مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

 

أَلَيْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللّه فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللّه بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه إِنْ أَرَادَنِيَ اللّه بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللّه عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)

أليس اللّه بكاف عبده ويخوّفونك بالذين من دونه... يظهر من الآية الكريمة ــ كما ورد في الروايات ايضا ــ انّ المشركين كانوا يحذّرون الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم مغبّة تعرّضه لأصنامهم، ويقولون نخاف ان يصيبك خبال من قبلها، كما كان السابقون يعتقدون ذلك ايضا حيث قالوا خطابا لهود عليه السلام (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ..) هود: 54.

ومثل هذه العقائد يعتقده كثير من بسطاء العامة بالنسبة الى كثير من الاشياء فتجدهم يعتقدون بشجرة قديمة او قبر لا يعلم صاحبه، خصوصا اذا تعرض له احد بسوء ثم ابتلي صدفة باي مرض او حادث. وهكذا كان شان عرب الجاهلية كما هو شان كل جاهلية.

والقرآن يردّ عليهم: أليس اللّه بكاف عبده... المراد بعبده الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لأنه هو المهدّد في تخويفهم. وفي التعبير عنه بذلك مزيد تشريف وتخصيص. وفيه اشارة الى أنه تعالى لا يسلم عبده لأعدائه. وأما احتمال كون المراد به جنس العبد فيشمل كل عباده فهو بعيد وان تأيّد ذلك بقراءة الجمع.

والاستفهام للانكار. والنتيجة التأكيد على انه يكفيه. وسيأتي الدليل عليه. فالمؤمن لا يخاف احدا مهما كان، لانه من دون اللّه، والامر كله بيده، فلا نفع ولا ضرر الا باذنه، فبماذا تخوّفون عبداللّه ورسوله؟!

وليعلم أن المراد ليس هو عدم التخوّف من العوامل الطبيعية التي تضرّ الانسان فانّها تعمل بارادته تعالى. وانما المراد نفي التخوّف من ايّ شيء يدّعى فيه أنه يؤثّر من دون اللّه تعالى اي في قبال ارادته وربوبيته.

ومن يضلل اللّه فما له من هاد... لكنّ المعاندين قد أعمت أبصارهم العصبية وضلّوا وأضلّوا. ومن يضلل اللّه فما له من هاد. ومن يستطيع ان يهدي من أضله اللّه؟! واللّه تعالى لا يضلّ احدا الا اذا استحقّ الضلالة. ولا يستحقّها الا بسوء سريرته وعناده للحق اذ جاءه. ومن يعاند الحق لا يستطيع أن يراه، فان الحق في هذه المفاهيم ليس أمرا محسوسا ومشهودا، وانما هو أمر غيبي لا يصل اليه الانسان الا بصفاء القلب، فاذا تكدّر قلبه بالعصبية ومتابعة الاهواء فتستحيل عليه الهداية.

 وهذا يؤيس الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم منهم ويؤيسهم منه، فلا هو يمكنه هدايتهم، ولا هم يستطيعون اخافته من اصنامهم.

ومن يهد اللّه فما له من مضل أليس اللّه بعزيز ذي انتقام... كذلك اذا اراد اللّه هداية احد لاستحقاقه وللارضية الصالحة التي اوجدها بحبه للحق وقبوله وتسليمه لآيات اللّه تعالى فانه لن يضلّ مهما حاول شياطين الجن والانس اغواءه، لأنّ اللّه تعالى أراد هدايته، وهو العزيز الغالب على امره لا يمنع تحقق مراده شيء، ومنه الهداية والاضلال لمن يستحقهما.

والانتقام: انزال العقوبة. وهو ذو انتقام اي انه لا يترك من يستحق العقوبة. وهذا هو الذي نجده في الطبيعة، والطبيعة فعل اللّه تعالى فان العقوبة الطبيعية تترتب على الفعل كنتيجة حتمية، فمن شرب السم يموت، وقلّما لا يؤثر العامل الطبيعي بامر خارق للعادة.

والغرض ان المعاند عقوبته الطبيعية هو الضلال فلا بد له منه، ولا يمكن ان يهتدي الى الطريق لانه النتيجة الطبيعية للعناد.

ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولنّ اللّه...الوثنيون يعترفون بأنّ خالق السماوات والارض هو اللّه سبحانه. وهذا واضح، لانّ من يدّعون لهم الربوبية لا يمكن ان يدّعى فيهم الخلق فهم بذاتهم مخلوقون.

والمراد بالسماوات والارض الكون كله كما ذكرناه مرارا. وهذه الجملة مقدّمة للجملة الآتية التي وقع فيها الاستدلال على منع تأثير الاصنام في ضرّ او نفع، ليكون جوابا على تخويفهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم منها.

قل افرأيتم ما تدعون من دون اللّه ان ارادني اللّه بضر هل هن كاشفات ضره او ارادني برحمة هل هن ممسكات رحمته... القصد من هذه الجملة التنبيه على وضوح عدم تأثير الأصنام في خير او شرّ. والاستدلال فيها يبتني ــ وفقا للجملة السابقة ــ على ان كل ما يضرّ الانسان او ينفعه هو بذاته ايضا من المخلوقات، فلا شيء في الكون الا وهو داخل في مظلّة السماوات والارض، والكل مخلوق له تعالى، ولا شكّ ان ما أراد اللّه تعالى خلقه لا يمنعه شيء، اذ ليس هناك قوة تقابله، فاذا اراد باحد ضرّا او نفعا فلا يمنع من تحقق مراده شيء. وانّما تؤثر العوامل الطبيعية او غيرها في الكون وفقا للنظام الكوني الذي يديره اللّه تعالى ويدبّره.

وقوله (أفرأيتم) اي أظننتم وحسبتم؟ فهو استفهام استنكاري، لأن معنى تخويفهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم من الاصنام هو هذا الحسبان الخاطئ.

والفاء فيه للتفريع لأن نفي هذا الحسبان يتفرّع على اعترافهم بأنه تعالى خالق الكون. والتعبير بضمير المؤنث عن الأصنام من جهة انهم كانوا يسمون اصنامهم بالاسماء المؤنثة. والضرّ كل ما يضرّ. وكشفه ازالته. وامساك الرحمة منعها.

قل حسبي اللّه... (حسب) مصدر بمعنى الكفاية. ويقصد به اسم الفاعل مبالغة. اي يكفيني اللّه من كل شيء، ومن يؤمن باللّه فهو حسبه، وانما يتشبّث الناس بغيره لعدم ايمانهم. وليس معنى ذلك عدم التوسل بالاسباب الطبيعية فان هذا لا ينافي التوكل على اللّه والاكتفاء به، وانما ينافيه اذا اعتقد احد انها تؤثر من دون تدبير من اللّه تعالى.

عليه يتوكل المتوكلون... اي ان من يتوكل على احد فانما يتوكل عليه تعالى. وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، فالناس لا يتوكّلون الا عليه.

والسرّ في هذا الحصر انّ من لا يعتقد باللّه او لا يؤمن بقدرته وربوبيته لا يتوكّل على احد وانما يعتمد على الاسباب الطبيعية. ولذلك فهو لا يركن الى ركن شديد، وتتقاذفه امواج الطبيعة، وربما يصيبه اليأس فينتحر لانه لا يجد وراء هذا الكون يدا قادرة وتدبيرا وحكمة، بخلاف المؤمن فانه واثق ومطمئن الى ربه، ويعلم انّ الاسباب انما تؤثر بامر خالقها وربها.

ويمكن أن يراد بالحصر أنه لا ينبغي التوكل على غيره.

قل يا قوم اعملوا على مكانتكم اني عامل... في الخطاب نوع اشفاق وعطف، فهو يخاطبهم (قومي) استمالة لقلوبهم، مع انّه خطاب فصل يقطع كل الروابط بعد ما أصرّوا على عنادهم: اعملوا على مكانتكم اني عامل... وهذا نظير قوله (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الكافرون: 6، وقوله (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) الشورى: 15.

والمكانة من المكان، ولكن يستعمل في الامور المعنوية، فالمراد بها المنزلة والحالة، اي اعملوا كما يقتضيه حالكم وعقائدكم. وهذا امر للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بان يواجه قومه على أساس اليأس منهم ومن إيمانهم.

وقوله (اني عامل) اي اني ايضا اعمل على مكانتي، حذف الجار والمجرور للاستغناء بما مر، نظير قوله (نحن بما عندنا وانت بما عندك راض) اي نحن بما عندنا راضون. وهذه الجملة لايئاسهم من نفسه، وانه لا يمكنه الرجوع عن رسالته.

فسوف تعلمون من ياتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم...تهديد ووعيد، والعذاب المخزي عذاب الدنيا، والمقيم عذاب الآخرة، اي عذاب دائم. وفرّق بينهما حيث عبّر عن الاول بالاتيان وعن الثاني بالحلول لتناسبه مع الاقامة والدوام. والمراد بعذاب الدنيا ما حلّ بهم يوم بدر ثم نهاية مكرهم يوم الفتح.