مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللّه عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزيدُ الْكافِرينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزيدُ الْكافِرينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)

 

والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها... توهم بعض المفسرين ان المقابلة بين هاتين الآيتين والآيات السابقة تدل على ان اهل الجنة هم كل المؤمنين وهم الذين اورثوا الكتاب. مع ان هذه المقابلة متكررة في القران الكريم ولا تدل على ان كل من آمن يدخل الجنة بل قد صرح القران بان من قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، وبأن هناك ما يوجب حبط الاعمال والخطاب للمؤمنين بل للصحابة، وغير ذلك من الآيات التي تدلّ على أن المؤمن ايضا ربما يدخل النار بل يخلد فيها.

هذا مع ان الايمان والكفر عند اللّه تعالى لهما مقاييس تختلف عما نبني عليه حكم الاسلام والايمان الظاهريين في هذه الحياة الدنيا، فربما نعتبر احدا مؤمنا وهو عنداللّه كافر، كتارك الصلاة وتارك الحج فضلا عن من ينكر اصلا من ضروريات الدين. وهذا ايضا مضافا الى التعميم الوارد في الجملة الاخيرة من الآية، فان الكفور يشمل كثيرا من الذين امنوا بظاهر القول.

وعلى كل حال فان مصير الكافرين نار جهنم، ومن غريب امرها انهم لا يموتون فيها وانما يعذبون، ولذلك قلنا ان نار الاخرة ليست كنار الدنيا. وقد عبر القران عن هذه الحالة بوجه آخر فقال تعالى: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ..) ابراهيم: 17. واوضحه في موضع آخر (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ..) النساء: 56 .

والذي يركز عليه هنا انهم لا يموتون ولا يخفف عنهم العذاب ولعل ذلك من جهة انهم لا يعتادون العذاب، فان الانسان في هذه الدنيا اذا استمر عليه نوع واحد من التعذيب يتعود عليه جسمه نوعا ما فيخف عليه العذاب، ولكنه في نار جهنم لا يموت فيستريح، ولا يتأقلم معه بل يتجدد عليه العذاب مستمرا.

كذلك نجزي كل كفور... حيث ان التعبير بالذين كفروا ظاهر في المشركين في جزيرة العرب حسب مصطلح القرآن الكريم عمم الحكم بهذه الجملة ليشمل غيرهم من الذين يكفرون بنعم ربهم. والكفور مبالغة في الكفر.

وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل... وهنا ينقل قولهم في مقابل قول المؤمنين وحمدهم على ما انعم اللّه عليهم فهؤلاء يصطرخون فيها. و(يصطرخون) تاكيد في الصراخ والعويل. وما يقولونه مجرد تمنيات لا يمكن ان تتحقق وقد تكرر في القران حكاية ذلك عنهم والرد عليهم بالنفي او بعدم الجدوى وانهم لا يفون بوعدهم.

قال تعالى: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) المؤمنون: 107 ــ 108، وقال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) الانعام: 27 ــ 28.

اما النفي والردّ فلان هذا طلب للمستحيل، والفعلية لا تعود الى القابلية، والجنين لا يعود نطفة، والحياة الاخرى الابدية لا تعود الى الدنيا، فان الحياة الاخرى هي المرحلة المتطوّرة والمتكاملة من الحياة.

واما عدم الجدوى، وانهم يعودون لما نهوا عنه فلان العود الى هذه الحياة يقتضي العود الى الامتحان والابتلاء، وهو يتوقف على نسيان الماضي حتى يعود الانسان الى ما كان عليه من غرائز وشهوات، وفتن، وادراكات عقلية، وهدايات ورسالات، و... ولا شك ان هذا الانسان العاصي المتجبر سيعود الى نفس الحالة ونفس العصيان اذ لو كان يهتدي لاهتدى في التجربة الاولى فالمفروض ان الظروف لا تختلف عما كان عليه انذاك.

ثم ان قولهم (غير الذي كنا نعمل) مع ان قولهم (نعمل صالحا) كاف في افادة المعنى لعله اشارة الى انهم كانوا في الحياة الدنيا يرون عملهم صالحا، فيؤكدون في هذا الوعد انهم يعملون صالحا غير ما راوه صالحا قبل هذا، وهذا ما يشير اليه قوله تعالى (وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا).

أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير... وهكذا يأتيهم الرد الحاسم، وهو استفهام تقريري. و(ما) مصدرية ظرفية. اي عمرناكم مدة تكفي للتذكر وجاءكم النذير.

ويستفاد من الآية ان الاحتجاج يخصّ من عمّره اللّه تعالى في الدنيا بمقدار يتذكر فيه من تذكر، فلا يشمل من يموت في ريعان شبابه، و يخصّ ايضا من جاءه النذير اي اتمّ اللّه عليه الحجة.

وقد ورد في بعض الروايات ان الذي بلغ ثمانية عشر سنة فقد اُعذر وتشمله الاية الكريمة. ولكن في بعضها ان الذي بلغ الستين تم إعذاره. ولعل الموارد تختلف فهناك بعض المعاصي يقبل فيها عذرالشاب ولا يقبل عذر الشيخ، وهناك منها ما لا يقبل فيها عذر الشاب ايضا.

ثم ان قوله (يتذكر فيه من تذكر) حيث جاء في الصلة بالفعل الماضي يدل على ان هناك من تذكر فعلا بهذا المقدار من العمر. وهكذا يحتج اللّه ببعض عباده على بعض.

وقد مرّ القول في ان النذير ان اريد به الرسول فيكفي مجيئه في العصور السابقة وبقاء كتابه وعلمه، وان اريد به مطلق النذير فيشمل الائمة والعلماء بل مطلق من يامر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقلنا ايضا انه يحتمل ان يكون المراد بالنذير نفس النذر.

فذوقوا فما للظالمين من نصير... اي فذوقوا العذاب.. وحيث كان الخطاب خاصا بمن تمت عليه الحجة فهو من الظالمين، وليس له من نصير. ومن ينصره من اللّه ان اراد به العذاب؟! وقد قلنا ايضا ان الظلم لا يحتاج الى من يقع عليه الظلم فلا حاجة الى تفسيره بمن ظلم نفسه. وانما أتى بالاسم الظاهر (الظالمين) بدلا عن الضمير للاشارة الى السبب فالنصرة هناك لا تكون الا لمن له الحق.    

ان اللّه عالم غيب السماوات والارض... الغيب يقابل الشهود وهما امران نسبيان فكل غيب لاحد ربما يكون شهودا لآخر. ولكن اذا لاحظنا هاتين الصفتين في الحال الحاضر فان الغيب المطلق هو المستقبل، فهو غيب للجميع. واذا اضيف الغيب الى السماوات والارض كان المعنى مستقبل الكون، فيكون المعنى انه لا يعلم مستقبل الكون باكمله الا اللّه تعالى.

انه عليم بذات الصدور... الذات مؤنث (ذو) بمعنى الصاحب والمراد بالصدور القلوب تسمية للحال وهو القلب باسم المحل، والقلب كناية عن الروح البشرية والنفس الانسانية. والمراد بذات الصدور الاسرار الكامنة في النفس المصاحبة لها وهو كناية عن عدم تسرّبها الى الخارج.

هذا وقد وقع الكلام في ان هاتين الجملتين ايهما علة للاخرى وما هو الامر الذي علل بهما ؟ 

فقال بعضهم ان الثانية علة للاولى كما هو ظاهر الترتيب وذلك لان الذي يعلم ما في الصدور وهو اخفى شيء في الكون فهو يعلم كل غيب في السماوات والارض ولكنه غير صحيح اذ هناك من الغيب ما هو اخفى وهو المستقبل فان ما في الصدور ربما يستكشف بما يظهر على فلتات اللسان وغيرها.

وقيل بالعكس وهو خلاف ظاهر الترتيب بهذا التعبير، اذ لو كان كذلك لقال فهو عليم بذات الصدور ليدل على ترتب العلم الثاني على الاول.

ولا يبعد ان لا يكون بينهما علاقة علية فكل منهما علة لامر مما سبق ذكره وحيث تعدد المعلل لم يات بالواو بينهما. وحينئذ فلعل الجملة الاولى تعليل لما اخبر به من حوادث يوم القيامة والثانية تعليل لما يفهم من الجواب في قوله تعالى (اولم نعمركم...) وهو المصرح به في غيرها من عدم الجدوى في ارجاعكم اذ عُمِّرتم ما يكفي للتذكر فلم تتذكروا، واللّه العليم بذات الصدور يعلم انكم لا تؤمنون باللّه لو عدتم الى الدنيا مرة اخرى.

هو الذي جعلكم خلائف في الارض فمن كفر فعليه كفره... تهديد للانسان الذي لا يهتم بنكران ربه وتنديد بالكفر. وتبدأ الآية بالتنبيه على امرطبيعي في المجتمع الانساني ويعتبر نعمة الهية، وهو في نفس الوقت يتضمن تهديدا وتنبيها على عدم  استقرار هذه الحياة. والخلائف جمع خليف، والخلفاء جمع خليفة.

والمراد بالخلافة هنا احد امرين او كلاهما:

الاول: ان الانسان يتمتع بالخلافة الالهية، قال تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً...) البقرة: 30 ، فالانسان خليفة اللّه في الارض. وفي المراد بالخلافة احتمالان:

الاحتمال الاول: ان هذه السمة وسام خاص بالمخلصين من عباد اللّه تعالى من الانبياء والاولياء، باعتبار أن اللّه تعالى استخلفهم أولياء على خلقه، وانما يوصف به الانسان بوجه عام باعتبار أنه مستعد للتكامل في الصفات الحسنة الى ان يصل الى مرحلة يستحق فيها هذه الكرامة.

الاحتمال الثاني: ان الخلافة صفة للانسان بقول مطلق باعتبار انّه يملك الارادة ويتمتع بقوة الاختيار مما يجعله حرّا نوعا مّا في اتّخاذ ما يبتغيه من موقف، فهو من هذه الجهة يخلف اللّه في الارض، بمعنى انّ اللّه تعالى حيث جعل له هذه الحرية والقدرة فكأنّه استخلفه وفوض اليه بعض الشان، وان كان التفويض الكامل مستحيلا. ولذلك كان الاختيار امرا بين الامرين، فلا جبر مطلق ولا تفويض مطلق.

ويبدو من الآية المذكورة في سورة البقرة ان المعنى الثاني اقرب واصحّ، بقرينة انّ الملائكة فهموا من التعبير بالخلافة انّ هذا الموجود سيفسد في الارض ويسفك الدماء بخلاف غيره من الموجودات، حيث انّها ليست مختارة كالانسان فالاختيار هو الذي يجرّه الى الفساد. هذا مضافا الى أنّ الخلافة في الآية التي هي مورد الكلام لا بد من حملها على هذا المعنى، اذ المعنى الاول لا يشمل جميع المخاطبين فلا يتمّ الخطاب العام.

الثاني: ان كل جيل من البشر يخلف من قبله من الاجيال، وهو اما ان يكون خطابا لمن كانوا في ذلك العهد، او يكون خطابا للبشرية وأنّ طبيعة الحياة على هذا الكوكب تقتضي ان يخلف جيل جيلا.

وعلى الوجهين فالمراد تنبيه المخاطبين او الجيل الحاضر على هذه النعمة، وانّ الدور قد وصل اليكم لتستمتعوا بهذه الحياة وتتزودوا منها. والتنبيه في نفس الوقت على المسؤولية الملقاة على عاتقهم كاي جيل اخر من اجيال البشرية، والتنبيه ثالثة على ان هذه الحياة لا تدوم لكم كما لم تدم لمن كان قبلكم، فانتم خلفاء لقوم وسلف لآخرين يخلفونكم.

وبعد ذلك تندد الآية بالكفر وتهدد من يستخف به. ونحن نجد في عصرنا هذا ان الاعتقاد السائد في الثقافة العامة العالمية تنحو نحو الاستخفاف باصل الفكرة، والاهتمام بشؤون الحياة الدنيا، والاستمتاع بها، وبذل الجهد في الوصول الى اعلى مراحل التمتع بالحياة وزخارفها وبهرجتها، واللجوء الى مختلف انحاء الملهيات لدفع كل الهموم التي يحملها الانسان لو ترك وشأنه، سواء الهموم الشخصية والاجتماعية والبشرية، وسواء الهموم المعاصرة وهموم المستقبل، وسواء المستقبل القريب في هذه الحياة وهموم الحياة الاخرى المجهولة للانسان.

وتحاول الثقافة المعاصرة التقليل من اهمية التفكير في إله الكون وبشاعة الكفر به على انه المنعم، بدعوى انه فكر متافيزيقي لا يصل اليه افهامنا، ولا ينفعنا نفعا عاجلا.

والآية تشدد النكير على الكفر، وتنبه الانسان ان ضرر الكفر يعود اليه، وانه اكبر من كل ما يخافه ويحذره من مخاوف واخطار، وانه الخسارة الكبرى. ويكفيه باعثا للتفكر في هذا الشأن احتمال وجود هذا الخطر العظيم. فمن كفر فعليه كفره.

وفي نفس الوقت ينبّه الانسان على استغناء اللّه سبحانه من ايمانه وعدم تضرّره بكفره، بل ان كفره لا يضر غيره من الموجودات ايضا الا اذا اراد اللّه شيئا. فمن كفر فعليه كفره، والضرر المباشر انما هو على نفسه.

 ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم الا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم الا خسارا... بيان لتضرر الانسان من كفره. وقوله (عند ربهم) متعلق بالمقت اي لا يزيدهم الا مقتا عند ربهم. والمقت: شدة البغض.

واي ضرر اكبر على الانسان من ان يفقد عناية ربه؟! الرب من يتصدى لتربية الانسان حتى يبلغ الكمال المطلوب فان ابغضه واهمل امره فمن يربيه؟! ومن يتولى شؤونه في هذا العالم المجهول اكنافه وغياهبه، تحيط به الاسرار والاخطار، وهو سائر من دون اختيار الى مستقبل مظلم؟!

ولا شك ان اسناد المقت والبغض والحب والغضب والرضا ونحوها الى اللّه تعالى ليس بمعنى طروّ هذه الحالات عليه سبحانه، اذ لايمكن ذلك واللّه ليس محلا للعوارض. ولذلك فسرها بعضهم بالثواب والعقاب فان افاض اللّه تعالى على عبده الثواب عبر عنه بالرحمة والحب والرضا، واذا عاقبه وعذّبه عبر عنه بالبغض والغضب.

ولكن الظاهر ان هناك فرقا بين التعبير بالغضب والرضا والتعبير بالعقاب والثواب، ويبدو أن هذه التعابير تحكي عن نوع من العلاقة بين اللّه تعالى وعبيده لا ندركها نحن بهذه العقول التي لم تأنس بالمفاهيم الالهية، فبغضه تعالى وغضبه يبدو يوم القيامة من عدم تكليمه وعدم النظر اليه، كما في قوله تعالى: (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللّه وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) آل عمران: 77، وكذا قوله تعالى: (قالَ اخْسَؤُا فيها وَلا تُكَلِّمُونِ) المؤمنون: 108.

وهذا أشدّ على العبد يوم القيامة من عذاب النار، كما ان حبه ورضاه يظهران للعبد بما يفيض عليه من امور لا نعرفها يشعر الانسان منها برضا ربه، فيكون ألذّ لديه من كل نعم الجنة. والاولياء المخلصون يتنعمون بذلك في هذه الحياة ايضا.

ثم ان الجملة تدل على ان الانسان المذكور ممقوت قبل الكفر ايضا، وانما يزيده الكفر مقتا. ولعل ذلك من جهة ما تقترفه يداه من اعمال فان آمن فلعلّ اللّه تعالى يتوب عليه واما اذا كفر فانه يزداد عند اللّه مقتا.

كما انه يزداد خسارا، فان الانسان بطبيعة حاله خاسر، قال تعالى: (والعصر ان الانسان لفي خسر) وذلك لانه يخسر عمره وايامه التي هي راس ماله في هذه الحياة، يخسرها لانه لا يتزوّد من هذه الحياة الفانية لحياته الباقية التي هي الحياة الواقعية، وهو هنا مسافر قد نودي له بالرحيل، وهو غافل في مرتعه لا يحب ان يسمع صوت النداء بالرحيل، فهو خاسر لا محالة وفي جميع الاحوال، لان الذين يعملون ايضا لا يمنحون حياتهم الابدية ذلك الاهتمام الذي يمنحونه لزخارف هذه الحياة.

وقليل جدا جدا من يهتم بتلك الحياة اكثر من هذه الحياة الزائفة الوهمية، ولذلك عمّم اللّه سبحانه تاسف الانسان يوم القيامة ونسبه الى نوع الانسان: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى* يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) الفجر: 23 ــ 24 فالكل خاسر لا محالة، ولكن الكافر يزيد خسرانا لانه لا يعمل اي عمل ينفعه هناك.