مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)

الله خالق كلّ شيء وهو على كل شيء وكيل... يعود الى التأكيد على توحيد الربوبية والتوحيد في العبادة، من زاوية وظيفة الرسول في مواجهة ضغوط المشركين. فيبدأ بالتأكيد على أنّ الربوبية تتبع الخالقيّة فاذا كان خالق الكون هو اللّه تعالى كما يعترف به الخصم وتنادي به الفطرة والمنطق السليم، فالربّ ايضا هو اللّه تعالى، لان الخالق هو الذي يوكل اليه امر المخلوق، ولا معنى لايكال الامر الى غيره الا اذا كان في الخالق ضعف، وهو مناقض لخالقيته وقدرته المطلقة التي تبدو بوضوح من الدقّة في الكون. فاللّه تعالى الذي هو خالق كل شيء هو ولي كل شيء ايضا، واليه يعود امره.

والوكيل فعيل بمعنى المفعول اي الموكول. والله تعالى وكيل على كل شيء بمعنى أن امر كل شيء موكول اليه. وهذه الصيغة لا تعني انّ هناك موكّل أوكل الامر اليه بل الامور موكولة اليه بالذات، لانه هو الذي خلقها.

والسرّ يكمن في معنى خلقه تعالى للكون، فاذا قيس خلقه تعالى الى ما يبدعه الانسان جال في الذهن هذا التوهّم أنّ بالامكان أن يكون الخالق والموجد لشيء غير الحافظ له والمدبّر لاموره، فانّا نجد أنّ الانسان لا يلي كل شؤون مبتدعاته، بل لا يمكنه ذلك فانها ربما تبقى بعد موت الانسان.

ولكن الخلق والايجاد من الله تعالى ليس بهذا المعنى بل بمعنى تقوّم الاشياء في وجودها وكيانها بارادته تعالى، فهي لا تستغني عن تدبيره لحظة، بل لا تنفصل عنه لحظة.

وبذلك يتبيّن أنّ التدبير من شؤون الخالقية بل هو الخلق بالذات وليس تابعا له او متفرعا منه.   

له مقاليد السماوات والارض... المقاليد جمع مقلاد، وهو معرب (كليد) بالفارسية اي المفتاح، ويعرب الى اقليد ايضا.

وهذه الجملة بمنزلة التعليل للجملة السابقة، ولذلك تعقبها بدون عطف، اي انّ مفاتيح الامور كلها بيده، فهو يتولّى تدبير امور كل شيء، والسماوات والارض كناية عن كل الكون كما اسلفنا.

والذين كفروا بآيات الله اولئك هم الخاسرون... هذه نتيجة الجملة السابقة فاذا كانت مقاليد الامور بيده تعالى، فالذين يعرضون عن عبادته، ويدعون غيره، ويرجون الخير من غيره هم الخاسرون. وهم الكافرون بآيات اللّه حيث لم يتنبهوا الى مدلول الآيات التي تقودهم الى معرفته والى انحصار الربوبية فيه. والجملة تدلّ على الانحصار فلا خاسر غيرهم وذلك اذا قيست خسارتهم بالخسارات المادّيّة الزائلة.

قل أفغير اللّه تأمرونّي أعبد ايها الجاهلون... يبدو من الآية الكريمة أنّ المشركين كانوا يضغطون بشتى الوسائل على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ان يعبد اصنامهم او يميل اليها فأمر اللّه رسوله أن يردّ عليهم.

و(غير اللّه) مفعول (اعبد)، اي افتأمرونّي ان اعبد غير اللّه، فهذا يدل على جهلكم باللّه وبالرسول وبالانسان. فاللّه هو المؤثر في الكون لا يؤثر معه غيره، فالعبادة خاصة به، والرسول لا يمكن ان يخالف أوامر ربه، والانسان اشرف من ان يسجد لغير اللّه مهما كان شأنه، فضلا عن ان يسجد لجماد لا يعقل ولا يقدر على شيء.

ولقد اوحي اليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكوننّ من الخاسرين... انما وجّه هذا الخطاب الشديد لكي ييأس المشركون من تنازل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لرغبتهم وجهلهم، فهذا وحي خطير، وانذار بليغ لا يختص بهذا الرسول، بل ارسل الى جميع الرسل السابقين: لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين. فالشرك من الرسول يستتبع حبط الاعمال، ويتبعه اعظم الخسران في الدنيا والآخرة.

والحبط مرض في الدابّة يتسبب في انّها تأكل وتنتفخ ولكن لا تستفيد من الاكل بل تموت. ويستعار لعمل يكون في الظاهر جليلا وعظيما وكبيرا، ولكنه في الواقع ليس غير مفيد فحسب، بل هو ضار وموجب للهلاك، وهذا كعمل المرائي فان له ظاهرا مغريا ولكنه ليس في الواقع الا اثما عظيما يستحق عليه العذاب.

والفظيع هنا ان العمل الذي يحبط هو عمل الرسول، و هو اعظم الاعمال، ولكنه سيفقد حسنه وبهاءه بل يتحول الى قبيح اذا اشرك بربه والعياذ باللّه.

ويقع السؤال هنا انه هل يمكن ان يشرك الرسول؟ فاين العصمة؟ وان كان الشرك مستحيلا منه فلماذا هذا الاهتمام بامر مستحيل بحيث ينذر اللّه سبحانه بذلك كل رسله؟

قال بعضهم: ان هذا الخطاب من قبيل اياك اعني واسمعي يا جارة، فالخطاب متوجه الى الامة وان وجّه ظاهرا الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

وهذا بعيد جدّا عن سياق الآية فالخطاب هنا انما ورد وذكّر به ليكون ردّا على اقتراح المشركين أن يتنازل الرسول الى رغبتهم ويعبد اصنامهم، ولا يناسب ان يكون الخطاب لغيره.

والجواب الصحيح ان صدور الشرك من الرسول غير مستحيل ولكنه غير واقع. والسرّ في كونه غير واقع هو علم الرسول. ولا يمكن ان يصدر الشرك من عالم. وقد مرّ توصيف المشركين بانهم جاهلون. والعصمة لا تقتضي استحالة صدور الشرك او المعصية، والّا لم يكن معنى للتكليف.

والحاصل أنّ العصمة ليست بمعنى عدم امكان صدور الفعل لعدم قدرة المعصوم، بل انما لا يصدر لعلمه بقبح المعصية، بل لرؤيته وجه المعصية الواقعي بالعيان. ومثل هذا الوحي من مقوّمات تحقّق العلم للرسول، اي انه انما يعلم فظاعة الشرك بوحي من اللّه تعالى.

وهذه الآية لا تخبر عن وحي عامّ كسائر آيات القرآن فلعلّه وحي خاصّ بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كما اوحي الى سائر الرسل عليهم السلام.

وامّا الاهتمام بذكره مع انه غير واقع فلعله للايذان بأهمّية الموضوع، وليعلم سائر الناس انّ الحكم اذا كان كذلك بالنسبة الى الرسل فكيف بغيرهم؟ او ليكون جوابا حاسما للمشركين الذين يضغطون على رسلهم بالتنازل قليلا لرغباتهم واحترام اصنامهم .

ويمكن ان يكون المراد بالشرك كل مراحله حتى الشرك الخفي الذي لا يخلو منه المؤمنون فالرسول لقربه لدى اللّه تعالى يجب ان يكون عمله خالصا من كل شائبة من الشرك. ويؤيد هذا الاحتمال تكرّر الامر في هذه السورة بالاخلاص في الخطاب للرسول كقوله تعالى (قل اني امرت ان اعبد اللّه مخلصا له الدين).

بل اللّه فاعبد وكن من الشاكرين... اي لا تعبد غير اللّه، بل اللّه فاعبد وكن من الشاكرين في عبادتك.

وفي الحديث عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله لم تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وماتأخر؟ فقال: يا عائشة ألا أكون عبدا شكورا؟!. [1]

وروي بوجوه اخرى.

والعبادة بنفسها من وجوه الشكر، وعلى الرسول ان يشكر ربه لما انعم عليه من وجوه النعم، وقد قال تعالى (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) الاسراء: 87.

ويمكن ان يكون المراد (فاعبد واشكر) حيث وفقك اللّه تعالى للعبادة لئلّا يتوهم الانسان انّ عبادته للّه امر يعود نفعه الى اللّه بل يعود اليك فاشكر ربك على هذه النعمة.

والامر بأن يكون من الشاكرين للحثّ على التواضع واستصغار الانسان لعمله حتى لو كان رسولا فيعتبر شكره كشكر سائر الخلق ممّن يشكر الله تعالى.



[1]  الكافي ج2 ص142