مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

اللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَديثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى‏ ذِكْرِ اللّه ذلِكَ هُدَى اللّه يَهْدي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقي‏ بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقيلَ لِلظَّالِمينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللّه الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)

 

اللّه نزّل احسن الحديث كتابا متشابها مثاني... عدل عن الجملة الفعلية فلم يقل نزّل اللّه أحسن الحديث بل قدّم الاسم الجليل تأكيدا على ان الكتاب منه، وليس من صنع البشر، وليس منه تنظيمه ولا ترتيب كلماته كما يظن بعض الناس. فهناك فرق بين أن تقول فعل زيد كذا وأن تقول زيد فعل كذا، حيث إنّ التعبير الثاني يركّز على شخص الفاعل ممّا يدل على أنّ الغرض التأكيد على أنه الفاعل لا غيره.

وانما يؤتى بهذا التأكيد اذا اريد التعريض بمن يعتقد أن الفاعل غيره، فهو ردّ على من ينسبه الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم قديما وحديثا.

والحديث كل شيء جديد. ومن هنا اطلق على الكلام لانه يتجدّد ويحدث شيئا فشيئا. وفي التعبير بالحديث ردّ على من ينسب الالفاظ الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بدعوى أن ما كان يوحى اليه هو المعاني، وأنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم صاغها بهذه الالفاظ، فهذه الآية ردّ واضح على هذه الدعوى.

والقرآن احسن حديث على الاطلاق، لانه لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولانه كلام ربّ العالمين، ولانّ فيه تبيان كل شيء وتفصيل كل شيء، مما يتوقف عليه سعادة الانسان في الحياة الابدية، وفيه هدى ورحمة للمؤمنين، وشفاء لما في الصدور، ونور وبصيرة تنفذ الى اعماق الغيب.

وقوله (كتابا) بدل عن احسن الحديث، اي مكتوبا ومجموعا، فاما ان يكون المراد انه قد نزل مجموعا مرة واحدة وان نزل متفرقا ايضا كما قيل، او ان جمعه بعد نزوله متفرقا كان بامر اللّه سبحانه كما يدل عليه قوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) القيامة: 17، على قول ايضا.

ولكن الاقرب ان يقال: إنّ المراد بالجمع المدلول عليه بالكتاب جمع المطالب في الالفاظ للتاكيد على ان ما نزل لم يكن معاني متفرقة جمعها الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وصاغها بهذه الصياغة، كما يتقوله بعض الكتاب المتفلسفين. وهو المراد ايضا من آية سورة القيامة.

وقوله (متشابها) اي يشبه بعضه بعضا من حيث التعبير والتاثير والاسلوب والقوة في الاداء، فلا تجد في آياته تمايزا بيّنا من هذه الجهات ومن جهات اخرى ايضا، كما قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء: 82.

والمثاني جمع مثنيّ اي المعطوف، والثني هو العطف. ووصف به الكتاب مع أنه مفرد بتأويل الاشتمال، اي يشتمل على مثاني، وهي صفة للمضامين او الآيات بمعنى ان آياتها ينعطف بعضها على بعض، ويفسّر بعضها بعضا، او بمعنى انّ كثيرا منها تتكرر ولا يوجب ذلك ملالا على القارئ او السامع فان التثنية بمعنى التكرير، كقوله تعالى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) الملك: 4، او انها تتكرر قراءتها ليلا ونهارا دون ملل بل يشعر الانسان في كل قراءة وسماع انّ ما يقرأه او يسمعه شيء جديد. 

تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر اللّه... القشعريرة (بالضم فالفتح فالسكون) الرعدة. واقشعرّ جلده اي تقبّض، وربما يراد بها وقوف الشعر. وتنسب القشعريرة الى الجلد لانها تحدث فوقه، او لان الجلد ايضا يتأثّر بها. فالذي يخشى ربه من الطبيعي ان يشعر بالقشعريرة اذا تليت عليه كلماته. وكلما زادت معرفته بربه زادت خشيته وتأثره.

والقشعريرة نتيجة طبيعية لخشوع القلب وخوفه واستعظامه للامر. فهذا ربه خالق الكون يدعوه لما فيه خيره وينذره بشر عظيم اذا خالف اوامره، فياترى هل يوفّق لامتثال امر مولاه؟

وهذا الهاجس يخيفه فيقشعرّ له جلده، ثم يذكر رحمة ربه، وانّه يقبل منه القليل ويجازيه بالكثير، فيلين قلبه ويطمئنّ، ويتبعه جسمه فيلين جلده ايضا، ويشعر بالراحة والامان. وهكذا المؤمن طيلة حياته يعيش بين الخوف والرجاء.

وعليه فيمكن أن يكون المراد بذكر اللّه الذكر القلبي، اي انه يتذكر رحمة ربه وعموم عفوه فيطمئن ويستريح. ويمكن ان يكون المراد الذكر اللفظي، لان التلفظ له تاثير عظيم في النفس، ولذلك يطلب من المريض ان لا يكتفي باستشعار الامل في الشفاء، بل يلقّن نفسه بصوت عال انه مشافى، وان شفاءه قريب وقطعي، ليؤثر ذلك في روحه ويتبعها الجسم.

فيكون المعنى انه اذا سمع آيات الامر والنهي، اوالعذاب والانذار اقشعرّ جلده، فاذا بلغ موضع اسماء اللّه الحسنى بما فيه كونه غفارا وقابل التوب ورحيما ورؤوفا ونحو ذلك اطمأنّ قلبه ولان جلده.

ذلك هدى اللّه... يمكن ان يكون (ذلك) اشارة الى نفس هذه الحالة التي تحصل للمؤمن، حيث يقشعرّ جلده من خشية اللّه بسماع كلامه وآياته، ثم يلين قلبه وجلده لذكر ربه، فهذه الحالة لا تحصل للانسان الا بهداية من اللّه تعالى.

ويمكن أن يكون اشارة الى الكتاب فانه موجب للهداية. وقد عبر عنه بالهدى في قوله تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) البقرة: 2.

يهدي به من يشاء... الهداية كأي حادث آخر لا تتحقق الا بارادته تعالى ومشيئته، ولكنه لا يشاء بدون سبب فمشيئته لحكمة، ولابد للهداية من ارضية صالحة. واللّه تعالى يبعث بهداياته ابتداءا للجميع (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الدهر: 3، فان لم يعاند الانسان ولم تمنعه شهواته من قبول الحق، ولم يتعصب للباطل استحق الهداية التامة والتوفيق من اللّه، وان تعصب لاهوائه وتقاليده وتمادى في الغيّ فان اللّه يضله، بمعنى انه بصورة طبيعية تحدث له حالة نفسية تأبى من قبول الحق والانصياع له. وكل ما هو طبيعي فهو من فعل اللّه سبحانه.

ومن يضلل اللّه فما له من هاد... وهذا أمر واضح، اذ يستحيل أن يتحقق في الكون الا ما يريده اللّه تعالى، ولا يمكن أن يقاوم ارادته شيء، ولا حول ولا قوة الا به، فمن أراد اللّه تعالى إضلاله فلا يمكن أن تؤثر فيه الهدايات، لانّ مردّ ذلك ــ كما قلنا ــ الى تأبّيه ذاتا عن قبولها، فلا يمكن ان يهتدي بعد ذلك، ولا تؤثّر فيه محاولات الرسل وسائر المصلحين والدعاة.

افمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة... الفاء للتفريع. والهمزة للاستفهام الانكاري كما مر في نظيرتها آنفا. وهنا ايضا حذف المعادل لدلالة السياق عليه، اي هل هما سيّان: انسان يعذب يوم القيامة ولا يمكنه أن يقي نفسه من العذاب الا بوجهه، وانسان آمن من العذاب يعيش في سلام ونعيم؟!

والمضمون تفريع على ذكر الضلال والهدى، ومقارنة بين عاقبة المؤمن المهتدي والذي ضلّ الطريق وظلم نفسه وغيره، فهو يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة. والاتقاء عادة يكون باليد، والوجه أهمّ ما يحفظ ويصان، ولكنه حيث غلّت يداه الى عنقه، فهو يلقى بوجهه في النار، وهو لا يتقي عنها بشيء، الا انّه حيث يكون وجهه اوّل ما يلقى النار، كما قال تعالى: (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) النمل: 90، عبّر عن ذلك بالاتقاء بوجهه.

فيكون التجوز في التعبير عن الالقاء بالاتّقاء، نظير ما يقال فلان استقبل السهام بصدره فانه لا يستقبلها ولكنها تصيب صدره، فعبر عن ذلك بالاستقبال كناية عن تحمّله لاصابتها.

ويمكن ان يكون كناية عن أنه لا يملك ما يقي به نفسه فهو يتّقي العذاب بوجهه، مع أن الوجه هو اول مايصان ويحفظ، فلا يعدّ واقيا نظير التعبير عن نار جهنم بالمهاد وبالظلل ونحو ذلك.

وسوء العذاب يمكن ان يكون اضافة بيانية، اي يحاول ان يقي نفسه سوءا هو العذاب، ويمكن ان يكون من اضافة الصفة الى الموصوف، اي يتقي أسوأ العذاب. وهو مفعول يتقي او منصوب بنزع الخافض اي من سوء العذاب.

وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون... اي كان ذلك حينما قيل للظالمين.. فلا بدّ من تقدير (قد) لتكون الجملة حالية، ويمكن ان يكون بتقدير (يوم) مستغنيا عنه بقوله (يوم القيامة) اي يوم قيل للظالمين... وأتى بالفعل الماضي لانه مستقبل محقق الوقوع فكأنه كان. والغرض بيان أن هذا العذاب السيء ليس الا حصاد عمله ونتاج كسبه.

وهذا القول كسائر الموارد التي ينقل فيها القول يوم القيامة يمكن ان يكون قول الملائكة يخاطبون به الكفار لمزيد من العذاب، ويمكن ان لا يكون قولا لفظيا بل يعبّر بالقول عن بروز الحقائق في ذلك اليوم، فان القول دوره دور الابراز، وذلك اليوم لا يخفى شيء، فكل شيء ينطق ويقول ويبرز ما في مكنونه، كما قال تعالى: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّه الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ..) فصلت: 21

وهذا الخطاب يدل على تجسّم الاعمال، وأنّ ما يذوقونه هو عين ما كانوا يكسبون، قد برز بصورته الحقيقية. ثم انّ الخطاب لا يختص بالمشركين او الكفار بل مطلق الظالمين الذين ظلموا انفسهم او غيرهم.

كذّب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون... يعود الى التعرض لحال المشركين في مكة والجزيرة العربية، ويحذّرهم عن تكذيب الرسالة الالهية. فالضمير في قوله (من قبلهم) يعود الى مشركي مكة، ويحذّرهم أنّ الامم السالفة كذّبت رسلها فأتاهم العذاب. وفاء التفريع يدلّ على أنّ التكذيب بنفسه كاف في استنزال العذاب.

وينتقل من الحديث عن عذاب الآخرة الى عذاب الدنيا، ويخوفهم من عواقبها، لان البشر غالبا لا تخيفه اهوال يوم القيامة حتى لو آمن بها، ولعله لضعف ايمانه او لان البشر غالبا لا ينظر الى العواقب البعيدة حتى بالنسبة لعواقب الدنيا، ولذلك فان عدم الاهتمام بالآخرة لا يختص بالكافر بل يشمل المؤمنين، حيث نجد اكثرهم يهتمون بزكاة الفطرة والصدقة المستحبة اكثر من زكاة المال الواجبة او الخمس، لان اهل الدعوة والتبليغ نشروا بين الناس ان زكاة الفطرة تفيد في الدنيا، وان الصدقة تدفع البلاء، فتجد من لا يصلي ولا يصوم ايضا يهتم بهما، ومن هنا فان القران يحذّرهم عذاب الدنيا لعلهم يتّقون.

والآية تشير الى عواقب الامم السالفة، وكانت العرب تتداول اخبارها وتعلم بها، وتحذّرهم من العذاب الذي ياتي من حيث لا يتوقعه الانسان فانه آلم واشد حيث يؤخذ على غرّة ولا يمهل، ولانهم ربما يتصورون ان ما عذّب به قوم فلان وفلان لا مجال له بالنسبة اليهم، كمن هو بعيد عن مناطق الزلزال او امواج المحيطات (تسونامي) فيظنّ ان العذاب لا ياتيه، ولا يعلم ان العذاب ربما ياتيه عن طريق حكومة جائرة فهذا ايضا من عذاب اللّه وان كان بالنسبة للحاكم جريمة واثما.

قال تعالى لبني اسرائيل: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ) الاسراء: 5. والظاهر ان المراد بهم جيش نبوخذ نصر وهو كافر ظالم، ولكن اللّه تعالى يعبر عن هجومه العدواني على الشعب المؤمن آنذاك وهم بنو اسرائيل بانه تعالى بعثهم على ذلك، بمعنى أنه أوجد في نفوسهم الباعث والمحرك.

والحاصل أن عذاب اللّه تعالى له وجوه مختلفة. وهكذا كان عذاب مشركي مكة حيث سلّط اللّه تعالى عليهم المؤمنين فقتلوهم في بدر وغيرها من الغزوات، ثم بدّد اللّه كيانهم بايدي المؤمنين في فتح مكة.

فأذاقهم اللّه عذاب الخزي في الحياة الدنيا... يعبّر اللّه سبحانه عن عذاب الاستئصال الذي نزل على الامم السالفة بعذاب الخزي لانه ــ مضافا الى العذاب الجسماني حيث يستأصل كيانهم ويبيد القابليات التي لم تر النور في الاطفال والشباب ــ يخزيهم بين الاقوام ويذلّهم، اذ يتبين بالامارات ان الذي اصابهم لم يكن حادثا طبيعيا بل عذاب من اللّه تعالى لسوء اعمالهم.

ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون... تأكيد بالقسم واللام بأن العذاب في النشأة الآخرة أكبر وأشد، لا من جهة كونه أبديا فحسب، بل لأنه نوع من العذاب الجسمي والروحي لا يعرفه الانسان ولا يمكنه أن يعرفه، فلا يشبهه شيء في هذه الحياة.

وعذاب الدنيا مهما كان ليس شيئا يقاس بعذاب الآخرة من الجهتين: أمّا العذاب الجسماني فواضح، لانهم ــ مضافا الى شدة العذاب ــ يشعرون بالموت ويحسّون مرارته ولا يموتون فيستريحوا. وأمّا من جهة الخزي فلأنهم يرون باعينهم ان اعمالهم وسيئاتهم تعرض امام الخلائق اجمعين، فهناك الفضيحة الكبرى.

و(لو) اما للتمني اي ليتهم كانوا يعلمون، او شرطية جوابها محذوف، اي لو كانوا يعلمون لغيّروا نهجهم وطريقتهم في الحياة، ولاهتموا بشأن الآخرة اكثر مما يهتمون بشؤون الدنيا، ولاتقوا عذاب الآخرة اكثر من اتقائهم مصائب الدنيا.