليه بحكم او يستفهم عن شيء منه كما تقول لاحد ارايت فلانا الذي فعل كذا ــ تريد ان تذكره بعلامة ليتذكره السامع ــ فانه كذا وكذا واستعمال هذا التعبير في هذا المعنى كثير في القرآن الكريم كقوله تعالى (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ..)[2] و(تمنون) من الامناء وهو افراغ المني و(ما) موصولة اي افرأيتم المنيّ الذي تمنونه؟ وهو الدور الذي يقوم به الرجل في عملية التناسل وبذلك ينتهي دوره وهو لا يعلم ماذا يحدث بعد ذلك ولا المرأة تعلم به فمن هو المباشر لخلق الجنين؟

أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ... الضمير المفعول يعود الى (ما تمنون) حيث ان هذا المني يتطور في الرحم خلقا من بعد خلق الى ان يكون انسانا كاملا فيمكن ان يكون السؤال هنا أن هذا الخلق والتكامل يحدثان بفعل من؟ هل الاب هو الذي يخلق الولد بجسمه الكامل؟ فلو كان الانسان هو الخالق لنسله لعلم به ولعلم بتفاصيل الخلق وأطواره وهو لا يعلم ماذا يحدث ولا كيف يحدث ولا متى يحدث؟ فكيف يكون خالقا وهو يجهل أدنى ملابساته؟! فان لم يكن هو الخالق فمن هو خالق البشر؟ أليس هو الله تعالى؟!

ويمكن أن يكون السؤال عن خلق النفس الانسانية التي هي حقيقة الانسان وان كان الضمير في ظاهر اللفظ يعود الى (ما تمنون) الا ان المراد بخلقه خلق الانسان الكامل وهو في الواقع متقوم بنفسه وروحه كما قال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)[3] فان الظاهر ان المراد بالخلق الآخر الذي انشأه الله هو خلق نفسه وهو امر يخص الانسان وقد عبر عنه تعالى بالنفخ فيه من روحه حيث قال (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)[4] وهذا لا يختص بآدم عليه السلام لقوله تعالى (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)[5] اذ لا وجه لتأخير بيان نفخ الروح عن خلق النسل الا الاشارة الى ان ذلك يشمل نسله ايضا.

والترديد بين الامرين في قوله (أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) من جهة أنه لا بد له من خالق ولا يمكن القول بأن خلق الجنين وغيره من أجزاء الكون يستند الى قوانين الطبيعة وأنه لا حاجة الى خالق مدبّر للكون كما يتفوّه به من يدّعون العلم في هذا العصر فهم مع شدة توغلهم في علوم الطبيعة ومشاهدة آيات الله تعالى في الكون لا يزدادون في معرفة ربّهم الا جهلا وتباعدا.

ومن الغريب أنهم يكتشفون في كل يوم آية من آيات التدبير ولا يزدادون الا بعدا وعنادا. فهم يعلمون مثلا أن كل كائن حي له دور في حفظ البيئة الطبيعية وأن انقراض أي نوع من الحيوان والنبات يضر بالبيئة فلو فرضنا جدلا أن الحياة وجدت على هذا الكوكب صدفة وتبعا لقوانين طبيعية عمياء وأنه ليس وراء وجودها عقل مدبّر فمن أين أتى هذا النظام والتسلسل؟ وهل يمكن أن يتحقق ذلك بصورة عشوائية؟! أليس هذا أغرب من دعوى أن جهازا دقيقا الكترونيا كالحاسب الآلي مثلا وجد بفعل تراكم أجزائه بعضها على بعض بصورة عشوائية او بفعل الريح مثلا او بتركيب طفل او اعمى؟!

فلو فرضنا جدلا أن يحلّ العلم مشكلة تكوّن الاعضاء في الحيوان والدقة المتناهية فيها بأن ذلك كله بفعل الجسم نفسه فهو مزوّد بجهاز يحذف الاعضاء الزائدة بالتطور ويخلق ما يحتاج اليه الجسم من أعضاء اخرى حسب تبدل بيئته التي يعيش فيها كما يقولون!!! مع ان نفس تزويد الجسم بهذا الجهاز وهذه الحالة وتكيّف الحيوان حسب مقتضيات البيئة يدل بوضوح على تدبير من حكيم. ولكن مع قطع النظر عن ذلك كيف يمكن تفسير الترابط بين الاحياء وبين بيئتها؟! مثلا نحن نجد أن كل حيوان يجد في بيئته ما يحتاج اليه من غذاء ودواء مهيئا في الطبيعة. من صنع له ذلك؟! جسمه؟ البيئة؟ الارض؟ الانسان؟

فالابل مثلا حيوان يعيش في الصحراء ويسير مساحات شاسعة حاملا الانسان وأحماله بلا ماء ولا كلاء ويصعب على الانسان عادة أن يحمل معه كل ما يحتاجه هذا الحيوان الضخم من المأكول والمشروب فلو فرضنا جدلا أن السنام وهو ما يمدّه بالطاقة نظرا الى ما يختزن فيه من الدهون مما صنعه الجسم بقانون طبيعي وهو تكيّفه بما حوله من البيئة الصحراوية وسلّمنا أن ذلك لا يدلّ على تدبير الخالق الحكيم مع أن دلالته واضحة ولكن ما هو التفسير لتكيّف البيئة مع حاجة هذا الحيوان؟! فهناك في الصحراء نبت شائك يبقى طول الصيف ولا يأكله الا الابل فيبقى له كلاءا وماءا ودواءا ايضا فانه يحتوي على مادة تزيل الاملاح المترسبة في المجاري البولية وقد اكتشفها الانسان واستعمله دواءا لذلك.

وكيف يمكن لعاقل أن يصدّق بأنّ كلّ هذا النظام الدقيق الحاكم على الكون والملبّي لحاجات كل كائن تحقق صدفة وليس وراءه خالق حكيم مدبّر قادر محيط بالوجود احاطة علم وقدرة غير متناهية؟! فالذي يلاحظ الكون يجد في كل شيء أن هناك من يستهدف في خلقه أمرا ويتتبع غرضا منشودا. أليس هذا دليلا واضحا على الربّ المدبّر؟!

وخصوصا ما اشير اليه في هذه الآية بناءا على ما ذكرنا من احتمال ان يراد بالخلق خلق النفس الانسانية فانه من اغرب ما يخلق في هذا الكون فالتطور الجنيني الى ان يكمل الجسم الانساني وان كان غريبا ايضا ولكنه يشابه التطور الحاصل في سائر الاحياء وان كان خلق جسم الانسان اكثر تعقيدا ولكن الاغرب منه تكون هذه النفس البشرية ولذلك عبر عنه تعالى بانه انشاء لخلق آخر وليس تحولا للجنين من طور الى طور ولذلك ايضا مجّد الله نفسه بعد ذكره فقال (فتبارك الله احسن الخالقين).

نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ... في العبارة تقدير اي نحن خلقناكم وقدرنا بينكم الموت لتكون الجملة جوابا عن السؤال السابق مع اضافة أنه تعالى لم يترككم بعد الخلق بل تقديره وتدبيره يتتبعانكم ويشملان كل جوانب حياتكم ومماتكم. ومثل ذلك ايضا يأتي في الآيات التالية فالله تعالى ينبت الزرع ويحفظه وينزل الماء من السماء ويخزنه وكل ذلك من باب المثال والا فلا شيء يعزب عن علمه، وأمره وتقديره ساريان في كل ذرة من ذرات الكون. ويلاحظ أن الجواب في كلها ورد على منوال واحد.

والحاصل أن هذه الآية تنتقل الى حدث آخر ملازم لخلق الانسان وهو تقدير الموت له فمن أول يوم يتكون الجنين يقدّر له الموت امّا بأجل يتحدّد حسب قابليته الذاتية للبقاء فهو بمقتضى التركيب العضوي له قابلية محدودة للحياة وامّا بالعوارض السانحة له فقد تستوجب موته قبل بلوغ أجله الطبيعي. وكلّ ذلك مقدّر من الله تعالى.

وهناك سؤال في المقام وهو انه لماذا لم يقل قدّرنا لكم الموت مع أنه مقدّر لكلّ أحد برأسه بل عبّر بأنّه مقدر بينكم فما هو الوجه في ذلك؟

قيل لان التقدير متضمن للتقسيم اي قدّرنا وقسّمنا بينكم الموت فكأنه رزق مقسوم والغرض أن الاعمار مقسّمة من حيث قصر المدّة وطولها. وهذا تأويل بعيد والاعمار تقدّر ولا تقسّم فليس هناك شيء واحد او عدد محدود يخصص كل أحد من البشر بجزء او بعض منه.

والظاهر أن المراد أنه تعالى قدّر الموت بين اجيال البشر وهذا تنبيه على الدور الذي يؤديه الموت في تعاقب المجتمعات فالموت جاء ليفصل بين الماضي والحاضر ولولا تقدير الموت بين الأجيال لضاقت الارض بأهلها ولامتنعت الحياة عليها على رحبها وسعتها. وكلما حاول البشر تأخير الموت وتطويل معدل عمر الانسان أضرّ ذلك بحياته على هذا الكوكب من جهات عديدة ومنها اضطراره الى تغيير في جينات المواد الغذائية وتنميتها تنمية صناعية لتلافي النقص بسبب زيادة العدد والنتيجة هو هذا الوضع المتردّي من جهة عدم كفاءة المواد الغذائية وايجابها للامراض المستعصية وانتشار السمنة وغير ذلك من المفاسد.

وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ... السبق في الاصل بمعنى التقدم على الآخرين في فروسية او عَدْوٍ او نحوها ثم استعير لكل غلبة كالغلبة في المسابقات العلمية او في الرماية ونحوها فالمعنى لا يغلبنا أحد في ما نقصده. وفي هذه الجملة احتمالات:

الاول أنها مرتبطة بالآية التالية والمعنى أنه تعالى ليس مغلوبا في تبديل الامثال والتنشئة في حياة اخرى. ويناسبه التعدي بـ(على) اذ الغلبة تتعدى بها يقال فلان مغلوب على أمره وقال تعالى (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ).[6]

الثاني أنها مكملة للجملة السابقة والمعنى أن الموت مقدر لكل أحد ولا يفلت منه حي.

الثالث أنها مكملة للسابق ايضا ولكن المعنى أن الله تعالى هو الذي قدّر الموت وليس مغلوبا في ذلك لقانون الطبيعة وبذلك يدفع توهم أن الموت ضرورة طبيعية فلا دخل للتقدير والارادة الالهية فيها كما يتوهمه المسمون بعلماء العصر ويبيّن أنّه تعالى لا يغلب من شيء وأن الموت والحياة انما أرادهما الله تعالى لحكمة كما يبينها في الآية التالية وليس أمرا مغلوبا عليه فلو أراد تعالى استقرار الحياة في الدنيا لفعل. وبناءا على هذين الاحتمالين لا يتعلق قوله (على ان نبدل) بقوله مسبوقين بل بما قبله كما سياتي.

عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ... الامثال جمع مِثْل اي النظير اي نبدّل منكم أمثالكم فنضعهم في مواضعكم. وفي هذه الجملة احتمالان:

الاحتمال الاول: أن المراد بها تغيير الاجيال فهذا الجيل يفنى ويزول ويأتي جيل آخر من الناس امثالهم ويكونون بدلا منهم فيصدق تبديل الامثال والى ذلك يشير قوله تعالى (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ).[7]

ويبعد هذا الاحتمال في هذه الجملة بناءا على الاحتمال الاول في الجملة السابقة بان يكون قوله (على) متعلقا بمسبوقين لان معنى الآية يكون بناءا عليه أنه تعالى ليس مغلوبا في تبديل الامثال والاجيال وحيث ان تبدلها نتيجة طبيعية لموت الآباء ونشوء الابناء وان كان مستندا الى ارادته تعالى كاي امر طبيعي اخر الا انه لكونه طبيعيا لا حاجة فيه الى هذا التأكيد وأنه ليس مغلوبا فيه فبناءا على الاحتمال الاول في الجملة السابقة لا بد من حمل هذه الجملة على الاحتمال الآتي.

وانما يصح هذا الاحتمال بناءا على احد الاحتمالين الاخيرين في الجملة السابقة فتكون هذه الجملة في مقام الحال من قوله (قدرنا) اي قدرنا الموت بينكم من أجل امرين: الاول تبديل الامثال بمعنى ايجاد جيل جديد في موضع الجيل السابق. والامر الثاني ما يدل عليه قوله (وننشئكم..) وهو إحياء الموتى يوم القيامة.

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد تبديل الامثال يوم القيامة فان هذا الجسم يفنى ويأتي جسم آخر مثله فيكون قوله (وننشئكم فيما لا تعلمون) تفسيرا واكمالا لقوله (نبدل امثالكم). ولا يستلزم هذا الاحتمال مخالفة لظواهر الآيات والروايات الدالة على أن هذا الجسم بعينه يعود فانه على كل حال سيكون تجددا وحدوثا آخر بعد انعدام الصورة الاولى حتى لو كان بنفس المواد.

والله تعالى يعبر عن احياء الموتى يوم القيامة بخلق المثل كما قال (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ..)[8] وكذلك قوله تعالى (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ..).[9]

 وهذا الاحتمال يأتي على كل الاحتمالات الثلاثة المذكورة في الجملة السابقة فهو واضح بناءا على الاحتمال الاول فان المعنى يكون (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمغلوبين في إحيائكم) وكذلك بناءا على اي واحد من الاحتمالين الاخيرين فان المعنى (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمغلوبين في ذلك وانما قدرنا الموت لاحيائكم في عالم اخر وحياة اخرى).  

وهذا الاحتمال الثاني في تبديل الامثال هو الظاهر لتعينه في قوله تعالى (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا)[10] ويستبعد حمل تبديل الامثال في هذه الآية على تغيير الأجيال الذي هو أمر طبيعي مستمر لأنه تعالى علقه على المشيئة بعنوان الظرف وهذا التعليق لا يأتي عادة الا في الامور المخالفة للطبيعة او لما يتوقعه الانسان، مضافا الى أنه لا يبقى في الآية ما يدل على الإحياء بعد الموت وهو المقصود من سياق الآيات كما سيأتي ان شاء الله تعالى في تفسيرها ويشهد لما ذكرنا ما مر آنفا من التعبير عن الاحياء بعد الموت بخلق المثل في كلامه تعالى. واذا لاحظنا أن التعبير واحد في الآيتين فلا محالة تحمل هذه الآية اي التي في سورة الواقعة ايضا على نفس المعنى.

وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ... عطف تفسير على الجملة السابقة بناءا على ما ذكرنا وهناك اختلاف في كتب اللغة في معنى الانشاء والمراد به هنا الاحداث والخلق والمراد بما لا تعلمون النشأة الآخرة اي ان الاساس والحكمة في تقدير الموت احياء الانسان في حياة اخرى لينال ما يستحقه على عمله والتعبير عن تلك النشأة بعدم العلم من جهة أن الانسان حتى لو آمن ولاحظ الآيات والآثار الواردة في تلك النشأة وتيقن بالمعاد كأنه يراه فانه لعدم انسه بتلك الحقائق يستحيل عليه معرفتها على ما هي عليه.

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ... الظاهر أن المراد بها بدء الخليقة حيث خلق الله تعالى الاشياء من العدم ومن غير سبق مثال وانموذج ولا وجود مادة يخلق منها الصور فالذي يعلم بهذه النشأة كيف يمكن أن يستبعد نشأة اخرى على غرار تلك النشأة؟!

ولولا للتحضيض على التذكّر ويقصد به التنبيه على ما غفل عنه الانسان مما لا ينبغي ان يغفل عنه. والواقع أن البشر لاخلاده الى الارض وما عليها من مغريات يحاول المستحيل ليبرر موقفه من الدين والعقيدة وشرائع السماء حتى لو آمن ظاهرا بالله تعالى ورسله وكتبه. والانسان لا يتذكر النشأة الاولى كما هو واضح لانه لم يشهده ولكنه يعلم به فالمراد بالتذكر ملاحظة تلك النشأة ليؤمن الانسان بالنشأة الاخرة بل يكفي الاحتمال لاهمية المحتمل.

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ... الحرث هو الكسب والجمع ويراد به هنا ما يعمله الانسان في الزراعة من تهيئة الارض وإلقاء البذر ونحوهما وضمير (تزرعونه) يعود الى البذر او النبات المعلوم من السياق. وقد مرّ الكلام في معنى (افرأيتم) فالمعنى لاحظوا ما تزرعونه ثم تجتنون الثمر او تحصدون المحصول ما هو دوركم في ايجاد الثمرة والحب ونحوهما؟ هل انتم تتعقبون الحب بعد الحرث وإلقائه وتمارسون كل هذه العمليات المعقدة التي تتعقب عملية الحرث وإلقاء البذر؟ هل لكم دور في نماء الزرع واستقائه الماء وسائر المواد اللازمة من الارض وغير ذلك مما يتوقف عليه النبات الى ان يحصل الناتج؟

الجواب واضح.. فالانسان يشعر انه لا دور له في ذلك ولا قدرة له عليه ويبقى السؤال: من هو الذي يدبّر هذه العمليات؟ والجواب واضح ايضا هو الله تعالى الذي قدّر للنبات ان ينمو وينتج من خلال قوانين طبيعية وناموس كوني الهي لا يتخلف. والغرض من ذلك هو ما مرّ من الحثّ على الايمان بربوبيته تعالى وتدبيره لكل حركة وسكون وتقدّم وتأخّر. والايمان بذلك يستتبع الايمان برسله وشرائعه والايمان باليوم الآخر والحساب والجزاء وهذا بالطبع يحدد نشاط الانسان ويمنعه من متابعة الاهواء بكل حرية وطلاقة. وقد مرّ ان هناك قولا بأن الغرض من هذه الآيات الاستدلال على امكان المعاد. وهو غير واضح.

لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا... في الجملة تقدير كما مر في سابقتها وهو (نحن زرعناه) ولو نشاء لجعلناه حطاما ليكون جوابا عن السؤال. والحَطْم الكسر والحُطام ما تكسّر من اليبيس. والغرض أن الله تعالى بعد أن قدّر في قانون الكون ما ينتهي الى حصول النتيجة من الحرث وهو الانبات قدّر ايضا ما يحفظه لكم من المبيدات لتتمكنوا من الانتفاع به. ولو شاء لسلّط على زرعكم ما يحطّمه كالعواصف وهو يفعل ذلك في موارد استثنائية.  

فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ... (فظلتم) مخفف (فظللتم) وظلّ في مثل هذا الموضع بمعنى صار باستمرار. و(تفكّهون) في الاصل (تتفكّهون) حذفت احدى التاءين تخفيفا. والتفكّه في الاصل بمعنى التلذذ بالشيء ومنه الفاكهة اي ما يؤكل للتلذذ ويطلق ايضا على ما يتلذذ به من الاحاديث. ومنه التعبير عن الغيبة بالتفكّه بأعراض الناس. والتعبير هنا مبني على التهكم فانهم اذا ابتلوا في زرعهم فصارت حطاما فانما يتذاكرون أمرهم بمرارة وأسف ولكن يعبّر عن ذلك بالتفكه تحقيرا واستهزاءا.

وقيل ان التفكّه استعارة عن الاعجاب وقيل عن التندم ونسب الى بعضهم القراءة بالنون اي تفكنون ومعناه تندمون وقيل انه من باب الابدال واصله تفكنون وابدل النون هاءا وقيل ان التفكه بمعنى نفي الفكاهة اي المسرة كما يقال تحرج عن الشيء بمعنى أنه تركه للحرج او تحوّب عنه اي تركه لكونه اثما ومثله تأثم. وكل ذلك مردود بأن الآية التالية مقولتهم فلا بد من تقدير ما يدل على القول.

إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ... هذا كلامهم الذي يتفكهون به. والمُغرَم بمعنى من وقع في ضرر مالي لازم له لا يتركه والاصل في الغرم ــ على ما في العين ومعجم المقاييس ــ اللزوم ومنه المغرم بمعنى المدين الذي لا يتركه الدائن ويلح عليه والمراد هنا الخسارة التي لزمتهم من التعب وصرف المال والوقت من دون حاصل. ثم يضربون عن ذلك بقولهم (بل نحن محرومون) اي ممنوعون من الرزق الذي كانوا يتوقعونه. والغرض بيان حالة الانسان اذا اصيب في زرعه بعد ما انفق عليه وتعب. وهذا لسان الحال وان لم يقولوه.

أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ... الماء من أهم ما يتوقف عليه حياة الانسان والحيوان بل هو منشأ الحياة فهذه الآيات تذكّر الانسان بهذه النعمة التي يستخف بها ويسأله من أين تحصل عليها؟ فالماء الموجود على الكرة الارضية في المحيطات والبحار غير قابل للشرب وكل ما على وجه الارض من الماء العذب ينزل من السماء بفعل حرارة الشمس والتبخير ثم التكثف في طبقات الجو العليا ويختزن في الجبال وينزل او يفور تدريجا في الانهار والعيون والقنوات. كل هذا الجهاز المسخر لوصول الماء العذب الى الانسان والحيوان والنبات طول السنة وفي البلدان المتفرقة من يدبر أمره؟ ومن خلقه بهذه الكيفية؟!

أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ... المزن جمع مزنة اي السحاب وبعض المفسرين زعموا أن الآية انما خصت ماء المطر بالذكر ولم تتعرض لسائر المياه العذبة لأن العرب المخاطبين لم يكن لهم ماء عذب غيره وبما ذكرناه آنفا تبين وجه تخصيص المطر بالذكر مع ان ما ذكر غير صحيح حيث كانت لهم آبار عذبة مع انهم كانوا يعلمون ويشاهدون الانهار والقنوات في سائر المناطق. والآيات لا تكلمهم بما فيهم من خصائص في البيئة بل بما هم بشر يعقلون ويعلمون ما حولهم.

لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ... والتقدير هنا نحن أنزلناه ولو نشاء جعلناه اجاجا... فهو الذي أنزل الماء مضافا الى أنه حفظه وخزّنه ومنعه من التأثر بالاملاح الموجودة على سطح الارض. فلو لم يخزن الماء في الجبال ليخرج تدريجا من العيون والآبار والقنوات ونحوها مما نجده في الطبيعة لكان يتأثر بالاملاح الموجودة على وجه الارض وينقلب ماءا مالحا غير قابل للشرب ولا يفيد في الزراعة. والاجاج الماء شديد الملوحة والمرارة.

ثم حضهم على شكر هذه النعمة العظيمة وغيرها.

وقد تغير التعبير هنا فلم يذكر لام التأكيد في جواب (لولا) بخلاف الآية السابقة ولعل الوجه في ذلك أن الزرع خاص بالانسان وبما يتبعه من الحيوان فأكد للانسان الكفور أنه اذا استمر على كفره وشاء الله عذابه ينزل على زرعه الصواعق فيجعله كالصريم وأما الماء العذب فلا يختص بالانسان فلم يؤكد نزول العذاب باللام.

وقيل إن اللام أدخلت في المطعوم دون المشروب لأن جعل الماء العذب مالحا أسهل إمكانا في العرف والعادة والموجود من الماء المالح أكثر من الماء العذب وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب مالحا إلى زيادة تأكيد فلذا لم تدخل لام التأكيد المفيدة لزيادة التحقيق وأما المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد وإذا وقع يكون عن سخط شديد فلذا قرن باللام لتقرير إيجاده وتحقيق أمره.

أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ... الايراء اشعال النار وهذا تنبيه على نعمة عظيمة ايضا يغفل عنها الانسان والنار تحتاج الى وقود وكانوا قديما يوقدونها بالحطب ويستخرج ذلك من الاشجار اليابسة والآية تنبّه الانسان الى أن ميزة الاتّقاد في الشجر ليس من صنع الانسان بل هي موهبة الهية ويقال ان الشجر يمتص الطاقة من الشمس ايام اخضراره وبنفس المادة التي توجب اخضراره وتبقى الطاقة كامنة فيه الى ايام يبسه فتظهر الطاقة بالاشعال. فمن هو الذي دبّر للانسان هذا الامر وهيّأ له ما يمكن ايقاد النّار به للاصطلاء والطبخ وغير ذلك من شؤون الحضارة البشرية التي تتّسع يوما فيوما وتتوسّع بذلك حاجته الى ايقاد النار بشتى وجوهها؟

أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ... الظاهر أن المراد بالشجر ما يوقد منه النار وهو الوقود لا الزناد كما قاله المفسرون وكأنهم استبعدوا أن يكون التعجيب من نفس الشجر الذي يجعل وقودا فرجّحوا أن يكون التعجيب من جهة  أن الشجر الاخضر يستخدم في ما يوقد به النار وهو الزناد وقالوا ان المراد به المرخ (بفتح الميم وسكون الراء) والعفار (بفتح العين) وأنّ العرب كانت توقد النار بحك المرخ على العفار.

ونظير ذلك قوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)[11] وهناك ايضا حاول المفسرون تطبيقها على الزناد. وقلنا هناك: الظاهر أن المراد هو جعل الشجر وقودا لا زنادا لقوله تعالى (من الشجر) ولم يقل بالشجر وقال تعالى (فاذا أنتم منه توقدون) ولم يقل به توقدون ومفاد الآية أنه تعالى جعل منه نارا لا زنادا مع أن الزناد لا يختص بالشجر المدّعى فيه ذلك بل الغالب فيه استخدام الاحجار. والحاصل أن المراد بالآية هنا هو التنبيه على هذا التدبير الربوبي حيث جعل في الشجر خاصية الوقود لينتفع به الانسان.

نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ... تقديم الضمير يقتضي أن تكون الجملة جوابا عن السؤال السابق فلا بد من تقدير الانشاء اي نحن أنشأناها وجعلناها.. والآية تبيّن وجه الحكمة في انشائها وخلقها وأن في ذلك من الحكمة وجهين الاول التذكير بربوبية الخالق والثاني كونها متاعا للانسان في الحياة الدنيا وهذان لا يختصان بالنار وانما اهتم بذكرهما هنا للتأكيد على أهمية دور النار في الحضارة البشرية مع غفلة الانسان عن ذلك بوجه عام.

والمفسرون ذكروا أن المراد بكونها تذكرة أنها تذكّر الانسان بنار جهنّم. ولكن التعبير بالتذكرة لا يناسب ما لا يعلم به الانسان ولا يشعر به بل يناسب ما يشعر به في ضميره ووجدانه ولكنه يغفل عنه كربوبية الخالق كما قال تعالى (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)[12] وقال تعالى (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ)[13] وقال تعالى (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[14] وغير ذلك.

والمقوين من الاقواء وهو الخلو عن الشيء مع الحاجة اليه قال ابن فارس (القواء الأرض لا أهلَ بها ويقال أقْوَت الدّارُ: خلت وأقوى القومُ: صاروا بالقَوَاء والقِيِّ. ويقولون: باتَ فلانٌ القَوَاءَ وبات القَفْرَ إذا بات على غير طُعْم. والمُقْوِي: الرّجُل الذي لا زَادَ معه وهو من هذا كأنَّه قد نزل بأرضٍ قِيٍّ). فالمراد والله العالم أنها متاع لكل من يحتاج اليها للاصطلاء او الطبخ او اي حاجة اخرى وهي كثيرة جدا خصوصا اذا عممنا النار الى كل أنحائه ووجوهه فان كل ما تسير به عجلة العلم والحضارة البشرية يرجع بنحو الى النار.

وقيل: المقوي المسافر لانه ينزل القواء وهو القفر وخص بالذكر لانه بحاجة اكثر الى النار. وقيل: المراد به الفقراء لانهم لفقرهم يشبه حالهم من نزل بالقفر. وقيل: المراد به الجائعون. وقيل غير ذلك. وما ذكرناه أشمل وأنسب.

 


[1] الزخرف: 87

[2] الكهف: 63

[3] المؤمنون: 12- 14

[4] الحجر: 29

[5] السجدة: 7- 9

[6] يوسف: 21

[7] الانعام: 133

[8] الاسراء: 98- 99

[9] يس: 81

[10] الانسان: 28

[11] يس: 80

[12] ق: 7- 8

[13] غافر: 13

[14] الذاريات: 49