مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّه مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظيمٍ (13) قُلِ اللّه أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ ديني‏ (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرينَ الَّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْليهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللّه بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)

 

قل اني امرت أن أعبد اللّه مخلصا له الدين... تعقيبا على ما مضى أمر اللّه تعالى رسوله ان يحدّد مساره، ويؤيس المشركين من المداهنة معهم على حساب العقيدة، فأمره ان يبلغ القوم بانّه مامور بعبادة اللّه وحده مع الاخلاص له لا يشرك في عبادته احدا.

والدين: الطاعة. واخلاص الطاعة امّا بمعنى تخليصها من شوب الرياء والشرك وامّا بمعنى اجتناب المعاصي. والآية تشير الى ما بدئت به السورة حيث قال تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللّه مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ).

وامرت لان أكون أول المسلمين... الظاهر أن هذا أمر آخر، ولذلك كرر الامر. والمراد بالمسلمين الذين اسلموا امرهم الى اللّه تعالى لا الذين استسلموا للشريعة او للنظام الاسلامي.

والاسلام ــ بمعنى التسليم لامر اللّه تعالى في تشريعه وتكوينه ــ هو غاية الكمال البشري، وهو قمّة ما يدعو اليه الرسل عليهم السلام، وهم لا يأمرون الناس بشيء ويخالفونهم فيه، كما قال تعالى في حكاية كلام شعيب عليه السلام (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ..) هود: 88، وقد ندّد اللّه تعالى بما يصنعه علماء بني اسرائيل فقال: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) البقرة: 44.

وبناءا على ذلك لا حاجة الى تأويل الاوّلية في الآية، فالمراد بها هو السبق، والرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم مأمور بأن يسبق الجميع الى التسليم للّه تعالى. وأما اذا فسّر الاسلام بالتديّن بهذا الدين فالاوّلية حاصلة بالطبع لانه الصادع بها، فاحتيج الى تأويل الاوّلية بكونه أقوى الناس في التمسك بالدين.

قل اني أخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم... ثم امره ان يعلن انه لا يمكن ان يعصي اللّه تعالى، فلا قرابة لاحد مع اللّه تعالى، ولا كرامة لاحد الا بالتقوى. والرسول كغيره يجب ان يخاف عذاب ربه ان عصاه، وقد انذره اللّه تعالى كما انذر مَن قبله من المرسلين كما يأتي في هذه السورة (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الزمر: 65.

وهذا ينذر بخطر عظيم على الآخرين، فلا يغرنّ احد قرابته من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فكيف بغيره؟! ولا ينفع احدا يوم القيامة الا تقواه.

قل اللّه أعبد مخلصا له ديني... هذا ليس تكرارا لما مرّ، فانّ مضمون الاية السابقة انه مامور بعبادة اللّه مخلصا، وهنا يعلن انه فعلا قد اطاع ربه، ولا يعبد الا اياه مخلصا له دينه. وتقديم المفعول يدل على الحصر، وأنه لا يعبد غيره تعالى.

فاعبدوا ما شئتم من دونه... المعروف أنّ هذا الامر للتهديد. والاساس في مثله أن الآمر يخلّي بين المأمور والفعل، ولا يمنعه حتى اذا فعل ما يريد قابله بالعذاب.

ولكن لا يبعد أن يكون المراد اعلام البراءة عنهم وعن دينهم كما هو مفاد سورة الجحد، فتكون هذه الجملة مقابلة للجملة السابقة ومكملة لها، والمعنى أنا لا أعبد الا اللّه مخلصا له الدين، وأنتم تعبدون غيره، لكم دينكم ولي دين.  

قل ان الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة... أمر آخر للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم أن يحدّد للمشركين حقيقة الربح والخسارة، بهذا التعبير الذي يحصر الخسران في خسارة يوم القيامة حيث أتى باسم إنّ معرّفا، فالخاسر في الحقيقة ليس من قصرت ايام عمره في الدنيا، او ضاقت به السبل، واستعصت عليه الامور في هذه النشأة، بل الخاسر الذي يخسر نفسه واهله يوم القيامة حيث الحياة الابدية.

أمّا خسران نفسه فلانّه يعيش ابدا بين الحياة والموت، يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميّت، ويعيش معذّبا ابدا، وأمّا خسران أهله فلانهم ان كانوا مؤمنين فهم بعيدون عنه يتنعمون في الجنة، وان كانوا مثله فهو ايضا لا يجدهم، او يجدهم مثله معذّبين.

 وقيل: ان المراد اهله يوم القيامة، اي الذين ينبغي ان يكونوا اهله لو كان مؤمنا، والمراد بهم الحور العين فهو يخسرهنّ. وقد عبّر عنهنّ القران بالاهل، كما في قوله تعالى (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) الانشقاق: 9، واما اهله في الدنيا فلا يبقون اهلا له لقوله تعالى (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ) المؤمنون: 101.

ولكنه خلاف الظاهر، واطلاق الاهل على من كانوا في الدنيا اهله بلحاظ وقت الخطاب. وأمّا الحور العين فلم يرد التعبير عنهم بالاهل، والمراد بقوله تعالى (وينقلب الى اهله مسرورا) رجوعه الى من كانوا اهله في الدنيا، فان اللّه يجمع بينهم ان كانوا مؤمنين، كما قال تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ..) الرعد: 23 وقال ايضا: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الطور: 21.

ألا ذلك هو الخسران المبين... مرّة اخرى يؤكّد على الحصر المذكور، ويقدّم عليه حرف التنبيه (ألا) ليستعدّوا لاعلان خبر مهمّ، وهو أن ذلك خسارة واضحة وأنه لا خسارة غيرها. ولذلك أتى بضمير الفصل مع تعريف الخبر ليدلّ على الحصر. كل ذلك لغرض الوعظ لعلّهم يحذرون وينتبهون للخطر المحدق بهم.

لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل... التعبير يصوّر حالتهم في النار، وكونهم محاطين بها من كل جانب، وتسميتها ظللا نوع من التهكمّ فان الانسان في ذلك الجو الملتهب يبحث عن ظلّ يستريح تحته، ولا ظلّ له الا النّار، ومن باب المشاكلة عبّر عن فرشهم ايضا بالظلل وهو ايضا من النار.

والظلل جمع ظلّة، وهي كل شيء يظلّ كالصفّة والسحابة وغيرهما. والاتيان بصيغة الجمع يدل على أنّ النار فوقهم وتحتهم طبقات.

ذلك يخوف اللّه به عباده يا عباد فاتقون... يظهر من الآية ان التعبير المذكور لا يحدّد الواقع كما هو، وانما هو تعبير عن شدة العذاب وخطورة الموقف، يراد به تخويف الناس من مخالفة احكام اللّه تعالى. وذلك لانه لم يقل ذلك يخوف اللّه منه عباده، بل قال يخوف به عباده، فاسم الاشارة في هذه الجملة يشير الى هذا التعبير لا الى النار، فان النار مما يخوف اللّه عباده منها لا بها، فيظهر منه ان الذي يخاف منه امر آخر غير ما يظهر من التعبير.

وهذا الامر تفطّن له بعض اتباع الهوى ولكنه فسره بما يلائم هواه، فقال انه ليس هناك جنة ولا نار، وأنّ اللّه تعالى أراد منّا أن نعمل الحسنات ونترك المساوئ، فخوّفنا بالنار واطمعنا في الجنة.

مع أنّ القرآن يؤكد انّ اللّه تعالى لا يخلف الميعاد. والصحيح ان المستفاد من الآية وغيرها ان العذاب فوق ما نتصوره، ولكنه بالطبع ليس من قبيل عذاب الدنيا كما ان نعيم الجنة ليس من هذا القبيل، فما ورد من التعابير لتقريب تلك الحقائق الغريبة علينا الى اذهاننا.

ولذلك نجد انّ النار هناك لا تحمل صفات النار في الدنيا فهي تطّلع على الافئدة، اي تحرق الارواح قبل الاجسام، وهي تحرق ولا تبيد. وكذلك فواكه الجنة ليست لها هذه الخصائص والا لم تكن نعمة كاملة.

والحاصل أنّ التعبير بالنار، وان لم يطابق الواقع كاملا لبعده عن اذهان السامعين الا ان الواقع أشدّ وأدهى لا كما توهّمه اصحاب الهوى.

ثم رتّب على التخويف ما قدّمه من الخطاب لعباده المؤمنين (يا عباد فاتقون) بحذف الياء في الكلمتين اي يا عبادي فاتقوني. والفاء تفريع يعني حيث كان الامر كذلك فاتقوني حتى لا تصيبكم هذه النار. والمراد بالعباد هنا كل البشر.