مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ... عشا يعشو: ساء بصره او عمي. والاصل فيه الظلمة ومنه العشاء اي آخر النهار واول الليل فمن هذا الباب اطلق على الظلمة في الإبصار وبعض اللغويين خصّه بالإبصار بالليل وبعضهم عمّمه للنهار ايضا. والمراد هنا الاعراض والتعامي عن ذكر الرحمن. والذكر إمّا أن يراد به الكتاب السماوي كالقرآن فيكون من الاضافة الى الفاعل وإمّا أن يراد به كل ما يُذكّر بالله تعالى فيكون من الاضافة الى المفعول. والأول اقرب بقرينة قوله تعالى (فاستمسك بالذي اوحي اليك) وما بعده. ولعل التخصيص باسم الرحمن للتاكيد على ان ما انزله الله انما هو رحمة للعالمين.

واما تقييض الشيطان فقد مر الكلام فيه في تفسير قوله تعالى (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ..)[1] وقلنا لا يبعد ان يكون ماخوذا من قاض الشيء بالشيء اي مثّله به. والقَيضان: المِثلان. ومنه المقايضة بمعنى المبادلة والمعاوضة، فمعنى (نقيّض له) نجعل له مماثلا ولعل المراد هو خلق المماثل. واحتملنا ان يكون بالنسبة للشيطان الجني خلقا لذاته فنحن لا نعلم حقيقة الجن ولعل بعض شياطين الجن يوجد ببعض افعالنا، وبالنسبة للشيطان الانسي لا يبعد ان يكون المراد تكوين شخصيته فان الانسان يؤثر في تكوين شخصية اصدقائه. والقرناء كل منهم يؤثر في الآخر فان كان القرين فاسدا يغويه ويحرضه على الاعمال الاجرامية كما هو مشهود بوضوح.

واما ما ذكره المفسرون من انه من القيض وهو قشر البيضة الاعلى وانه بهذه المناسبة يطلق على التسليط فقد قلنا ان التقييض لم يستعمل بهذا المعنى مع انه غير مناسب لما اخذ منه ومضافا الى انه لو كان بهذا المعنى لكان المناسب ان يقال (نقيض عليه) لا (نقيض له). وقوله فهو له قرين يدل على انه يبقى قرينه بصورة مستمرة يغويه ويوسوس في صدره ويزين له اعماله كما بين في الآية التالية والفاء تدل على الترتب وهذه ايضا قرينة اخرى على ما ذكرناه في معنى التقييض اذ لو كان بمعنى التسليط لم يترتب عليه كونه قرينا له فان المقارنة لا تناسب السلطة وانما تناسب المماثلة. فالمعنى أن الذي يعرض عن ذكر الله تعالى ويتعامى عنه نجعل له مثيلا من الشيطان فيكون قرينه الى آخر عمره.  

وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ... الضمير في (انهم) يعود الى الشيطان، وانما اتى بضمير الجمع لتعدد المصاديق بتعدد العاشين عن الذكر. وسائر الضمائر للعاشين. وهذه الآية تبين دور القرناء الشياطين، فانهم وبكل تأكيد ــ والتاكيد يفهم من حرف إنّ ولام القسم ــ يمنعونهم من سلوك السبيل الصحيح والصراط المستقيم. والصد هو المنع. والتعبير بفعل المضارع يدل على ان هذا الصد والمنع مستمر.

وانما يصدونهم بتزيين اعمالهم فيحسب المساكين انهم مهتدون وهذا امر طبيعي فان الانسان اذا لم يجد في عمله نقصا او خطأ استمر عليه بل ربما يجد الخطأ في خلافه نتيجة لتزيين شياطين الجن والانس كما نلاحظه في ما حولنا فرسل الشيطان قد ملأوا الصحف والمجلات والاذاعات وكل وسائل الاعلام المتكثرة المنتشرة بتزيين ما حرمه الله تعالى بحيث يجد الانسان المغتر انه هو الصحيح وان الخطأ هو ما يخالفه كما ورد في الحديث ان المنكر يعد معروفا والمعروف منكرا. وقال تعالى (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[2] وهذا غاية الشقاء فيقضي الانسان حياته في ضلال وهو يبتعد عن الحق اكثر كلما اسرع في مشيه ولا يلتفت الى من حوله من السائرين على الدرب بل ربما يتاسف على ضلالهم وابتعادهم عما هو الصحيح. وهكذا ينتهي الامر بمن يتعامى عن ذكر الله حتى يحسب الهداية في عدم متابعة طريق الله تعالى.

حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ... قوله (حتى) يدل ايضا على ان هذا التزيين مستمر للانسان المسكين الذي القى قياده بيد الشياطين الى ان يفاجئه الموت فيحضر امام ربه وينكشف له الحق فجأة ويرفع عنه الغطاء الذي كان يمنعه من رؤية الحق والباطل بوجههما الواقعيين كما قال تعالى (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[3] فينظر الى قرينه الذي لم يتركه لحظة ويخاطبه يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين. والمراد بهما المشرق والمغرب من كل افق، ويطلق عليهما المشرقان من باب التغليب كما يقال للشمس والقمر: القمران ولصلاتي المغرب والعشاء: العشاءان. والمراد ببعدهما تباعدهما اي البعد الذي بينهما وهذا غاية التباعد المحسوس على الارض. والظاهر ان قوله (فبئس القرين) تتمة كلامه وقال بعضهم انه من تعقيب القرآن. وهو بعيد.

وانما يتبرأ منه هناك بعد ان انكشف له الحق. وفي سورة (ق) ما يدل على ان كلا منهما يتبرأ من الآخر (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)[4] نعم لو لم تات الكتب السماوية والرسالات بالانذار الكافي امكن ان يعتذر الانسان بانه اُعمي عن مشاهدة الحق ولكن الله تعالى أتمّ الحجة وانذر الانسان بانه سيبتلى بهذه القرناء اذا تعامى عن ذكر الرحمن فلا تقبل منه الاعذار وهو يتعامى عنه باختياره.

ثم ان هذا التمني وان كان بحسب الظاهر يعود الى الماضي اي انه يتمنى لو كان بينهما في الدنيا هذا البعد كما ان ظاهر قوله (فبئس القرين) يعود الى مقارنتهما في الدنيا ايضا. ولكن بعض المفسرين حمله على تمني البعد في الآخرة وانهما متقارنان هناك حتى قال بعضهم انهما يربطان بسلسلة واحدة ويمكن ان تكون في الآية التالية قرينة على ذلك.

وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ... قيل في تفسير الآية واعرابها: إنّ فاعل (ينفعكم) قوله (انكم في العذاب..) و(اذ ظلمتم) في مقام التعليل اي حيث انكم كلكم ظالمون سواء الشياطين المسوّلون ام الغاوون العاشون ــ فانهم ايضا ظلموا حيث عشوا عن ذكر الرحمن مما تسبب في تقييض الشيطان لهم ــ فلا ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب فان الاشتراك في العذاب ربما يفيد في الدنيا حيث يتسلّى الانسان بغيره وقد قيل (المصيبة اذا عمت طابت) وهذا امر طبيعي فالانسان يتأذّى بالمصيبة الخاصة اكثر مما يتاذى بالمصاب الجماعي ولكن الاشتراك يوم القيامة لا يفيد حتى في تخفيف الشعور بالعذاب وذلك لدوامه وعظمه.

وقيل: ان فاعل (ينفعكم) ضمير يعود الى التمني المذكور او التاسف والندم على ما استوجب الاقتران ويكون (انكم في العذاب..) بتقدير لام التعليل فالمعنى لا ينفعكم تمني البعد ولا التاسف على متابعة الشياطين فانكم مشتركون في العذاب اي ان هذا الندم والتاسف قد مضى وقته ولات حين ندم.

ويمكن ان يكون التمني ــ كما مر ــ متعلقا بالابتعاد في تلك النشأة حيث يقترنون بمن تسبب في شقائهم كما يتمنى الانسان بعده عن عمله اللاصق به، قال تعالى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا..)[5] فيأتيهم الخطاب ان هذا التمني لن ينفعكم اليوم اذ لا ينفع الابتعاد هناك وانما كان ينفع الابتعاد في الحياة الدنيا واما هنا فالعذاب يشملكم معا فان كلا من الغاوين والمغوين يستحقون العذاب مستقلا فالابتعاد عنهم لا يبعدكم عن العذاب. ويؤيد هذا الاحتمال قراءة (انكم) بالكسر حيث يكون ظاهرا في التعليل.

ولكن يبقى السؤال على هذا الفرض في قوله (اذ ظلمتم) حيث انه ايضا تعليل لعدم النفع والجواب أنّ الاشتراك في العذاب علة لعدم النفع وظلمهم علة للاشتراك في العذاب فانه هو المناط له وهو موجود في الفريقين وحاصل المعنى ان تمني التباعد لا ينفع اليوم لانكم معا معذبون تباعدتم ام اقترنتم والسبب انكم كلكم ظالمون اما بالاغواء او بالتعامي والاعراض عن ذكر الله تعالى.

وربما يتوهم التنافي بين التأبيد المستفاد من (لن) والتقييد باليوم الدال على الوقت الحاضر. وهذا غفلة عن أنّ المراد باليوم ليس يوما واحدا بل المراد النشأة الآخرة التي لا انتهاء لها.

أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ... يعود السياق الى مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتسليته عما كان يشعر به من أذى نتيجة عدم انصياع قومه لدعوته الى الله تعالى وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كقوله تعالى (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)[6] والفاء لتفريع عدم الفائدة في دعوتهم على ما مر من تسلط الشياطين عليهم نتيجة تعاميهم عن ذكر الله تعالى. والهمزة هنا للاستفهام الانكاري اي لا تحاول إسماعهم فانك لا تُسمِع الصمّ وهو جمع الاصمّ ولا تهدي العمي بإراءة الطريق من دون اخذ اليد وهو لا يكون الا في ظروف خاصّة وباذن خاصّ من الله تعالى فإن الوظيفة العامة للرسول اراءة الطريق فحسب.

وقوله (ومن كان في ضلال مبين) عطف تفسير للصم والعمي ويدل على أنّهم انما عموا وصموا لعنادهم واصرارهم على الضلال المبين حيث إنّ توصيفه بالمبين يدل على وضوح ضلالة من يعبد الاصنام التي يصنعها بيده فبقاؤهم على هذا الضلال الواضح ليس الا للعناد وهو يجرّ الانسان الى العمى والصمم. وليس القصد من هذه الآية نهي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عن الاستمرار في الدعوة حتى مع إصرارهم على الضلال بل المراد تسلية خاطره وإيئاسه من ايمانهم.

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ... (إمّا) مركب من (ان) الشرطية و(ما) الزائدة التي تفيد التأكيد اي تأكيد الربط بين الشرط والجزاء. والظاهر أنّ المراد بالذهاب به صلى الله عليه وآله وسلم الوفاة كما في قوله تعالى (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ..)[7] وغيرها من الآيات ومن هنا يتبين أنه لا يصح ما ورد في بعض التفاسير من ان المراد به الهجرة من مكة الى المدينة مضافا الى ان التعبير بالذهاب به لا يناسب الهجرة لانه عمل اختياري ولا قرينة على إرادة هذا المعنى.

والمراد بالانتقام ما يعمّ العذاب في الآخرة بقرينة الآية المذكورة حيث يختص التهديد بما بعد الرجوع اليه تعالى وكذلك في قوله (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)[8] وقوله (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)[9] بل ظاهر الآيات خصوص عذاب الآخرة. والمراد بالذي وعدهم الله تعالى عذاب الدنيا والقصد من قوله (او نرينّك) وقوع عذاب الدنيا عليهم في حياته صلى اللّه عليه وآله وسلّم وقد حدث في يوم بدر.

ولكن السؤال هنا انه ما علاقة الانتقام منهم بوفاته صلى اللّه عليه وآله وسلّم وما علاقة الاقتدار عليهم باراءته ما وعدهم الله تعالى؟ والجواب أن الغرض تهديد المشركين وتسلية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأن الانتقام والعقوبة آتيهم لا محالة إمّا في الدنيا وفي حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم او في الآخرة بالعذاب الدائم. والترديد في مثل هذه الموارد يبقي المخاطب مهددا بعذاب الدنيا والناس يخافون منه أكثر من عذاب الآخرة لجهلهم بحقائقها ولاستعجالهم بنتائج الاعمال وفي نفس الوقت يبقي لاحتمال الامهال مجالا لئلا يصيبه اليأس فيترك اصلاح نفسه.

وعليه فالجزاء في الجملتين ليس جزاءا واقعيا ولذلك أتى به في الآيات الثلاث جزاءا واحدا في الفرضين وهو الرجوع الى الله تعالى او ان عليه الحساب مما يدل على أنهم يجازون يوم القيامة بأعمالهم فالمعنى أنه سواء نزل عليهم العذاب في الدنيا في حياتك او بعد مماتك او لم ينزل أصلا فإن موعد الانتقام يوم القيامة فالجزاء الواقعي أنهم لا يتركون سواء عُذّبوا في الدنيا باستعجال او بامهال ام لم يعذّبوا أصلا. و يشهد لذلك أنّ قوله تعالى (فإنّا عليهم مقتدرون) لا يمكن أن يكون جوابا أساسا وانما هو دليل على إمكان تحقق الاراءة.  

فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ... بعد التنديد بأعداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتهديدهم يعود السياق ليؤكد عليه استقامة طريقه لئلا يصيبه ترديد او ضعف من عناد قومه الكفرة الطواغيت. والفاء للتفريع على ما قبله وهو قوله تعالى (فانا عليهم مقتدرون) اي حيث إن الله تعالى قادر عليهم وهو واضح فلا تحذر مكائدهم ولا تتوان في التمسك بطريقتك.

والاستمساك والتمسك بالشيء الاعتصام به كما مر في تفسير الآية 21. وجملة (انك على صراط مستقيم) تعليل لوجوب الاستمساك. والرسول كان عالما بانه على صراط مستقيم ومصرّا على تمسكه بالوحي ولم يصبه شك ولم يتردد لحظة ولكن هذه التأكيدات تقوّي عزمه وتسليه لانها من ربه تعالى، مضافا الى انها تبرر امام الناس تصلّبه ورفضه لاي تنازل عن الحق اذ ان هناك من المتظاهرين بالاسلام من تدعوه ميوعته وضعفه الى الاصرار على ترك التشدد في الدين كما نراه ونسمعه في عصرنا بل نجده يزداد يوما فيوما بل يُستنكر التشدد والتصلب في الدين ويُعتبر عيبا وعارا وهو من صلب الايمان.

ومن الواضح أنّا نقصد التشدد والتصلب في الافكار الخاصة بمذهب متطرّف يدعو الى نبذ الآخرين حتى من يشاركونه في اصل الدين والعقيدة الاساسية بل القصد التأكيد على اصول الدين وخصوصا اصل الاصول وهو التوحيد.

وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ... الضمير يرجع الى قوله تعالى (ما اوحي اليك) اي ان القرآن الكريم ذكر لك ولقومك وانكم جميعا ستسألون يوم القيامة عن موقفكم تجاهه.

واختلف المفسرون في المراد بكونه ذكرا هل هو ما ورد في سائر الموارد من انه يُذكّر الانسان بربه وبمعاده وبما يجب عليه ام انه بمعنى كونه شرفا له ولقومه حيث انه يرفع ذكرهم وصِيتَهم في الدنيا؟ واكثر المفسرين اختاروا المعنى الثاني نظرا الى انه هو الذي يختصّ به وبقومه دون المعنى الاول.

ولكنه بعيد بالنسبة الى السياق وان ورد الذكر بهذا المعنى في قوله تعالى (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[10] ولكن التعبير بانه ذكر لك ولقومك غير ظاهر في هذا المعنى كما انه ليس مناطا للسؤال يوم القيامة فلا يناسبه التعقيب بالسؤال وانما المناط ما يُذكّرهم بربّهم وبوظائفهم فرفع الذكر في الدنيا وان كان نعمة يمنّ الله بها عليهم ولكنه ليس مما يناط به السؤال.

هذا مع أنّ الآية غير ظاهرة في اختصاص كونه ذكرا بهم ولا تنافي كونه ذكرا للبشرية جمعاء ولئن خص اهل اللغة بالخطاب فلانهم اولى بان يؤثر فيهم الذكر وهم اول من ذُكّر به ولذلك يسألون قبل غيرهم.

وقد اختلفوا في المراد بالقوم هنا فقيل إنّ المراد الامة الاسلامية في جميع الاعصار وقيل العرب خاصة وقيل قبيلة قريش ولا يبعد ان يكون المراد عرب الجزيرة آنذاك وهم المخاطبون او العارفون باللغة عامة كما اشرنا اليه. وقد ورد في رواياتنا ان المراد اهل بيته عليهم السلام. وقيل في توجيهها انهم اكمل المخاطبين واعرفهم بمقاصد الكتاب وعليه فالروايات تبين اوضح المصاديق ولا تحدد المراد.

ولكن الظاهر منها لو لم يكن الصريح هو التحديد فلنلاحظ الروايات:

روى الكليني قدس سره بسند فيه ضعف عن عبدالله بن عجلان عن ابي جعفر عليه السلام (في قول الله عزوجل (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: الذكر انا والائمة اهل الذكر وقول الله عزوجل (وانه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) قال ابوجعفر عليه السلام نحن قومه ونحن المسؤولون).[11]

وروى بسند ضعيف جدا عن عبدالرحمن بن كثير وهو ضعيف ايضا قال (قلت لابي عبدالله عليه السلام فاسالوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون قال الذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ونحن اهله المسؤولون قال قلت قوله (وانه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) قال ايانا عنى ونحن اهل الذكر ونحن المسؤولون).

وروى بسند صحيح عن ابي بصير عن ابي عبدالله عليه السلام (في قول الله عزّ وجلّ (وإنّه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الذكر واهل بيته المسؤولون وهم اهل الذكر).

وبسند صحيح ايضا عن الفضيل عن ابي عبدالله عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى (وانه لذكر لك ولقومك وسوف تسالون) قال الذكر القرآن ونحن قومه ونحن المسؤولون).

وروى الصفار عدة روايات كلها بهذا المضمون او اصرح في الحصر[12] ومنها ما رواه عن ابي بصير قال (سالت اباجعفر عليه السلام عن شهادة ولد الزنا تجوز؟ قال لا فقلت ان الحكم بن عتيبة يزعم انها تجوز فقال اللهم لا تغفر له ذنبه ما قال الله للحكم (وانه لذكر لك ولقومك وسوف تسالون) فليذهب الحكم يمينا وشمالا فوالله لا يوجد العلم الا من اهل بيت نزل عليهم جبرئيل عليه السلام)[13] ورواها الكليني ايضا بسند ضعيف.

وعلق السيد الخوئي قدس سره على حديث ابي بصير في مقدمة معجم رجال الحديث ولتفنيد القول بقطعية روايات الكافي بقوله (لو كان المراد بالذكر في الآية المباركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فمن المخاطب؟! ومن المراد من الضمير في قوله تعالى لك ولقومك؟! وكيف يمكن الالتزام بصدور مثل هذا الكلام من المعصوم عليه السلام فضلا عن دعوى القطع بصدوره؟!)[14]

ولكن الظاهر من الجواب في الصحيحة أن السؤال كان عن آية (فاسألوا أهل الذكر..) فهناك خطأ في النقل ويتأيد ذلك بالروايتين الاوليين وان كانتا ضعيفتين ويحتمل ان يكون السؤال وقع فيها عن الآيتين كما ورد في الاوليين فسقط قسم من الحديث ولكنه غير معلوم ومهما كان فلا يمكن الاعتماد على رواية ابي بصير في تفسير هذه الآية لاحتمال كون السؤال عن آية (فاسالوا..) كما هو مقتضى الجواب ولانه لو كان موردها هذه الآية فلا ينطبق عليها الجواب كما قال السيد الخوئي قدس سره والروايتان الاوليان لا يمكن الاعتماد عليهما ايضا لضعف السند.

وأما صحيحة الفضيل فلا تخلو من شبهة ايضا لان قوله عليه السلام (الذكر القرآن) لا يناسب هذه الآية بل يناسب آية (فاسالوا..) لان الذكر في هذه الآية خبر وليس موردا للكلام والسؤال. والضمير في (وانه..) يرجع الى القرآن بلا خلاف. وانما الكلام في المراد بالذكر في آية (فاسألوا أهل الذكر..) حيث إنّ المخالفين فسروا الذكر بالتوراة وأهله بعلماء اليهود ورواياتنا تردّ عليهم بأنهم لو سئلوا لأرشدوهم الى دين اليهود وأن الصحيح تفسير الذكر بالقرآن وأن الأئمة عليهم السلام هم أهل الذكر فيظهر من ذلك وقوع الخطأ في نقل الرواة للآية الكريمة في كثير من الروايات منها ما رواه الصفار بسنده عن عمرو بن يزيد قال (قال ابو جعفر عليه السلام (وانه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم واهل بيته اهل الذكر وهم المسؤولون) فان التعبير بانهم عليهم السلام اهل الذكر يناسب قوله تعالى (فاسالوا اهل الذكر) ويقوي احتمال الخطا في نقل الرواة للآية الكريمة. ومثله رواية عبدالرحمن بن كثير في الكافي.

وفي الروايات التي وردت في تفسير هذه الآية اشكال آخر وهو أن القرآن لا شك أنه ذكر للعالمين جميعا كما صرح به الكتاب العزيز ولا يختص بقوم دون قوم وليس في تخصيصه بهم عليهم السلام من حيث كونه ذكرا فضيلة ومزية نعم التعبير بأنهم أهل الذكر فيه خصوصية وفضيلة كما أن قوله تعالى (وسوف تسألون) لا يشتمل على مزية وفضيلة بناء على ما هو الظاهر منه وهو أنهم يسألون عن موقفهم تجاهه فالسؤال لا يختص بقوم بل كل من بلغه يقع موردا للسؤال وليس فيه مزية ولذلك أوّل المجلسي قدس سره في البحار أن المراد بالسؤال أن الناس يسألونهم عن تفسيره وهو تأويل بعيد ولا يناسب كونه ذكرا. وانما المزية والفضيلة في تطبيق آية (فاسألوا..) عليهم وكونهم المسؤولين فيها ومنه يظهر بوضوح وقوع الخلط والخطأ في نقل الرواة للآية مورد السؤال.

والحاصل أن حصول الوثوق بتفسير هذه الآية بالأئمة عليهم السلام من الروايات مع كثرتها في مقابل ظهور الآية بذاتها مشكل جدا. والله العالم.

وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ... خطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وقوله (أجعلنا) جملة استينافية تبين السؤال المأمور به بتعبير آخر لان صيغة السؤال يجب ان تكون عن جعل الله تعالى. والمعنى واضح ولكن حيث ورد الامر بالسؤال من الرسل مع عدم كونهم معاصرين للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ولا يمكن ذلك على حقيقته فاختلف المفسرون في توجيهه فذهب بعضهم تبعا للروايات الواردة عن الفريقين الى ان المراد السؤال عنهم ليلة المعراج حيث التقى بهم في عالم آخر. وهذا الامر وان لم يكن تحققه بعيدا الا ان ارادته من الآية بعيد حيث ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يشكّ في الامر حتى قبل نزول الوحي فانه لم يشرك بالله طرفة عين فالسؤال عن الرسل ليس الا لاقناع الآخرين وهو لا يتحقق بالسؤال في المعراج.

وقال بعضهم ان المراد السؤال عن اهل الكتاب بما انهم يحكون ما في كتب المرسلين او باعتبار انهم من امم الرسل فيتبين به ان الرسالات كلها كانت تدعو الى التوحيد. وقال آخرون انه تعبير ادبي كما يقال سل الديار او اسال التاريخ فالمراد التوجيه الى ملاحظة ما ارسل الى الرسل. وهذا اولى واظهر مما قبله.

ولعل التعبير بالرحمن في الآية للتنبيه على ان الامر او الموافقة مع الشرك ينافي الرحمانية لان ذلك يضر بالكمال البشري. ويظهر من الآية ان المشركين كانوا يقترحون على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ان يتنازل عن تشدده في نفي الآلهة ويقبل بهم ولو جزئيا فيكون ذلك اساس التصالح بين الفريقين. والآية ترجعهم الى الرسالات السابقة وأن هذا أمر مرفوض في جميع الرسالات وليست هذه الرسالة أمرا مبتدعا بل هي ايضا تسير على ذلك النهج القويم.

وفيها ايضا ردّ على قولهم (انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مقتدون) بأن خير من يقتدى به الرسل وفيهم ايضا من يعتبرون من آبائهم ولم يكن في شرائعهم ذكر لآلهة تعبد من دون الله تعالى. والآية تنفي جعل أحد الها يعبد جعلا تشريعيا وهذا ليس ردا على من يعتقد أن هناك اربابا في الكون تجب عبادتهم وانما يرد على من يدعي أنه يعبد الاصنام ليقربوه الى الله زلفى وأساس الردّ أنه تعالى لم يأذن بذلك فكيف يحصل التقرب اليه بما لم يأذن فيه؟! ولعل مشركي قريش كلهم او جلهم كانوا من هذا القبيل.

 


[1] فصلت: 25

[2] الكهف: 103- 104

[3] ق: 22

[4] ق: 27- 28

[5] آل عمران: 30

[6] النمل: 80

[7] يونس: 46

[8] الرعد: 40

[9] غافر: 77

[10] الشرح: 4

[11] الكافي ج1 ص211 وكذا الاحاديث التالية

[12] بصائر الدرجات ص 57

[13] نفس المصدر ص30

[14] معجم رجال الحديث ج1ص36<